الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

بعض محققيهم من المتأخرين ، هم من القائلين بفتح الذرائع وسدها وإن لم يتفقوا في حدود ما يأخذون منها وما يتركون ، يقول الأستاذ سلام : «الواقع ان الفقهاء جميعا يأخذون بأصل الذرائع مع اختلاف في مقدار الأخذ به وتباين في طريقة الوصول إلى الحكم ، إذ المشاهد في أحكام الفروع ان أكثر الفقهاء يعطي الوسيلة ـ الذريعة ـ حكم الغاية إذا تعينت الوسيلة لهذه الغاية ، أما إذا لم تتعين طريقا لها ، فالمشهور عن الإمام مالك انها تعتبر أصلا للأحكام ، ويقرب منه في ذلك الإمام أحمد ، وتبعهما ابن تيمية وابن القيم» (١).

والّذي يقتضي التعقيب عليه ـ بعد التغافل عن صلاحية ما استدلوا به من الأدلة على المبنى ـ هو اعتبار سد الذرائع وفتحها أصلا في مقابل بقية الأصول مع انها لا تعدو كونها من صغريات السنة أو العقل.

لأن اكتشاف حكم المقدمة اما ان يستفاد من العقل بقاعدة الملازمة ، بمعنى ان العقل يحكم بوجود ملازمة بين الحكم على شيء والحكم على مقدمته ، فإذا علمنا ان الشارع قد حكم على ذي المقدمة بالوجوب فقد علمنا بحكمه على المقدمة كذلك ، وعندها تكون من صغريات حكم العقل وليست أصلا برأسه ، واما ان يستفاد من طريق الملازمة اللفظية أي من الدلالة الالتزامية لأدلة الأحكام ، كما هو مبنى فريق ، بدعوى ان اللفظ الدال على وجوب الصلاة هو بنفسه يدل على لازمه وهو وجوب مقدماتها ، وعليها يكون وجوب المقدمات مدلولا للسنة ، فتكون المسألة من صغريات دليل السنة ، وقد عرفت ان الأدلة السمعية التي ساقها ابن القيم على كونها أصلا لا تعدو ان تكون إرشادية لحكم العقل بالملازمة.

فقول مالك وأحمد وابن تيمية وابن القيم : انها من أصول الأحكام في مقابل بقية الأصول ، لا يتضح له وجه.

__________________

(١) المدخل للفقه الإسلامي : ص ٢٧٠.

٤٠١
٤٠٢

الباب الأول

القسم التاسع

العرف

* تعريف العرف

* الفرق بينه وبين الإجماع

* تقسيماته : تقسيمه إلى عام وخاص ، العرف العام ، العرف الخاصّ

* تقسيمه إلى عرف عملي وقولي ، العرف العملي ، العرف القولي

* تقسيمه إلى الصحيح والفاسد ، العرف الصحيح ، العرف الفاسد

* مجالات العرف

* هل العرف أصل

* حجيته وأدلتها

٤٠٣
٤٠٤

تعريف العرف :

ذكروا للعرف تعريفات متعددة ، لا يخلو أكثرها من بعد عن الفن نعرض نماذج منها :

فقد عرفه الجرجاني بقوله : «العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول ، وتلقّته الطبائع بالقبول» (١).

وعرّفه الأستاذ علي حيدر في شرحه للمجلة عند ما عرّف العادة بقوله : «هي الأمر الّذي يتقرر بالنفوس ويكون مقبولا عند ذوي الطباع السليمة بتكراره المرة بعد المرة ثم قال : والعرف بمعنى العادة» (٢).

وقريب منهما تعريف ابن عابدين له (٣).

