الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

المشتركة بين مسائل الفقه والأصول.

أما لما ذا بحث بعض هذه الموضوعات في الأصول ولم تبحث في الفقه أو بالعكس؟ فالذي احتمله أن قدماء الأصوليين ـ وهم الذين برمجوا لنا هذه العلوم ـ لاحظوا الغلبة في نوع إنتاج هذه القواعد ، فقسموا بحوثها على هذا الأساس ، ولهذا السبب بحثوا أصل الطهارة في الفقه لغلبة إنتاجه للنتائج الجزئية ، وبحثوا الاستصحاب في الأصول لغلبة إنتاجه للحكم الكلي.

وربما كان الباعث لبعضهم بالإضافة إلى ذلك ، ما يرون في بعضها من تمشيها في مختلف أبواب الفقه وعدم اقتصارها على باب دون باب ، فآثر لذلك بحثها في الأصول تسهيلا للباحث وإبعادا له عن تضييع الوقت في التماسها في مختلف المظان ، بخلاف البعض الآخر ، فانه يخصّ بعض أبواب الفقه دون بعض كأصل الطهارة ، إذ من السهولة واليسر التماسه في بابه الخاصّ من الفقه.

وهذه وجهات نظر في البرمجة قد توافق عليها أصحابها وقد تختلف معهم ، ولكنها على كل حال لا توجب رفع اليد عن المقياس الّذي ذكرناه ، شريطة ان يتقيد بلحاظ الحيثية في هذه المواضيع المشتركة على نحو ما ذكرناه سابقا.

(٣)

الفارق بينه وبين أصول الفقه :

هناك فوارق بينه وبين أصول الفقه يتصل بعضها في منهجة البحث ، وسيأتي الحديث عنه في موضعه ، وبعضها في سعة كل منها وضيقه بالنسبة إلى طبيعة ما يبحثه ، فإذا كان من مهمة الأصولي ان يلتمس ما يصلح ان يكون كبرى لقياس الاستنباط ثم يلتمس البراهين عليه ، فان مهمة المقارن في الأصول ان يضم إلى

٤١

ذلك استعراض آراء الآخرين ، ويوازن بينها على أساس من القرب من الأدلة والبعد عنها ، وما عدا ذلك فطبيعة مسائلهما متحدة كما يدل على ذلك تقارب تعريفهما وان اختلفا في الغاية من كل منهما ، لأن الغاية من علم الأصول تحصيل القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.

الغاية من أصول الفقه المقارن :

بينما نرى أن الغاية من أصول الفقه المقارن هي الفصل بين آراء المجتهدين بتقديم أمثلها وأقربها إلى الدليليّة ، وربما كانت رتبة الأصولي المقارن متأخرة عن رتبة الباحث في الأصول ، لأن الفصل بين الآراء لا يكون إلا بعد تحصيل القدرة على معرفة الأمثل من الأدلة ، وهي لا تكون إلا للمجتهدين عادة في الأصول.

موضوع أصول الفقه المقارن :

هو : كل ما يصلح للدليلية من أدلته ، وحصره إنما يكون بالاستقراء والتتبع ، ولا معنى لتخصيصه بالأدلة الأربعة لا بما هي أدلة كما ذهب إلى ذلك المحقق القمي (١) ، ولا بما هي هي كما ذهب إليه صاحب الفصول ليرد عليهما خروج كثير من المباحث الأصولية ، أمثال الاستصحاب والقياس وخبر الواحد ، لبداهة أنها ليست من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو دليل العقل ، وان كانت أدلة حجيتها مما ترجع إليها.

وهما ـ أعني أصولي الفقه والفقه المقارن ـ متشابهان في تمام مواضيعهما ، وإن اختلفا بقيد الحيثية في كل منهما.

والخلاصة : ان في كل منهما مواضع للالتقاء وأخرى للافتراق ، فهما يلتقيان في

__________________

(١) قوانين الأصول : ١ ـ ٤ مقدمة في تعريف أصول الفقه وبيان رسمه وموضوعه. (نسخة مصورة منشورات علمية إسلامية).

٤٢

طبيعة مسائلهما وتشابه موضوعاتهما ، ويفترقان في الغاية من بحثهما وفي منهج البحث ، ثم في سعته في أحدهما وضيقه في الآخر.

