الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

لنقاش جذري لما سبق أن قلنا : من أن حجيته يقتضي ان تكون من الضروريات العقلية ، وإنما الخلاف الجذري في الطرق والمسالك الكاشفة عن توفر العلة في الأصل والفرع.

والدليل الوارد لجعل الحجية لأصل الدليل لا يتعرض إلى طرق إثباته ، فكما أن الأدلة الدالة على أن السنة النبوية من مصادر التشريع لا تتكفل جعل الحجية لخبر الواحد الحاكي لها ، بل نحتاج في الاستدلال عليه إلى أدلة أخرى ، فكذلك هنا.

٣ ـ قوله تعالى : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ)(١).

وقد قرب دلالتها صاحب مصادر التشريع بقوله : «إن الله عزوجل استدل بالقياس على ما أنكره منكر والبعث ، فإن الله عزوجل قاس إعادة المخلوقات بعد فنائها على بدء خلقها وإنشائها أول مرّة ، لإقناع الجاحدين بأن من قدر على بدء خلق الشيء قادر على أن يعيده ، بل هذا أهون عليه ، فهذا الاستدلال بالقياس إقرار لحجية القياس وصحة الاستدلال به ، وهو قياس في الحسيات ، ولكنه يدل على أن النظير ونظيره يتساويان» (٢).

والجواب على هذا التقريب :

أ ـ ان هذه الآية لو كانت واردة لبيان الإقرار على حجية القياس ، لصح ان يعقب بمضمون هذا الإقرار ، ولسلم الكلام ، كأن نقول : قل يحييها الّذي أنشأها أول مرّة ، فقيسوا النبيذ على الخمر ، والذرة على البر ، ولكم بعد ذلك ان تقدروا قيمة هذا النوع من الكلام ـ لو صدر ـ من وجهة بلاغية ، وهل يتسع هذا النوع من

__________________

(١) سورة يس : الآيتان ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) انظر : ص ٢٧ من مصادر التشريع.

٣٢١

الكلام لمثله؟

ب ـ ولو سلّم ذلك ـ جدلا ـ فالآية غاية ما تدلّ عليه ، هو مساواة النظير للنظير ، أي جعل الحجية لأصل القياس لا لمالكه ، والدليل الّذي يتكفل حجية الأصل لا يتكفل بيان ما يتحقق به كما سبق تقريبه.

ج ـ ولو سلمنا أيضا دلالته على حجية مسالكه ، فهي لا تدل عليها بقول مطلق إلا بضرب من القياس ، لأن الآية إنما وردت في قياس الأمور المحسوسة بعضها على بعض ، فتعميمها إلى الأمور الشرعية موقوف على السبر والتقسيم أو غيره فيلزم الدور ، وقول خلاف : «إنها تدل على أن النظير ونظيره يتساويان» غير صحيح على إطلاقه ، إذ غاية ما تدل عليه هي مساواة النظير للنظير في الأمور التكوينية ، فتعميمها للغير لا يتم إلا بضرب من القياس الظني.

٤ ـ قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم (١) ، وهي التي استدل بها الشافعي على حجيته حيث قال : «فهذا تمثيل الشيء بعدله وقال : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وأوجب المثل ، ولم يقل أيّ مثل ، فوكل ذلك إلى اجتهادنا ورأينا ، وأمر بالتوجّه إلى القبلة بالاستدلال ، وقال : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(٢). انتهى» (٣).

والجواب : إن الشارع وان ترك لنا أمر تشخيص الموضوعات ، إلا أنه على وفق ما جعل لها الشارع أو العقل من الطرق ، وكون القياس الظني من هذه الطرق كالبينة هو موضوع الخلاف ، والآية أجنبية عن إثباته.

ثم ان عد تشخيص صغريات الموضوع أو المتعلق من القياس لو أراد الشافعي ذلك في كلامه ، لا يعرف له وجه ، لأن القياس بجميع تعاريفه لا ينطبق عليه ،

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٩٥.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٥٠.

(٣) إرشاد الفحول : ص ٢٠١.

٣٢٢

فتشخيص ان هذا مثل أو ان هذه قبلة بالطرق الاجتهادية انما هو من تحقيق المناط بمعناه الأول ، وقد قلنا : انه ليس بقياس بالبرهان الّذي سبق أن ذكرناه.

٥ ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ)(١) ، وقد استدل بها ابن تيميّة على القياس بتقريب «ان العدل هو التسوية ، والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم ، فيتناوله عموم الآية» (٢) وقد أجاب عنه الشوكاني : «بمنع كون الآية دليلا على المطلوب بوجه من الوجوه ، ولو سلمنا لكان ذلك في الأقيسة التي قام الدليل على نفي الفارق فيها لا في الأقيسة التي هي شعبة من شعب الرّأي ، ونوع من أنواع الظنون الزائفة ، وخصلة من خصال الخيالات المختلّة» (٣).

والأنسب ان يقال : ان هذه لو تمت دلالتها على الأمر بالقياس بما أنه عدل فهي إنما تدل على أصل القياس لا على مسالكه المظنونة ، والكلام إنما هو في القياس المعتمد على استنباط العلل بالطرق السالفة.

