الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

لا تدخله شبهة التحريف فيكون هو الحجة وحده.

وعلى أي حال ، كون هذه الكتب المتداولة ليست حجة بالنسبة إلينا يقتضي ان يكون من الضروريات فلا حاجة لإطالة الكلام فيها.

ملاحظة :

لاحظنا أن أكثر الباحثين في شرع من قبلنا بدءوا أحاديثهم في التساؤل عن ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل كان متعبدا بشريعة من الشرائع التي سبقته؟ وأيها هي؟

وأطالوا التحدث في الإجابة على هذا التساؤل والتماس الأدلة له ـ كل من زاويته الخاصة ـ ولكننا رأينا أن الدخول في هذا الحديث لا يرتبط برسالتنا ـ كمقارنين ـ لعدم ترتب أية ثمرة عملية على هذا الاختلاف ، وما أصدق ما قاله إمام الحرمين :

«هذه المسألة لا تظهر لها فائدة بل تجري مجرى التواريخ المنقولة» (١) ، ووافقه المازري والماوردي وغيرهما ، يقول الشوكاني : «وهذا صحيح ، فإنه لا يتعلق بذلك فائدة باعتبار هذه الأمة ، ولكنه يعرف به في الجملة شرف تلك الملة التي تعبد بها وفضّلها على غيرها من الملل المتقدمة عي ملته» (٢) وهي كما ترون ، ثمرة غير عملية بالنسبة إلينا.

__________________

(١) إرشاد الفحول : ص ٢٣٩.

(٢) المصدر السابق.

٤٢١
٤٢٢

الباب الأول

القسم الحادي عشر

مذهب الصّحابي

* تعريفه

* الخلاف في حجيته

* دليل الغزالي ومناقشته

* أدلة المثبتين

* نهاية الباب

٤٢٣
٤٢٤

تعريفه :

ويريدون بمذهب الصحابي القول أو السلوك الّذي يصدر عنه الصحابي ويتعبد به من دون ان يعرف له مستند.

الخلاف في حجيته :

وقد اختلفوا في حجيته ، فذهب «قوم إلى ان مذهب الصحابي حجة مطلقا ، وقوم إلى انه حجة ان خالف القياس ، وقوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (اقتدوا بالذين من بعدي) (١) ، وقوم إلى ان الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا» (٢) وفي رأي الغزالي ان جميع هذه الأقوال باطلة (٣).

دليل الغزالي ومناقشته :

يقول : «ان من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله ، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ؟ وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة؟ وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟! وكيف يختلف المعصومان؟ كيف وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة؟! فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد ان يتبع اجتهاد نفسه» (٤).

__________________

(١) سنن الترمذي : كتاب المناقب الحديث ٣٥٩٥.

(٢) المستصفى : ١ ـ ١٣٥.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٤٢٥

«فانتفاء الدليل على العصمة».

و «وقوع الاختلاف بينهم».

«وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه».

«ثلاثة أدلة قاطعة» (١).

وقد سبق أن عرضنا هذا الدليل بالذات في مبحث «سنّة الصحابة» ، وقرّبنا أن يكون لا مدفع له في نفي العصمة عنهم.

ولكن الّذي يجب أن يقال : ان القائلين بمذهب الصحابي لا يريدون إثبات العصمة له وإلا لاعتبروه سنّة ، كما اعتبره الشاطبي وإن كان عدّه من مصادر التشريع يوهم ذلك.

وربما عكس وجهة نظرهم من قال : «إنه إذا قال الصحابي قولا يخالف القياس فلا محمل له إلا سماع خبر فيه» (٢). فهم لا يريدون أكثر من حمل تصرفاتهم على وجه مبرر ، أي أنهم يريدون أن يقولوا أن الصحابة لا يقدمون على المخالفة الصريحة لحكم الشارع ، فإذا عمل أحدهم عملا ولم يتبين وجهه ، فلا بد وأن يكون هناك مستند لهذا العمل ، فإن لم يكن قياسا لفرض المسألة أن القول مخالف للقياس فخبر نجهله.

ولكن المسألة في حدود التماس المبررات الشرعية لتصرفات بعضهم ليست موضعا لحاجتنا ـ كمجتهدين ـ فإذا أريد من وراء هذا الكلام اعتبار مثل هذا الخبر المجهول لدينا حجة فقد صحّ ما يقوله الغزالي في نقضه : «فقوله ـ يعني الصحابي ـ ليس بنص صريح في سماع خبر ، بل ربما قال عن دليل ضعيف ظنه دليلا وأخطأ فيه ، والخطأ جائز عليه ، وربما يتمسك الصحابي بدليل ضعيف.

