الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

الاستصحاب وقاعدة اليقين :

وقاعدة اليقين تشارك الاستصحاب في جملة أركانه إلا ما يتصل بفعلية اليقين والشك منها ، إذا لا يقين فعلي فيها لفرض سريان الشك إلى نفس اليقين وإزالته كما هو فحوى تحديدها.

فقاعدة اليقين تفترض ان يكون الشك فيها ساريا إلى نفس اليقين السابق ومزيلا له ، بينما يجمعها الاستصحاب على صعيد واحد إلا في ناحية الزمان ، فإذا علمنا ـ ونحن في يوم الأحد مثلا ـ بحياة زيد يوم الجمعة وشككنا ببقائها إلى يوم السبت فنحن الآن نملك يقينا بالحياة يوم الجمعة وشكا بالحياة في يوم السبت ، وكلاهما فعليان ، فالمثال يصلح للاستصحاب ، وإذا علمنا ـ ونحن في يوم الأحد ـ بحياة زيد يوم الجمعة ثم شككنا بعد ذلك فيها في يوم الجمعة كأن يكون قد طرأ علينا ما يزيل ذلك اليقين ، فالمثال يصلح لقاعدة اليقين ، إذ بعد زوال اليقين في حياته يوم الجمعة ، لا يبقى عندنا يقين فعلي ، فالفارق بينهما اذن هو في فعلية اليقين السابق في أحدهما وعدمها في الآخر.

وقد وقع الخلط بين القاعدتين على ألسنة كثير من الاعلام لخفاء الفارق بينهما ، والأدلة التي يملكها الأصوليون لا تنهض ـ على تقدير تماميتها ـ بغير الاستصحاب ، إذ لا معنى لصدق النهي عن نقض اليقين مع عدم فعليته بداهة.

الاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع :

ومن التأمل في هذه الأركان أيضا ندرك الفارق بين القاعدتين لاعتبارنا في الاستصحاب وحدة المتعلق لليقين والشك بخلاف قاعدة المقتضي والمانع ، فإن متعلق اليقين فيها هو وجود المقتضي للشيء ، ومتعلق الشك هو حصول المانع من تأثيره «فإذا صببنا الماء لتحصيل الطهارة من الخبث مثلا ، وشككنا في تحقق الغسل لاحتمال وجود مانع من وصول الماء ، فلنا يقين بوجود المقتضي وهو

٤٤١

انصباب الماء ، وشك في وجود المانع ، فعدم ترتيب آثار الطهارة لا يصدق عليه نقض اليقين بالشك لعدم تعلق اليقين بالطهارة بل بوجود المقتضي ، وليست الطهارة من آثار وجوده فقط بل تتوقف على عدم المانع أيضا ، والمفروض انه لا يقين بوجود المقتضي وعدم المانع لتكون الطهارة متيقنة» (١).

فالفارق بينهما اذن انما هو في اختلاف المتعلق للشك واليقين في قاعدة المقتضي والمانع واتحاده في الاستصحاب.

والأدلة التي يملكها الأصوليون لا تفي بالدلالة على غير الاستصحاب لظهورها بوحدة المتعلق فيهما ، كما يأتي عرضها وبيان الاستفادة منها.

ونظرا لوقوع التشابه بين القاعدتين ووقوع الخلط بينهما ، فقد اقتضانا التنبيه عليه.

الخلاف في حجيته :

اختلفوا في حجية الاستصحاب «فذهب أكثر العلماء كما حكاه ابن الحاجب ومنهم المالكية والحنابلة وأكثر الشافعية : إلى ان الاستصحاب حجة شرعية فيحكم ببقاء الحكم الّذي كان ثابتا في الماضي ما دام لم يقم دليل برفعه أو بتغييره فيبقى الأمر الثابت في الماضي ثابتا في الحال بطريق الاستصحاب» (٢).

وفي المعالم نسبة الحجية إلى الأكثر وخالف في ذلك السيد المرتضى (٣) كما خالف «أكثر الحنفية والمتكلمين كأبي الحسين البصري» (٤).

وهناك تفصيل ذهب إليه أكثر المتأخرين من علماء الحنفية وهو : «أن الاستصحاب حجة دافعة لا حجة مثبتة ، أي أنه حجة لدفع ما يخالف الأمر الثابت

__________________

(١) مصباح الأصول : ص ٢٤١.

(٢) سلم الوصول : ص ٣٠٥

(٣) راجع : معالم الأصول : ص ٢١٨.

(٤) إرشاد الفحول : ص ٢٣٧.

٤٤٢

بالاستصحاب ، وليس هو حجة على إثبات أمر لم يقم دليل على ثبوته» (١).

وللشيعة تفصيلات في أقسام الاستصحاب كثيرة ، أهمها : تفصيل الشيخ الأنصاري بين ما إذا كان الشك في المقتضي فلا يجري الاستصحاب أو الشك في الرافع فيجري.

واستقصاء هذه الأقوال والتماس أدلتها على اختلافها من التطويل غير المستساغ.

فالأنسب صرف الكلام إلى التماس الأدلة على أصل الحجية ، وبيان مقدار ما تدل عليه ، ومنها يعرف القول الحق من جميع هذه الأقوال.

