الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

من قبل الشارع لذلك ، ومن هنا قيل : ان القضية لا تعين موضوعها خارجا إذا كانت قضية حقيقية ، فالدليل الّذي يأمرك بالصلاة خلف العادل لا يعين لك أن فلانا مثلا عادل أو غير عادل وهذا من الواضحات.

ب ـ تنقيح المناط :

«وهو ان يضيف الشارع الحكم إلى سببه فتقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة فيجب حذفها عن الاعتبار ليتسع الحكم» (١) ، ومثلوا له بقصة الأعرابي الّذي قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هلكت يا رسول الله! فقال له : ما صنعت؟ قال : وقعت على أهلي في نهار رمضان ، قال : أعتق رقبة» (٢) حيث استفادوا عدم الخصوصية في كونه أعرابيا ، فألحقوا به جميع المكلفين ، ولا في كون المرأة التي وقع عليها أهلا له فألحقوا به الزنى ، ولا خصوصية لخصوص شهر رمضان الّذي وقع فيه على أهله فألحقوا به جميع أشهر الصيام ، إلى ما هنالك من الخصوصيات التي يعلم بعدم مدخليتها.

وهذه التعميمات وأمثالها مما تقتضيها مناسبة الحكم والموضوع ، وهناك تعميمات مظنونة وقعت موقع الخلاف ، كالقول بأن النكاح لا خصوصية له ، فلا بدّ ان يعمم إلى كل مفطر ، وهي مبنية على حجية القياس المظنون.

ج ـ تخريج المناط :

«وهو ان ينص الشارع على حكم في محل دون ان يتعرض لمناط أصلا» (٣) كتحريمه الرّبا في البر فيعمم إلى كل مكيل من طريق استنباط علته بدعوى استفادة أن العلة في التحريم هو كونه مكيلا.

__________________

(١) روضة الناظر : ص ١٤٦ وما بعدها.

(٢) صحيح مسلم : كتاب الصيام ، ح ١٨٧٠ باختلاف يسير.

(٣) روضة الناظر : ص ١٤٧.

٣٠١

٣ ـ تقسيم مسالك العلة :

ويراد بمسالك العلة الطرق المفضية إليها والكاشفة عنها ، وقد قسمها الغزالي إلى قسمين : صحيحة وفاسدة ، ونظرا إليها لارتباط أهم مباحث القياس وهو حجيته بها ، فان من الحق ان نطيل نبيا في التحدث عنها تبعا لمن سبقنا من الباحثين ، وإن كنا سنخالف الكثير منهم في نهج الحديث إبعادا لما وقعوا فيه من تداخل بعض أقسامها في بعض ، وقد آثرنا نهج الغزالي في تقسيمها وان لم نقتفه في جملة ما جاء به من خصوصيات احتفاظا بجده ما جدّ عليه من تنظيم.

لقد قسم الغزالي مسالك العلة إلى قسمين : صحيحة وفاسدة.

المسالك الصحيحة :

وقسم المسالك الصحيحة إلى ثلاثة أقسام (١) :

أولاها : ما كانت العلة مدلولة للأدلة اللفظية ، وينتظم في هذا القسم منها :

أ ـ ما كان دالاّ عليها بالدلالة المطابقية أي دلالة اللفظ على تمام معناها كدلالة لفظ العلة ومشتقاتها ، ودلالة حروف التعليل كاللام والفاء وما شاكلهما مما نصّ اللغويون أو النحاة على وضعها لهذا المعنى أو استعمالها فيه مع توفر القرائن المعينة في المشترك منها ، أو الصارفة فيما استعمل فيها مجازا على ان يفهم ـ نصا أو إطلاقا ـ استقلالها في العلية ، وعدم قصرها على موضوعها.

ب ـ ما كانت مدلولة بالدلالة الالتزامية ، وهي التي ينتقل الذهن فيها إلى المعنى لمجرد سماعه اللفظ أي ما كان اللازم فيها بيّنا بالمعنى الأخص ويدخل ضمن هذا القسم :

١ ـ مفهوم الموافقة أو قياس الأولوية : وهو ما كان اقتضاء الجامع فيه للحكم

__________________

(١) المستصفى : ٢ ـ ٧٤ وما بعدها.

