الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

الباب الثالث

لقد أطال الأعلام في التحدث عن كل ما يتصل بهذا الباب والّذي يأتي بعده ، وقد استغرق الحديث فيه المجلدات الواسعة ، وسنقتصر منه على المواضع التي نراها أهم من غيرها ، ونقلل من النماذج التطبيقية والتفرعات على أصل المبنى احتفاظا بطبيعة ما تقتضيه بحوثنا من إيجاز واقتراب نسبي من المفاهيم المشترك بحثها بين أعلام المذاهب على اختلافها ، تحقيقا لمنهجنا في المقارنة ، وإذا دعتنا الضرورات أحيانا إلى ذكر مباحث تمحضت مدرسة النجف في بحثها ، فلأن التقييم الفقهي لبعض المسائل موقوف عليها ، ومعالمها مفقودة في المذاهب الأخرى.

٤٦١
٤٦٢

الباب الثالث

القسم الأول

البراءة الشرعيّة

* تحديدها

* الفرق بينها وبين الإباحة الواقعية

* الخلاف فيها

* أدلة المثبتين لها مطلقا : أدلتهم من الكتاب ، أدلتهم من السنة : حديث الرفع ، رواية السعة ، رواية كل شيء مطلق

* استدلالهم بالإجماع

* أدلتهم من العقل

* أدلة الأخباريين

٤٦٣
٤٦٤

تحديدها :

تطلق البراءة الشرعية ويراد بها الوظيفة الشرعية النافية للحكم الشرعي عند الشك فيه واليأس من تحصيله.

الفرق بينها وبين الإباحة الواقعية :

وهي بهذا التحديد وإن أدت وظيفة الإباحة الشرعية من حيث تخييرها في السلوك بين الفعل والترك ، إلا ان الإباحة الشرعية وليدة انعدام المصلحة والمفسدة أو تساويهما في متعلقها ، بخلاف البراءة فإنها غير ناظرة إلى الواقع ، فقد يكون فيه مصلحة توجب الإلزام بالإتيان به ، والشارع جعل الحكم الإلزامي له ، إلا أنه لم يصل إلينا أو أن فيه مفسدة توجب الردع الإلزامي عنه كذلك ، ولهذا آثرنا تسميتها بالوظيفة الشرعية تفرقة لها عن الإباحة الواقعية ، ومثلها عادة لا تشرع إلا بعد اليأس عن بلوغ الواقع ، ومن هنا استفدنا ـ فيما سبق في مبحث الاستصحاب ـ تقييد أدلتها هي وبقية الأصول والوظائف بالفحص عن الحكم الواقعي واليأس من العثور عليه.

الخلاف فيها :

وقد اختلفوا في حجيتها من حيث السعة والضيق ، فالذي عليه الأصوليون من الشيعة هو اعتبارها مطلقا ، سواء في ذلك الشبهات الموضوعية أم الحكمية ، وسواء كانت الشبهة وجوبية أم تحريمية ، والّذي عليه الأخباريون من الشيعة اختصاصها بالشبهات الوجوبية دون التحريمية.

٤٦٥

أما السنة فالذي يبدو منهم إرسال حجيتها إرسال المسلمات لعدم تعرضهم ـ في حدود ما اطلعت عليه ـ لمخالف فيها معلوم ، وإن لم يظهر لديهم أدلة من الشرع عليها فنسبتها إلى البراءة العقلية عندهم أولى ، ولذا آثرنا التعرض لها هناك.

أدلة المثبتين لها مطلقا :

وقد استدل المثبتون لها بأدلة كثيرة يصعب استيعابها جميعا ، وهي مستغرقة للأدلة الأربعة نذكر أوفاها بالدلالة :

أدلتهم من الكتاب :

وأظهر ما استدلوا به من الكتاب آيتان كريمتان هما :

١ ـ قوله تعالى : (لا يكلّف الله نفسا إلا ما آتاها) (١).