وهذه المؤاخذات كلاّ أو بعضا واردة على كل ما استدل به من الآيات من أمثال : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(٤) ، (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ)(٥) ، فلا نطيل الكلام بعرض ما ذكروه لها من كيفيات الاستدلال والمناقشة ، وهي تتضح من جملة ما عرضناه في أجوبة الاستدلال بهذه الآيات.

أدلتهم من السنة :

أما ما استدل به من السنة ، فروايات تكاد تنتظم في طائفتين تتمثل :

أولاهما : بحديث معاذ بن جبل وما يعود إليه من الأحاديث ، ونظرا لما أعطاه

__________________

(١) سورة النحل : الآية ٩٠.

(٢) إرشاد الفحول : ص ٢٠٢.

(٣) المصدر السابق.

(٤) سورة إبراهيم : الآية ١١.

(٥) سورة النساء : الآية ٨٣.

٣٢٣

مثبتو القياس من أهمية لهذا الحديث ، فإننا سنحاول ان نطيل التحدث فيه نسبيا.

والحديث كما رواه «أحمد (١) ، وأبو داود (٢) ، والترمذي (٣) ، وغيرهم ، من حديث الحارث بن عمر بن أخي المغيرة بن شعبة ، قال : حدثنا ناس من أصحاب معاذ عن معاذ قال : لما بعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليمن ، قال : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال : أقضي بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال : فبسنة رسول الله ، قال : فان لم تجد في سنة رسول الله ، ولا في كتاب الله؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو ، قال فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدره ، وقال : الحمد لله الّذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله» (٤).

وخير ما يقرب به هذا الحديث ـ من وجهة دلالية ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقر الاجتهاد بالرأي في طول النص بإقراره لاجتهاد معاذ ، وهو شامل بإطلاقه للقياس ، ويرد على الاستدلال بالرواية :

١ ـ انها ضعيفة بجهالة الحارث بن عمرو ، حيث نصوا على أنه مجهول وبإغفال راويها لذكر من أخذ عنهم الحديث من الناس من أصحاب معاذ.

«قال في عون المعبود : وهذا الحديث أورده الجوزقاني في الموضوعات وقال : هذا حديث باطل رواه جماعة عن شعبة ، وقد تصفحت هذا الحديث في أسانيد الكبار والصغار ، وسألت من لقيته من أهل العلم بالنقل عنه ، فلم أجد له طريقا غير هذا ، والحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة مجهول ، وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفون ، ومثل هذا الإسناد لا يعتمد عليه في أصل الشريعة ، فان قيل : ان الفقهاء قاطبة أوردوه واعتمدوا عليه ، قيل : هذا طريقه والخلف قلد

__________________

(١) مسند أحمد ، باب حديث معاذ بن جبل ، ح ٢١٥٩٥.

(٢) سنن أبي داود ، كتاب الأقضية ، باب اجتهاد الرّأي في القضاء ، ح ٣٥٩٢.

(٣) صحيح الترمذي ، كتاب الأحكام ، باب ما جاء في القاضي كيف يحكم ، ح ١٣٢٧.

(٤) إرشاد الفحول : ص ٢٠٢.

٣٢٤

فيه السلف ، فان أظهروا طريقا غير هذا مما يثبت عند أهل النقل رجعنا إلى قولهم ، وهذا مما لا يمكنهم البتة» (١).

وما أدري من من السلف تلقاه بالقبول غير مثبتي القياس؟! وهم لا يصلحون لتقوية حديث هذا سنده لكونهم من المتأخرين ، وأخذهم به لا يكشف عن قوة في سنده خفيت علينا عادة وبخاصة وقد أوردوه كغيره من الأحاديث دليلا على الأخذ بالقياس ، فلو كان مجرد أخذهم به يوجب تقويته له ، لكان حال ما أخذوا به من الأحاديث الضعيفة حاله في التقوية وهو ما لم يدّعوه لها على الإطلاق.

٢ ـ إن هذا الحديث غير وافي الدلالة على ما سبق لإثباته ، وذلك :

أ ـ لأن إقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعاذ ـ لو صحّت الرواية ـ ربما كان لخصوصية يعرفها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه تبعده عن الوقوع في الخطإ ومجانبة الواقع ، وإلا لما خوله هذا التخويل المطلق في استعمال الرّأي ، ومن عدم الاستفصال والاستفسار عن أقسام الرّأي التي يستعملها في مجالات اجتهاده مع كثرة ما في هذه الأقسام من الآراء التي سلّم عدم حجيتها حتى من قبل القائلين بالقياس ندرك هذه الخصوصية ولا أقل من احتمالها.

ومع هذا الاحتمال لا يتم الاستدلال به إلا بعد دفع الخصوصية ، وهي لا تدفع إلا بضرب من القياس الظني ، ولزوم الدور به في هذا النوع من الاستدلال واضح بداهة ان دلالة الحديث تكون موقوفة على حجية هذا النوع من القياس ، فإذا كانت حجية هذا النوع من القياس موقوفة عليها لزم الدور.

ب ـ ان هذا الحديث وارد في خصوص باب القضاء ، وربما اختص باب القضاء بأحكام لا تسري إلى عالم الإفتاء ، لما تقتضيه لوازم فض الخصومات من استعمال بعض العناوين الثانوية أحيانا ، فتعميمه إلى عوالم الإفتاء والعمل

__________________

(١) هامش الأحكام السلطانية : ص ٤٦.