(٤)

الفارق بينه وبين أصول القوانين :

ويتضح هذا الفارق ـ الّذي رأينا ضرورة بحثه في مثل هذا التمهيد لطبيعة ما بينهما من علائق ـ من تعريفهم لأصول القانون إن صح أن له تعريفا محددا. يقول السنهوري : «ليس هناك علم واضح المعالم بيّن الحدود يسمى علم أصول القانون ، ولكن توجد دراسات تبحث في القانون وفي نشأته وتطوره وفي طبيعته ومصادره واقسامه» (١).

وفي حدود ما انتهينا إليه من تحديد لكلمة أصل ، فان الّذي يصلح ان يكون أصلا للقانون مما يتصل بهذه الدراسات هو خصوص مصادر القانون ، أما البحث عن القانون وطبيعته وأقسامه ونشأته وتطوره فهو خارج عن صميم الأصول وملحق بمبادئه ومداخله ، لبداهة ان تصور نفس الشيء وطبيعته يعد من المبادئ الضرورية لعلمه ، ودراسة نشأته وتطوره هي أقرب إلى التاريخ منها إلى العلم.

وكلمة المصادر هنا ذات معان في أعرافهم ، لعل أهمها معنيان :

١ ـ الأصل التاريخي ، وهو الّذي أخذ القانون ـ الّذي يراد دراسته ـ عنه أحكامه ، فالقانون الفرنسي مثلا يعتبر أصلا للقوانين المصرية والعراقية في الكثير من موادها.

٢ ـ السلطة التي تعطي القواعد القانونية قوتها الملزمة وتسمى ب (المصدر

__________________

(١) الدكتور عبد الرزاق السنهوري وأحمد حشمت ، أصول القانون : ص ١.

٤٣

الرسمي) ولكل قانون مصدر أو مصادر متعددة.

و «المصادر الرسمية هي : التشريع ، والعرف ، والقانون الطبيعي ، وقواعد العدالة ، وأحيانا الدين» (١).

«ويتصل بالمصدر الرسمي ما يسمى بالمصدر التفسيري ، وهو المرجع الّذي يجلو غامض القانون ويوضح مبهمه ، والمصادر التفسيرية اثنان : الفقه والقضاء» (٢).

والتفسير انما يلجأ إليه إذا كان في النص غموض أو تناقض أو نقص ، وقد وضعوا للتفسير طرقا قسموها إلى قسمين : داخلية وخارجية ، فالداخلية : هي التي يلتمس المفسر من نفس النص معالم تهديه إلى واقع ما يجهله. وأهم طرقها :

«القياس ، الاستنتاج من باب أولى (مفهوم الموافقة) ، والاستنتاج من مفهوم المخالفة ، وتقريب النصوص المتعلقة بموضوع واحد بعضها من بعض» (٣).

والطرق الخارجية «وهي التي يستند فيها المفسر على عنصر خارجي عن التشريع نفسه ، ومن ذلك الاستناد إلى حكمة التشريع والاسترشاد بالأعمال التحضيرية ، والاسترشاد بالعادات ، والرجوع إلى المصدر التاريخي للتشريع» (٤).

والّذي يبدو أن لعلماء القانون مواقف مختلفة من الدعوة إلى إيجاد مصادر إلى جنب القانون يرجع إليها عند نقصه وعدم استيفائه لحاجات الناس ، فالذي عليه الأستاذ بلوندو عميد كلية الحقوق في باريس هو الأخذ بالطريقة التقليدية ، وهي التي سادت في القرن الثامن عشر ، ومبدؤها الحجر على الرجوع إلى غير القانون ،

__________________

(١) الدكتور عبد الرزاق السنهوري وأحمد حشمت ، أصول القانون : ١٦٤.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق : ١٦٤ وما بعدها.

(٤) المصدر السابق.

٤٤

لعقيدة أصحابها «ان التشريع الرسمي يكفينا وحده للكشف عن جميع الأحكام الحقوقية الضرورية لحاجات الحياة الاجتماعية» (١). وقد «صرح في مذكرته إلى مجمع العلوم الأخلاقية بأن المصدر الوحيد في الوقت الحاضر انما هو القانون» «وعلى هذا فقد أقصى من مصادر الحكم ما سماه بالمصادر غير الصحيحة التي أقيمت غالبا في مقام إرادة الشارع ، وقد عدد منها الاجتهادات والمذاهب القديم منها والحديث ، والعرف الّذي لم تدل عليه صراحة القانون ، وكذلك حسن العدالة وفكرة المصلحة العامة» (٢).