ويرد على هذه التعاريف أخذها شهادة العقول وتلقي الطباع له بالقبول في مفهومه ، مع ان الأعراف تتفاوت وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، فهل تختلف العقول والطباع السليمة معها أم ما ذا؟ ثم ان قسما من الأعراف أسموها بالأعراف الفاسدة ، فهل ان هذه الأعراف مما تقبلها العقول والطباع السليمة؟! وكيف يتسع التعريف لها وهي مجانبة للسليم من الطباع؟ مع أنهم جميعا يذكرون في تقسيماته انقسامه إلى فاسد وصحيح ، إلى غير ذلك مما يرد عليها.

ولعل أقرب تعريفاته التي ذكروها إلى الفن ما ورد على لسان الأستاذ خلاف من ان «العرف ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك ثم قال : ويسمى العادة» (٤).

__________________

(١) سلم الوصول : ص ٣١٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) علم أصول الفقه لخلاف : ص ٩٩.

٤٠٥

الفرق بينه وبين الإجماع :

ان الإجماع لا ينعقد إلا باتفاق الأمة أو مجتهديها أو مجتهدي مذهب معين على اختلاف في المباني سبق عرضه ، ولكن عنصر الاتفاق مأخوذ فيه ، بينما لا يؤخذ في العرف هذا العنصر بل يكفي فيه سلوك الأكثرية ، ويشترك في هذا السلوك المجتهدون وغيرهم بما فيهم العامة والخاصة ، والقارئون منهم والأمّيون ، فهو أقرب إلى ما سبق ان سميناه بالسيرة.

تقسيماته :

وقد ذكروا له تقسيمات متعددة نعرض أهمها :

أ ـ تقسيمه إلى عام وخاص :

١ ـ العرف العام :

ويراد به العرف الّذي يشترك فيه غالبية الناس على اختلاف في أزمانهم وبيئاتهم وثقافاتهم ومستوياتهم ، فهو أقرب إلى ما أسموه ببناء العقلاء. وينتظم في هذا القسم كثير من الظواهر الاجتماعية العامة وغيرها ، أمثال رجوع الجاهل إلى العالم ، وعدم نقض اليقين بالشك ، وعادة التدخين.

٢ ـ العرف الخاصّ :

وهو العرف الّذي يصدر عنه فئة من الناس تجمعهم وحدة من زمان معين أو مكان كذلك أو مهنة خاصة أو فن ، كالأعراف التي تسود في بلد أو قطر خاص ، أو تسود بين أرباب مهنة خاصة أو علم أو فن ، ويدخل في هذا القسم كثير من عوالم استعمال الألفاظ وإعطائها طابعا خاصا له تميزه عند أهل ذلك العرف ، وقسم من المعاملات التي يتميزون بها عن غيرهم من أهل الأعراف الأخر ، كما ينتظم في هذا أنواع السلوك التي تتصل بآداب اللياقة وأصول المعاشرة.

٤٠٦

ب ـ تقسيمه إلى عرف عملي وقولي :

١ ـ العرف العملي :

وأرادوا به العرف الّذي يصدرون عنه في قسم من أعمالهم الخاصة ، كشيوع البيوع المعاطاتية في بعض البيئات.

٢ ـ العرف القولي :

وهو الّذي يعطي الألفاظ عندهم معاني خاصة تختلف عن مداليلها اللغوية ، وعن مداليلها عند الآخرين من أهل الأعراف ، كإطلاق العراقيين لفظة الولد على خصوص الذّكر بينما يطلق في اللغة على الأعم من الذّكر والأنثى.

ج ـ تقسيمه إلى الصحيح والفاسد :

١ ـ العرف الصحيح :

«وهو ما تعارفه الناس وليست فيه مخالفة لنص ولا تفويت مصلحة ولا جلب مفسدة ، كتعارفهم إطلاق لفظ على معنى عرفي له غير معناه اللغوي ، وتعارفهم وقف بعض المنقولات ، وتعارفهم تقديم بعض المهر وتأجيل بعضه ، وتعارفهم أن ما يقدمه الخاطب إلى خطيبته من ثياب وحلوى ونحوها يعتبر هدية وليس من المهر» (١).