٣٠٢

بالفرع أقوى وأوكد منه في الأصل (١) ، ومثاله ما ورد في الكتاب من النهي عن التأفف من الوالدين (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(٢) القاضي بتحريم ضربهما ، وتوجيه الإهانة إليهما.

٢ ـ مفهوم المخالفة : كمفاهيم الشرط والحصر والوصف والغاية بناء على ثبوتها المستلزم لثبوت الحجية لها ، شريطة ان يفهم أن العلة فيها مستقلة ومتعدية ليستفاد الاطراد منها ـ وهو الّذي يهمنا في حديثنا هذا ـ وان كان استفادة نفي الحكم منها لا يحتاج إلى أكثر من إثبات انحصارها في العلية ، وهو معنى ظهورها في مفهوم المخالفة.

٣ ـ دلالة الاقتضاء : «وهي الدلالة المقصودة للمتكلم التي يتوقف صدق الكلام أو صحته عقلا أو شرعا أو لغة عليها» (٣) إذا كان المحذوف هو العلة ، واستكملت شرائطها بالقرائن ، ومثاله ان يسأل سائل ما عن علة جواز الصلاة خلف العالم العادل أهي العدالة؟ فيجيبه الشارع بلى ، وعندها يستفاد تعميم الحكم إلى كل عادل من هذا الجواب أخذا بعموم العلة.

٤ ـ دلالة الإيماء والتنبيه : وهي الدلالة المقصودة للمتكلم أيضا ، إلا أن الكلام لا يتوقف صدقه أو صحته عليها ، وإنما يقطع أو يستبعد عدم إرادتها ، ومثالها قول الشارع مثلا : طهر فمك لمن قال : شربت ماء متنجسا. مما يستكشف منه ان العلة في التطهير هو استعمال المتنجس وأنه منجس ولا خصوصية للفم.

ج ـ ان لا تكون مدلولة بالدلالة البينة بالمعنى الأخص ، بل بالدلالة غير البينة ، أو البينة بالمعنى الأعم ، كأن تستفاد العلة المنحصرة المستقلة من الجمع بين دليلين أو أكثر ، ويسمى هذا النوع بدلالة الإشارة وتسميتها دلالة لا يخلو من مسامحة.

__________________

(١) القوانين المحكمة : ٢ ـ ٨٧.

(٢) سورة الإسراء : الآية ٢٣.

(٣) أصول الفقه للمظفر : ١ ـ ١١٨.

٣٠٣

ولقد وقع الخلط والتداخل بين هذه الأقسام على ألسنة أكثر الباحثين ولا يهم الدخول في تفصيل ما دخلوا فيه ، لعدم ترتب ثمرات على ذلك.

ثانيها : الإجماع ، ولا يقع ذلك إلا إذا قام على معقد له معلل بعلة خاصة فهم منها الاطراد والاستقلال بالعلية ، أو قام الإجماع على نفس العلة المطردة المستقلة. يقول في القوانين المحكمة : «التعدي من قوله عليه‌السلام : (اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه) (١) إلى وجوب غسل البدن والإزالة عن المسجد والمأكول والمشروب وغيرها ، إنما هو لأجل استفادة ان علة وجوب الغسل عن الثوب هي النجاسة ، ودليله الإجماع فيجب الاحتراز عنه في كل ما يشترط فيه الطهارة» (٢).

ثالثها : إثباتها من طريق الاستنباط ، وهو أنواع أهمها :

أ ـ طريقة السبر والتقسيم ، ويراد بالسبر الاختبار ، وبالتقسيم استعراض الأوصاف التي تصلح ان تكون علة في الأصل وترديد العلة بينها.

«وخلاصة هذا المسلك ان المجتهد عليه ان يبحث في الأوصاف الموجودة في الأصل ، ويستبعد ما لا يصح ان يكون علة منها ، ويستبقي ما هو علة حسب رجحان ظنه ، وهاديه في الاستبعاد والاستبقاء تحقق شروط العلة بحيث لا يستبقي إلا وصفا ظاهرا منضبطا متعديا مناسبا معتبرا بنوع من أنواع الاعتبار» (٣).