ولكن القرن التاسع عشر حفل بطريقة جديدة سميت ب (الطريقة العقلية) وأرادوا بها «الاستنجاد بالعقل ليكتشف حلولا وأحكاما للمسائل تكون متناسبة مع فكرة الإنصاف والحاجات العملية» ولكن حصرها «على إدخال ما يصدر عنها من حلول وأحكام في نطاق نصوص القانون بعد توسيع ذلك النطاق وتبيين تلك النصوص» (٣) حوّلها في نظر العلماء إلى امتداد لتلك الطريقة التقليدية واستمرار لها ، مما أوجبت الثورة عليها من قبل الأستاذ فرانسواجيني ، الّذي جاء بطريقة (البحث العلمي الحر) كرد فعل لمفعول تلكم الطريقتين ، وتقوم نظريته الحديثة على أساس من :

١ ـ «القول بأن يترك في نطاق القانون جميع ما يصدر عنه» (٤).

٢ ـ «الاعتراف إلى جانب القانون بمصادر أخرى تمشي موازية له ، ويكون لهذه المصادر قيمة حقوقية وإن لم تكن نفس القيمة التي للقانون ، وذلك على نحو ما

__________________

(١) المدخل إلى علم أصول الفقه : ٣٣٢ وما بعدها.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٤٥

كان عليه الرومان من الاعتراف بالاجتهاد كمصدر من مصادر الحقوق» (١).

وفي حدود ما اطلعت عليه ، إن الكلمة بعد لم تتفق لدى علماء القانون على وضع أصول وقواعد تفي بحاجات الناس ، سواء ما يتصل بالطرق التفسيرية الداخلية أم الخارجية «وهذا ما جعل القاضي يفسر القانون ـ حين الاقتضاء ـ تبعا لمواهبه المسلكية وحسب ذمته تحت مراقبة مجلس التمييز ، وهو يستوحي ذلك من روح القانون التي أراد الشارع بلوغها ، ومن الوثائق التي سبقت وضع القانون وأعدته. ومن هنا يفهم كم هي خطرة هذه السلطة من التفسير» (٢).

ومن هذا العرض الموجز ، ندرك مواقع الالتقاء بين أصول الفقه المقارن وأصول القوانين في اهتمام كل منهما بالجانب التأريخي.

فالمقارن في الدرجة الأولى مسئول عن التماس القواعد العامة التي يستند إليها الفقهاء ليتعرف عليها تمهيدا للموازنة والتقييم ، والباحث عن مصادر القانون لا يهمه أكثر من «استيعاب المبادئ الأساسية التي يقوم عليها القانون» (٣) وهما في هذه الجنبة يختلفان عن الباحث في علم الأصول في رأي جمهرة الأصوليين ، فهو عند ما يبحث المصادر لا يبحثها إلا لتكون مستندا له في استنباط الأحكام ، فهو لا يفترض آراء مسبقة في الفقه يريد أن يتعرف على أصولها ، شأن الباحث المقارن أو الباحث في أصول القانون ، وانما يريد أن يتعرف على أحكامه من هذه الأصول.

ويفترق أصول الفقه المقارن عن أصول القوانين في اهتمامه بالجانب التقييمي بالتماس الأدلة والحجج ، ومحاولة عرض الأصول عليها ، والتنبيه على أقربها للحجية ، بينما لا يهم الباحث في أصول القوانين شيء من ذلك. ويفترقان بعد ذلك

__________________

(١) المصدر السابق : ٣٣٥.

(٢) المصدر السابق : ٧ وما بعدها ، نقلا عن الموسوعة الفرنسية.

(٣) مباحث الحكم عند الأصوليين : ٤٠.

٤٦

في طبيعة المصادر وسعة الجوانب التفسيرية في أصول الفقه عنها في أصول القوانين ، فهما وان اشتركا في بحث بعض مباحث الألفاظ ، كبعض المفاهيم وبعض مباحث الحجج كالقياس وبحث النسخ وإلغاء الأحكام السابقة ، إلا أن الجنبة الاستيعابية في أصول الفقه أشمل وبخاصة بمفهومه لدى القدماء.