أدلة المثبتين :

أما مثبتو الاستصحاب فقد استدلوا بعدة أدلة ، أهمها :

١ ـ السيرة العقلائية :

بدعوى ان ما «فطر عليه الناس وجرى به عرفهم في عقودهم وتصرفاتهم ومعاملاتهم ، انهم إذا تحققوا من وجود أمر غلب على ظنهم بقاؤه موجودا حتى يثبت لهم عدمه ، وإذا تحققوا من عدم أمر غلب على ظنهم بقاؤه معدوما حتى يثبت لهم وجوده ، فمن عرف إنسانا حيّا راسله بناء على ظنه بقاء حياته ، ومن عرف زوجية زوجين شهد بها بناء على ظن بقائها ، والقاضي يقضي بالملكية في الحال بناء على سند ملكية بتأريخ سابق ، ويقضي بالدين في الحال بناء على شهادة شاهدين باستدانة سالفة.

وهذا كله يدل على أن مما تقضي به الفطرة أن يعتبر ما كان على ما كان حتى

__________________

(١) سلم الوصول : ص ٣٠٧.

٤٤٣

يطرأ ما يغيره» (١).

وقد نوقش بهذه السيرة «بأن عملهم على طبق الحالة السابقة على أنحاء مختلفة : فتارة يكون عملهم لاطمئنانهم بالبقاء ، كما يرسل تاجر أموالا إلى تاجر آخر في بلدة أخرى لاطمئنانه بحياته لا للاعتماد على مجرد الحالة السابقة ، ولذا لو زال اطمئنانه بحياته ، كما لو سمع انه مات جماعة من التجار في تلك البلدة لم يرسل الأموال قطعا.

وأخرى يكون عملهم رجاء واحتياطا كمن يرسل الدرهم والدينار إلى ابنه الّذي في بلد آخر ليصرفهما في حوائجه ، ثم لو شك في حياته فيرسل إليه أيضا للرجاء والاحتياط حذرا من وقوعه في المضيقة على تقدير حياته.

وثالثة يكون عملهم لغفلتهم عن البقاء وعدمه ، فليس لهم التفات حتى يحصل لهما الشك فيعملون اعتمادا على الحالة السابقة كمن يجيء إلى داره بلا التفات إلى بقاء الدار وعدمه ـ إلى ان يقول ـ : فلم يثبت استقرار سيرة العقلاء على العمل اعتمادا على الحالة السابقة» (٢).

والظاهر ان هذه المناقشة لا تدفع وجود السيرة. وكونها جارية على وفق الاطمئنان تارة والاحتياط أخرى ، والغفلة ثالثة لا يدفع قيامها في غير المواضع المذكورة ، ولو رجع الإنسان إلى واقعة لوجد نفسه صادرا عن الاستصحابات في جل تصرفاته حتى مع الشك باستمرار الحالة السابقة وعدم الغفلة عنها ، وما هذه المواضع إلا من صغريات القاعدة.

لكن دعوى الأستاذ خلاف بأن ما فطر عليه الناس وجرى به عرفهم انهم إذا تحققوا من وجود أمر غلب على ظنهم بقاؤه ... إلخ. لا يخلو من مسامحة ، فان الّذي

__________________

(١) مصادر التشريع : ص ١٢٨.

(٢) مصباح الأصول : ص ١١.

٤٤٤

جرى عليه الناس هو ترتيب الأثر على الحالة السابقة حتى مع الظن بالخلاف أحيانا ، كما هو الشأن في الأمثلة التي مرت علينا الآن.

والّذي يبدو لي ان الاستصحاب من الظواهر الاجتماعية العامة التي ولدت مع المجتمعات ودرجت معها ، وستبقى ـ ما دامت المجتمعات ـ ضمانة لحفظ نظامها واستقامتها ، ولو قدر للمجتمعات ان ترفع يدها عن الاستصحاب لما استقام نظامها بحال ، فالشخص الّذي يسافر مثلا ويترك بلده وأهله وكل ما يتصل به لو ترك للشكوك سبيلها إليه ـ وما أكثرها لدى المسافرين ـ ولم يدفعها بالاستصحاب ، لما أمكن له ان يسافر عن بلده ، بل ان يترك عتبات بيته أصلا ، ولشلت حركتهم الاجتماعية وفسد نظام حياتهم فيها ، فقول شيخنا النائيني : «ان عملهم على طبق الحالة السابقة إنما هو بإلهام إلهي حفظا للنظام» (١) لا يخلو من أصالة وعمق نظر ، ومناقشته بأن منكري حجية الاستصحاب لم يختل النظام عليهم بعد ، ولو كان حفظ النظام يقتضي ذلك لاختل على المنكرين ، تحتاج إلى تأمل ، فالمنكرون لحجية الاستصحاب عند ما أنكروها لم يتخلوا في واقع حياتهم عن الجري على وفق الاستصحاب وإن تخلو عنه في الشرعيات.

وكونه ظاهرة اجتماعية يصدر عنها الناس في مجتمعاتهم حتى مع الشك صدورا تلقائيا ـ كما هو الشأن في الظواهر الاجتماعية ـ لا ينافي ان يلتقي أحيانا الرجاء أو الاحتياط أو الظن بالبقاء أو الاطمئنان أو غيرها ، لكن هذه الأمور ليست هي الباعثة على خلق هذه الظاهرة ككل ، وإنما هي من وسائل التبرير عن السلوك على وفقها في بعض الأحيان ، مما يخيل للإنسان الفرد ان جملة تصرفاته منطقية ومبررة.