٣٢٥

الشخصي للمجتهد موقوف على إلغاء هذه الفوارق ولا يكون إلا من طريق السبر والتقسيم ، أو غيرها من مسالك العلة المظنونة ، فيلزم الدور أيضا بنفس التقريب السابق.

ج ـ إننا نعلم ومعنا مثبتو القياس أن هذا الحديث معارض بما دلّ على الردع عن إعمال الرّأي (١) ، ولا أقل من تخصيصه بخروج الآراء الفاسدة جمعا بين هذه الأدلة ـ على طريقة أخذ بعضهم بالجموع التبرعية ـ أو أخذا بالضرورة من أن هذا الحديث لم يبق على عمومه ، بالنسبة إلى كل رأي.

فإذا علمنا بأن عندنا نوعين من الرّأي أحدهما فاسد ، وهو المردوع عنه ، والآخر صحيح ، وهو الّذي أقر عليه معاذ ، فمع الشك بحجية القياس الظني ـ والمفروض أننا شاكّون ، ولذلك احتجنا إلى هذه الأدلة ـ لا يصح الرجوع فيها إلى هذا الحديث ، وإلا لزم التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية بداهة أن الحكم في القضايا الحقيقية لا يمكن أن يثبت موضوعه ، فالدليل الدالّ على حجية الرّأي الصحيح لا يشخص لك أن هذا الرّأي صحيح بل عليك بتشخيصه من الخارج وتطبيق الحكم عليه ، وإذن فالقياس الظني لا يكون مدلولا للحديث حتى يثبت من الخارج أنه من القياس الصحيح ، ومع إثباته لا نحتاج بعد إلى هذا الحديث لنتمسك به كدليل على الحجية.

وقد تكون أصرح من هذه الرواية ما أثر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنه قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري : «بم تقضيان؟ فقالا : إن لم نجد الحكم في الكتاب ولا السنة ، قسنا الأمر بالأمر ، فما كان أقرب إلى الحق عملنا به» (٢) ، «حيث صرّحوا بالقياس والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقرهما عليه ، فكان حجة» (٣).

__________________

(١) راجع : إبطال القياس ، لابن حزم : ص ٥٦.

(٢) الأحكام للآمدي : ٣ ـ ٧٧.

(٣) المصدر السابق.

٣٢٦

ولكن هذه الرواية ـ بالإضافة إلى ضعفها سندا ، وعدم طبعيتها في صدور الجواب المشترك عنهما بلسان واحد في آن واحد ـ وكأنهما كانا على اتفاق مسبق بالنسبة له ـ يرد عليها الإشكالان السابقان على رواية معاذ من لزوم الدور فيهما لتوقفهما على دفع احتمال الخصوصية فيهما من ناحية ، ودفع احتمال خصوصية القضاء من ناحية ثانية بطريق القياس الظني.

ومع الغضّ عن ذلك وافتراض تماميتها ، فإن مقتضى لسانها جعل الحجية لأصل القياس لا لمسالكه المظنونة التي هي موضع النزاع.

وقد قلنا فيما سبق : ان الدليل الدالّ على أصل الشيء لا يدل بنفسه على الطرق المثبتة له.

ثانيهما : ما ورد من الأحاديث المشعر بعضها باستعمال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقياس ، وبما أن عمله حجة باعتباره سنة واجبة الاتباع ، فان هذه الطائفة من الأحاديث دالة على حجية القياس.

والأحاديث التي ذكروها كثيرة ، نجتزئ بذكر بعضها ، ثم نعقب عليها بما يصلح ان يكون جوابا عن الجميع.

منها : حديث الجارية الخثعمية أنها قالت : «يا رسول الله ، إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا زمنا لا يستطيع ان يحج ، إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته ، أكان ينفعه ذلك؟ قالت : نعم ، قال : فدين الله أحقّ بالقضاء» (١).

ووجه الاحتجاج به كما قربه الآمدي «انه ألحق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه ، وهو عين القياس» (٢).

ومنها : الحديث الّذي جاء فيه «انه قال لأم سلمة وقد سئلت عن قبلة الصائم :

__________________

(١) الأحكام للآمدي : ٣ ـ ٧٨.

(٢) المصدر السابق.

٣٢٧

هل أخبرته أني أقبّل وأنا صائم» (١) وإنما ذكر ذلك فيما يقول الآمدي تنبيها على قياس غيره عليه.

ومنها : قوله لما سئل عن بيع الرطب بالتمر : «أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا : نعم ، فقال : فلا إذن» (٢).

والجواب على هذه الأحاديث ككل ومعها غيرها مما لم نذكره من أحاديث الباب:

١ ـ إن هذه الأحاديث لو كانت واردة في مقام جعل الحجية للقياس ، فغاية ما يستفاد منها جعل الحجية لمثل أقيسته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما كان معلوم العلة لديه كما هو مقتضى ما تلزم به رسالته من كونه لا يعدو في تشريعاته ما أمر بتبليغه من الأحكام.