والحقيقة ان علم أصول القوانين ما يزال بحاجة ماسة إلى يد مطوّرة تستعين على وظيفتها باقتباس بحوث من أصول الفقه ، ليقوم بواجبة من تأسيس قواعد عامة تكون هي المرجع في التماس الوظيفة ، أو الحكم عند تعذر وفاء النصوص بالحاجة ، إما لغموض أو تضارب أو عدم تعرّض للحكم ، أو غيرها من موجبات التوقف عن الأخذ بالقانون ، ليقطعوا بذلك السبيل على تحكّم القضاة واجتهاداتهم التي لا ترتكز على أساس.

والخلاصة : ان علم أصول الفقه المقارن يلتقي بأصول القوانين في ناحيته التاريخية ، وان اختلف عنه من حيث سعة بحوثه وتنوعها وإخضاعها للجانب التقييمي ، سواء ما يتصل منها بتشخيص الصغريات وهو ـ ما ذكر استطرادا في علم الأصول ـ أم ما يتصل منها بتأسيس القواعد الكبروية لقياس الاستنباط.

٤٧
٤٨

بحوث تمهيديّة

(٤)

مباحث الحكم

* أضواء على تعريف الأصول

* تعريف الحكم وتقسيمه

* الحكم التكليفي وأقسامه عند غير الأحناف

* تقسيمات الوجوب

* المندوب وأقسامه

* الحرمة وأقسامها

* الكراهة

* الإباحة

* شبهة الكعبي في إنكار المباح وجوابها

* تقسيم الأحناف للحكم التكليفي

* الحكم الوضعي وأقسامه

* الوجود من حيث التأصل والانتزاع

* الأحكام الوضعيّة بين الجعل والانتزاع

* الصحة والفساد

* الرخصة والعزيمة

* تقسيم الحكم إلى واقعي أولي وثانوي

* تقسيم الحكم إلى واقعي وظاهري

* إنكار الحكم الظاهري

* الفرق بين الحكم والوظيفة

* إنكار الحكم الشرعي ومناقشته

٤٩
٥٠

أضواء على تعريف الأصول:

ومن الحق ان نذكر ان تعريفنا السابق لأصول الفقه المقارن قد امتد في جذوره إلى مدرسة النجف الحديثة في علم الأصول ، فاقتبس منها تعميمه في التعريف إلى ما يشمل الحكم والوظيفة معا ، خلافا لما وقع على ألسن الأصوليين من القدامي والمحدثين في غير مدرسة النجف من الخلط بين مفهوميهما وطبيعة مصاديقهما.

وهذا ما يدعونا إلى ان نقيض في الحديث حول تعريف كل منهما وتحديد أقسامه ، وذكر الفروق بينهما مع كل ما يلابس هذا الموضوع.

وأظن أن موضوع الحديث في ذلك كله هو ما تقتضيه طبيعة التمهيد ، خلافا لبعض أساتذتنا الذين عرضوا لذكره في بحوث الاستصحاب أو غيرها في الأصول ، مع أنها أقرب إلى مبادئ علم الأصول منها إلى الدخول في صميم بحوثه ، لبداهة أنها ليست من عوارض ما اعتبروه موضوعا لعلم الأصول.

تعريف الحكم :

للفظ الحكم إطلاقان يقابل أحدهما معنى الوظيفة ، وسيأتي الحديث عنه. وفي الثاني يعمهما معا وهو موضع حديثنا الآن.

وقد ذكروا له تعريفات ، لعل أنسبها بمدلوله هو : «الاعتبار الشرعي المتعلق بأفعال العباد تعلقا مباشرا أو غير مباشر».

وانما فضلنا كلمة (اعتبار) على ما جاء في تعريفه من أنه «خطاب الشارع

٥١

المتعلق بأفعال المكلفين» (١) كما نقل ذلك الآمدي عن بعض الأصوليين ، أو أنه «خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع» (٢) وهو الّذي حكاه صاحب سلم الوصول عن الأصوليين ، لأن كلمة خطاب لا تشمل الحكم في مرحلة الجعل ، وانما تختص بمراحله المتأخرة من التبليغ والوصول والفعلية ، لوضوح أنها هي التي تحتاج إلى الخطاب لأداء جعل الشارع واعتباره ، فتعميمها إلى جميع مراحله أقرب إلى فنية التعريف من وجهة منطقية.