وإذا صح ما ذكرناه من كونها من الظواهر الاجتماعية العامة ، فعصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) راجع : مصباح الأصول : ص ١١.

٤٤٥

ما كان بدعا من العصور ولا مجتمعة بدعا من المجتمعات ليبتعد عن تمثل وشيوع هذه الظاهرة ، فهي بمرأى من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتما ـ ولو ردع عنها لكان ذلك موضع حديث المحدثين ، وهو ما لم يحدّث عنه التأريخ ، فعدم ردع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها يدل على رضاه وإقراره لها وبخاصة وهو قادر على الردع عن مثلها وليس هناك ما يمنعه عنه.

ودعوى الردع عنها بالآيات الناهية عن العمل بالظن يرد عليها ما سبق ان أوردناه في مبحث السنة عند ما تحدثنا عنها وحسابها نفس الحساب.

٢ ـ وجوب العمل بالظن :

وهو ما استدل به البعض بدعوى انه «من المقرر ان العمل بالظن واجب ، ويغلب الظن ببقاء الشيء على ما كان ما دام لم يوجد ولم يطرأ ما يغيره ويزيله» (١).

والمناقشة في هذا الدليل واقعة صغرى وكبرى.

أما الصغرى فلأن الظن لا يتحقق دائما ببقاء الشيء لمجرد عدم طروّ ما يغيره ، فالشخص الّذي يترك بلده ثمانين حولا لا يظن ببقائه حيّا عادة لا بالظن الشخصي ولا النوعيّ ، مع انه لم يعلم بوجود ما يوجب انعدام حياته وما أكثر صور الاستصحاب التي لا يتحقق فيها ظن بالحالات السابقة.

وأما الكبرى ـ أعني دعوى ان العمل بالظن واجب ـ فهي لا مستند لها أصلا ، وحالها يتضح مما عرضناه في مباحث التمهيد من ان الظن من الطرق غير الذاتيّة لنقصان كشفه ، وما كان غير ذاتي فهو محتاج إلى الجعل ، وليس عندنا من الأدلة ما يجعل الطريقية لمطلق الظنون ، اللهم إلا إذا تمت مقدمات دليل الانسداد ـ وهي

__________________

(١) سلم الوصول : ص ٣٠٨.

٤٤٦

غير تامة كما اتضح حالها في مبحث القياس ـ فادعاء المفروغية عن وجوب العمل بالظن لا مستند له ، إذ مع هذه المفروغية المقررة لا نحتاج إلى التماس الأدلة على جميع ما مر من الظنون القياسية وغيرها والتماسها إذ ذاك عبث من الأعلام لا مبرر له.

٣ ـ الإجماع :

وقد ادعاه غير واحد من الأعلام ، يقول في سلم الوصول : «إجماع الفقهاء على ان ما ثبت باليقين لا يزول بالشك» (١) ويقول في مصادر التشريع : «مما اتفق عليه الفقهاء ان ما ثبت باليقين لا يزول بالشك ، فمن توضأ للصلاة ثم شك بعد ذلك في أنه أحدث يصلي ولا عبرة بشكه ، ومن تزوج ثم شك بعد ذلك في أنه طلق تحل له زوجته ولا اعتبار بشكه ، وهذا في الحقيقة مبني على ان الحكم الّذي ثبت في الماضي يستصحب ويبقى ويستمر حتى يوجد دليل يغيره» (٢).

وهذا الإجماع لا أعرف كيف ادعاه هؤلاء الأعلام ، مع نقلهم لذلك الخلاف الكبير في حجية الاستصحاب من قبل كثير من الفقهاء ، اللهم إلا أن يوجه الإجماع إلى خصوص هذه الفروع ونظائرها ، وهو لا يثبت حجية الاستصحاب لقيامه على نفس الفرع لا على مصدره المتخيل.

٤ ـ السنة :

ونريد من الاستدلال بالسنّة خصوص ما ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام في هذا المجال ، لعدم اطلاعنا على أحاديث نبوية من غير طريقهم بهذا المضمون ، وربما كانت موجودة وضيعها علينا نقص الفحص وبخاصة إذا كانت في غير مظانها من

__________________

(١) راجع : سلم الوصول : ص ٣٠٨.

(٢) راجع : مصادر التشريع : ص ١٢٨.

٤٤٧

كتب الفقه والأصول ، وفي اخبار أهل البيت عليهم‌السلام الكفاية ، بعد ان ثبتت حجية ما يأتون به.

والروايات التي أثرت عنهم كثيرة وبعضها مستوعب لشرائط الصحة ، وقد استغرق الحديث فيها وفي ملابساتها مئات الصفحات في الموسوعات الأصولية أمثال : رسائل الشيخ ، وحقائق الأصول ، وفوائد الأصول ، وغيرها ، نذكر روايتين منها ونحيل القراء في بقيتها على هذه الموسوعات ، ثم نجتزئ في الحديث عنهما بمقدار ما يتسع له صدر هذه الصفحات :

١ ـ صحيحة زرارة : «قال : قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني ، فعلّمت أثره إلى أن أصيب له الماء ، فحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئا وصليت ، ثم إني ذكرت بعد ذلك. قال عليه‌السلام : تعيد الصلاة وتغسله. قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت انه قد أصابه فطلبته ولم أقدر عليه فلما صليت وجدته ، قال عليه‌السلام : تغسله وتعيد. قلت : فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا فصليت فرأيت فيه. قال عليه‌السلام : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذلك؟ قال عليه‌السلام : لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا. قلت : فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله ، قال عليه‌السلام : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك. قلت : فهل عليّ إن شككت في أنه اصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال عليه‌السلام : لا ، ولكنك إنما تريد ان تذهب الشك الّذي وقع في نفسك. قلت : إن رأيته في ثوبي وانا في الصلاة؟ قال عليه‌السلام : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك فليس ينبغي لك أن تنقض

٤٤٨

اليقين بالشك» (١).

