الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

وهذا الدليل من أمتن الأدلة نسبيا وأقربها إلى الفن لو تمت جميع مقدماته.

ولكن الإشكال في تمامية بعض هذه المقدمات وبخاصة ما يتصل منها بالمقدمة الثانية من دعوى انسداد باب العلم والعلمي ، فقد مرّ لدينا قيام الأدلة القطعية على حجية كثير من الأمارات ، بالإضافة إلى الأدلة الموجبة للقطع بالحكم الشرعي ، فباب العلم والعلمي اذن غير منسد لنلجأ إلى التعويض بمطلق الظنون ، وإذا انهارت واحدة من المقدمات فقد انهار الدليل على نفسه من الأساس وانحل العلم الإجمالي بما قام عليه العلم والعلمي وأمكن الرجوع في الأطراف المشكوكة إلى الأصول ، وبهذا المقدار نكتفي عن مناقشة بقية المقدمات.

واعتقادي شخصيا أنه ليس بين المسلمين اليوم من يذهب إلى انسداد باب العلم والعلمي عليه ، وان كان فيهم من يسد على نفسه أبواب الاجتهاد.

على ان هذا الدليل لا يلزم نفاة القياس ابتداء ، لأن حكم العقل لو تمت جميع المقدمات ـ لا يكون متناولا للظنون القياسية ـ وعلى الأخص بعد افتراض قيام الأدلة القطعية على عدم جواز العمل به لديهم ، أمثال روايات أهل البيت عليهم‌السلام الرادعة عنه وهي متواترة.

إذ مع قيام الردع القطعي عنه كيف يمكن للعقل ان يعتبره حجة يمكن الركون إليها في مقام الاحتجاج به على المولى عند المخالفة مع إصرار المولى على عدم اعتباره حجة بأدلة الردع.

وما يقال من ان حكم العقل لا يقبل التخصيص صحيح جدا ، إلا أنه أجنبي عن موردنا هذا ، لأن خروج القياس الظني عن حكم العقل هنا ليس من قبيل التخصيص ، وانما هو من قبيل التخصص ، إذ من الواضح ان هذا النوع من الأحكام العقلية مأخوذ في موضوعه عدم قيام الحجة على المنع عنه ، أي عدم انفتاح باب العلم أو العلمي في جميع المسائل ، ومع انفتاحه في مسألة ما ، فلا حكم

٣٤١

للعقل بحجية الظنون في تلكم المسألة بداهة ، والمفروض هنا ان باب العلم بالردع عن القياس مفتوح ، أي ان القياس معلوم عدم حجيته ، ومع هذا الفرض فلا تتم مقدمات دليل الانسداد بالنسبة إليه ولا يكون مشمولا لنتيجتها بداهة ليقال : كيف يمكن تخصيص الحكم العقلي؟

ولقد ذكرت محاولات كثيرة للتوفيق بين ما دل على الردع منه من الروايات وبين نتائج دليل الانسداد ـ لو تم ـ وهي معروضة في رسائل الشيخ الأنصاري (١) ، وحقائق الأصول للإمام الحكيم (٢) ، وغيرهما من الكتب المعنية بأمثال هذه المواضيع.

على ان هذه المقدمات لا ملزم فيها لجعل الحجية لمطلق الظنون ، وغاية ما تقتضيه هو التبعيض في الاحتياط حتى في الموهومات بمقدار لا يلزم منه اختلال النظام أو العسر والحرج (٣).

خلاصة البحث :

والخلاصة ان جميع ما ذكره مثبتو القياس من الأدلة لا تنهض بإثبات الحجية له ، فنبقى نحن والشك في حجيته ، والشك في الحجية كاف للقطع بعدمها.

فلا نرى بعد هذا حاجة إلى عرض أدلة نفاة القياس ومناقشتها.

وهذه الأدلة التي عرضوها ـ وهي مستوعبة للأدلة الأربعة كتابا وسنة وإجماعا وحكم عقل ـ لا يخلو أكثرها من مناقشة ، اللهم إلا إذا استثنينا ما تواتر عن أهل البيت عليهم‌السلام من الردع عنه وعدم الأخذ به ، فإنه واف بإثبات نفي الحجية عنه.