__________________

(١) المستصفى : ١ ـ ١٣٥.

(٢) المصدر السابق : ١ ـ ١٣٦.

٤٢٦

وظاهر موهوم ، ولو قاله عن نصّ قاطع لصرّح به ـ إلى أن يقول ـ : أما وجوب اتباعه ولم يصرح بنقل خبر فلا وجه له» (١).

والواقع أن إثبات كونه من مصادر التشريع لا ينسجم إلا إذا اعتبرت تصرفاته ـ قولا أو فعلا أو تقريرا ـ من السنة ، والأدلة التي ذكروها تأبى إثبات هذا المعنى ، وحمل الصحة لا يكفي لإعطاء تصرفاته صفة التشريع والحكاية عن أحكام الله الواقعية.

أدلة المثبتين :

استدل المثبتون على حجية أقوالهم على اختلاف بينهم في سعة المبنى وضيقه بجملة من الأحاديث ، أمثال : «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» أو قوله : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (٢) ، أو قوله : «اقتدوا بالذين بعدي أبي بكر وعمر» (٣) ، وأمثالها.

وقد ذكرنا ـ في مبحث سنة الصحابة ـ ضعف أسانيد بعضها واستحالة التعبد الشرعي من قبل الشارع بها للزوم التعبد بالمتناقضات ومعارضتها باخبار الحوض ، فلا بدّ من تأويلها أو تأويل ما يصح منها بغير مجالات اعتبار الحجية صونا لكلام الشارع من الوقوع في التناقض.

وقد ناقش الغزالي كل ما يتصل بهذه الأحاديث في بحثه عنها مناقشات لا يخلو أكثرها من أصالة.

فعدها ـ من قبل الغزالي (٤) والآمدي (٥) في الأصول الموهومة ـ في موضعه.

__________________

(١) المستصفى : ١ ـ ١٣٦.

(٢) سنن الترمذي : كتاب العلم ، الحديث : ٢٦٠٠.

(٣) سنن الترمذي : كتاب المناقب ، الحديث ٣٥٩٥.

(٤) المستصفى : ١ ـ ١٣٥.

(٥) الأحكام : ٣ ـ ١٣٦.

٤٢٧

هذا كله في مذهب الصحابي ـ كمشرع ـ أما مذهبه كمجتهد فحساب من يثبت اجتهاده منهم حساب بقية المجتهدين ، وسنخضع في بحوثنا القادمة من يسوغ الرجوع إلى شرائط معينة ، فإن توفرت في الصحابي تعين الرجوع إليه وإلا فلا يسوغ ، وحسابهم حساب من لم تتوفر فيه شرائط التقليد من المجتهدين والصحبة التي تؤدي وظيفتها ـ وإن كانت من أعظم الفضائل للعبد ـ إلا أن ما تعطيه نتائج أخروية محضة ، ولا علاقة لها بعوالم جعل الحجية أصلا.

نهاية الباب :

والّذي انتهينا إليه من مجموع هذه البحوث التي انتظمت أقسام الباب الأول ان ما يصلح من هذه الأقسام لاعتباره مصدرا من مصادر التشريع وأصلا يركن إليه في مقام الاستنباط لا يتجاوز أربعة :

١ ـ الكتاب العزيز.

٢ ـ السنة.

٣ ـ العقل.

٤ ـ الإجماع ـ على قول ـ.

وما عداها فهو راجع إليها في أغلبية صوره ، وبعضها يمكن ان يعد مصدرا مستقلا في مقابلها ، إلا أن أدلة حجيته لا تنهض بإثبات ذلك.

٤٢٨

الباب الثاني

ذكرنا ـ في بحوث التمهيد ـ ان الأصول التي تدخل ضمن هذا الباب كثيرة نسبيا ، إلا ان الّذي يغلب على إنتاجها هو الحكم الفرعي الجزئي ، وأحكامها ـ على الأكثر ـ لا تتجاوز أبوابا معينة من الفقه ولذلك آثرنا بحثها في الكتاب اللاحق.