وقد قرب دلالتها بتقريبات لا يخلو أكثرها من مؤاخذة ، ولعل أسلمها من المؤاخذات أن يقال ان المراد من الموصول في «ما آتاها» هو الحكم ، والمراد بالإيتاء فيها هو الوصول ، فيكون مفاد الآية نفي التكليف بالحكم غير الواصل ، أي أن الله لا يكلّف نفسا إلا بالحكم الّذي يصل إليها.

وبالطبع ان معنى نفي التكليف هنا هو نفي آثاره الأخروية ، أي نفي المؤاخذة ، وإلا فإن التكليف ثابت في حقوق العالمين والجاهلين على السواء ، كما يأتي عرضه في مبحث التخطئة والتصويب.

٢ ـ قوله تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (٢).

وتقريبها لا يتم إلا إذا جعلنا الرسول هنا كناية عن الحجة الواصلة ، وهو ما

__________________

(١) سورة الطلاق : الآية ٧.

(٢) سورة الإسراء : الآية ١٥.

٤٦٦

تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع ، إذ لا خصوصية للرسول في هذا الموضع ظاهرا فيكون مؤداها نفي استحقاق العقاب قبل قيام الحجة لدى المكلف وهو مؤدى البراءة.

وأشكل على هذه الاستفادة :

١ ـ ان الآية لم تنف أكثر من فعلية العقاب وهي أعم من الاستحقاق الّذي هو وليد شغل الذّمّة وعدمه ، وليس هناك ما يمنع من ثبوت الاستحقاق وارتفاع العقاب بالعفو أو إذهاب السيئة بالحسنة ، والّذي يفيد في الدلالة على البراءة هو نفي الاستحقاق عنه ، الكاشف عن عدم انشغال ذمة المكلف لا نفي فعلية العقاب ، لأن نفي فعليته قد يكون ـ حتى مع ثبوت التكليف واقعا ـ بالعفو وغيره.

وأجيب بأن لسان الآية يأبى مثل هذا الحمل ، أعني الحمل على نفي الفعلية ، لأن التعبير بقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) وما يشبهه من التعبيرات الواردة في القرآن الكريم أمثال (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً)(١) و (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢) ، كلها تدل على ان هذه الأمور مما لا تليق نسبتها إليه سبحانه.

وأظن ان الجو التعبيري الّذي يرسمه هذا النوع من الأداء يقرب هذا المعنى. وإذا صح هذا المعنى فمع فرض استحقاق العبد للعذاب ، فأي مانع من نسبة صدوره إلى الله؟ ولما ذا لا تليق نسبته إليه تعالى؟

فالحق ـ كما استفيد ـ ان أمثال هذه التعبيرات واردة لنفي الاستحقاق ، وحاشا لله ان يعذب من لا يستحق.

وأشكل أيضا ان الآية واردة في مقام نفي العذاب الدنيوي كما يقتضيه سياقها ، وليست واردة في مقام نفي العذاب الأخروي ، والّذي يفيد في إثبات دلالتها على

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ١١٥.

(٢) سورة آل عمران : الآية ١٧٩.

٤٦٧

البراءة هو نفي العذاب الأخروي ، ومن الواضح ان نفي أحدهما لا يستلزم نفي الآخر.

والجواب على هذه الشبهة يتضح مما ذكرنا في الجواب على الشبهة السابقة ، فإن لفظة «ما كنا» تستدعي نفي الاستحقاق ، وهو أعم منهما بالإضافة إلى إمكان استفادة نفي العذاب الأخروي قبل قيام الحجة بقياس الأولوية ، لأن الله سبحانه إذا تنزه عن تعذيب عبيده في دار الدنيا ، وهو عذاب يخف تحمله بالنسبة إلى العذاب الأخروي ، فتنزهه عن إيقاع العذاب الأشد من باب الأولى.

والحق ان الآية من أقوى ما يستدل به على البراءة.

أدلتهم من السنة :

وهي كثيرة جدا نجتزئ بذكر بعضها :

١ ـ حديث الرفع :

وقد روي بسند جامع لشرائط الصحة «عن حريز ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع عن أمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة» (١).