وكلمة الاعتبار تغنينا عن استعراض ما أورد أو يورد من الإشكال على التعريفين السابقين من عدم الاطّراد والانعكاس فيهما ، لعدم شمولهما لقسم من الأحكام الوضعيّة التي لم يتعلق بها خطاب من الشارع ، وانما انتزعت مما ورد فيه الخطاب من الأحكام التكليفية كالجزئية ، والشرطية ، والسببية ، وشمولها لما ورد فيه خطاب يتعلق بأفعال العباد وليس بحكم ، كقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(٣).

وهذا الإشكال انما يرد على خصوص التعريف الأول لتقييد الخطاب في التعريف الثاني بخصوص الاقتضاء أو التخيير أو الوضع ، وانما عممنا في التعريف إلى التعلق المباشر وغير المباشر بأفعال العباد لنعمم لفظ الحكم إلى جميع ما كان فيه اعتبار شرعي وان لم يتعلق بالأفعال ابتداء ، وانما تعلق بها باعتبار ما يستتبعها من الأحكام التكليفية ، سواء تعلق بها مباشرة أم بواسطة منشأ انتزاعها ، كما هو الشأن في الأحكام الوضعيّة المنتزعة.

وقد ذكروا للفظ الحكم ـ بهذا المعنى ـ تقسيمات متعددة نستعرضها جميعا نظرا لأهمية الحديث فيها ، ولكثرة ثمراته العلمية المترتبة عليها وبخاصة في مجالات

__________________

(١) مباحث الحكم عند الأصوليين : ١ ـ ٥٥ ، والأحكام : ١ ـ ٤٩.

(٢) المصدر السابق نفس الصفحة ، وسلم الوصول : ٢٩.

(٣) سورة الصافات : الآية ٩٦.

٥٢

الإبانة والتحديد.

وأول هذه التقسيمات تقسيمه إلى : الحكم التكليفي والحكم الوضعي.

١ ـ الحكم التكليفي :

وأرادوا به «خطاب الشارع المقتضي طلب الفعل من المكلف أو الكف عن الفعل ـ الترك ـ أو التخيير بين فعل الشيء وتركه على حد سواء» (١) وفي هذا التعريف عدة مجالات للتأمل :

أولها : في أخذ لفظة الخطاب في تكليف الشارع ، وقد سبق الحديث في نظيره عند تعريفنا لكلمة الحكم.

ثانيها : اعتباره خطاب الشارع من نوع الطلب ، مع ان مدلوله لا يتجاوز البعث أو الزجر ، كما حققه أعلامنا المتأخرون.

ثالثها : تفسير الكف عن الفعل بالترك مع انهما مفهومان متغايران ، فالكف من مقولة الأفعال لما فيه من صد النّفس عن الإتيان بالفعل ومنعها عنه ، والترك لا يزيد على عدم الإتيان بالفعل سواء كان عن صد للنفس أم عدم رغبة منها أم غير ذلك من أسباب التروك.

رابعها : اعتبار الإباحة (التخيير) قسما من الحكم التكليفي ، وهو وان كان قد ورد على ألسنة أكثرهم إلا ان ذلك لا يعرف له وجه لمجافاته لطبيعة التعبير بالتكليف ، لأن التكليف ما كان فيه كلفة على العباد ، والإباحة لا كلفة فيها فلا وجه لعدها من أقسامه. ولعل الأنسب في ذلك اتباع الآمدي فيما سلكه من تقسيم الحكم الشرعي إلى «ثلاثة أنواع : حكم اقتضائي ، وهو الّذي أرى أنه يرادف كلمة تكليفي وينبغي قصر كلمة تكليفي عليه ، وحكم تخييري ، وهو الخاصّ

__________________

(١) سلم الوصول : ٣٢.

٥٣

بالمباح ، ... والثالث الحكم الوضعي» (١) اللهم الا ان يكون ذلك مجرد اصطلاح منهم ، وليس لنا ان نؤاخذهم فيه ، وإذا أردنا ان نجاريهم في ذلك فالأنسب ان نعرف الحكم التكليفي بما عرّفه به بعضهم من أنه «الاعتبار الصادر من المولى من حيث الاقتضاء والتخيير» (٢) لخلوه عن الإشكالات السابقة ، عدا أخذ التخيير فيه.