ولكن الاستصحاب يختلف عنها من حيث وفرة إنتاجه للأحكام الكلية من جهة ـ على ما قيل ـ وعدم اقتصاره على باب من الفقه دون باب ، لذا آثرنا قصر هذا الباب عليه وإطالة التحدث فيه في حدود ما تدعو إليه طبيعة المقارنة ، وبحث مواقع الالتقاء منها بين الأعلام ، مع التوسع في بعض البحوث نسبيا ، وإلا فإن استيفاء الحديث فيه ـ في حدود ما عرضته مدرسة النجف الحديثة ـ مما يحتاج إلى مجلد كبير.

٤٢٩
٤٣٠

الباب الثاني

الاستصحاب

* تعريفه لغة واصطلاحا

* الاستصحاب أصل إحرازي

* الفرق بين الاستصحاب والأمارة والأصل

* حكومة الاستصحاب على الأصل

* الاستصحاب ووجوب الفحص

* أركان الاستصحاب

* الاستصحاب وقاعدة اليقين

* الاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع

* الخلاف في حجيته

* أدلة المثبتين : السيرة العقلائية ، وجوب العمل بالظن ، الإجماع ، السنة

* الأصل المثبت

* استصحاب الكلي

* الأصل في الأشياء الإباحة

* الأصل بقاء ما كان

* الأصل في الإنسان البراءة

* استصحاب العدم الأزلي

* استصحاب النص إلى ان يرد النسخ

* استصحاب الأحكام الكلية

* خلاصة البحث

٤٣١
٤٣٢

تعريفه لغة واصطلاحا :

الاستصحاب لغة مأخوذ من المصاحبة تقول : «استصحبت في سفري الكتاب أو الرفيق ، أي جعلته مصاحبا لي ، واستصحبت ما كان في الماضي ، أي جعلته مصاحبا إلى الحال» (١).

وقد ذكرت له تعاريف متعددة في مصطلح الأصوليين حاول صاحب الكفاية رحمه‌الله إرجاع بعضها إلى بعض. يقول : «إن عباراتهم في تعريفه وإن كانت شتى ، إلا أنها تشير إلى مفهوم واحد وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه» (٢).

وقد نوقش في جدوى هذه المحاولة في إحداث الملاءمة بين هذه التعاريف مع ما فيها من التعبير عن خلاف مبنائي بالنسبة إلى الاستصحاب.

فالذي عليه قسم من قدامي الأصوليين ، ان الاستصحاب من الأمارات الكاشفة عن الحكم ، وعليه بنى غير واحد حجية مثبتاته ولوازمه غير الشرعية باعتبار أن ما يكشف عن الواقع يكشف عن لوازمه ، فيكون حجة فيها وفيما يترتب عليها من أحكام ، ومقتضى ذلك ان التعبير بالحكم ببقاء حكم لا يناسب هذا المبنى لكون الاستصحاب كاشفا عن الحكم عندهم ، فالحكم بالبقاء وليد إجرائه فهو متأخر رتبة عنه ولا يسوغ أخذه فيه للزوم الخلف أو الدور ، وقد مرّ نظير هذا الإشكال في تعريف القياس.

__________________

(١) مصادر التشريع : ص ١٢٧.

(٢) كفاية الأصول : ص ٤٣٥.

٤٣٣

والّذي يناسب هذا المبنى من التعاريف ما ذكره الشيخ عنهم : «من أن الاستصحاب هو : كون الحكم متيقنا في الآن السابق ، مشكوك البقاء في الآن اللاحق» (١) ، «فان كون الحكم متيقنا في الآن السابق أمارة على بقائه ومفيدة للظن النوعيّ» (٢).

والّذي عليه أكثر متأخري الأصوليين انه من قبيل الأصول لا الأمارات ، وان كان يختلف عنها من بعض الجهات ، والّذي يناسبه من التعاريف ما ذكره الأستاذ خلاف من انه «استبقاء الحكم الّذي ثبت بدليل في الماضي قائما في الحال حتى يوجد دليل يغيره» (٣) وان كان في هذا التعريف شيء من الضيق لقصره التعريف على الاستصحابات الحكمية مع ان مفهومه يتسع لها ، وللاستصحابات الموضوعية كما يأتي إيضاح ذلك ، وتعريف صاحب الكفاية أقرب منه إلى الفن لهذا السبب.

فكلمة الاستبقاء وكلمة الحكم تعطي للاستصحاب مضمون الوظيفة لا الكشف عن الواقع.