٢ ـ العرف الفاسد :

وهو الّذي يتعارف بين قسم من الناس ، وفيه مخالفة للشرع كتعارفهم بعض العقود الربوية ، أو لعب الشطرنج ، أو ارتياد الملاهي ، وشرب المسكرات وغيرها مما علم من الشارع المقدس الردع منه.

__________________

(١) مصادر التشريع الإسلامي : ص ١٢٤.

٤٠٧

مجالات العرف :

ومجالات العرف التي تقع ضمن نطاق حديثنا ثلاثة :

١ ـ ما يستكشف منه حكم شرعي فيما لا نصّ فيه ، مثل الاستصناع وعقد الفضولي.

وانما يكشف منه مثل هذا الحكم بعد إثبات كونه من الأعراف العامة التي تتخطى طابع الزمان والمكان لنستطيع ان نبلغ بها عصر المعصومين ونضمن إقرارهم لها لتصبح سنة بالإقرار ، ويدخل ضمن هذا المجال كل ما قامت عليه سيرة المتشرعة أو بناء العقلاء ، أو قل كلما كان من الأعراف العامة التي تتسع بمدلولها لمختلف الأزمنة والأمكنة بما فيها عصر المعصومين.

٢ ـ ما يرجع إليه لتشخيص بعض المفاهيم التي أوكل الشارع أمر تحديدها إلى العرف مثل لفظ الإناء والصعيد ، ونظائرها مما أخذ موضوعا في ألسنة بعض الأدلة.

والظاهر ان بعض الأحكام إنما وردت على موضوعات عرفية فتشخيص مثل هذه الموضوعات مما يرجع به إلى العرف. وفي هذا القسم نرى تفاوت الأحكام بتفاوت موضوعاتها الناشئ من اختلاف الأعراف باختلاف الأزمنة والبيئات ، فمصاريف الزكاة التي ذكرتها الآية المباركة أكثر مواضيعها عرفية.

فالفقير ـ وهو من لا يملك قوت سنة قوّة أو فعلا ـ تتفاوت مصاديقه بتفاوت الأعراف في تحديد القوت ، وفي سبيل الله يتفاوت بتفاوت درجة حضارة الأمة ومستواها ، فالأمة التي تحتاج إلى صنع مركبة فضائية ـ مثلا ـ لضروراتها الحضارية التي لا تتنافى مع الشريعة ، أو التي تستخدم لخدمة الدين وتركيز مبادئه كالتي تستعمل في البث التلفزي إذا استخدمت برامجه في خدمة الإنسان ورفع مستواه الخلقي والاجتماعي إلى ما تريده له الشريعة في تعاليمها الخالدة ، أقول : هذه

٤٠٨

الأمة ـ فيما أتخيل ـ لا تخرج في صنعها لها على موضوع (سبيل الله) المأخوذ في مصاريف الأموال الزكوية ، والمقياس فيه هو سد حاجة عامة مشروعة ، فما انتظم في هذا العنوان كان سبيلا لله وهكذا ...

٣ ـ المجال الّذي يرجع إليه لاستكشاف مرادات المتكلمين عند ما يطلقون الألفاظ سواء كان المتكلم هو الشارع أم غيره ، وينتظم في هذا القسم بالنسبة إلى استكشاف مرادات الشارع ما يرجع إلى الدلالات الالتزامية بالنسبة إلى استكشاف مرادات الشارع ما يرجع إلى الدلالات الالتزامية بالنسبة لكلامه إذا كان منشأ الدلالة الملازمات العرفية ، كحكم الشارع مثلا بطهارة الخمر إذا انقلب إلى خل الملازم عرفا للحكم بطهارة جميع أطراف إنائه ، كما ينتظم فيها كلما يصلح ان يكون قرينة على تحديد المراد من كلامه ، وهكذا ...