أقسام الحكم التكليفي :

قسّم غير الأحناف الأحكام التكليفية إلى خمسة أقسام :

القسم الأول : الوجوب

ويراد به الإلزام بالفعل ، فيكون معنى الواجب بالطبع «الفعل الّذي فرضه الله على العباد ولم يرخص لهم في تركه» أو «الفعل الّذي ألزم الشارع بالإتيان به» على اختلاف في التعبير في مقام تحديده.

وهو ـ أعني الوجوب ـ انما يستفاد في مقام الإثبات من كل ما يدل عليه بالوضع أو بالقرينة ، كمادة الوجوب بأية صيغة كانت أو ما يرادفها من الألفاظ ، وكبعض الجمل الاسمية التي تقوم معها قرينة على إرادته ، والصيغ التي تؤدي إليه هي صيغة «افعل» وما في معناها ، وقد اختلفوا في أن دلالتها بالوضع كما هو مدعى من يستدل عليها بالتبادر وعدم صحة السلب ، أو بدليل العقل بادعاء انها لا تدل على أكثر من الباعثية نحو الفعل ، والعقل يلزم بالانبعاث عن بعث المولى ما لم يأت المرخص من قبله. والّذي عليه محققو المتأخرين من علماء الأصول هو الثاني ، ولا يهمنا تحقيقه الآن ما دام الجميع يؤمنون بدلالة الصيغة على الوجوب

__________________

(١) مباحث الحكم عند الأصوليين : ١ ـ ٥٨ نقلا عنه.

(٢) مصباح الأصول : ص ٧٨.

٥٤

مهما كانت أسباب هذه الدلالة وبواعثها.

وقد قسموا الوجوب إلى أقسام انطوت عليها تقسيمات متعددة منها :

أ ـ تقسيمه إلى : العيني والكفائي.

الوجوب العيني :

وهو الّذي يتعلق بجميع المكلفين ولا يسقط عنهم بامتثال البعض ، بل لا بد لكل منهم من امتثال مستقل. ومثاله في الشريعة : الصوم والصلاة.

الوجوب الكفائي :

ويراد به الوجوب الّذي يتعلق بجميع المكلفين ويسقط عنهم بامتثال البعض ، وعند ترك الجميع يعاقب الجميع ، كتغسيل الميت ودفنه والصلاة عليه.

ب ـ تقسيمه إلى : التعييني والتخييري.

الوجوب التعييني :

ويراد به الوجوب الّذي يتعلق بفعل بعينه ، ولا يرخص في تركه إلى بدل.

الوجوب التخييري :

وهو الوجوب الّذي يتعلق بأحد الشيئين أو الأشياء على البدل ، على خلاف في تعلقه بالفرد المردد أو القدر الجامع أو في كل منهما ، مع سقوطه بفعل الآخر (١) ، ومثاله وجوب خصال كفارة الإفطار العمدي على غير المحرم.

ج ـ تقسيمه إلى : الموقت وغير الموقت.

الوجوب الموقت :

وهو ما كان الوقت دخيلا في مصلحته ، وله قسمان :

__________________

(١) لاحظ حقائق الأصول : ١ ـ ٣٣٢.

٥٥

١ ـ المضيّق ، وهو ما يكون الزمان المأخوذ فيه بقدر ما يقتضيه من امتثال ، كصوم رمضان.

٢ ـ الموسّع ، وهو ما كان زمانه أوسع مما يقتضيه امتثاله ، كالصلوات اليومية.

الوجوب غير الموقت :

وهو الّذي لا يكون الزمان دخيلا في مصلحته ، وتكون نسبته إلى جميع الأزمنة نسبة واحدة ، كوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

د ـ تقسيمه إلى : المطلق والمشروط.

الوجوب المطلق :

ويراد به الوجوب الّذي ينسب إلى شيء ما فلا يكون له مدخلية في أصل ملاكه ، ومثاله وجوب الصلاة بالنسبة إلى الاستطاعة المالية ، حيث لم يقيد الشارع بها حكمه وجودا أو عدما.

وينقسم بلحاظ متعلقه إلى قسمين : منجز ومعلق.

١ ـ المنجز : وهو ما كان مخلى عن القيد الزماني وجوبا وواجبا ، ومثاله الصلاة بعد دخول وقتها.