وفي رأي بعض أساتذتنا ان تعريف الاستصحاب يجب ان ينتزع عن مدلول أدلته لأن الّذي يكون موضع حاجتنا هو خصوص ما قامت عليه الأدلة ، وليس في الأدلة كلمة استبقاء أو حكم وانما فيها «حرمة نقض اليقين بالشك من حيث العمل ، والحكم ببقاء اليقين من حيث العمل في ظرف الشك ، فالصحيح في تعريفه على هذا المسلك ان يقال : ان الاستصحاب هو حكم الشارع ببقاء اليقين في ظرف الشك من حيث الجري العملي» (٤).

ولعل وجهة نظر من يقول باستبقاء الحكم أو الحكم ببقاء الحكم هو الأخذ

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٤١.

(٢) مصباح الأصول : ص ٥.

(٣) مصادر التشريع : ص ١٢٧.

(٤) مصباح الأصول : ص ٦.

٤٣٤

بلوازم هذه الروايات ، لأن لازم الحكم ببقاء اليقين وحرمة نقضه بالشك هو الحكم ببقاء المتيقن ، أي الحكم الّذي كان منكشفا باليقين وكلا التعريفين صحيح.

الاستصحاب أصل إحرازي :

ومن هذا التعريف ندرك السر في تسمية الاستصحاب بالأصل الإحرازي على ألسنة جملة من أعلامنا المتأخرين ، وذلك لما لاحظوا من أن لسان اعتباره يختلف عن كل من لسان جعل الطريقية للأمارة وجعل الحجية للأصول المنتجة للوظائف الشرعية.

فقد اعتبر في لسان جعله عدم نقض اليقين بالشك ، فهو من ناحية فيه جنبة نظر إلى الواقع ، ولكن هذه الناحية لم يركز عليها الجعل الشرعي وانما ركز الجعل على الأمر باعتبار المكلف مشكوكه متيقنا ، وإعطاؤه حكم الواقع وتنزيله منزلته من حيث ترتيب جميع أحكامه عليه ، فهو من حيث الجري العملي واقع تنزيلا وان كانت طريقيته للواقع غير ملحوظة في مقام الجعل ، بينما نرى ان لسان جعل الأمارة ركز على ما فيها من إراءة وكشف ، واعتباره كاملا ، فهو يقول بفحوى كلامه : ان مؤدى الأمارة هو الواقع «فإذا حدث فعني يحدث» (١) كما جاء ذلك في بعض ألسنة جعل الحجية لخبر الواحد ، والمسئول عنه أحد الرّواة من أصحاب الأئمة.

أما الأصل غير الإحرازي فهو لا يتعرض إلى أكثر من اعتبار الجري العملي على وفقه مع فرض اختفاء الواقع وبهذا يتضح :

__________________

(١) الكافي : ١ ـ ٣٣٠ ، الحديث : ١ ، وفيه «... فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدي وما قال لك عنّي فعنّي يقول ...».

٤٣٥

الفرق بين الاستصحاب والأمارة والأصل :

فالأمارة تحكي عن الواقع ، والشارع بلسان جعله يقول : ان مؤداها هو الواقع.

والاستصحاب لا يقول بلسان جعله : انه هو الواقع ، وانما يأمرك باعتباره واقعا.

أما الأصل فلا يزيد على كونه مجعولا كوظيفة عند اختفاء الواقع بجميع مراحله ، فهو لا يزيد على طلب الجري والسلوك العملي وفق مؤداه.

حكومة الأمارة على الاستصحاب :

وإذا صح هذا فقد وضح السر في تقديم الأمارة على الاستصحاب ، إذ مع قيام الأمارة وانكشاف الواقع بها تعبدا لا موضع للشك ليطلب إليك اعتباره متيقنا ، لأن قيامها مزيل ـ في رأي الشارع ـ للشك وإن بقي وجدانا ، ومع فرض ان الشارع لا يراك شاكا ، فأي معنى لأن يقول لك : اعتبر شكك يقينا؟

حكومة الاستصحاب على الأصل :

وبهذا أيضا يتبين السر في تقديم الاستصحاب على غيره من الأصول غير الإحرازية ، إذ الأصول غير الإحرازية إنما جعلت عند اختفاء الواقع عن المكلف وعدم العلم به ، وما دام المكلف مأمورا باعتبار الشك يقينا ، فهو عالم بالواقع في رأي الشارع تعبدا لاعتباره الشك علما في هذا الحال ، وإعطائه نتائج العلم من حيث ترتيب جميع آثار الواقع عليه.