أما بالنسبة إلى استكشاف مرادات غيره فيدخل ضمن هذا القسم منه كلما يرجع إلى أبواب الإقرارات والوصايا والشروط والوقوف وغيرها ، إذا استعملت بألفاظ لها دلالاتها العرفية ، سواء كان العرف عاما أم خاصا.

هل العرف أصل؟

ومن هذه المجالات يستكشف أن العرف ليس أصلا بذاته في مقابل الأصول.

أما ما يتصل بالمجال الأول فواضح لرجوعه إلى السنة بالإقرار ، لأن المدار في حجيته هو إقرار الشارع له ، لبداهة أن العرف لا يكسبنا قطعا بجعل الحكم على وفقه ، فلا بدّ من رجوعه إلى حجة قطعية ، وليست هي إلا إقرار الشارع أو إمضائه له ، والإمضاء إنما قام على أحكام عرفية خاصة لا على أصل العرف.

فالشارع أمضى الاستصناع أو عقد الفضولي مثلا ، وهما حكمان عرفيان ، ولم يمض جميع ما لدى العرف من أحكام ، بل لم يمض أصل العرف كما يتوهم ليكون أصلا في مقابل السنة لعدم الدليل على هذه التوسعة.

أما المجالان الآخران ، فلا يزيد أمرهما على تشخيص صغريات السنة حكما

٤٠٩

أو موضوعا ، وقد مضى القول منا أن كل ما يتصل بتشخيص الصغرى لمسألة أصولية ، فهو ليس من الأصول بشيء ، فعد العرف أصلا في مقابل الأصول لا أعرف له وجها.

حجيته وأدلتها :

وما ذكر من أدلة حجيته لا يصلح لإثبات ذلك ، والأدلة التي ساقوها على الحجية هي :

١ ـ رواية عبد الله بن مسعود السابقة : «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» (١) ، وقد استدل السرخسي بها في (المبسوط) على ذلك ، يقول : «وتعامل الناس من غير نكير أصل من الأصول كبير ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن) ، كما استدل ابن الهمام بها على ذلك» (٢).

ويرد على هذا الاستدلال : ما سبق ان أوردناه على الرواية من كونها مقطوعة ، واحتمال أن تكون كلاما لابن مسعود لا رواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي لا تصلح للحجية ، بالإضافة إلى ان العرف لا علاقة له بعوالم الحسن لعدم ابتنائه عليها ، غالبا ، وما أكثر الأعراف غير المعللة لدى الناس ، والمعلل منها ـ أي الّذي يدرك العقل وجه حسنه ـ نادر جدا ، فالاستدلال ـ لو تم ـ فهو أضيق من المدعى ، وحتى في هذه الحدود الضيقة ، لا يجعله أصلا مستقلا وإنما يكون من صغريات حكم العقل لما مرّ من أن هذا الحديث لا يزيد على كونه تأكيدا لحكم العقل ، أو أنه من أدلة الإجماع ، فتكون المسألة على تقديرها من صغريات حجية الإجماع.

٢ ـ قولهم : «إن الشارع الإسلامي في تشريعه راعى عرف العرب في بعض

__________________

(١) مسند أحمد : مسند المكثرين من الصحابة ، الحديث : ٣٤١٨. وفيه : «فما رأى المسلمون ...».

(٢) سلم الوصول : ص ٣٢٢ نقلا عنهما.

٤١٠

أحكامه فوضع الدية على العاقلة واشترط الكفاءة في الزواج ... إلخ» (١).

والجواب عنه : إن الشارع لم يراع العرف بما أنه عرف ، وإنما وافقت أحكامه بعض ما عند العرف فأبرزها بطريق الإقرار ، ولذلك اعتبرنا إقراره سنة ، وفرق بين أن يقر حكما لدى أهل العرف لموافقته لأحكامه وبين أن يعتبر نفس العرف أصلا يرجع إليه في الكشف عن الأحكام الواقعية ، فما أقره من الأحكام العرفية يكون من السنة وليس أصلا برأسه في مقابلها.