٢ ـ المعلق : وهو ما كان وجوبه فعليا غير مقيد بالزمان وواجبه استقباليا ، ومثاله الصلاة قبل دخول وقتها ، بناء على ان وقت الظهر قيد للواجب لا لأصل وجوب صلاة الظهر ، وهذا التقسيم مما تفرد به صاحب الفصول ، وتبعه بعض المتأخرين ، ولهم حول إمكان الواجب المعلق وعدمه حديث طويل لا يهم عرضه.

الوجوب المقيد :

وهو ما قيد بما ينسب إليه من الأشياء لدخوله في أصل ملاكه ، كالاستطاعة

٥٦

بالنسبة للحج ، ويسمى أيضا (الواجب المشروط).

ومن هنا يعلم ان الوجوب المطلق والمقيد نسبيان ، فقد يكون الوجوب بالنسبة إلى شيء مطلقا وبالنسبة إلى آخر مقيدا.

ه ـ تقسيمه إلى : التعبدي والتوصلي.

الوجوب التعبدي :

وهو ما توقف تحقق ملاكه على الإتيان به بقصد القربة ، وأمثلته كل ما انتظم في قسم العبادات من كتب الفقه ، كالصوم والصلاة والحج وغيرها.

الوجوب التوصلي :

وهو ما لم يتوقف تحقق ملاكه على الإتيان به قريبا ، كدفن الميت ، وتطهير الثوب ، والصناعات والحرف التي يتوقف عليها النظام الاجتماعي.

و ـ تقسيمه إلى : المحدد وغير المحدد.

الوجوب المحدد :

ويراد به ما كان متعلقه محددا بأن «عيّن له الشارع مقدارا معلوما لا تبرأ الذّمّة إلا بأدائه بمقداره الّذي حدّده الشارع وعيّنه ، كالصلوات الخمس ، وزكاة الأموال ، وصوم رمضان» (١).

الوجوب غير المحدد :

وهو ما لم يحدد الشارع متعلقه ، وقد مثل له الشاطبي بالعدل ، والإحسان ، والوفاء ، ومواساة ذوي القربى ، والمساكين ، والفقراء ، والاقتصاد في الإنفاق (٢) ، وغيرها ، وهي تختلف باختلاف الحاجات والأحوال والأزمان.

ز ـ تقسيمه إلى : الوجوب النفسيّ والغيري.

__________________

(١) مباحث الحكم : ١ ـ ٨١.

(٢) المصدر السابق.

٥٧

الوجوب النفسيّ :

وهو «ما كان واجبا لنفسه لا لواجب آخر» (١) ومثاله وجوب الصلاة وغيرها.

الوجوب الغيري :

وهو «ما وجب لواجب آخر» (٢) كالوضوء بالنسبة للصلاة ، وقد اختلفوا في وجود الواجب الغيري ، والتحقيق عدم الضرورة بالتزام وجوبه الشرعي ، وستأتي الإشارة إلى ذلك في مبحث (سد الذرائع وفتحها).

وهناك تقسيمات أخر لا نرى ضرورة الإشارة إليها لعدم أهميتها.

وهذه التقسيمات تكاد تكون موجودة في جلّ كتب الأصوليين المعنية ببحث أمثالها ، عدا ما نصّ على التفرد فيه من قبل بعض الأعلام ، وهي متحدة المفهوم وان اختلفت تحديداتهم لها لضيق في الأداء ، وبما أن الدخول في تفصيلاتها غير ذي جدوى لنا ، فقد آثرت الإشارة إليها بمقدار ما تدعو إليه الحاجة من إيضاح المصطلحات.

القسم الثاني : المندوب

ويراد به ما دعا الشارع إلى فعل متعلقه ولم يلزم به ، ويدل عليه لفظة الندب ومرادفاتها والصيغ الدالة على الوجوب مع اقترانها بما يوجب الترخيص ولو كان من طريق الجمع بين الأدلة ، وقد ذكروا له أقساما لا ترجع إلى محصل ، وأهمها ثلاثة :

١ ـ ما يكون فعله مكملا للواجبات الدينية ، كالأذان بالنسبة للصلاة ، وهذا

__________________

(١) أصول الفقه للمظفر : ٢ ـ ٥٤.

(٢) المصدر السابق.

٥٨

النوع لا يوجب تركه العقاب ولكن يوجب اللوم والعتاب ، وربما سمي في ألسنة بعض الأصوليين ب (الاستحباب المؤكد).

٢ ـ ما لا يكون كذلك وفعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تارة وتركه أخرى ، كالتصدق على الفقراء والمساكين.