__________________

(١) الرسائل : ص ٢٥٥.

(٢) حقائق الأصول : ٢ ـ ١٩٨ وما بعدها.

(٣) اقرأ تحقيق أستاذنا الخوئي قدس سرّه في ذلك في الدراسات : ص ١٣٦ وما بعدها.

٣٤٢

وتمام رأينا في القياس ان القياس يختلف باختلاف مسالكه وطرقه ، فما كان مسلكه قطعيا أخذ به ، وما كان غير قطعي لا دليل على حجيته.

وأظن ان في مقياس الحجية الّذي صار بأيدينا ما يغني عن التعرض لبقية تقسيماته وشرائطه ، إذ لا جدوى من عرضها وإطالة الحديث فيها ، وليست لها أية ثمرة عملية تترتب على ذلك.

٣٤٣
٣٤٤

الباب الأول

القسم السادس

الاستحسان

* تحديد الاستحسان

* حجيته ومناشئ الخلاف فيها

* الاستحسان وأقوى الدليلين

* الاختلاف في الأدلة اللفظية : التزاحم ، مرجحات باب التزاحم

* التعارض وأقسامه ، مرجحات باب التعارض : موافقة الكتاب ومخالفته ، مخالفة وموافقة العامة ، الاختلاف في الأدلة غير اللفظية ، الاختلاف بين الأدلة اللفظية وغيرها

* الاستحسان والعرف

* الاستحسان والمصلحة

* الاستحسان وبعض الحالات النفسيّة

* الحجية وأدلتها.

٣٤٥
٣٤٦

تحديد الاستحسان :

الاستحسان في اللغة هو «عد الشيء حسنا سواء كان الشيء من الأمور الحسية أو المعنوية» (١).

ولكن تحديده لدى الأصوليين مختلف فيه جدا ، وأكثر تعاريفهم التي ذكروها أبعد ما تكون عن فن التعريف وهي أقرب ـ إلى تسجيعات الأدباء التي كان يراعى فيها إخضاع المعنى للمحسنات البديعية ـ منها إلى تحديدات المنطقيين.

وإليكم نماذج مما ذكره السرخسي في مبسوطه من التعاريف ، يقول :

١ ـ الاستحسان : ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس.

٢ ـ الاستحسان : طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى به الخاصّ والعام.

٣ ـ الاستحسان : الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة.

٤ ـ الاستحسان : الأخذ بالسماحة وانتفاء ما فيه الراحة (٢).

وقريب منها في البعد عن الفن ما نسب إلى المالكية من انه «الالتفات إلى المصلحة والعدل» (٣).

ومثل هذه التعاريف لا تستحق أن يطال فيها الكلام لعدم انتهائها إلى أمور محددة يمكن إخضاعها للحديث عن الحجية وعدمها.

والّذي يقتضي الوقوف عنده من تعاريفها التي تكاد تكون منطقية من حيث كونها ذات مفاهيم محددة ما ذكره كل من :

__________________

(١) سلم الوصول : ص ٢٩٦.

(٢) محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء للخفيف : ص ٢٣٦. وقد نقل هذه التعاريف عن المبسوط.

(٣) فلسفة التشريع في الإسلام : ص ١٧٤.

٣٤٧

١ ـ البزدوي من الأحناف من أنه «العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه أو هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه» (١).

٢ ـ الشاطبي من المالكية من أنه : «العمل بأقوى الدليلين» (٢).

٣ ـ الطوفي من الحنابلة في مختصرة من أنه : «العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص» (٣).

وقد ذكر له ابن قدامة معاني ثلاثة :

أحدها : «العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة».

ثانيها : «ما يستحسنه المجتهد بعقله».

ثالثها : «دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه» (٤).

وهذه التعريفات يختلف حالها من حيث التعميم والتخصيص ، فبعضها تخصصه بتقديم قياس على قياس ، وبعضها تجعله عاما إلى تقديم مختلف الأدلة بعضها على بعض ، وبعضها الثالث لا يتعرض إلى عالم تقديم الأدلة أصلا بل يأخذ به لمجرد الاستحسان والانقداحات النفسيّة وان لم تعرف حدود هذا الاستحسان أو الانقداح الّذي لا يقدر على التعبير عنه.