وهذه الرواية من أهم الروايات وأصحها ، وقد اشتملت على عدة مسائل فقهية أثارها عمق الراوي ودقة نظرته (٢) ، وقد تحدث عنها الاعلام أحاديث مفصلة ، ولكنها لا تتصل بطبيعة بحثنا هذا ، وما يتصل منها بموضع الحاجة قوله عليه‌السلام : في مقامين منها «فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك» وهي كبرى كلية طبقها عليه‌السلام على بعض مصاديقها في المقامين.

والّذي يبدو من التعبير «فليس ينبغي» وهي كلمة لا تقال عادة في غير مواقع التأنيب أو العتب ، ولا موضع لهما هنا لو لم تكن هذه الكبرى مفروغا عنها عند الطرفين وهي من المسلمات لديهما ، كما ان التعليل فيها «لأنك كنت على يقين» وإرساله على هذا النحو من الإرسال يوحي انه تعليل بأمر مرتكز معروف ، وهو ما سبق ان استقربناه عند الاستدلال ببناء العقلاء من انه من الأمور التي يصدر عنها الناس في واقعهم صدورا تلقائيا لعل مصدره ما ذكره شيخنا النائيني من إلهام الله لهم ذلك ، أو ما عبر عنه الأستاذ خلاف بفطرة الله الناس عليها ، فهي في الحقيقة من أدلة الإمضاء لما عليه بناء العقلاء.

٢ ـ موثقة عمار عن أبي الحسن عليه‌السلام : «قال : إذا شككت فابن علي اليقين ، قلت : هذا أصل؟ قال عليه‌السلام : نعم» (٣).

ودلالتها على الحجية واضحة وبخاصة إذا تصورنا انه لا معنى للبناء على اليقين إلا البناء على المتيقن والتعبير ب «هذا أصل» يدل على سعة القاعدة وعدم تقيدها في الموارد التي بعثت بالسائل على الاستفسار والسؤال.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ ـ ٤٢١ ، الحديث ٨ ، والاستبصار : ١ ـ ١٨٣ ، الحديث : ١٣.

(٢) لزرارة صاحب هذه الرواية صحيحتان أخريان تجريان بهذا المستوى والعمق من كثرة التفرعات في الأسئلة وقوة الدلالة على حجية الاستصحاب ، راجع : مصباح الأصول : ص ٤٩ ـ ٥٠. (المؤلف).

(٣) وسائل الشيعة : ٨ ـ ٢١٢ ، الحديث ١٠٤٥٢ ، راجع : مصباح الأصول : ص ٦٤.

٤٤٩

وعلى هذا فدلالة الروايات وافية ، ولنا من إطلاقها وشمولها ـ لجميع أقسام الاستصحاب سواء كان المشكوك فيه هو الحكم أم موضوعه ، وسواء كان سبب اليقين بالحكم الشرعي الدليل العقلي أم غيره ـ ما يكفي لإلغاء جميع هذه التفصيلات وغيرها مما ذكروه ، والمقياس في جريان الاستصحاب وعدمه هو توفر الأركان السابقة التي انتزعناها جميعا من مضمون هذه الروايات وعدمها وهو الأساس ، والمنطلق للفصل في جميع ما يتصل بعوامل الخلاف التي ذكروها.

وعلى أساس من هذا المقياس سنثير الحديث في عدة من المسائل المهمة ونحاول تقييمها بعد عرض وجهات نظرهم في ذلك.

١ ـ الأصل المثبت :

ويراد بالأصل المثبت : الأصل الّذي تقع فيه الواسطة غير الشرعية ـ عقلية أو عادية ـ بين المستصحب والأثر الشرعي الّذي يراد إثباته ، على ان تكون الملازمة بينهما ـ أعني المستصحب والواسطة ـ في البقاء فقط.

وإنما قيدناها بهذا القيد إخراجا لما كانت الملازمة فيه قائمة بينهما حدوثا وبقاء ، إذ اللازم إذ ذاك يكون بنفسه متعلقا لليقين والشك فيجري فيه الاستصحاب بلا حاجة إلى الالتزام بالأصل المثبت ، وحجيته موضع اتفاق.

ومثاله ما لو علمنا بوجود الكر في البيت ولم نشخص موضعه وشككنا في ارتفاعه ، فمقتضى الاستصحاب هو بقاء الكر ، ثم فحصنا بعد ذلك فوجدنا كمية من الماء نحتمل انها هي الكر ولم نجد غيرها ، فبمقتضى الملازمة العادية ان الكر المستصحب هو هذا الماء ، إلا أن تطبيق الكر المستصحب على الموجود خارجا ليس مما يقتضيه حكم الشارع ، وإنما اقتضته الملازمة العادية أو العقلية ـ بحكم عدم عثورنا على غيره ـ فتطبيق أحكام الكر على هذا الماء إنما هو بالأصل المثبت ، أي بتوسط تطبيق الكر عليه الّذي اقتضته الواسطة غير الشرعية ، ومن

٤٥٠

المعلوم هنا ان هذا الماء الّذي يراد إثبات الكرّية له غير معلوم الكرّية سابقا ، وإنما المعلوم هو وجود الكر في البيت ، وليست الملازمة بينه وبين الكرّية إلا من حيث البقاء ، إذ لازم بقاء الكر في البيت هو ثبوت الكرّية للموجود.