وقد قربت دلالته بأن أحكام الشارع على اختلافها ، من وضعية وتكليفية ، لما كان أمر رفعها ووضعها بيده ، وان بوسعه ان يضع الحكم الإلزاميّ في حالتي العلم والجهل ، أي ان يضع الحكم الواقعي والظاهري على المكلفين كما ان بوسعه ان يرفعهما عنه ، فإن هذا الحديث جاء للتعبير عن رفع الشارع الحكم الإلزاميّ في حال الشك ، وليست هناك أية منافاة بين رفع الحكم عند الجهل به وبقائه واقعا كما

__________________

(١) بحار الأنوار : ٢ : ٢٨٠ ، الحديث : ٤٧ ، من لا يحضره الفقيه : ١ ـ ٥٩ ، الحديث ١٣٢ وفيه : «وضع عن أمتي ...» راجع الدراسات : ٣ ـ ١٤٢.

٤٦٨

هو مقتضى ما دل على ثبوت الأحكام في حق العالمين والجاهلين على السواء ، ويكون مفاد الرفع في هذا الحديث هو رفع العقاب أو المؤاخذة ، وقيل ان الرفع مسلط هنا على خصوص الحكم الظاهري الإلزاميّ الّذي لا يعلم ، ويكون معنى رفعه عدم جعله ابتداء «ولازمه ثبوت الترخيص في اقتحام الشبهة وعدم وجوب الاحتياط ، فإن الأحكام متضادة في مرحلة الظاهر كتضادها في مرحلة الواقع ، فكما ان عدم الإلزام في الواقع يستلزم الترخيص واقعا كذلك عدم الإلزام في الظاهر يستلزم الترخيص ظاهرا ، وإذا ثبت الإذن في الاقتحام لا يبقى مجال لاستحقاق العقاب ، فيكون حال الشبهة الحكمية حال الشبهة الموضوعية التي ثبت فيها الاذن بالدلالة المطابقية بقوله عليه‌السلام : (كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال) (١) ونحو ذلك ، فيثبت بحديث الرفع أصالة الحل والجواز ارتكاب محتمل الحرمة وترك محتمل الوجوب» (٢).

وقد أورد على هذه الاستفادة بإشكالات لعل أهمها هو قولهم : إن هذا الدليل ـ لو تم ـ فهو أضيق من المدعى لتعلقه بخصوص الشبهات الموضوعية وذلك :

أ ـ لأن الرفع مسلط في الكثير من فقرات الرواية على نفس الفعل لوضوح أن المراد من قوله : «ما اضطروا إليه وما أكرهوا» هو نفس الفعل المضطر إليه لا الحكم المضطر إليه وهكذا ... إذ لا معنى للاضطرار إلى الحكم ، كما لا معنى للإكراه عليه ، فإذا ثبت إرادة الفعل من بعض أسماء الموصول فيها ، فقد ثبت ذلك في الجميع أخذا بوحدة السياق. وحينئذ يكون المراد مما لا يعلمون الفعل الّذي لا يعلمون حكمه ، وتختص الرواية بالشبهات الموضوعية.

والجواب على ذلك أن الموصول في هذه الجمل كلها مستعمل في مفهوم واحد ، وهو مفهوم الشيء ، وهذا المفهوم يتسع للحكم والموضوع معا ، والاختلاف إنما هو

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٧ ـ ٨٧ ـ ٨٨ ، باب عدم جواز الإنفاق من كسب إحرام ، ح ١.

(٢) الدراسات : ٣ ـ ١٤٣.

٤٦٩

في مصاديق هذا الشيء المختلفة باختلاف صلة الموصول ، فكأن الشارع قال : رفع الشيء الّذي لا يعلم والشيء الّذي اضطروا إليه ، وهكذا ... ولا يضر في ذلك أن يكون في أحدهما فعل وفي الآخر حكم ، ما دام كل منهما يصدق عليه انه شيء.

ب ـ إن الّذي يقتضيه تسلط الرفع على العدد (تسعة) أن نسبة الرفع إلى كل من أفراد التسعة التي فصّلها الحديث نسبة واحدة ، من حيث كونها حقيقية أو مجازية ، ولا يعقل أن يكون بعضها حقيقيا والآخر مجازيا لبداهة ان الإسناد الواحد إلى التسعة ، وهو العنوان الجامع لها ، لا يحتمل اختلاف النسبة من حيث الحقيقة والمجاز.