ومع فرض حصول الواقع التنزيلي لديه فلا اختفاء للواقع ليلجأ إلى الوظيفة ، فهو مزيل لموضوعها الّذي أخذ فيه عدم العلم بالواقع لحصول العلم به تعبدا كما هو الفرض.

٤٣٦

وقد سبق منا حديث في بحوث التمهيد ، يبرر وضع الاستصحاب في المرحلة التالية للأصول الكاشفة عن الحكم الواقعي ، والمرحلة السابقة على الأصول غير الإحرازية.

الاستصحاب ووجوب الفحص :

وما دمنا قد عرفنا رتبة الاستصحاب من الأمارات ، فليس لنا ان نأخذ به ما لم نفحص عن الأمارة الكاشفة عن الحكم ، أي عن الرتبة السابقة له.

وقد استدل على وجوب الفحص بأدلة كثيرة أهمها ـ فيما نعتقد ـ ثلاثة وهي :

١ ـ وجود العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية من الشارع ووجود طرق مجعولة إليها من قبله ، ومع قيام العلم الإجمالي لا يجوز الرجوع إلى الأصول ـ إحرازية أو غير إحرازية ـ في أطرافه ، وهذا ما يوجب الفحص وحل العلم الإجمالي بما يعثر عليه منها ، والرجوع بالباقي إلى الأصول.

وأشكل عليه في الكفاية بما مضمونه ان العلم الإجمالي يمكن حله بالعثور على مقدار المعلوم بالإجمال منها ، ومقتضى ذلك هو الرجوع في الباقي إلى الأصل من دون حاجة إلى فحص عنه.

وأجاب المحقق النائيني عن الإشكال المذكور بأن المعلوم بالإجمال في المقام بما أنه ذو علامة وتميز ، فهو غير قابل للانحلال بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال ، لأن الواقع قد تنجز بما له من تميز ، فكيف يعقل انحلاله قبل الفحص؟ وتكاليفنا المعلومة بالإجمال نعلم بثبوتها بالكتب المعتمدة فهي ذات تميز خاص ، ولا ينحل العلم الإجمالي إلا بفحصها ، وإخراج الطرف المشكوك عن المعلوم المنجز بالفحص واليأس عن العثور على حكمه فيها والرجوع إلى الأصل.

وأشكل عليه بكون التكاليف الموجودة في الكتب والمعلومة إجمالا هي نفسها مرددة بين الأقل والأكثر ، فإذا ظفرنا بالمقدار المتيقن لم يكن مانع من الرجوع إلى

٤٣٧

الأصل في غيرها من دون فحص.

والظاهر ان هذا النوع من الإشكال يحوّل النقاش مع الشيخ النائيني إلى نقاش صغروي ، لأن العثور على القدر المتيقن منها لديه لا يتم إلا بعد استيعاب هذه الكتب فحصا.

ومع استيعاب هذه الكتب وحل العلم الإجمالي بما يعثر عليه منها ، فلا مانع لديه ظاهرا من الرجوع إلى الأصل في غيرها ، مما لم يوجد في الكتب من دون فحص لحصول اليأس من العثور عليه ، والفحص لا موضوعية له أكثر من تحصيل اليأس للمكلف كما هو واضح.

فالظاهر أن الاستدلال بالعلم الإجمالي على وجوب الفحص لإخراج المشكوك عن المعلوم بالإجمال والرجوع به إلى الاستصحاب أو غيره من الأصول متين جدا.

٢ ـ دعوى استقلال العقل بلزوم الفحص قضاء لحق العبودية ، وتقريب هذا الاستدلال أن الّذي وعيناه من الشارع المقدس في تبليغ أحكامه هو الجري على الطريقة المتعارفة في التبليغ ، أي إظهار الحكم من قبله أمام جماعة تكثر أو تقل ، ويكون هؤلاء هم الواسطة في التبليغ.

وفعلية الوصول إلى كل مكلف ليس هو المسئول عنها ، وإنما هي من وظائف المكلفين أنفسهم.

فالمواطن في دولة ما مثلا من حق دولته ان تحاسبه على كل مفارقة منه إذا كان لديها قانون يحدد جريمته ويضع العقوبة عليها ، وكان القانون قد بلغ بواسطة الجرائد ووسائل البث ، إذا اعتبرتها الدولة وسائل للتبليغ ، وليس له أن يعتذر ببراءة الذّمّة من التكليف بدعوى أنه لا عقوبة إلا بقانون واصل ، إذ الدولة ليست مسئولة عن إيصال القانون إلى كل فرد ، بل على المواطنين أنفسهم الفحص عنها ،

٤٣٨

ومع اليأس من العثور عليها يرجعون إلى الأصل ، وهكذا ...