ومثل هذا العلم بالحكم لا يتوفر إلا عند العلم بالعلة في الفرع ، على ان نسبة ما يصدر منه للقياس موقوف على إمكان صدور الاجتهاد منه ، أما إذا نفينا ذلك عنه ، وقصرنا جميع تصرفاته على خصوص ما يتلقاه من الوحي (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(٣) فتشبيه قياساتنا بقياساته وإثبات الحجية لها على هذا الأساس قياس مع الفارق الكبير ، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى هذا الفارق في بعض خطبه بقوله : «يا أيها الناس ، ان الرّأي إنما كان من رسول الله مصيبا ، لأن الله كان يريه ، وإنما هو منا الرّأي والتكلف» (٤).

ومع هذا الفارق ، كيف يمكن لنا أن نسري الحكم إلى قياساتنا المظنونة؟ أليست صحة هذه التسرية إليها مبنية على ضرب من القياس المظنون ، وهو

__________________

(١) الأحكام للآمدي : ٣ ـ ٧٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) سورة النجم : الآية ٤.

(٤) إبطال القياس لابن حزم : ص ٥٨.

٣٢٨

موضع الخلاف؟

والقياس المعلومة علته تعبّدا أو وجدانا مما لا ينبغي أن يكون موضعا لخلاف ، كما سبق الحديث فيه.

٢ ـ إن هذه الأنواع من الأحاديث ليست من القياس في شيء ، فرواية الخثعمية واردة في تحقيق المناط من قسمه الأول ، أي تطبيق الكبرى على صغراها.

فالكبرى ـ وهي مطوية ـ : «كل دين يقضى» هي في واقعها أعم من ديون الله وديون الآدميين ، وقد طبقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دين الله لأبيها ، فحكم بلزوم القضاء ، وأين هذا من القياس المصطلح؟ على أنّا لو سلمنا أنه منه ، فهو من قبيل قياس الأولوية بقرينة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فدين الله أحق» ، أي أولى بالقضاء ، وهو ليس من القياس موضع النزاع في شيء كما مرّ تحقيقه.

وما يقال عن رواية الخثعمية ، يقال عن الرواية الثالثة حيث نقح صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسؤاله صغرى لكبرى كلية ، وهي كلما ينقص لا يجوز بيعه ـ لو أمكن نسبة الجهل بالموضوعات إليه لتصحيح مثل هذا السؤال منه ـ اللهم إلا أن يكون سؤاله هذا من قبيل ما نبّه عليه الشاعر :

وكم سائل عن أمره وهو عالم

والرواية الثانية ، لا أعرف كيف أقحمت في هذا المجال مع انها صريحة ـ بحكم ما فيها من استفسار وسؤال لأم سلمة ـ في ورودها لتنبيهها على لزوم ذكر السنّة النبوية لأمثال هذه السائلة لتأخذ بها ، والأخذ بالسنة ليس من القياس في شيء ، على أن لسان الرواية يأبى نسبة مضمونها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو أسمى من أن يشهر بشيء يعود إلى شئونه وعوالمه الخاصة مع نسائه ، وحسبه من تبليغ الحكم غير هذه الطريق.

٣٢٩

استدلالهم بالإجماع :

والإجماع المحكي هنا هو إجماع الصحابة ، وقد اعتبره الآمدي (١) أقوى أدلتهم ، وكذلك جملة من الأعلام «قال ابن عقيل الحنبلي : وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله وهو قطعي ، وقال الصفي الهندي : دليل الإجماع هو المعلول عليه لجماهير المحققين من الأصوليين ، وقال الرازي في المحصول : مسلك الإجماع هو الّذي عول عليه جمهور الأصوليين» (٢) ، وأمثال هؤلاء في التصريح بأهمية الاستدلال به ، كثيرون.

وتقريب الاستدلال به هو : «أن الصحابة اتفقوا على استعمال القياس في الوقائع التي لا نصّ فيها من غير نكير من أحد منهم» (٣).

وتوجيه اتفاقهم ـ مع أنه لم ينقل ذلك عنهم تاريخيا ـ هو أن آحادا منهم ، أفتوا استنادا إلى القياس ، وسكت الباقون فلم ينكروا عليهم ، وسكوتهم يكوّن إجماعا ، أو ان بعضهم صرح بالأخذ بالرأي من دون إنكار عليه ، ومن ذلك قول أبي بكر في الكلالة : «أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وان يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه» (٤).

ومنه : «حكم أبي بكر بالرأي في التسوية في العطاء ، حتى قال له : كيف تجعل من ترك دياره وأمواله وهاجر إلى رسول الله كمن دخل في الإسلام كرها؟ فقال أبو بكر : إنما أسلموا لله ، وأجورهم على الله ، وإنما الدنيا بلاغ ، وحيث انتهت النوبة إلى عمر فرق بينهم» (٥).

__________________

(١) راجع : الأحكام : ٣ ـ ٨١.

(٢) إرشاد الفحول : ص ٢٠٣.

(٣) الأحكام : ٣ ـ ٨١.

(٤) روضة الناظر : ص ١٤٨ ، والكلالة ما عدا الوالد والولد.

(٥) الأحكام : ٣ ـ ٨١.

٣٣٠

ومنه قول عمر : «أقضي في الجد برأيي ، وأقول منه برأيي» (١).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه : «سأقول فيها بجهد رأيي ، فإن كان صوابا فمن الله وحده ، وان كان خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريء» (٢).