وقد حاول بعضهم إرجاع هذه المفاهيم بعضها إلى بعض أي إرجاع الخاصّ منها إلى العام ، إلا ان هذه المحاولة غير ذات جدوى لاحتمال تقيد أصحابها في مجال الحجية بحدود ما عرضوه لها من مفاهيم بالإضافة إلى ان بعضها غير ناظر إلى عالم تقديم دليل على دليل لينتظم في هذا السلك من الأدلة العامة.

فالأنسب توزيعها في مجالات التماس الحجية لها على ما أريد لها من تحديدات.

__________________

(١) مصادر التشريع : ص ٥٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٣٤٨

والّذي يلاحظ ـ بادئ ذي بدء ـ ان هذه التعاريف ليس فيها ما يدعو إلى جعل الاستحسان دليلا له استقلاله الذاتي في مقابل بقية الأدلة ، إذ إن قسما منها يمكن إرجاعه إلى الكتاب والسنة ، وقسما منها إلى القياس ، وثالثا إلى حكم العقل ، ورابعا إلى المصالح المرسلة ـ لو صح أنها من الأدلة المستقلة وسيتضح الحال فيها ـ فلا وجه ـ فيما يبدو ـ لعده من الأدلة المستقلة في عرضها.

حجيته ومناشئ الخلاف فيها :

وقد اختلفوا في حجيته وعدمها على قولين : يتضمن أحدهما نفي الحجية وقد تبناه الشافعي وأرسل كلمته المعروفة فيه «من استحسن فقد شرع» (١).

ويتضمن الثاني إثبات الحجية له وإضفاء الأهمية الواسعة عليه ، وقد تبناه مالك ، وأرسل فيه قوله المعروف : «الاستحسان تسعة أعشار العلم» (٢).

والمعروف عن الشيعة والظاهرية أنهم من النفاة.

وتحقيق الحال في صحة النسبة وعدمها وبيان مناشئ الخلاف فيه يقتضينا ان نعود إلى تلكم التعاريف ، ونلقي بعض الأضواء عليها.

ولعلنا نعود من نتائج الحديث ببعض الثمرات التي تعود في واقعها إلى تضييق شقة الخلاف وإزالة أكثر معالمها من بين الأعلام.

وملخص ما يمكن ان يقال ان تلكم التعاريف مختلفة جدا ، وربما عادت في أصولها إلى أربعة ، يصعب التقاؤها في قدر جامع ، وتصور القدر الجامع لها لا يخلو من تعسف ، فلا بدّ من استعراضها جميعا.

وتفصيل الحديث فيها بما يتسع له صدر هذه المحاضرات وتشخيص مواقع الحجة منها من غيرها.

__________________

(١) فلسفة التشريع الإسلامي : ص ١٧٤.

(٢) المدخل إلى الفقه الإسلامي : ص ٢٥٧.

٣٤٩

وهذه الأصول هي :

١ ـ الاستحسان وأقوى الدليلين :

ونريد به ما أخذ في بعض التعاريف من العمل أو الأخذ بأقوى الدليلين ، وهذا التعريف بعمومه شامل لما كان فيه الدليلان لفظيين أو غير لفظيين ، أو أحدهما لفظيا والآخر غير لفظي ، فالمسائل التي تنتظم في هذا القسم اذن ثلاث :

١ ـ ما كان الدليلان فيه لفظيين.

٢ ـ ما كانا فيه غير لفظيين ، على تفصيل فيها.

٣ ـ ما كان أحدهما لفظيا والآخر غير لفظي.