وبما أن النسبة فيما لا يعلمون ، إذا أريد من الموصول الحكم ، هي نسبة حقيقية لأن نسبة الرفع إلى الحكم من قبل الشارع لا تجوّز فيها ، ونسبته إلى ما أكرهوا عليه نسبة مجازية لبداهة أن الشارع ـ كمشرع ـ لا يمكن أن يتسلط على الأمور التكوينية فيرفعها ، فلا بدّ أن يكون المراد من تسلط الرفع عليها هو رفع أحكامها المترتبة عليها ، وهي التي بيد الشارع رفعها ووضعها ، ومع تنوع النسبة في الأمور التسعة لا بد أن ينتهي الأمر إلى أن تكون النسبة الواحدة في إسناد الرفع إلى لفظ التسعة الجامع بينها متنوعة تبعا لتنوع أفرادها ، والنسبة في الإسناد الواحد إلى الشيء الواحد يستحيل تنوعها ، فتتعين النسبة المجازية في الجميع ويكون المراد منها جميعا هو الفعل.

والجواب : أن النسبة هنا في إسناد الرفع إلى التسعة نسبة واحدة وهي مجازية ، لأن الإسناد إلى الجامع بين الحقيقي والمجازي يكون إسنادا مجازيا بطبيعة الحال ، وهي أشبه بما يقولونه في المنطق من أن النتيجة تتبع أخس المقدمتين ، فالاختلاف في المتعلق لا يلزم التعدد في النسبة الواحدة.

على أنه يمكن أن يقال ان نسبة الرفع إلى الفعل هي نفسها نسبة حقيقية من دون

٤٧٠

حاجة إلى التقدير لأن معنى رفع الشارع الموضوع تشريعا هو عدم جعله موردا لاعتباره موضوعا لأحكامه ، وهو ـ بهذا المعنى ـ مما يتسلط عليه الرفع حقيقة ، وهذا نظير قول الشارع : «لا ربا بين الوالد والولد ، ولا صيام في السفر» أي ان هذه المواضيع ليست موردا لاعتباره من حيث الإلزام بها فعلا أو تركا.

وعلى هذا ، فالنسبة إلى كل من التسعة تكون نسبة حقيقية وإلى مجموعها كذلك ، فلا تعدد اذن في النسبة الواحدة على جميع الفروض.

ج ـ إن المستفاد من لفظة الرفع ، أن ما تتعلق به فيه ثقل على النّفس ، ومن الواضح أنه لا معنى لكون الحكم بالوجوب أو الحرمة فيه ثقل ، لأن نفس الحكم لا ثقل فيه ، وإنما الثقل بالفعل الّذي يراد الإتيان به أو يراد تركه ، فلا بدّ من نسبة الرفع إلى الفعل لا إلى الحكم.

وأجيب : أن الإتيان بالفعل وعدمه وهو موضع الثقل لما كان مسببا عن الحكم فإن نسبة الرفع إلى سببه كنسبته إليه ، لا تجوّز فيها ولا مسامحة عرفا ، على ان شعور الإنسان بكونه ملزما لمولاه بعمل ما فيه ثقل ـ وأي ثقل ـ فالقول بأن الحكم الملزم لا ثقل فيه لا يعرف له وجه.

والظاهر ان المشكل توهم ان الرفع لا يصدق إلا على ما كان فيه ثقل مادي ، لذلك خصه بالفعل ، مع أن الثقل المعنوي أشد وطأة على النفوس من أي ثقل آخر.

وقد ذكروا إشكالات أخرى لا نرى ضرورة لعرضها والإجابة عليها لوضوح بطلانها ، ولأن الجواب على بعضها يتضح مما عرضناه.

والنتيجة : ان الحديث وافي الدلالة في شموله لمختلف الشبهات موضوعية أو حكمية.

وإذا صحت استفادة رفع الحكم منه فتعميمه إلى مختلف ما فيه ثقل من أنواع

٤٧١

الحكم سواء كان وضعيا أم تكليفيا لا يحتاج إلى كلام.