ولم يرد في رواية عن أحدهم لفظ الأخذ بالقياس إلا نادرا ، كقول عمر في رسالته إلى أبي موسى الأشعري : «اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور» (٣).

وهي رسالة قال عنها ابن حزم : إنها موضوعة مكذوبة عليها ، وراويها «عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه ، وهو ساقط بلا خلاف ، وأبوه أسقط منه ، أو من هو مثله في السقوط» (٤).

والنقاش في هذا الإجماع واقع صغرى وكبرى ، أما الصغرى فبإنكار وجود مثله عادة لأن مثل هذه الروايات ـ لو تمت دلالتها على القياس ـ فإنما هي صادرة من أفراد من الصحابة امام أفراد ، فكيف اجتمع عليها الباقون منهم ، واتفقوا على فحواها؟ ولعل الكثير منهم لم يكن في المدينة عند صدورها.

ومن المعلوم ان ميادين الجهاد والبلدان المفتوحة والثغور وغيرها ، أخذت كثيرا من الصحابة ولاة وعمالا وجندا وقادة ، فكيف عرف اتفاقهم على هذه المضامين حتى كونوا إجماعا ، ومن هو الجامع لكلمتهم؟ وما يدرينا ان بعضهم سمع بشأن هذه الأحكام وأنكرها ولم يصل إلينا؟ ومجرد عدم العلم بإنكاره لعدم النقل لا يخلق لنا علما بالعدم ، وهو الّذي يفيدنا في الإجماع لتصحيح نسبة السكوت إليهم المستلزم للاطلاع وعدم الإنكار.

وأما المناقشة من حيث الكبرى ، فبالمنع من حجية مثل هذا الإجماع ، وذلك

__________________

(١) الأحكام : ٣ ـ ٨١.

(٢) المحلى : ١ ـ ٦١.

(٣) المصدر السابق : ١ ـ ٥٩.

(٤) المصدر السابق.

٣٣١

لأمور :

١ ـ ان السكوت ـ لو شكل إجماعا ـ لا يدل على الموافقة على المصدر الّذي كان قد اعتمده المفتي أو الحاكم بفتياه أو حكمه ، وبخاصة إذا كان هو نفسه غير جازم بسلامة مصدره ، كقول أبي بكر السابق : «أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان». وكذلك قول ابن مسعود المتقدم ، إذ لو كانا عالمين بسلامة مصدرهما وصحته لقيام الدليل القطعي على حجيته لديهما ، لما صحّ نسبة استنادهما عليه حتى مع الخطأ إلى الشيطان.

وأصرح من ذلك ما ذكره عمر في هذا المجال حيث قال : «اتهموا الرّأي على الدين ، فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول الله برأيي أجتهد ولا آلو وذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب ، فقال رسول الله : اكتبوا باسم الله الرحمن الرحيم ، فقال : تكتب باسمك اللهم ، فرضي رسول الله وأبيت ، فقال : يا عمر تراني قد رضيت وتأبى» (١).

على أن منشأ السكوت قد يكون هو المجاملة أو الخوف أو الجهل بالمصدر ، فدفع هذه المحتملات وتعيين الإيمان بالمصدر وهو حجية الرّأي من بينها لا يتم إلا بضرب من القياس المستند إلى السبر والتقسيم أو غيره من مسالك العلة ، وهو موضع الخلاف ، ولا يمكن إثباته بالإجماع للزوم الدور بنفس ما مر من التقريب في نظائره من الأدلة السابقة.

٢ ـ ان هذا الإجماع معارض ـ لو تم ـ بإجماع مماثل على الخلاف ادعاه بعضهم (٢) ، ويمكن تقريبه بمثل ما قربوا به ذلك الإجماع من أن الصحابة أنكروا على العاملين بالرأي والقياس ، أمثال قول أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «لو كان الدين

__________________

(١) ابن حزم في إبطال القياس : ص ٥٨.

(٢) المحلى : ١ ـ ٥٩.

٣٣٢

بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه» (١).

وفي رواية أخرى «لو كان الدين بالقياس لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره» (٢).

وقول ابن مسعود : «إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرّم الله ، وحرمتم كثيرا مما حلل الله» (٣).

وقول ابن عباس : «إياكم والمقاييس ، فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس» (٤) ، إلى عشرات من أمثالها من الروايات ، وهي معروضة في كتاب أعلام الموقعين ، وكتاب إبطال القياس ، وغيرهما من الكتب التي عنيت بالإضافة في أمثال هذه المواضيع. وسكوت الصحابة بنفس تقريبهم السابق يكوّن إجماعا على إبطاله.

وقد حاول غير واحد من مثبتي القياس ان يوفقوا بين هذه المضامين وسابقاتها بحمل هذا النوع من الروايات النافية «على ما كان من ذلك صادرا عن الجهال ، ومن ليس له رتبة الاجتهاد ، وما كان مخالفا للنص ، وما كان ليس له أصل يشهد بالاعتبار ، وما كان على خلاف القواعد الشرعية ، وما استعمل من ذلك فيما تعبّدنا فيه بالعلم دون الظن جمعا بين النقلين» (٥).