وقد اختلفوا في حجيته ، فالذي عليه الكثير من قدامي الأصوليين هو ثبوت الحجية له بادعاء تناول أدلة الاستصحاب لمثله.

والّذي عليه محققو المتأخرين عدم الحجية لوضوح افتقاده لبعض الأركان التي انتزعناها من أدلة الحجية ـ فيما مضى ـ وهو وجود اليقين السابق والشك اللاحق ، ومن البين هنا انه لا يقين بكرّية هذا الموجود سابقا لتستصحب ، وإنما اليقين بوجود الكر ، ومع فقد اليقين السابق لا مجال لترتيب آثار الاستصحاب لفقده ركنا من أركانه وهو اليقين.

وتقريب آخر لعدم الحجية ، ان الّذي استفدناه من أدلة الاستصحاب ان من أركانه التي اعتبرها الشارع وحدة المتعلق لليقين والشك ليصدق النهي عن نقض اليقين بالشك ، إذ مع اختلاف المتعلق لا معنى لأن ينقض اليقين بالشك ، ومتعلق اليقين الّذي بأيدينا هو وجود الكر سابقا لا كرّية الموجود لفرض جهالة حالته السابقة ، والمشكوك الّذي نريد معرفة حكمه هو الكر الموجود لا وجود أصل الكر لعدم الثمرة الشرعية بالنسبة لمعرفته لنا فعلا ، فمتعلق الشك اذن غير متعلق اليقين ، ومع عدم وحدة المتعلق في الشك واليقين ـ موضع احتياجنا ـ لا مجال للاستصحاب لفقده ركنا من أركانه أيضا.

فسواء فقد الأصل المثبت ذلك الركن أم هذا ، لا مجال للقول بحجيته.

وأهم ما أورد في هذا المجال ان ما يقتضيه قياس المساواة هو القول بالحجية ، بتقريب ان الواسطة العرفية أو العقلية من آثار المتيقن سابقا ، والحكم أو الموضوع الشرعي الّذي يراد إثباته من آثار الواسطة وأثر الأثر أثر ، فالدليل الدال على

٤٥١

اعتبار المشكوك متيقنا إذا شمل الأول فقد شمل آثاره المترتبة عليه طبعا.

وقد أجيب على هذا الإيراد : ان هذه الكلية أعني ـ ان أثر الأثر أثر ـ وإن كانت مسلّمة عقلا ، إلا أنها في خصوص ما إذا كانت الآثار الطولية كلها من سنخ واحد ، كما في الحكم بنجاسة الملاقي ونجاسة ملاقي الملاقي حيث ان هذه الآثار جميعا من الآثار الشرعية المجعولة من قبله ، لأن لازم نجاسة الشيء شرعا نجاسة ملاقيه ، ولازم نجاسة ملاقيه نجاسة ملاقي ملاقية ، فالدليل الدال على نجاسة الشيء دال على ترتب هذه الآثار عليه ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللوازم العقلية ، أما إذا اختلفت الآثار فكان بعضها عقليا والآخر شرعيا ، فالقاعدة غير مسلّمة لبداهة ان الأثر الشرعي المجعول على شيء لا يكون أثرا شرعيا للوازمه العقلية أو العادية.

فمن ضرب شخصا خلف ستر فقده نصفين ، ثم شك بأن هذا الشخص هل كان حيا عند ما ضربه أي ان الموت استند إلى الضرب أو إلى غيره ، فاستصحاب حياته إلى حين الضرب لا يكشف عن أن الموت كان مستندا إلى ضربته ، فلا يرتب عليه آثار القتل الشرعية في هذا الحال ، لوضوح أن الاستناد وعدمه ليسا من آثار حكم الشارع ببقائه حيّا ، وإنما هو من آثار حياته الواقعية وهي غير محرزة هنا.

ثم إن الاستصحاب لما لم يكن من سنخ الأمارات الكاشفة عن الواقع ، وأخذنا به إنما هو من قبيل التعبد المحض ، فإن علينا ان نتقيد في حدود ما عبدنا به الشارع مما يرجع جعله إليه ، أي ان نثبت به خصوص الآثار الشرعية التي عبدنا بها ، ولا نتجاوزها إلى غير آثاره من لوازم إثبات الحكم أو الموضوع العادية أو العقلية لاحتياج هذا النوع من التجاوز إلى الدليل.

وحتى الأمارات ـ على رأي بعض أساتذتنا ـ لا تثبت لوازمها العقلية أو

٤٥٢

العادية ، إلا إذا ثبت التخويل الشرعي لها بذلك ، أي ثبت عموم التعبد بها لهذا النوع من اللوازم والأخبار والإقرارات وما يشبهها من الأمارات ، إنما التزم بإثبات لوازمها على اختلافها لثبوت البناء العقلائي بذلك ، وثبوت إمضاء الشارع له على ما يملكه ذلك البناء من سعة وشمول.