كما أن شموله لجميع مناشئ عدم العلم بالحكم من فقدان النص ، أو تعارض النصين ، أو الجهل بالموضوع ، أو غيرها واضح جدا.

٢ ـ رواية السعة :

ولسان الرواية : «الناس في سعة ما لا يعلمون» (١).

وقد قرئ هذا الحديث بتنوين كلمة سعة كما قرئ بالإضافة وعدم التنوين. ولازم القراءة الأولى ان تكون (ما) مصدرية زمانية ، ويكون مفاد الرواية على تقديرها : الناس في سعة مدة عدم علمهم بالتكليف ، أي ما داموا لم يعلموا بوجوده فذمتهم غير مشغولة به ، لأن الشارع جعلهم في سعة من أمره.

ولازم القراءة الثانية أن تكون (ما) موصولية ، ويكون مفادها : الناس في سعة الحكم الّذي لا يعلمونه ويكون مؤداه مؤدى حديث الرفع.

والفارق بين القراءتين أن الحديث على القراءة الأولى يكون مؤكدا في مضمونه للقاعدة العقلية الآتية (قبح العقاب بلا بيان) لأن لسانه لسان جعل السعة ما دام البيان غير واصل إلينا ، أي ما دمنا لا نعلم بالتكليف ، فإذا تمت أدلة الاحتياط الشرعي الآتية كانت حاكمة عليه ، لأن لسانها لسان بيان للحكم فهي رافعة للجهل الّذي أنيطت السعة به في هذه الرواية.

وعلى القراءة الثانية يكون مفاد الرواية مفاد حديث الرفع وهو معارض لأدلة الاحتياط كما يأتي.

والظاهر ـ الّذي استفاده بعض أساتذتنا ـ «من الحديث هو : الاحتمال الثاني ، فإن كلمة (ما) الزمانية حسب استقراء موارد استعمالها لا تدخل على فعل

__________________

(١) الكافي : ٦ ـ ٢٩٧ ، ح ٢ وفيه : «هم في سعة حتى يعلموا». والتهذيب : ٩ ـ ٩٩ ، ح ١٦٧ ، كذلك وراجع : الدراسات : ٣ ـ ١٥٨.

٤٧٢

المضارع ، وإنما تدخل على الماضي ، فلو كان المضارع في الخبر مدخول كلمة (لم) لكان للاحتمال الأول وجه ، ثم لو سلّم دخولها على فعل المضارع أحيانا فلا ريب في ندرته فلا يصار إليه في غير الضرورة.

وعليه ، فالصحيح دلالة الحديث على البراءة الشرعية ، وبإطلاقه يشمل الشبهات الموضوعية والحكمية.

ومن ذلك يظهر أن ما أفاده المحقق النائيني من ترجيح الاحتمال الأول وعدم صحة الاستدلال بهذا الحديث على البراءة الشرعية خلاف التحقيق» (١).

٣ ـ رواية كل شيء مطلق :

ولسان هذه الرواية : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٢).

وقد اختلفوا في المراد من لفظة (يرد) في الرواية فقيل ان معناها الصدور ، ويكون معنى هذه الرواية إذ ذاك : كل شيء مطلق أي مباح حتى يصدر من الشارع في حقه نهي ، وتكون بهذا المعنى أجنبية عن موضع احتياجنا لبداهة ان حاجاتنا إليها إنما هي بعد البعثة وصدور الأحكام عن الشارع واختفائها عنا.

وقيل : ان المراد من الورود فيها هو الوصول ، فيكون معناها كل شيء مطلق ـ أي مباح ظاهرا ـ حتى يصل إلى المكلف فيه نهي.

والظاهر ان مدلول الرواية لا يلتئم مع طبيعة صدورها من الإمام إلا على القول الثاني.

لأن قول الشارع : «كل شيء مطلق حتى يرد» إما ان يراد بالإطلاق الإباحة الواقعية أو الظاهرية والورود وإما ان يراد به الوصول أو الصدور ، فصور المسألة أربع :

__________________

(١) الدراسات : ٣ ـ ١٥٩.