وهذه الجموع كلها جموع تبرعية ، لا تعتمد على ظهور عرفي يقتضيها ، وكل جمع لا يقتضيه الظاهر لا يسوغ الرجوع إليه ، وإلا لما تعذر جمع بين أمرين مختلفين ، فإذا ورد ـ مثلا ـ حديث يأمر بوجوب الصلاة وآخر يحرمها ، فإن لنا ان

__________________

(١) المحلى : ١ ـ ٦١.

(٢) الآمدي في الأحكام : ٣ ـ ٨٣.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق : ٣ ـ ٨٥.

٣٣٣

نجمع بينهما ـ على هذا المبنى ـ بحمل الأمر على خصوص الصلاة في الليل ، والدليل المحرّم على خصوص الصلاة في النهار ، أو حمل إحداهما على صلاة الشاب ، والأخرى على صلاة الشيخ ، وهكذا ...

والحق أن الجمع بين الأدلة ـ إذا لم يكن له ظاهر من نفس الأدلة أو ما يحيط بها من أجواء وملابسات ـ لا يسوغ الركون إليه.

ومجرد كونها منقولة عمن نقلنا عنهم القول بالرأي والقياس ، لا يستدعي هذا النوع من الجموع. والقاعدة تقتضي الحكم بالتساقط عند تحكم المعارضة.

ودعوى ـ أن الشخص لا يتناقض مع نفسه ، فيذهب إلى القياس تارة وإلى عدمه أخرى ولازمها المدعى تكذيب الطائفة الثانية من الأحاديث ـ بعيدة عن تفهم طبيعة الاجتهاد ، وما أكثر ما تتبدل آراء المجتهدين فيعدلوا عن فتاوى سبق لهم فيها رأي.

وما الّذي يمنع من وقوع ذلك من الصحابة مع الإيمان بعدم عصمتهم؟ بل إن مقتضى العدالة ان ينبهوا على أخطائهم بعد تبين وجه الخطأ فيها لئلا يتكرر وقوع خطأ العاملين بها من أتباعهم.

على أن بعض هذه الروايات صريحة في تسجيل الخطأ على أنفسهم لعملهم بالرأي كما سبق في رواية عمر «اتهموا الرّأي على الدين».

ومن تتبع هذه الفتاوى التي يبدو أن أصحابها عملوا فيها بالرأي ، يجد الكثير منها جاريا على خلاف النصوص لا ضمن إطارها (١) كما يراد حملها عليه من قبل بعض المؤلفين.

ومع إمكان وقوع الاختلاف منهم والتناقض مع أنفسهم لا ملجأ لتكذيب

__________________

(١) راجع : كتاب «النص والاجتهاد» للسيد شرف الدين ، وكتاب «الغدير» للأميني ، تجد فيهما نماذج كثيرة لذلك.

٣٣٤

إحدى الطائفتين ، على أن تكذيب إحداهما ليس بأولى من تكذيب الثانية للزوم الترجيح بلا مرجح ، وما ذكر من المرجحات لا يصلح لذلك كما سبق بيانه.

٣ ـ ومع الغضّ عن تحكم المعارضة والأخذ بما ذكروه من الجمع بينها وبين الطائفة الأولى بحمل الثانية على الردع عن القياس الفاسد ، فإن مقتضى هذا الجمع ، هو حمل الطائفة الأولى على القياس الصحيح.

فإذا شككنا في حجية القياس الظني ، فهل نتمكن من إثباته بأحد الإجماعين؟ وهل ذلك إلا من قبيل إثبات القضية لموضوعها؟ وهو مما تأباه جميع القضايا الحقيقية كما سبق ذكره أكثر من مرة.

٤ ـ ومع تسليم حجية هذا النوع من الإجماع والتغاضي عن كل ما أورد عليه ، إلا أن ما قام عليه الإجماع هو نفس القياس لا مسالكه المظنونة ، إذ ليس في هذه الفتاوى ما يشير إلى الأخذ بمسلك من هذه المسالك موضع الخلاف ليصلح للتمسك به على إثباته ، والإجماع ـ كما هو التحقيق فيه ـ من الأدلة اللبيّة التي يقتصر فيها على القدر المتيقن ، إذ لا إطلاق أو عموم لها ليصح التمسك به ـ لو أمكن ـ والقدر المتيقن هو خصوص ما كان معلوم العلة منه فلا يصح التجاوز عنه إلى غيره.

وهذه المناقشات إنما تحسن وتكون ذات جدوى إذا صحّ صدور هذه الروايات على اختلافها ـ في النفي والإثبات ـ من قبل أصحابها بهذه الألفاظ : (الرّأي ، القياس) وبما لها من مداليل ومسالك وفق ما حدودها بعد أكثر من قرن.

ولقد أنكر كل من الأستاذ سخاو ، والدكتور جولد تسهير ، أن يكون القياس بمفهومه المحدد لدى المتأخرين كان مستعملا لدى الصحابة (١).

ورد عليهما الدكتور محمد يوسف موسى بقوله : «حقا ان الرّأي في هذه الفترة

__________________

(١) تاريخ الفقه الإسلامي : ص ٢٦.