فدليل الاستصحاب ـ حتى مع فرض أماريته ـ غير ناظر إلى ترتيب لوازم المتيقن العادية أو العقلية أصلا ليتمسك به على الإطلاق والشمول.

٢ ـ استصحاب الكلي :

ولاستصحاب الكلي صور أهمها ثلاث :

أولاها : ما إذا وجد الكلي في ضمن فرد معين ، ثم شك في ارتفاعه ، كما لو وجد الإنسان ضمن شخص في الدار وشك في خروج ذلك الشخص منها ، فاستصحاب بقائه فيها يوجب ترتيب جمع الآثار الشرعية على ذلك البقاء ـ أعني بقاء الكلي ـ لو كان هناك آثار شرعية له ، ومثل هذا الاستصحاب لا شبهة فيه.

ثانيتها : ما إذا فرض وجود الكلي في ضمن فرد مردد بين شخصين ، علم ببقاء أحدهما على تقدير وجوده وارتفاع الآخر كذلك ، كما لو فرض وجوده ضمن فرد وشك في كونه محمدا أو عليا ، مع العلم بأنه لو كان محمدا لكان معلوم الخروج عن الدار ، ولو كان عليا لكان معلوم البقاء.

والاستصحاب في هذا القسم يجري وتترتب جميع آثاره للعلم بوجود الكلي والشك في ارتفاعه ، فأركان الاستصحاب فيه متوفرة.

نعم لو كان الأثر مترتبا على الفرد لا على الكلي لا يجري الاستصحاب لفقده بعض أركانه ، وهو اليقين السابق ، لأن كل فرد منهما بحكم تردده غير متيقن فلا يكون موضعا لروايات هذا الباب.

ثالثتها : ما إذا علم بوجود الكلي ضمن فرد خاص وعلم بارتفاعه واحتمل

٤٥٣

وجود فرد آخر له كان مقارنا لارتفاع ذلك الفرد أو مقارنا لوجوده.

والظاهر ان الاستصحاب لا يجري فيه لفقده أهم ركن من أركانه وهو اليقين السابق ، لأن الكلي لا يمكن ان يوجد خارجا الا ضمن الفرد ، فهو في الحقيقة غير موجود منه إلا الحصة الخاصة المتمثلة في هذا الفرد أو ذاك «فالعلم بوجود فرد معين ، يوجب العلم بحدوث الكلي بنحو الانحصار ـ أي يوجب العلم بوجود الكلي المتخصص بخصوصية هذا الفرد ـ وأما وجود الكلي المتخصص بخصوصية فرد آخر فلم يكن معلوما لنا ، فما هو المعلوم لنا قد ارتفع يقينا ، وما هو محتمل للبقاء لم يكن معلوما لنا ، فلا يكون الشك متعلقا ببقاء ما تعلق به اليقين فلا يجري فيه الاستصحاب.

وبما ذكرناه من البيان ظهر الفرق بين القسم الثاني والقسم الثالث ، فإن اليقين في القسم الثالث ، قد تعلق بوجود الكلي المتخصص بخصوصية معينة ، وقد ارتفع هذا الوجود يقينا ، وما هو محتمل للبقاء فهو وجود الكلي المتخصص بخصوصية أخرى الّذي لم يكن لنا علم به فيختلف متعلق اليقين والشك ، وهذا بخلاف القسم الثاني ، فان المعلوم فيه هو وجود الكلي المردد بين الخصوصيّتين فيحتمل بقاء هذا الوجود بعينه ، فيكون متعلق اليقين والشك واحدا ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه» (١).

وهناك مسائل أخرى يتضح الحديث فيها مما فرّعوه على الاستصحاب من القواعد ، يقول خلاف : «وعلى الاستصحاب بنيت المبادئ الشرعية الكلية». الآتية :

__________________

(١) مصباح الأصول : ص ١١٤ وما بعدها.

٤٥٤

أ ـ الأصل في الأشياء الإباحة (١) :

وهذا الكلام ان أريد به ظاهره من ان الأشياء قبل ورود الشرع بها محكومة بالإباحة كما هو ظاهر مذهب جماعة من المعتزلة فيما حكاه الغزالي عنهم (٢) ، فهو أجنبي عن الاستصحاب لأن كلام هؤلاء ناظر فيما يبدو إلى ان الإباحة حكم واقعي لها قبل جعل الأحكام ، والاستصحاب حكم ظاهري مجعول عند الشك ، على ان المبنى في نفسه غير سليم ، وقد ناقشه الغزالي بقوله : «المباح يستدعي مبيحا كما يستدعي العلم والذّكر ذاكرا وعالما ، والمبيح هو الله تعالى إذا خيّر بين الفعل والترك بخطابه ، فإذا لم يكن خطاب لم يكن تخيير فلم تكن إباحة» (٣).

وجواب الغزالي هذا مبني على أن الجعل الشرعي متحد الرتبة مع خطاب الشارع ، أو انه مجعول بالخطاب ، أما إذا قلنا ان الخطاب مبرز للجعل الشرعي ، والجعل في مقام الثبوت سابق رتبة وزمانا عليه ، كما هو مذهب الكثير ، فإن جوابه لا يتم.

والجواب على هذا المبنى : أن أحكام الشارع لما كانت وليدة مصالح ومفاسد في المتعلقات غالبا ـ وهو ما تكاد تتفق عليه كلمة المسلمين على اختلاف في المبني ـ ولما كانت المتعلقات مختلفة من حيث التوفر على المصالح والمفاسد فأحكامها حتما مختلفة ، فالقول بجعل الإباحة لها بقول مطلق لا يستند على أساس.