١ ـ الاختلاف في الأدلة اللفظية :

والاختلاف بين الدليلين اللفظيين قد تكون له مناشئ أهمها :

أ ـ التزاحم :

ويراد بالتزاحم هنا صدور حكمين من الشارع المقدس وتنافيهما في مقام الامتثال اتفاقا ، إما لعدم القدرة على الجمع بينهما كما هو الغالب في باب التزاحم ، أو لقيام الدليل من الخارج على عدم إرادة الجمع بينهما ، وفي مثل هذا الحال لا بد من الرجوع إلى :

مرجحات باب التزاحم :

وقد عرضت في كتب الشيعة الإمامية في الأصول بتفصيل واسع نشير إلى أهم خطوطه وهي :

١ ـ تقديم الحكم المضيق على الحكم الموسع إذا كان في التكليفين مضيق وموسع ، ومثاله ما لو تزاحم الأمر بالصلاة وكانت في أول أوقاتها مع الأمر بإزالة نجاسة ما عن المسجد الحرام ، وكانت الأولى موسعة.

٣٥٠

٢ ـ تقديم ما ليس له البدل على ما كان له بدل ، كما لو تزاحم الأمر بإنقاذ نفس محترمة ، كاد ان يؤدي بها الظمأ ، والأمر بالوضوء مع فرض وجود ماء لا يتسع لهما معا ، وبما ان الوضوء له بدل وهو التيمم وإنقاذ النّفس لا بدل له ، فلا بدّ من تقديم الإنقاذ.

٣ ـ تقديم ما كان أمره معينا على ما كان مخيّرا ، كتقديم الوفاء بالنذر على الكفّارة ، فيما لو نذر عتق رقبة مؤمنة ، وتحقق نذره وكان لديه رقبة واحدة ، وهو مطالب بعتقها للنذر ومطالب من ناحية أخرى بعتقها لكفارة إفطار عمدي في شهر رمضان باعتبارها إحدى خصال الكفارة ، وحيث يمكن تعويضها بالخصال الأخرى في الكفارة ، فلا بدّ من عتقها للوفاء بالنذر.

٤ ـ تقديم ما كان مشروطا بالقدرة العقلية على ما ان مشروطا بالقدرة الشرعية ، كتقديم الأمر بوفاء الدين على الأمر بالحج لأخذ الاستطاعة فيه شرطا بلسان الدليل ، والقدرة إن أخذت بلسان الدليل سميت شرعية ، لأن أخذها بلسانه يكشف عن مدخليتها في الملاك ، وان لم تؤخذ بلسانه سميت عقلية.

والدليل الّذي لا يأخذ القدرة بلسانه يكشف عن وجود ملاكه حتى مع عدمها ، وتكون القدرة بالنسبة له دخيلة في تحقق الامتثال لا في أصل الملاك ، ولهذا قدم ما كان مشروطا بالقدرة العقلية على ما كان مشروطا بالقدرة الشرعية لتوفر ملاكه.

٥ ـ تقديم ما كان أهم منهما على غيره ، ومقياس الأهمية إحساس المجتهد بأن أحد الدليلين أهم في نظر الشارع من غيره كتقديم الصلاة التي لا تترك بحال بآخر مراتبها على أي واجب آخر.

٦ ـ تقديم أسبقهما في زمان امتثاله مع تساويهما من حيث الأهمية كتقديم صلاة الظهر على صلاة العصر فيما لو انحصرت قدرته على الأداء في الإتيان بإحدى

٣٥١

الصلاتين مثلا.

والأنسب ـ فيما إخال ـ هو حصر المقياس في التقديم بالمرجحين الأخيرين والمرجحات الأخرى مما ذكر ، أو يمكن ان تذكر ، لا يزيد ما يتم منها على كونه منقحا لصغريات إدراك العقل للأهمية في أحد الأمرين ذاتا أو عرضا.

إذ إن إدراك الإنسان للأهمية في تقديم أحدهما قد يكون منشؤه المحافظة على التكليفين معا ، كاختياره المضيق وتقديمه على الموسع ، أو اختياره المعين وتقديمه على المخير ، أو تقديمه لما ليس له البدل على ما له البدل ، وقد يكون المنشأ غير ذلك.

والمقياس ـ كما سبق ان ذكرنا ـ هو إدراكه لأهمية أحد التكليفين وترجيحه على الآخر.