(٢) وسائل الشيعة : ٦ ـ ٢٨٩ ، أبواب القنوت ، باب جواز القنوت بغير العربية مع الضرورة ، ح ٣. وراجع : الدراسات : ٣ ـ ١٥٩.

٤٧٣

١ ـ أن يكون الإطلاق بمعنى الإباحة الواقعية ، والورود بمعنى الصدور ، فيكون مفاد الرواية كل شيء مباح واقعا حتى يصدر من الشارع نهي عنه ، وهذا النوع من الكلام لا معنى له لاستلزامه الإخبار عن أن أحد الضدين رافع للآخر ، وهو أشبه بالقول : كل إنسان حي ما لم يمت ، أو كل إنسان نائم ما لم يستيقظ ، وأي معنى لمثل هذا الكلام لو صدر عن إنسان عادي فضلا عن صدوره من مشرع؟! وأية ثمرة تشريعية تترتب على مثله؟

٢ ـ أن يكون الإطلاق بمعنى الإباحة الواقعية ، والورود بمعنى الوصول ، فيكون معنى الرواية أن كل شيء محكوم بالإباحة الواقعية حتى يصل فيه نهي.

ولازم هذا أن وصول حكم على خلاف الحكم الواقعي يقتضي أن يكون مغيرا للواقع عما هو عليه من حكم فيلزم التصويب ، وسيأتي بطلانه ، وهو اليوم مجمع عليه بين المسلمين ظاهرا.

٣ ـ أن يراد من الإطلاق الإباحة الظاهرية ، ومن الورود صدور الحكم من الشارع ، ومثل هذا الكلام لا معنى له لبداهة أن صدور الحكم من الشارع بمجرده لا يرفع الإباحة الظاهرية وإنما الّذي يرفعها وصول الحكم من قبله.

٤ ـ أن يراد من الإطلاق الإباحة الظاهرية ومن الورود الوصول ، فيكون مفادها ان كل شيء محكوم بالإباحة الظاهرية حتى يصل نهي على خلافها وهو معنى البراءة.

وبهذا يتضح السر في ادعائنا أن مدلول هذه الرواية لا يلتئم مع طبيعة صدورها من الإمام إلا على القول الثاني ـ وهو مؤدى المعنى الرابع ـ لأن بقية المعاني مما يستحيل صدورها منه عادة.

استدلالهم بالإجماع :

وقد صوروه بعدة صور :

٤٧٤

منها : دعوى اتفاق المسلمين على قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) ويرد عليها أنها وإن كانت ثابتة في واقعها ، إلا أن ثبوتها لا يكشف عن حكم الشارع بها لكونها قاعدة عقلية محضة كما يأتي الحديث فيها ، وبالإضافة إلى انها لا تثبت الترخيص في الشبهات التحريمية ـ موضع النزاع مع الأخباريين ـ لادعائهم وجود البيان فيها ، فهي خارجة عن موضوع هذا الحكم العقلي بالورود.

ومنها : دعوى الاتفاق على ان الحكم الظاهري المجعول عند الشك هو الترخيص ، وهذه الدعوى لا أعرف لها مأخذا يمكن الركون إليه مع خلاف الأخباريين في إطلاقها لذهابهم إلى الاحتياط في الشبهات التحريمية.

أدلتهم من العقل :

وعمدة ما استدلوا به هي قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) وما أدري كيف أقحمت في هذا المجال؟ فهي وإن كانت وافية الدلالة على البراءة إلا أنها لا تفي بإثبات البراءة الشرعية لعدم كشفها عن رأي الشارع ـ كمشرع ـ إذ المفروض فيما أخذ فيها هو عدم البيان الشرعي بجميع مراتبه ، ومع كشفها عن رأي الشارع تكون هي بيانا فيلزم من قيامها هدم موضوعها وارتفاعها تبعا لذلك ، أي يلزم من وجودها عدمها ، ولهذا السبب اعتبر العلماء ورود ما دل على البراءة الشرعية على هذه القاعدة لإزالته لموضوعها وجدانا بواسطة التعبد الشرعي ، ومن هنا آثرنا تأجيل الحديث عن هذه القاعدة إلى مبحث البراءة العقلية.