وفي هذا المسلك تتفاوت عقول المجتهدين في مجالات الاستنباط وتختلف اختلافا كبيرا ، وعلى سبيل المثال نرى ان «الحنفية رأوا المناسب في تعليل التحريم في الأموال الربوية القدر مع اتحاد الجنس ، والشافعية رأوه الطعم مع اتحاد

__________________

(١) الكافي : ٣ ـ ٥٧ ، الحديث ٣.

(٢) القوانين المحكمة : ٢ ـ ٨٤.

(٣) علم أصول الفقه لخلاف : ص ٨٧.

٣٠٤

الجنس ، والمالكية رأوه القوت والادخار مع اتحاد الجنس (١).

ب ـ إثبات العلة بإبداء مناسبتها للحكم ، كأن يقال ـ مثلا ـ ان هذا الوصف في الأصل هو الّذي يناسب ان يكون مظنة لتحقيق الحكمة من هذا الحكم وعليه فيجب ان يكون هو العلة ، وقد مضى منا الحديث في أقسام المناسب وتعيين ما يدخل منها في موضع النزاع من غيره فلا نعيده هنا.

هذا كله في المسالك التي اعتبرها الغزالي صحيحة ، أما المسالك الفاسدة فقد حصرها في ثلاثة (٢) :

١ ـ أن يستدل على علة الأصل بسلامتها عن علة تعارضها وتقتضي نقيض حكمها بدعوى أن دليل صحتها هو انتفاء المفسد ، وقد رد هذا الدليل بإمكان قلبه فيقال عنه ان دليل فساده هو عدم الدليل على صحته ، إذ لا يكفي للصحة انتفاء المفسد ، بل لا بد من قيام الدليل على الصحة.

٢ ـ ان يستدل على علية أحد الأوصاف باطراده مع الحكم ، ولكن مجرد الاطراد لا يكفي لإثبات عليته له لاحتمال ان يكون الوصف من لوازمها غير المنفكة عنها ، فقد يلزم الخمر ـ على سبيل المثال ـ لون أو طعم يقترن به التحريم ، مع أن العلة مثلا هي الشدة.

٣ ـ ان يستدل على العلية بالاطراد والانعكاس معا ، وهذا كسابقه لا يدل على أكثر من الاقتران بالحكم وهو أعم من كونه علة له أو ملازما مساويا لها يدور معها وجودا وعدما ، وزيادة العكس على الاطراد لا يدل على أكثر من هذا المعنى.

واعتبار هذه المسالك من المسالك الفاسدة صحيح جدا إذا أريد اعتبارها

__________________

(١) علم أصول الفقه لخلاف : ص ٨٧.

(٢) المستصفى : ٢ ـ ٨٠.

٣٠٥

طرقا لإثبات العلة على نحو الجزم واليقين.

أما إذا اكتفي منها بإفادة الظن فإنكار ذلك لا يخلو من مصادرة ، وهذه التشكيكات العقلية لا ترفع أكثر من اليقين ، ولا أقل من تحول النزاع فيها إلى نزاع صغروي لا جدوى من تحريره.

والّذي ينبغي ان يقال إن هذه المسالك كغيرها مما لا يفيد علما من المسالك السابقة وبخاصة الأخير منها ، فإن قام عليها دليل بالخصوص كانت حجة ، وإلا فلا يمكن اعتمادها في ذلك.

حجية القياس :

والحديث حول حجية القياس متشعب جدا بتشعب أقوالهم وتباينها ، وطبيعة البحث تدعونا إلى ان نقف منها موقفا لا يخلو من صبر وأناة نظرا لما يعطيه البحث من ثمار في مجالات استنباط الأحكام نفيا وإيجابا ، وعمدة أحاديث القياس هو هذا الحديث.

ويكفي ان يطلع الإنسان على أية موسوعة أصولية ليعرف مدى التشعب والتباين في الآراء.

فالغزالي وغيره ، نسبوا إلى الشيعة ـ بقول مطلق ـ وبعض المعتزلة القول باستحالة التعبد بالقياس عقلا (١) ، كما نسب المقدسي ذلك إلى أهل الظاهر والنظام وقال : «وقد أومأ إليه أحمد رحمه‌الله ، فقال : يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين : المجمل والقياس ، وتأوله القاضي على قياس يخالف به نصّا» (٢).