٣٣٥

من فترات تاريخ الفقه الإسلامي ليس هو القياس الّذي عرف فيما بعد في عصر الفقهاء وأصحاب المذاهب الأربعة المشهورة ، ولكن الرّأي الّذي استعمله بعض الصحابة لا يبعد كثيرا عن هذا القياس ان لم يكنه ، وان كانوا لم يؤثر عنهم في العلة ومسالكها ، وسائر البحوث التي لا بدّ منها لاستعمال القياس شيء مما عرفناه في عصر أولئك الفقهاء» (١).

وما أدري كيف علم ان الرّأي الّذي استعملوه لا يبعد عن قياس المتأخرين ان لم يكنه إذا كان لم يؤثر عنهم شيء عن العلة ومسالكها وسائر بحوثها؟ وإذا صح ما يقوله الدكتور موسى من أنه لم يؤثر عنهم فيها شيء ـ وهو صحيح ـ في حدود ما تقتضيه طبيعة زمنهم ، وفي حدود ما قرأناه من مأثوراتهم ، فكيف يتم لنا الإجماع منهم على حجية السبر والتقسيم وغير السبر والتقسيم من المسالك المظنونة؟

والّذي يبدو من مجموع ما تتبعت من أسانيد بعض الروايات ، المتعرضة للرأي والقياس على اختلافها في النفي والإثبات ، شيوع الضعف والوهن فيها مما يدل على ان الكثير منها كان وليد الصراع الفكري بين مثبتي القياس ونفاته من المتأخرين ، وما كانت للقدامى من أبناء صدر الإسلام وبخاصة كبار الصحابة فيها يد تذكر ، وليس في هذا ما يمنع من استعمال كلمة رأي وورودها على ألسنتهم ، ولكن في حدودها الغامضة غير المفصحة ، فالحق ـ فيما يبدو ـ هو ما ذكره الأستاذ سخاو وجولد تسهير في هذا المجال.

أدلتهم من العقل :

وقد صوروها بصور عدة تعود في أصولها إلى أربعة :

__________________

(١) تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد يوسف موسى : ص ٢٩.

٣٣٦

١ ـ ما ذكره خلاف من : «أن الله سبحانه ما شرع حكما إلا لمصلحة ، وأن مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام ، فإذا ساوت الواقعة المسكوت عنها الواقعة المنصوص عليها في علة الحكم التي هي مظنة المصلحة ، قضت الحكمة والعدالة أن تساويهما في الحكم تحقيقا للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع ، ولا يتفق وعدل الله وحكمته ان يحرم الخمر لإسكارها محافظة على عقول عباده ، ويبيح نبيذا آخر فيه خاصيّة الخمر وهي الإسكار ، لأن مآل هذا المحافظة على العقول من مسكر وتركها عرضة للذهاب بمسكر» (١).

وهذا الدليل إنما يتم ـ لو فرض له التمام ـ على خصوص مبنى العدلية في التحسين والتقبيح العقليين ، وإلا فأي ملزم للشارع المقدس ـ بحكم العقل ـ أن لا يخالف بين الحكمين ما دام لا يؤمن العقل بحسن أو قبح عقليين؟

ودعوى اتفاق غير العدلية من المسلمين مع العدلية في أن أحكامه لا تصدر إلا عن مصلحة أو مفسدة لا تجدي في تتميم حكم العقل ما دام هو لا يلزم بذلك ولا يؤمن به.

وموضع المفارقة في هذا الدليل ـ حتى على مبنى العدلية ـ هو ما أخذه في العلة من كونها مظنة المصلحة ، فالعقل لا يحكم بالمساواة بين الفرع وأصله في الحكم إذا لم يدرك المساواة بينهما في العلة المحققة للمصلحة لا التي هي مظنة تحقيقها ، وما هي علاقة ظنون المجتهدين بأحكام الله الواقعية ليتقيد بها الشارع المقدس في مقامات الجعل والتشريع وبخاصة على مبنى من ينكر التصويب؟

والحقيقة ان حكم العقل غاية ما يدل عليه هو حجية أصل القياس لا حجية مسالك علله وطرقها ، فمع المساواة في العلة التامة الباعثة على الحكم ، لا بد أن يتساوى الحكم ، أي مع إدراك العقل لمقتضى التكليف وشرائطه ، وكل ما يتصل به

__________________

(١) مصادر التشريع : ص ٢٩.

٣٣٧

لا بد ان يحكم بصدور حكمه على وفق ما يقتضيه ، لما قلناه من استحالة تخلف المعلول عن العلة التامة أو لزوم الخلف على اختلاف في معنى العلة سبق عرضه.

أما أن يحكم لمجرد ظنه بالعلة وتوفرها في الفرع فهذا ما لا يلزم به العقلاء أصلا.

نعم إذا ظن العقل بوجود العلة فقد ظن بوجود الحكم إلا ان مثل هذا الظن لا دليل على حجيته ، ما دامت طريقيته ليست ذاتية ، وحجيته ليست عقلية ، كما مرت البرهنة على ذلك في بحوث التمهيد تفصيلا.

٢ ـ ما ذكره الشهرستاني من أنا «نعلم قطعا ويقينا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد ، ونعلم قطعا انه لم يرد في كل حادثة نصّ ولا يتصور ذلك أيضا ، والنصوص إذا كانت متناهية وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى ، علم قطعا ان الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد» (١).