٣ ـ ما كان استحبابه بالعنوان الثانوي ، أي بعنوان الاقتداء بالرسول ، كالتأسي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طريقة أكله أو نومه أو جلوسه ، مما لم يثبت استحبابه بالذات.

القسم الثالث : الحرمة

ويراد بها إلزام المكلف بترك شيء ، فيكون معنى الفعل المحرم ـ بالطبع ـ هو ما ألزم الشارع بتركه ولم يرخص فيه ، ويؤدى عادة بمادة الحرمة وما يرادفها بأي صيغة وجدت ، والصيغ التي تؤديه صيغة (لا تفعل) على خلاف فيها من حيث كونها موضوعة للحرمة ، كما هو مقتضى دعوى من يدعي تبادر الحرمة منها ، أو ان الحرمة مستفادة بحكم العقل ، وهي لا تدل على أكثر من الردع ، إلا ان العقل يلزم بالارتداع عن ردع المولى ما لم يأت المرخص من قبله قضاء لحق المولوية.

وقد قسموها بلحاظ متعلقها إلى قسمين :

١ ـ ما تكون حرمته ذاتية ، كالزنى والسرقة والقتل بغير الحق وبيع الميتة «وهذا النوع من المحرم يكون باطلا ولا يترتب عليه حكم ، إذ لا يصلح سببا شرعا ليترتب عليه أحكام ، لأن التحريم لذات الفعل يوجد خللا في أصل السبب أو في وصفه بفقد ركن أو شرط ، فلا يثبت بالزنى نسب» (١) ولا بالسرقة أو بيع الميتة ملك ، وهكذا. وفي هذا القسم خلط بين نوعين من المحرمات ، نوع لم يجعل متعلقه سببا شرعيا أصلا ليقال بإمكان ترتب آثاره عليه ، كالزنى والسرقة

__________________

(١) سلّم الوصول : ٥٤.

٥٩

والقتل بغير الحق ، ونوع جعل فيه ذلك كبيع الميتة ، ومثل هذا القسم ان كان النهي فيه بداعي الإرشاد إلى المانعية أو فقد الشرط لم يترتب مسببه عليه ، وان كان للكشف فقط عن المبغوضية «فالمعروف أنه لا يدل على فساد المعاملة ، إذ لم تثبت المنافاة لا عقلا ولا عرفا بين مبغوضية العقد والتسبيب به وبين إمضاء الشارع له بعد ان كان العقد مستوفيا لجميع الشروط المعتبرة فيه ، بل ثبت خلافها كحرمة الظهار التي لم تناف ترتب الأثر عليه من الفراق» (١) وقد حرّرت هذه المسألة في كتب الشيعة في باب (النهي عن المعاملة يقتضي الفساد).

٢ ـ ما تكون حرمته لعارض أجنبي عن ذاتها «أي ان حكم العقل في الأصل الوجوب أو الندب أو الإباحة ، ولكنه اقترن بأمر خارجي جعله محرما ، وذلك مثل الصلاة في أرض مغصوبة ، والبيع يوم الجمعة وقت الأذان ، وهذا النوع من المحرم يصلح سببا شرعيا فتترتب عليه آثاره ، لأن التحريم لأمر خارج عن الفعل عارض له وليس لذات الفعل ، فلا يوجب خللا في أصل السبب ما دامت أركان الفعل وشروطه الشرعية مستوفاة ، فالصلاة في أرض مغصوبة صحيحة مجزئة ما دامت مستكملة لأركانها وشروطها الشرعية ، ولكن المصلي آثم لأنه صلى في أرض مغصوبة» (٢).

وهذه المسألة محررة أيضا في باب استغرق بحثه عشرات الصحف على يد أساتذة مدرسة النجف الحديثة ، ويدعى الباب ب (باب اجتماع الأمر والنهي) واستعراض كل ما جاء فيه يخرجنا عن طبيعة التمهيد. والمسألة قد تفرض مع الاضطرار تارة وعدمه أخرى ، وفي صورة وجود المندوحة من الصلاة في الدار المغصوبة وعدمه ، والاجتماع قد يفرض اجتماعا مورديا وأخرى موحدا ، ولكل

__________________

(١) أصول الفقه للمظفر : ٢ ـ ١٤٥.

(٢) سلم الوصول : ٥٤.

٦٠