٣ ـ قولهم : «إن ما يتعارفه الناس من قول أو فعل يصير من نظام حياتهم ومن حاجاتهم ، فإذا قالوا أو كتبوا فإنما يعنون المعنى المتعارف لهم ، وإذا عملوا فإنما يعملون على وفق ما تعارفوه واعتادوه ، وإذا سكتوا عن التصريح بشيء فهو اكتفاء بما يقضي به عرفهم ، ولذا قال الفقهاء : المعروف عرفا كالمشروط شرطا. وقالوا : إن الشرط في العقد يكون صحيحا إذا اقتضاه العقد وورد به الشرع أو جرى به العرف» (٢).

وهذا الدليل لا أعرف له محصلا ، فكون ما يتعارفه الناس يصبح من نظام حياتهم لا يصلح دليلا لاستكشاف الحكم الشرعي منه ، وليس عندنا من الأدلة ما يسمى بنظام الحياة ، والّذي نعرفه من أنظمة الحياة التي تعارف عليها الناس ان بعضها ممضى في الإسلام فهو حجة ، وبعضها غير ممضى فهو ليس بحجة ولا يسوغ الركون إليه ، وكم من العادات والأعراف التي كانت سائدة في الجاهلية قد استأصلت في الإسلام وبعضها مجهول الحال لعدم الدليل عليه نفيا أو إثباتا ، ومثل هذا محكوم بالإباحة الظاهرية.

هذا إذا أريد من العرف العرف في مجاله الأول ، أي العرف الّذي يراد معرفة

__________________

(١) مصادر التشريع : ص ١٢٤.

(٢) المصدر السابق ، والظاهر أن الاستدلال به كسابقه للأستاذ خلاف.

٤١١

حكم الشارع منه ، أما إذا أريد منه العرف في مجاليه الآخرين ـ أعني ما أوكل الشارع تحديد موضوعاته إليه ، أو ما استكشف منه مرادات المتكلمين ـ فهو وان كان حجة ـ بمعنى انه المرجع لتحديد المراد أو تشخيص الموضوع ـ إلا أنه لا يشكل كبرى كلية تقع في طريق الاستنباط ليكون أصلا في مقابل الأصول ، وإنما وظيفته تنقيح الصغريات لموضوع الحكم الكلي ، أو الصغريات لقياس الاستنباط ، وحال الثالث منه في بعض صوره حال مباحث الألفاظ في تنقيح الظهور للسنة أو الكتاب.

ولعل مراد العلامة الشيخ إبراهيم الرياحي التونسي من قوله : «والعرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق» (١) ، هو هذا القسم ـ أعني خصوص الّذي يستكشف منه مرادات الشارع فيما يصلح ان يكون قرينة عليها.

وبهذا ندرك أنه لا موضع للإطلاق في أمثال هذه الكلمات التي اشتهرت على ألسنة كثير من الفقهاء والحقوقيين :

«العرف في الشرع له اعتبار».

«العرف شريعة محكمة».

«التعيين بالعرف كالتعيين بالنص».

«الثابت بالعرف كالثابت بالنص».

«العادة محكمة».

وأمثالها من التعميمات التي لا تستند بعمومها على أساس.

__________________

(١) مصادر التشريع : ص ١٢٥.

٤١٢

الباب الأول

القسم العاشر

شرع من قبلنا

* تعريفه

* الخلاف في حجيته

* أدلة المثبتين

* العلم الإجمالي بالتحريف

* أدلة النفاة

* الأصل العملي

* الخلاصة

* ملاحظة

٤١٣
٤١٤

تعريفه :

يراد بشرع من قبلنا : هو خصوص الشرائع التي أنزلها الله عزوجل على أنبيائه وثبت شمولها في وقتها لجميع البشر ، كاليهودية والمسيحية.