ومع هذا الإدراك ، فتقديم الأهم في باب تزاحم الأدلة اللفظية لا يعدو كونه من قبيل تعيين الحجة الفعلية من بينها إذ لا نحتمل في حق الشارع المقدس ان يلزمنا بالمهم ويرفع اليد عن التكليف بالأهم ، لاستحالة ترجيحه للمرجوح على الراجح ، ومع استحالة امتثالهما ـ كما هو الفرض ـ فإنه يتعين ان يكون المرتفع هو التكليف بالمهم.

هذا إذا كان هناك أهم ومهم ، أما إذا تساويا فإن كان أحدهما أقدم زمانا من حيث ظرف الامتثال ، قدم الأقدم ـ بحكم العقل ـ وإلا فان المكلف مخير في امتثال أيهما شاء.

ب ـ التعارض وأقسامه :

وقد يكون منشأ الاختلاف بين الأدلة اللفظية هو التعارض ، وأمره يختلف باختلاف صور المسألة ، فقد يكون بدويا يزول بأدنى ملاحظة ، وينتظم في هذا القسم :

٣٥٢

أ ـ تعارض العام والخاصّ ، كنهي الشارع عن بيع كل معدوم ، وترخيصه به في السلم حيث التزموا بتقديم الخاصّ على العام وتخصيص العام به.

ولقد سبق أن قلنا : ان هذا النوع من التقديم مما يقتضيه الجمع العرفي المقتضي للأخذ بالدليلين معا مع تضييق لأحدهما عما هو ظاهر فيه.

ومنشأ التقديم لدى بعض أساتذتنا هو حكومة النص على الظاهر فيما لو كان الخاصّ نصا في مدلوله ، أو الأظهر على الظاهر فيما إذا لم يكن نصا فيه لبداهة أنّ ظهور الخاصّ في مدلوله أكثر من ظهور العام في مدلول الخاصّ ، فيكون بمنزلة القرينة على المراد منه ، وهي حاكمة بلسان شرح المراد من ذيها عليه ، ولكن هذا الشرح ليس مما يقتضيه لسانه لو خلي وطبعه لينتظم في مبحث الحكومة في حدود ما شرحناها في بحوث التمهيد ، وانما اقتضته طبيعة الجمع بين الأدلة وإيضاح بعضها ببعض.

ب ـ ان يكون بين الدليلين حاكم ومحكوم ، وقد سبق بيان السر في تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم (١).

ج ـ أن يكون فيهما ناسخ ومنسوخ ، وقد تقدم الحديث حول مفهوم النسخ وسر التقديم فيه في «مبحث السنّة» (٢).

هذا كله في التعارض البدوي الّذي يعود إلى المضامين ، بعد المفروغية عن صدور الدليلين من الشارع المقدس ، أما التعارض المستحكم الّذي لا يزول بأدنى ملاحظة ولا يرى العرف طريقا للجمع بين مضامين ما تحقق فيه ، كما في المتباينين أو العامين من وجه ، فالمرجع فيه :

__________________

(١) راجع : ص ٨٢ من هذا الكتاب.

(٢) راجع : ص ١١٣ وما بعدها من هذا الكتاب.

٣٥٣

مرجحات باب التعارض :

وقد عرضت لها صحيحة وردت عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردوه ، فإن لم تجدوه في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه» (١) ، وهذه الرواية عرضت للمرجحات المضمونية وهي لا تفترض عادة ، إلا بعد تساوي الروايتين المتعارضتين من حيث السند وليس في إحداهما ما يوجب الاطمئنان بالصدور ، وقد ذكرت روايات غيرها الترجيح بالأعدلية والأفقهية والأصدقية من صفات الراوي ، وهي مناقشة سندا ودلالة وليس هنا موضع تفصيلها (٢).

ومن هذه الصحيحة ندرك أن الترجيح المضموني لا يتجاوز :

١ ـ موافقة الكتاب ومخالفته.

٢ ـ موافقة العامة ومخالفتها.