وحكم العقل بلزوم الفحص يكون بمنزلة القرينة المتصلة المانعة من ظهور ما يأتي من الإطلاقات في أدلة الاستصحاب الدالة على جواز العمل به من دون فحص ، فهي مقيدة به ابتداء.

٣ ـ الاستدلال بالآيات الدالة على وجوب التعلم ، ولعلها واردة كلها لتأكيد حكم العقل بلزوم الفحص ، وليست أحكاما تأسيسية لوضوح أنه لا موضوعية للتعلم أكثر من الوصول به إلى أحكام المولى تحصيلا للحجة ، ومع عدم التعلم والفحص عن أحكام المولى يرى العقل ان الحجة لله إذ ذاك على العبد ، وقد ورد من أهل البيت عليهم‌السلام في تفسير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ)(١) من انه «يقال للعبد يوم القيامة هل علمت؟ فان قال : نعم ، قيل له : فهلا عملت؟ وان قال : لا ، فقيل : فهلا تعلمت حتى تعمل؟» (٢).

وعلى هذا فأدلة الاستصحاب لا تتم حجيتها إلا بعد اليأس عن العثور على الأدلة الكاشفة عن الحكم الواقعي.

وما يقال عن الاستصحاب يقال عن بقية الأصول إحرازية أو غير إحرازية ، نعم في الاستصحابات المثبتة للتكاليف لا يبعد القول بإمكان جريانها من دون فحص ، إلا ان الأخذ بها انما يكون من باب الاحتياط لا أخذا بدليله.

هذا كله إذا قلنا بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، ومع إنكاره لا يبقى موضوع لهذا الكلام ، وما عداها ـ أعني الأحكام الكلية ـ لا يجب فيه الفحص.

وأدلة وجوب الفحص لا تشمله لكونها غير ناظرة إلى غير الفحص عن الأحكام الكلية كما هو واضح.

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ١٤٩.

(٢) تفسير الميزان : ٧ ـ ٣٩٣ نقلا عن أمالي الطوسي.

٤٣٩

أركان الاستصحاب :

وأركان الاستصحاب المستفادة من نفس التعريف بعد تأمل فيه سبعة :

١ ـ اليقين : ويريد به الأصوليون هنا ، انكشاف واقع متعلقه وجدانا أو تعبدا.

٢ ـ الشك : ويريدون به ما يقابل اليقين بمعنييه ـ الوجداني والتعبدي ـ فكل ما ليس بيقين فهو شك عندهم ، سواء كان شكا بالمعنى المنطقي ـ أي تساوي الطرفين ـ أم كان ظنا غير معتبر ، أم وهما ، فالجميع في مصطلحهم شك ، ويجري عليها أحكامه.

٣ ـ وحدة المتعلق فيهما ، أي ان ما يتعلق به اليقين هو الّذي يكون متعلقا للشك لا غيره.

٤ ـ فعلية الشك واليقين فيه ، فلا عبرة بالشك التقديري لعدم صدق النقض به ، ولا اليقين كذلك لعدم صدق نقضه بالشك.

٥ ـ وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة في جميع الجهات ، أي ان يتحد الموضوع والمحمول والنسبة والحمل والرتبة ، وهكذا ... ويستثنى من ذلك الزمان فقط ، رفعا للتناقض.

٦ ـ اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، بمعنى أن لا يتخلل بينهما فاصل من يقين آخر ، كما هو مفاد تسلط النقض بالشك على اليقين.

٧ ـ سبق اليقين على الشك ـ ولو كان السبق رتبيا ـ ليتم صدق عدم نقض الشك له.

فإذا اجتمعت هذه الأركان في موضع أمكن جريان الاستصحاب فيه وترتب حكمه بعد ثبوت حجيته ـ طبعا ـ ومع تخلف بعضها لا يمكن جريانه أصلا.

وللأعلام بحوث وتفريعات على هذا الأركان والتماس اللوازم لفقدان بعضها ، يطول عرضها والتحدث في صغرياتها جميعا ، ولنجتزئ بذكر المهم منها.

٤٤٠