«وقال قوم في مقابلتهم يجب التعبد به عقلا» (٣).

__________________

(١) المستصفى : ٢ ـ ٥٦.

(٢) روضة الناظر : ص ١٤٧.

(٣) المستصفى : ٢ ـ ٥٦.

٣٠٦

وذهب آخرون إلى أنه «لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب ، ولكنه في مظنّة الجواز ، ثم اختلفوا في وقوعه فأنكر أهل الظاهر وقوعه بل ادعوا حظر الشرع له» (١).

ولكن بعض الشافعية أوجبوا التعبد به شرعا ، وإن لم يوجبوه من وجهة عقلية (٢).

والّذي عليه أئمة المذاهب السنية وغيرهم من أعلام السنة (٣) ، هو الجواز العقلي ووقوع التعبد الشرعي به كما هو فحوى أدلتهم التي سنعرضها ، وإن كان في استدلال بعضهم ما يوجبه عقلا لو تمت أدلته العقلية.

ومن هذا العرض الموجز ، تدركون مدى اختلاف العلماء في نسبة بعض الآراء إلى أصحابها ، فالمقدسي يعتبر أهل الظاهر من محيلي القياس عقلا ، بينما يعتبرهم الغزالي من مجوزيه عقلا ومانعيه شرعا.

وربما كان سرّ اختلاف النسبة ، هو وقوف كل منهما على ما نسب إليهم من أدلة يشعر بعضها بالإحالة العقلية وبعضها بالحظر الشرعي ، فاستند إلى ما وقف عليه ، وهذه الأدلة ـ مجتمعة ـ معروضة في كتاب ابن حزم (ملخص إبطال القياس والرّأي والاستحسان والتقليد والتعليل) ومقدمة كتابه (المحلّى).

والشيء الّذي لم أجده من هذه النسب ـ في حدود تتبعي ـ هو نسبة الإحالة العقلية ـ بقول مطلق ـ إلى الشيعة ، وربما وجدوه في بعض كتب الأصول الشيعية كرأي لصاحب الكتاب ، فاعتبروه رأي مذهب بأجمعه.

ومن الأخطاء التي تكررت على ألسنة كثير من الباحثين هو نسبة رأي إلى مجموع الشيعة لمجرد عثورهم على ذهاب مجتهد من مجتهديهم إليه ، ناسين أن

__________________

(١) المستصفى : ٢ ـ ٥٦.

(٢) روضة الناظر : ص ١٤٧.

(٣) الأحكام للآمدي : ٣ ـ ٦٤.

٣٠٧

الشيعة قد فتحوا على أنفسهم أبواب الاجتهاد فأصبح كل مجتهد له رأيه الخاصّ ولا يتحمل الآخرون تبعته.

نعم ، ما كان من ضروريات مذهبهم فإن الجميع يؤمنون به.

والشيء الّذي لا أشكّ فيه ، هو ان المنع عن العمل بقسم من أقسام القياس يعد من ضروريات مذهبهم لتواتر أخبار أهل البيت في الردع عن العمل به (١) ، لا ان العقل هو الّذي يمنع التعبّد به ويحيله ، ولذلك احتاجوا إلى بذل جهد في توجيه ترك العمل به مع افادته للظن على تقدير تمامية مقدمات دليل الانسداد المقتضية للعمل بمطلق الظن ، وسيأتي انها غير تامة ، فلو كانوا يؤمنون بالإحالة العقلية في العمل به لما احتاجوا إلى ذلك التوجيه (٢).

وعلى أي فإن حجية القياس وعدمها تعود إلى ثلاثة أقوال رئيسة :

١ ـ قول بالإحالة العقلية.

٢ ـ قول بالوجوب العقلي.

٣ ـ قول بالإمكان ، وهو ذو شقين إمكان مع القول بالوقوع ، والقول بعدمه ، فلا بدّ من التماس هذه الأقوال واستعراض أدلتها ، وبيان أوجه المفارقة فيها لو كانت.

الإحالة العقلية وأدلتها :

والذين ذهبوا إلى هذا القول لا تختص أدلتهم بالقياس ، بل تعم جميع الطرق والأمارات الظنية لوحدة الملاك فيها.