موافقة الكتاب ومخالفته :

ويراد بموافقة الكتاب ان يكون الحكم داخلا ضمن إطار أحكامه العامة أو الخاصة ، وبالمخالفة ان يصادمها على نحو التباين أو العموم والخصوص من وجه ، أي في المواضع التي لا يمكن فيها الجمع العرفي أصلا ، والسر في إسقاط الرواية عند المخالفة هو ما سبق أن أشرنا إليه من أن النسخ لا يثبت بأخبار الآحاد ، والأخبار المتعارضة تعطي في نتائجها ما تعطيه أخبار الآحاد من حيث عدم القطع بها سندا أو مضمونا ، والنسخ لا يكون إلا بقاطع.

ومن تقديم هذا المرجح على موافقة العامة وجعل المرجح الثاني في طوله ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ٢ ـ ٢٣٥ ، ح ٢٠.

(٢) راجع مصباح الأصول : ٤١٤.

٣٥٤

ندرك ان موافقة الكتاب وعدم مخالفته هي المقياس الأول ، كانت هناك موافقة للعامة أو مخالفة لها ، فالحديث الموافق للكتاب أو غير المخالف يؤخذ به على كل حال ، وافق العامة أم لم يوافقها ، والحديث المخالف للكتاب يطرح سواء وافق العامة أم خالفها.

مخالفة وموافقة العامة :

والمراد بالعامة هنا أولئك الرعاع وقادتهم من الفقهاء الذين كانوا يسيرون بركاب الحكام ويبررون لهم جملة تصرفاتهم بما يضعون لهم من حديث حتى انتشر الوضع على عهدهم انتشارا فظيعا صحح لمثل يحيى بن سعيد القطان ان يقول : «لو لم أرو إلا عمن أرضى ما رويت إلا عن خمسة» (١) وليحيى بن معين قوله : «كتبنا عن الكذابين وسجرنا به التنور وأخرجنا خبزا نضيجا» (٢) إلى غيرها من آراء وأقوال أرباب الجرح والتعديل.

وليس المراد بالعامة في الصحيحة وأمثالها أولئك الأئمة الذين عرفوا بعد حين بأئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم ، لأن هؤلاء الأئمة ما كان بعضهم على عهد الإمام الصادق عليه‌السلام كالشافعي ، وابن حنبل ، والذين كانوا على عهده ما كان لهم ذلك الشأن ، بحيث يكوّنون رأيا عاما ليصح إطلاق لفظ العامة عليهم وعلى أتباعهم.

وعامة الناس من السنة لم تجمع كلمتهم عليهم ـ بواسطة السلطة ـ إلا في عصور متأخرة جدا عن عصر الإمام الصادق عليه‌السلام حيث أبطل «الظاهر بيبرس البندقداري» غيرها من المذاهب في مصر وقصرها عليها (٣) ومنه انتشرت في بقية الأمصار.

__________________

(١) الغدير : ٥ ـ ٢٩١.

(٢) المصدر السابق.

(٣) دراسات في الفلسفة الإسلامية للتفتازاني الغنيمي : ص ١٢٢.

٣٥٥

وعلى هذا فان كلمة الإمام الصادق عليه‌السلام لم توجه إلا إلى أولئك الكذابين من أذناب الحكام فقهاء ومحدثين ممن يستسيغون الكذب والدس مراعاة لعواطفهم وميولهم السياسية وغيرها.

ووجود حديثين لا تعرّض للكتاب لمضمونهما أحدهما موافق للعامة وهم ممن يستسيغون الكذب على المعصوم ، والآخر مخالف لهم لا بد وان يكون الموافق هو الّذي يستحق وضع علامات الاستفهام عليه.

على ان الإمام ربما صدرت عنه فتاوى توافق ما انتشر عند العامة ، ومبعثها على الأكثر ان الإمام كان يجيب السائل على وفق ما يدين به ، فيقول له : انهم يرون في العراق كذا وفي الحجاز كذا ، ونقول نحن كذا ، وللسائل ان يختار ما يدين به وربما نقل السائل ما يختاره عن الإمام كفتوى له ، بينما تكون فتوى الإمام ـ ان صح تسميتها فتوى ـ على خلافها ، فتتكون لدى الآخرين فتويان متعاكستان عنه ، وبهذا صح جعل المقياس من قبله بأن ما وافق العامة مما نقل عنه هو الّذي يجب طرحه عند المعارضة.