الخلاف في حجيته :

والّذي يبدو من مجموع ما رأيته ان هناك فروضا متعددة في المسألة ـ ولعلها أقوال أيضا ـ بعضها يذهب إلى انها شرع لنا مطلقا إلا ما ثبت نسخه في شريعتنا منها ، وبعضها يرى أنها ليست بشرع لنا مطلقا ، وأن النسخ مسلط عليها جملة وتفصيلا «بحيث لو كان حكم في الشريعة اللاحقة موافقا لما في الشريعة السابقة ، لكان الحكم المجعول في الشريعة اللاحقة مماثلا للحكم المجعول في الشريعة السابقة ، لا بقاء له ، فيكون مثل إباحة شرب الماء الّذي هو ثابت في جميع الشرائع ، مجعولا في كل شريعة مستقلا ، غاية الأمر أنها أحكام متماثلة» (١).

وفحوى القول الثالث هو : «ان ما قصة علينا الله ورسوله من أحكام الشرائع السابقة ولم يرد في شرعنا ما يدل على انه مكتوب علينا كما كتب عليهم ، أو أنه مرفوع أو منسوخ ، كقوله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)(٢) وقوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ

__________________

(١) مصباح الأصول : ص ١٤٩.

(٢) سورة المائدة : الآية ٣٢.

٤١٥

بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ)(١) ، شرع لنا وعلينا اتباعه وتطبيقه ما دام قد قص علينا ولم يرد في شرعنا ما ينسخه» (٢) ، وقد حكي هذا القول عن جمهور الحنفية وبعض المالكية والشافعية (٣).

أدلة المثبتين :

وقد استدل المثبتون مطلقا بآيات من كتاب الله تعالى فحواها : اعتبار الشرائع السابقة شريعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمثال قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)(٤) ، وقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً)(٥) ، وقوله سبحانه : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً)(٦) ، وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ)(٧).

كما استدلوا باستشهاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام التشريع بأحكام وردت في شريعة سابقة ، كاستشهاده في أثناء قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» ، بقوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(٨) ، وهو خطاب مع موسى عليه‌السلام ، إلى غير ذلك من الأحاديث (٩).

وهذه الأدلة ـ لو تمت دلالتها ، وسلمت من مناقشات الغزالي لها حين عرضها في هذا المبحث ، وبعضها لا يخلو من أصالة ـ انها لا تدل على أكثر من إقرار أصل تلكم الشرائع.

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٤٥.

(٢) علم أصول الفقه لخلاف : ص ١٠٥.

(٣) المصدر السابق.

(٤) سورة الأنعام : الآية ٩٠.

(٥) سورة النحل : الآية ١٢٣.

(٦) سورة الشورى : الآية ١٣.

(٧) سورة المائدة : الآية ٤٤.

(٨) سورة طه : الآية ١٤.

(٩) اقرأ ذلك في المستصفى : ١ ـ ١٣٤ وما بعدها.

٤١٦

ولكن إقرار أصل الشرائع لا ينفعنا في مجالاتنا الخاصة ، لأن أصل الشرائع السابقة ليست موضعا لابتلائنا اليوم لاختفاء معالمها الأساسية عنا.

وإذا أردنا ان نتكلم ـ باسم الفن ـ قلنا ان طرو :

العلم الإجمالي بالتحريف :

عليها يمنع من الأخذ بظواهرها جميعا ، وتقريبه انا نعلم أن هذه الشرائع المتداولة ليست هي الشرائع بكامل خصوصياتها لتناقض مضامين كل شريعة على نفسها ، وانتشار السخف في قسم من محتوياتها ، وابتعاد أكثرها من كونها نظاما للحياة ، وهو الأساس لكل رسالة سماوية مما يدل إجمالا على طرو التحريف عليها.