وإن أريد بها الحكم الظاهري ، أي ان الأشياء محكومة بالإباحة ظاهرا عند الشك في حكمها الواقعي ، فهي وإن كانت صحيحة. لقول أبي عبد الله عليه‌السلام كما في موثقة مسعدة بن صدقة ، قال : سمعته يقول : «كل شيء هو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته

__________________

(١) مصادر التشريع : ص ١٢٩.

(٢) المستصفى : ١ ـ ٤٠.

(٣) المصدر السابق.

٤٥٥

ولعله سرقة ، أو المملوك يكون عندك ولعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك ولعلها أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلها على هذا حتى تستبين أو تقوم به البينة» (١) ، بناء على عموم الاستدلال بها للشبهات الحكمية أو لغيرها من الأدلة ، وربما دل عليها كل ما يدل على البراءة الشرعية.

ولكن بناء هذه القاعدة على الاستصحاب لا معنى له ، لتوفر أدلتها الاجتهادية ، بالإضافة إلى عدم انطباقها عليه لفقدها ركنا من أركان الاستصحاب وهو اليقين السابق بالإباحة ، إذ لم يفرض فيها ليستصحب.

نعم ، يمكن أن يكون المراد بها ان الأصل في الأشياء الإباحة إذا كانت معلومة سابقا وشك في ارتفاعها ، فتكون من صغريات قاعدة الاستصحاب.

ولكن هذا التوجيه غير مراد قطعا لهم لعدم أخذهم فيه هذا الشرط (إذا كانت معلومة الإباحة سابقا) على أنه لا خصوصية للإباحة لجواز ان يقال : الأصل في الأشياء الحظر إذا كانت محظورة سابقا ، والأصل فيها الوجوب إذا كانت واجبة ، وهكذا.

ب ـ الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يطرأ ما يغيّره (٢) :

وهذه القاعدة إن كانت ناظرة إلى مقام الثبوت والواقع ، فهي صحيحة في بعض مصاديقها ، لأن الّذي يبقى عند وجوده ما لم يطرأ عليه ما يغيره ما كان فيه مقتضي البقاء ، أما ما ليس فيه استعداد البقاء لا يحتاج في انتفائه إلى المغير ، بل يكون انتهاؤه أما ما ليس فيه استعداد البقاء لا يحتاج في انتفائه إلى المغير ، بل يكون انتهاؤه بانتهاء استعداده ، إلا أن القاعدة تكون أجنبية عن الاستصحاب ، لأن الاستصحاب غير ناظر إلى مقام الثبوت ، بل ناظر إلى مقام الإثبات في مرحلته الظاهرية. وإن أريد بها النّظر إلى مقام الإثبات ، فالاستصحاب لا يثبتها

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٧ ـ ٨٩ ، الحديث : ٢٢٠٥٣ ، راجع : الدراسات : ص ١٥٤.

(٢) مصادر التشريع : ص ١٢٩.

٤٥٦

لما قربناه سابقا من عدم أماريته.

نعم ، إذا غيرت القاعدة إلى التعبير بإبقاء ما كان على ما كان ما لم يعلم بطروّ ما يغيره ، كانت موافقة لمؤدى الاستصحاب كما نهضت به أدلته السابقة.

ولعل قولهم :

ج ـ ما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يوجد دليل على خلافه (١) :

أقرب إلى الاستصحاب من التعبير السابق وبخاصة إذا استظهرنا من قولهم : «يحكم ببقائه» هو الحكم به عند الشك لا واقعا.

د ـ ما ثبت باليقين لا يزول بالشك (٢) :

وهذه القاعدة إذا أريد بها مدلولها اللغوي كانت أجنبية عن مفاد الاستصحاب لأن مفاده ـ كما مر بيانه ـ ما ثبت باليقين لا يزال بالشك ، أي مطلوب اعتباره ثابتا ، لبداهة ان اليقين والشك لا يسريان إلى الواقع فيغيرانه عما هو عليه ليصح مثل هذا التعبير ، والظاهر ان مرادهم هو ما ذكرناه ، فتكون القاعدة عين ما يراد من معنى الاستصحاب في حدود ما مر.

ه ـ الأصل في الإنسان البراءة (٣) :

وابتناء هذه القاعدة على الاستصحاب موقوف على العلم السابق يخلو الذّمّة والشك اللاحق ، وليس مثل هذا العلم متوفرا دائما ، وسيأتي أن هذه قاعدة مستقلة ولها أدلتها الخاصة وليست مبنية على الاستصحاب ككل ، لجواز فرضها في صورة توارد التكليفين على الإنسان مع شكه في السابق واللاحق منهما ، كما لو

__________________

(١) فلسفة التشريع في الإسلام : ص ١٨٠.

(٢) مصادر التشريع : ص ١٢٩.

(٣) المصدر السابق.

٤٥٧

علم بصدور حدث وطهارة وجهل أسبقهما ، فاستصحاب الحالة السابقة عليهما لا يجري للعلم بانتقاضها بأحدهما ، واستصحاب كل منهما لا يجري أيضا اما لعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ـ كما ذهب إلى ذلك بعض أساتذتنا ـ وهو من أركان الاستصحاب لاحتمال تخلل اليقين بالانتقاض باليقين بالنسبة إلى كل منهما ، فلا يتصل شكه بيقينه زمانا ، واما لجريانهما والحكم بتساقطهما للتعارض ، فابتناء هذه الصورة من القاعدة على الاستصحاب ليس له وجه.