والخلاصة : ان مرجحات باب التعارض من وجهة مضمونية هي : موافقة الكتاب أولا ـ سواء وافقت هذه الروايات ما عند العامة أم خالفتها ـ ومخالفة العامة ثانية.

وإذا لم تتوفر هذه المرجحات كلا أو بعضا فالمرجع التساقط كما هو مقتضى القاعدة لدوران الأمر بين الحجة واللاحجة فيهما أو التخيير على قول ، ولم نعرف من الفقهاء من عمل به ، ورواياته ليست وافية الدلالة كما ذهب إلى ذلك بعض أساتذتنا.

هذا كله في الاختلاف في الأدلة اللفظية.

٣٥٦

الاختلاف في الأدلة غير اللفظية :

والأمر فيها مختلف ، فان كان الدليلان في رتبتين كما هو الشأن في الاستصحاب وأصل البراءة قدم السابق رتبة واعتبر أقوى من لاحقة ـ إن صحّ هذا التعبير ـ وان كانا في رتبة واحدة وكان أحدهما أقوى من الآخر ـ كما هو الشأن في التماس علل الأحكام في القياس إذا كانت مستنبطة ـ قدم القياس ذو العلة الأقوى بناء على حجية أصل القياس ، وقد قصر تعريف الاستحسان في بعض الألسنة على تقديم قياس أقوى على قياس ، ولكن عده ـ لو صح التعريف ـ أصلا في مقابل القياس لا يتضح له وجه إذا تعيين أقوى القياسين لا يعدو عن تشخيص القياس الحجة منهما ، فما الموجب لعده في عرضه؟

ومع تساوي الأدلة غير اللفظية في الرتبة وتعارضها ، تتساقط حتما ويرجع إلى الأدلة اللاحقة لها في الرتبة ، وهكذا ...

الاختلاف بين الأدلة اللفظية وغيرها :

وفي هذا الحال ، لا بد من تقديم الدليل اللفظي وما هو برتبته على غيره من الأدلة لما سبق من بيان حكومته على غيرها من الأصول ، ما لم يكن بعض هذه الأصول مزيلا لموضوعها ، كما هو الشأن في الاستصحابات الموضوعية بالنسبة إلى بعض الأدلة اللفظية.

٢ ـ الاستحسان والعرف :

وينتظم فيه ما أخذ في الاستحسان من رجوعه إلى العرف كالاستحسان في عقد الاستصناع «وهو عقد على معدوم وصح استحسانا لأخذ العرف به» وهذا النوع من الاستحسان من صغريات مسألة «العرف» وحجيته ، وسيأتي أنه لا يكون حجة ودليلا إلا إذا وصل الحكم الّذي يقوم عليه إلى زمن المعصومين وأقر

٣٥٧

من قبلهم ، وعندها يكون إقرار المعصوم هو الدليل لا الاستحسان العرفي وإقرار المعصوم من السنة كما مر.

٣ ـ الاستحسان والمصلحة :

ويدخل ضمن هذا النوع ما يرجع منه إلى إدراك العقل لمصلحة توجب جعل حكم من الشارع له على وفقها ، وهذا ما يرجع إلى «الاستصلاح» وسيأتي الحديث عنه في مبحث «المصالح المرسلة» (١) وتشخيص ما يصلح للحجية منه وعدّه في مقابله لا وجه له ، وسيأتي إرجاع المصالح المرسلة إلى صغريات حجية العقل وانها ليست من الأصول القائمة بذاتها.

٤ ـ الاستحسان وبعض الحالات النفسيّة :

وينتظم فيه من تعاريف الاستحسان أمثال قولهم : «دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه».

ومثل هذا النوع من الاستحسان لا يمكن عده من مصادر التشريع لكونه عرضة لتحكم الأهواء فيه بسبب من عدم ذكر الضوابط له ، حتى في أنفس المستحسنين كما هو الفرض ، على أنه لا دليل عليه اللهم إلا أن يدعي بعض أصحابه حصول القطع منه أحيانا ، وربما كانت وجهة نظر القائلين «بالذوق الفقهي» تلتقي هذا النوع من الاستحسان ، إلا أن حجيته مقصورة على مدعي القطع به من الفقهاء ومقلديهم خاصة ، وهي ليست من القواعد المحددة ليمكن أن تكون أصلا قائما برأسه كسائر الأصول ، وما ذكر له من الأدلة لا يصلح لإثبات ذلك فلا بدّ من استعراضها جميعا ومناقشتها.