وهذا الاستدلال يبتني في تماميته على مقدمتين :

الأولى : دعوى تناهي النصوص وعدم تناهي الحوادث.

الثانية : دعوى أن ما يتناهى لا يضبط ما لا يتناهى.

والدعوى الأولى ليست موضعا لشك ولا شبهة ليطال فيها الكلام ، فالنصوص بالوجدان متناهية ، والحوادث بالوجدان أيضا غير متناهية.

ولكن الكلام في تمامية الدعوى الثانية وهي دعوى أن ما يتناهى لا يضبط ما لا يتناهى.

وذلك ان الّذي لا يتناهى هي الجزئيات لا المفاهيم الكلية ، والجزئيات يمكن ضبطها بواسطة كلياتها ، وقضايا الشريعة انما تتعرض للمفاهيم الكلية غالبا ، وهي كافية في ضبط جزئيات ما يجد من أحداث وبخاصة إذا ضم إليها ما يكتشفه العقل

__________________

(١) سلم الوصول : ص ٢٩٥.

٣٣٨

من أحكام الشرع على نحو القطع.

وما جعل لها من الطرق والأمارات والأصول المؤمّنة يغني عن اعتبار القياس بطرقه المظنونة كضرورة عقلية ، لا بد من اللجوء إليها وهي وافية بحاجات الناس على اختلاف عصورهم وبيئاتهم.

على أن حكم العقل هذا ـ لو تم ـ فهو لا يشير ولا يعين القياس المظنون فكيف يكون حجة فيه؟ لأن تعيينه أو غيره مما يحتاج إلى مقدمات أخرى وهي مفقودة في الدليل ، وستأتي الإشارة إليها في دليل الانسداد.

٣ ـ قولهم : «ان القياس دليل تؤيده الفطرة السليمة والمنطق الصحيح ، ويبني عليه العقلاء أحكامهم ، فمن نهي عن شراب لأنه سام يقيس بهذا الشراب كل سام ، ومن حرم عليه تصرف لأن فيه اعتداء وظلما لغيره ، يقيس بهذا كل تصرف فيه اعتداء وظلم لغيره ، ولا يعرف بين الناس اختلاف في أن ما جرى على أحد المثلين يجري على الآخر ، وان التفريق بين المتساويين في أساسه ظلم» (١).

وهذا الدليل ـ بعد الغض عما فيه من الخلط بين الفطرة السليمة وحكم العقل وبناء العقلاء ولكل منها منبع يستقى منه وهو يختلف عن البقية ـ انه لا يتعرض إلى أكثر من حجية أصل القياس لا طرقة المظنونة ، وحجية أصل القياس لا تقبل المناقشة كما سبق الحديث في ذلك.

ومن الواضح انه لا تلازم بين حرمة شيء وحرمة ما ظن وجود علتها فيه ، وان لم تكن موجودة واقعا لأن الظن بالعلية لا يسري إلى الواقع فيغيره عما هو عليه.

٤ ـ ما ذكر من ان حكم العقل بحجية مطلق الظن المبتني على مقدمات الدليل

__________________

(١) مصادر التشريع : ص ٢٩.

٣٣٩

المعروف بين العلماء بدليل الانسداد الكبير شامل ـ بعد تماميته ـ لجميع الظنون بما فيها الظنون القياسية.

وتقريبه يقتضي التعرض لهذه المقدمات ، وقد بلغ بها صاحب كفاية الأصول إلى خمسة (١) وهي :

١ ـ علمنا إجمالا بتوجه تكاليف من الشارع لنا.

٢ ـ انسداد باب العلم التفصيليّ بالكثير منها وكذلك انسداد باب العلمي ، أي الطرق والأمارات المجعولة من قبل الشارع عليها ، والتي تثبت حجيتها أو طريقيتها بأدلة قطعية.

٣ ـ القطع بعدم تسامح الشارع عنها على نحو يسوغ إهمالها وعدم امتثالها.

٤ ـ عدم وجوب الاحتياط في أطراف العلم للزوم العسر والحرج أو عدم جوازه ، كما إذا لزم منه اختلال النظام ، وربما كان غير ممكن أصلا كما في دوران الأمر بين المحذورين ، ومع عدم جعل الاحتياط لا يسوغ العقل الرجوع إلى الأصول في أطرافه لمنافاتها لمقتضى العلم ، كما لا يسوغ العقل الالتجاء إلى التقليد ، لأن مبنى التقليد قائم على رجوع الجاهل إلى العالم ، ومع اعتقاد المكلف بانسداد باب العلم والعلمي لا يرى غيره عالما ليسوغ لنفسه الرجوع إليه وتقليده.

٥ ـ امتناع ترجيح المرجوح على الراجح ، وبما ان الظن في الحكم في بعض الأطراف أرجح من الشك أو الوهم ، فإنه يتعين بحكم العقل الرجوع إليه واعتباره حجة سواء كان منشؤه القياس أم غيره ، واستثناء القياس من الحجية يلزم منه تخصيص الحكم العقلي ، والأحكام العقلية لا تقبل التخصيص.

__________________

(١) راجعها في حقائق الأصول : ٢ ـ ١٥٦ (متن).

٣٤٠