والعلم الإجمالي بالتحريف يمنع من الأخذ بظواهرها جميعا ، لأن كل طرف نمسكه نحتمل طرو التحريف عليه ، وأصالة عدم التحريف لا تنفع في هذا المجال لعدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي المنجز كما يأتي تقريبه في مباحث الاحتياط ، أو لتساقطها ، وليس لهذا العلم ما يحله لدينا لنرجع إليه.

نعم ، إذا تم ذلك الاستدلال ـ أعني استدلال المثبتين ـ وتمت مناقشاتنا له فإن رأي جمهور الحنفية السابق يكون من أمتن الآراء وأقوالها ، لأن ما حكي من الشرائع في الكتاب العزيز لا يحتمل فيه التحريف ، فهو صحيح النسبة لها ، وإذا تمت حجيتها ـ بالإقرار من قبل شريعتنا لأصل الشرائع ـ فقد تم حجية ما صح عنها ، وعلينا اتباعه على كل حال.

أدلة النفاة :

وأهم ما استدل به نفاة حجية الشرائع السابقة ثلاثة أدلة :

أولها : حديث معاذ السابق وهو : «أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن (قال له:

٤١٧

بم تحكم؟ قال : بالكتاب والسنّة والاجتهاد) ولم يذكر التوراة والإنجيل ، وشرع من قبلنا ، فزكاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصوبه ، ولو كان ذلك من مدارك الأحكام لما جاز العدول إلى الاجتهاد إلا بعد العجز عنه» (١).

وهذا الاستدلال متين جدا لو لم تكن رواية معاذ من الموضوعات عليه ، وقد سبق أن ناقشناها ونظائرها في مبحث القياس فلا نعيد (٢).

ثانيها : «ان ذلك لو كان مدركا لكان تعلمها ونقلها وحفظها من فروض الكفايات كالقرآن والأخبار ، ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم ، حيث أشكل عليهم كمسألة العول ، وميراث الجد ، والمفوضة ، وبيع أم الولد ، وحد الشرب ، والرّبا في النسيئة ، ومتعة النساء ، ودية الجنين ، وحكم المكاتب إذا كان عليه شيء من النجوم ، والرد بالعيب بعد الوطء ، والتقاء الختانين ، وغير ذلك من أحكام لا تنفك الأديان والكتب عنها ، ولم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة وقائعهم واختلافاتهم مراجعة التوراة ، لا سيما وقد أسلم من أحبارهم من تقوم الحجة بقولهم ، كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ووهب ، وغيرهم ، ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب ، فكيف يحصل القياس قبل العلم؟» (٣).

وهذا الاستدلال كسابقه من أمتن الأدلة التي يمكن ان تساق في هذا المجال للقطع بمضمونه ، بل ربما حوّل المسألة إلى كونها من الضروريات ، إلا أنه لا ينفي إقرار أصل الشرائع السابقة كما لا ينفي صحة ما ذهب إليه جمهور الحنفية ، وغاية ما ينفيه عدم الرجوع إلى الكتب المتداولة للشرائع وهي مما يعلم بدخول

__________________

(١) المستصفى : ١ ـ ١٣٣.

(٢) راجع : ص ٢٨٧ وما بعدها من هذا الكتاب.

(٣) المستصفى : ١ ـ ١٣٤ ، والأمثلة التي ذكرها لا يخلو بعضها من مناقشة لورود النص فيه ، اقرأ ما كتبه المؤلف عن المتعة في كتابه (الزواج الموقت ودوره في حل مشاكل الجنس) طبعة دار الأندلس ، وما كتبه الإمام شرف الدين في النص والاجتهاد. (المؤلف).

٤١٨

التحريف عليها ، فلا تكون حجة. نعم إذا تم ما ادعاه بعد ذلك من «إطباق الأمة على ان هذه الشريعة ناسخة لها» بطل القولان السابقان ، إلا ان الإشكال في تحقق هذا الإجماع مع كثرة الخلاف في المسألة من أفراد الأمة ، ولا أقل من جمهور الحنفية وغيرهم المانع من انعقاد إجماعها.