أدلة الأخباريين على التفصيل :

وقد استدل الأخباريون كذلك بالأدلة الأربعة ، وبما أن أدلتهم لا تخص دعواهم من الرجوع في الشبهات التحريمية إلى الاحتياط ، فقد آثرنا تأجيل الحديث فيها إلى القسم اللاحق.

٤٧٥
٤٧٦

الباب الثالث

القسم الثاني

الاحتياط الشرعي

* تحديده

* الاختلاف في حجيته

* أدلة الأخباريين

* أدلتهم من الكتاب

* أدلتهم من السنّة

* مناقشها ككل

* الأصل في الأشياء الحظر

* خلاصة البحث

* الاحتياط الشرعي وظيفة

٤٧٧
٤٧٨

تحديده :

ويراد به حكم الشارع بلزوم الإتيان بجميع محتملات التكاليف أو اجتنابها عند الشك بها ، والعجز عن تحصيل واقعها مع إمكان الإتيان بها جميعا أو اجتنابها.

الاختلاف في حجيته :

وقد اختلفوا في حجيته ، فالذي عليه أكثر علماء الأصول أنه ليس بحجة مطلقا ، وخالف الأخباريون في ذلك فاعتبروه حجة في خصوص الشبهات التحريمية.

أدلة الأخباريين :

وقد استدل الأخباريون ، أو استدل لهم بعدة أدلة نعرض أبرزها في الدلالة.

أدلتهم من الكتاب :

أ ـ قوله تعالى : (ولا تقف ما ليس لك به علم) (١).

باعتبار ان الترخيص في الشبهات التحريمية قول بغير علم ، وقد نهت هذه الآية المباركة عنه.

والجواب : على ذلك : أن الترخيص فيها قول بعلم لقيام أدلة البراءة السابقة عليه ، فهو خارج عن الآية موضوعا لحكومة أدلة البراءة عليها.

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٣٦.

٤٧٩

٢ ـ قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(١).

٣ ـ قوله سبحانه : (فاتقوا الله ما استطعتم) (٢).

بتقريب ان اقتحام الشبهات التحريمية ينافي التقوي التي أمرنا بها بفحوى هذه الآيات ونظائرها.

والجواب : ان اقتحام الشبهة مع وجود المؤمن الشرعي لا ينافي التقوي بحال ، ومع قيام أدلة البراءة فالمؤمّن حاصل من الشارع ، وأي محذور في اتباع رخص الشارع بعد ثبوتها عنه؟

٤ ـ قوله تعالى : (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (٣).

وقد قربوا دلالتها بكون اقتحام الشبهات التحريمية إلقاء بالنفس إلى التهلكة ، وقد حرمته هذه الآية.

ويرد على هذا التقريب :

أ ـ ان كون اقتحام الشبهات التحريمية إلقاء بالنفس إلى التهلكة أو ليس بإلقاء لا تشخصه الآية ، لبداهة ان القضية لا تثبت موضوعها ، والمقياس في كونه إلقاء إذا أريد من التهلكة التهلكة الأخروية ـ أي العقاب ـ هو نهي الشارع عنه ومخالفة ذلك النهي ، وتوجه النهي إلى اقتحام الشبهات إن أريد إثباته بهذه الآية لزم الدور ، وإن أريد إثباته بغيرها فالغير هو الدليل لا هذه الآية.

ب ـ ان النهي في الآية لو أريد من التهلكة التهلكة الأخروية ، ليس نهيا مولويا ، وإنما هو نهي إرشادي ، فلا يدل على التحريم لبداهة ان شئون الإطاعة والعصيان لا تقبل جعلا شرعيا للزوم التسلسل ، إذ لو كان هذا النهي نهيا مولويا لكانت مخالفته موجبة للعصيان وإلقاء النّفس إلى التهلكة ، وهي محرمة ومخالفتها

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ١٠٢.

(٢) سورة التغابن : الآية ١٦.

(٣) سورة البقرة : الآية ١٩٥.

٤٨٠