أما بقية الصور ـ وهي التي يعلم فيها ببراءة الذّمّة سابقا ـ ويشك بارتفاعها ، فهي مختلفة أيضا لأن الحالة السابقة المعلومة ان أريد بها العدم السابق على تأهل المكلف لورود التكاليف عليه كانت حجيتها مبنية على صحة الاستصحاب في :

العدم الأزلي :

وحجيته موضع خلاف بين الاعلام وبخاصة المتأخرين منهم ، فالذي عليه شيخنا النائيني : ان الاستصحاب لا يجري لكونه من الأصول المثبتة باعتبار ان العدم المعلوم لدى المستصحب عدم محمولي ، والّذي يراد إثباته عدم نعتي ، وثبوت أحدهما لا يثبت الآخر إلا بتوسط لازم عقلي ، فالبراءة المعلومة هي البراءة الثابتة قبل تأهل المكلف ـ من باب السالبة بانتفاء الموضوع ـ والبراءة التي يراد إثباتها هي البراءة بعد تأهله ، وإحداهما غير الأخرى فلا يجري الاستصحاب.

ولكن الشيخ آغا ضياء العراقي ـ وهو من أعلام الأصوليين في النجف ـ يرى ـ فيما يحكى عنه ـ إمكان جريان الاستصحاب في العدم الأزلي لاعتقاده عدم التمايز في الإعدام ، فالعدم المحمولي هو ـ في واقعه ـ عين العدم النعتيّ وليس غيره ليكون جريانه من قبيل الأصل المثبت.

والّذي يقتضي ان يقال : ان المسألة تختلف باختلاف الاستفادة من الأدلة ، فإن

٤٥٨

استفيد اعتبار الاتصاف بالعدم في متعلق الحكم أو موضوعه فاستصحاب العدم ـ بمفاد كان التامة ـ أي العدم المحمولي لا يثبته لأن الاتصاف من الأمور الوجودية الموقوفة على وجود موضوعها ، وان لم يستفد من الأدلة اعتبار الاتصاف واستفيد تركب المستصحب من جزءين هما ـ في مقامنا ـ المكلف وخلو الذّمّة ، فاستصحاب خلو الذّمّة ـ بمفاد كان التامة ـ يثبت الموضوع ، لأن زيدا مثلا مكلف بالوجدان ، والذّمّة غير مشغولة بالأصل.

هذا كله إذا أريد من العدم العدم الثابت قبل التأهل للمكلف ـ أي في أيام طفولته وقبل اتصافه بالتمييز ـ اما إذا أريد بالعدم العدم الثابت له قبل البلوغ وبعد تأهله للتكليف بالتمييز ، فالاستصحاب لا يجري بناء على استفادة أن البلوغ من مقومات الموضوع عرفا للعلم بتبدل الموضوع ، ومع العلم بتبدل الموضوع لا يجري الاستصحاب لفقده ركنا من أركانه.

نعم ، من لا يرى البلوغ مقوما لموضوع التكليف عرفا لا مانع من جريان الاستصحاب بالنسبة إليه.

والنتيجة ان بناء هذه القاعدة على الاستصحاب لا يصدق إلا في بعض الصور على بعض المباني ، فلا تصلح أن تكون قاعدة عامة مرتكزة في جملة ركائزها على الاستصحاب.

و ـ استصحاب النص إلى أن يرد النسخ (١) :

وقد عد المحدث الأسترآبادي هذا النوع من الاستصحاب من الضروريات ، وقد سبق الإشكال مفصلا فيه في مبحث «شرع من قبلنا» (٢) والحقيقة انا لسنا في حاجة إلى هذا الأصل لإثبات استمرار الشريعة ، وحسبنا من الأدلة اللفظية

__________________

(١) فلسفة التشريع في الإسلام : ص ١٧٩.

(٢) راجع : ص ٤١٣ وما بعدها من هذا الكتاب.

٤٥٩

أمثال ما ورد من قوله عليه‌السلام : «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» (١) ما يثبت الاستمرار.

على ان بعض الأساتذة ذهب إلى أن أصالة عدم النسخ ليس مبناها الاستصحاب ليستشكل فيه ، بل هي أصل قائم بذاته ، ومستنده الإجماع أو الضرورة التي ادعاها المحدث الأسترآبادي.

وما سبق ان قلناه عن أصالة عدم النسخ نقوله عن :

استصحاب الأحكام الكلية :

إذا كان منشأ الشك فيها هو احتمال طروّ الرافع عليها أي طروّ النسخ عليها ، لأن الشبهة التي ذكرناها هناك من الشك في سعة المجعول وضيقه ـ أي دوران الأمر بين مقطوع الارتفاع ومقطوع البقاء ـ جارية بنفسها هنا ، فلا حاجة لتكرار الحديث فيها.

خلاصة البحث :

والخلاصة ان المقياس في جريان الاستصحاب وعدمه هو توفر الأركان السبعة السابقة ، فإن توفرت جرى الاستصحاب ، وإن فقد بعضها لا يجري لعدم توفر الدليل عليه.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ ـ ١٦٩ ، الحديث : ٣٣٥١٥. وفيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حلالي حلال إلى يوم القيامة وحرامي حرام ...».

٤٦٠