الأصل العملي :

وهو إنما يرجع إليه عند العجز عن تحصيل الأدلة الكاشفة عن الحكم الواقعي وتركز الشك ، وقد تمسك بعضهم بالاستصحاب عند الشك في ارتفاع حكم ثبت في الشريعة السابقة بادعاء العلم بثبوته ، والشك بارتفاعه بالنسخ بالنسبة إلينا ، فحكم ببقائه أخذا بالرواية الشريفة : «لا تنقض اليقين بالشك» (١).

وأهم ما ذكر في مناقشته ما عرضه بعض أساتذتنا «من ان النسخ في الأحكام الشرعية إنما هو بمعنى الدفع وبيان أمد الحكم ، لأن النسخ بمعنى رفع الحكم الثابت مستلزم للبداء المستحيل في حقه سبحانه وتعالى.

وقد ذكرنا غير مرة ان الإهمال بحسب الواقع ومقام الثبوت غير معقول ، فإما ان يجعل المولى حكمه بلا تقييد بزمان ويعتبره إلى الأبد وإما ان يجعله ممتدا إلى وقت معين.

وعليه فالشك في النسخ شك في سعة المجعول وضيقه من جهة احتمال اختصاصه بالموجودين في زمان الحضور ، وكذا الكلام في أحكام الشرائع السابقة ، فإن الشك في نسخها شك في ثبوت التكليف بالنسبة إلى المعدومين لا شك في بقائه بعد العلم بثبوته ، فإن احتمال البداء مستحيل في حقه تعالى ، فلا مجال حينئذ لجريان الاستصحاب.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ : ٢٤٥ ، الحديث ٦٣١.

٤١٩

وتوهم أن جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقية ينافي اختصاصها بالموجودين ، مدفوع بأن جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقية معناه عدم دخل خصوصية الأفراد في ثبوت الحكم لا عدم اختصاص الحكم بحصة دون حصة ، فإذا شككنا في أن المحرم هو الخمر مطلقا أو خصوص الخمر المأخوذ من العنب ، كان الشك في حرمة الخمر المأخوذ من غير العنب شكا في ثبوت التكليف ، ولا مجال لجريان الاستصحاب معه.

والمقام من هذا القبيل ، فإنا نشك في أن التكليف مجعول لجميع المكلفين ، أو هو مختص بمدركي زمان الحضور فيكون احتمال التكليف بالنسبة إلى غير المدركين شكا في ثبوت التكليف لا في بقائه» (١).

وكذلك الأمر بالنسبة إلى من لم يدرك منا زمان ما قبل رسالتنا أي زمن (شرع من قبلنا).

الخلاصة :

والخلاصة ان الأدلة اللفظية لو تمت حجيتها على إقرار الشرائع السابقة فهي إنما تدل على أصلها لا على كتبها المتداولة ، والعلم الإجمالي في طرو التحريف على الأصل يمنع من التمسك بظواهر جميع أطرافها لاحتمال طروّ النقص أو الزيادة على كل منها ، ولا مدفع لهذا الاحتمال من أصل أو غيره لعدم جريانها في أطراف العلم الإجمالي أو جريانها وتساقطها للمعارضة على اختلاف في المبنى.

نعم لا يبعد تمامية ما ذهب إليه جمهور الحنفية وغيره لجمعه بين ما دل على أصل الإمضاء للشرائع السابقة وما يقتضيه العلم الإجمالي من عدم حجية ظواهر ما دل على أحكام الشرائع السابقة من كتبها المنزلة ، لأن ما نقل منها في الكتاب العزيز

__________________

(١) مصباح الأصول : ١٤٨ تقريرا لآراء المحقق الخوئي قدس سرّه.

٤٢٠