__________________

(١) راجع : ص ٣٥٩ وما بعدها من هذا الكتاب.

٣٥٨

حجيته :

وقد استدلوا على حجية الاستحسان بعدة أدلة ، بعضها من الكتاب وبعضها الآخر من السنة والثالث الإجماع.

أدلتهم من الكتاب :

وأهمها :

١ ـ قوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(١).

٢ ـ قوله تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)(٢).

بتقريب انه تعالى مدحهم على اتباع أحسن ما يستمعونه من القول في الآية الأولى ، وألزمهم باتباع أحسن ما أنزل إليهم من ربهم في الآية الثانية ، والمدح والإلزام أمارة جعل الحجية له.

ويرد على الاستدلال بهاتين الآيتين ونظائرهما :

١ ـ ان هذه الآيات استعملت لفظة (الأحسن) في مفهومه اللغوي ، وهو أجنبي عما ذكروه لها من المعاني الاصطلاحية ، ولو سلم فعلى أيها ينزل ليصلح للدليلية عليه؟ مع أنها متباينة وليس بينها قدر جامع ، بل لا يمكن تصوره إلا بضرب من التعسف كما سبقت الإشارة إليه ، وحمله على بعضها دون بعض مصادرة واضحة.

نعم ، القائلون بأن الاستحسان هو الأخذ بأقوى الدليلين يمكنهم التمسك بهذه الآيات.

٢ ـ ان الآية الأولى وان مدحت هؤلاء المستمعين على اتباع أحسن الأقوال ، إلا أنها افترضت ان هناك أقوالا بعضها أحسن من بعض وترجيح بعض الأقوال

__________________

(١) سورة الزمر : الآية ١٨.

(٢) سورة الزمر : الآية ٥٥.

٣٥٩

على بعض إذا كانت صادرة من شارع ، نظرا لأهميتها ـ كما هو مقتضى التعبير عنها بكونها أحسن ـ انما هو من شئون الكتاب والسنة.

وقد سبق ان قلنا ان ترجيح دليل لفظي على دليل عند المزاحمة أو المعارضة يعود في واقعه إلى تعيين الحجة الفعلية من بين الأقوال ، فهو راجع إليها ، فعد الاستحسان دليلا في مقابلها ـ بأمثال هذه الآيات ـ لا يتضح وجهه ، ومن الواضح ان الأخذ بأقوى الدليلين لا يتعدى الأخذ بأحدهما فهو ليس دليلا في مقابلهما.

وما يقال عن هذه الآية ، يقال عن الآية الأخرى مضافا إلى أنها اعتبرت اتباع الأحسن في خصوص ما أنزل عليهم ، لأن الأحسن بعض ما أنزل ـ بحكم إضافته إلى ما ـ فإثبات ان الاستحسان مما أنزل أو مما لم ينزل ، لا يرجع تعيينه إلى هذه الآية لبداهة ان القضية لا تثبت موضوعها.

٣ ـ ان الآيتين أجنبيتان عن عوالم جعل الحجية للاستحسان أو غيره لأنهما غير واردتين لبيان هذه الجهة ، ولذا لو بدلت لفظة الأحسن بلفظة أنهم يعملون بالاستحسان في مجالات الاستنباط لا يستقيم المعنى بحال.

أدلتهم من السنة :

وقد استدلوا منها بما روي عن عبد الله بن مسعود من أنه قال : «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» (١) ويرد على الاستدلال بها :

١ ـ انها موقوفة على ابن مسعود ولم يروها أحد عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، وربما كانت كلاما له لا حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع هذا الاحتمال لا تصلح للدليلية أصلا.

__________________

(١) إبطال القياس والرّأي : ص ٥٠.

(٢) المصدر السابق (الهامش).

٣٦٠