وأهم ما يمكن ان يستدل لهم به ما سبق عرضه من الشبه حول جعل الأحكام الظاهرية من لزوم اجتماع المثلين أو النقيضين ، وقد سبق الجواب عليها في

__________________

(١) راجع : المعالم : ص ٢١٣ مبحث القياس.

(٢) راجع : فرائد الأصول : للشيخ الأنصاري قدس سرّه : ص ٢٢٠ (أواخر مبحث دليل الانسداد).

٣٠٨

تقسيمات الحكم من هذا الكتاب (١).

ولكن الآمدي صور إشكالهم بصورة أخرى ، ودفعه على مبناه في التصويب ، يقول : «إذا اختلفت الأقيسة في نظر المجتهدين فإما أن يقال بأن كل مجتهد مصيب فيلزم منه ان يكون الشيء ونقيضه حقا وهو محال ، وإما ان يقال بأن المصيب واحد وهو أيضا محال فانه ليس تصويب أحد الظنين ، مع استوائهما دون الآخر أولى من العكس» (٢).

ثم دفع هذا الإشكال على مبناه في التصويب ، ورفع التناقض باختلاف الموضوع ، لأن موضوع أحد الحكمين هو ظن أحد المجتهدين ، وموضوع الحكم الآخر هو ظن المجتهد الثاني ، ومع اختلاف الموضوع لا تناقض لاشتراطهم في امتناع اجتماع النقيضين وحدة الموضوع بالإضافة إلى الوحدات الأخر (٣).

وهذا الجواب صحيح بناء على صحة القول بالتصويب ، وستأتي مناقشتنا لهذا المبنى في مبحث الاجتهاد والتقليد ، أما على مبنى المخطئة القائلين بأن الأحكام تابعة لواقعها التي قد يصيبها أحد القائسين وقد لا يصيبها ، كما إذا كانت العلة في واقعها غير ما انتهينا إليها فإن الإشكال يحتاج إلى جواب.

وأظن أن الجواب يتضح مما انتهينا إليه من إنكار جعل الأحكام الظاهرية ، وأن المجعول فيها ليس هو إلا المعذرية أو المنجزية ، ولا علاقة لها بإصابة الواقع وعدمها ليسلم لهم هذا الترديد ، وعلى فرض جعل الأحكام الظاهرية فهي مجعولة في طول الأحكام الواقعية ، ولا تدافع بينهما كما سبق إيضاحه في هذا الكتاب (٤).

وإذا استثنينا من أدلتهم هذا الدليل ، فإن أكثرها لا يستحق ان يعرض ويجاب عليه.

__________________

(١) راجع : ص ٧٠ وما بعدها من هذا الكتاب.

(٢) الأحكام : ٣ ـ ٦٦.

(٣) راجع هذه الوحدات في هامش ص ٢٠ من هذا الكتاب.

(٤) راجع : ص ٧٠ وما بعدها من هذا الكتاب.

٣٠٩

الوجوب العقلي وأدلته :

أما الموجبون له عقلا فأدلتهم ـ لو تمت ـ فهي لا تشخص القياس ولا تعينه ، وسيأتي عرضها عند الاستدلال على حجية القياس من طريق العقل ، وإنما تشمل جميع الظنون ، وربما كان مفادها أقرب إلى مفاد أدلة انسداد باب العلم.

أدلة الإمكان والوقوع :

والّذي يستحق ان يطال فيه الكلام ، هو القول الثالث لما له من أهمية تشريعية واسعة ، والتحقيق فيه ان يقال : إن القياس في حدود ما انتهينا إليه من تعريفه وأنه (مساواة محل لآخر في علة حكمه) لا يقتضي ان يكون موضعا لحديث حول حجيته وصحة استنباط الحكم الفرعي الكلي منه ، لأن العلة التي أخذت في لسان الدليل إن أريد بها العلة الواقعية التامة للحكم ، استحال تخلف معلولها عنها في الفرع لاستحالة تخلف المعلول عن العلة ، وإن أريد بها الوصف الظاهر المنضبط المناسب غير القاصر الّذي أناط به الشارع حكمه وجعله أمارة عليه ، استحال تخلف الحكم في الفرع عنه أيضا وإلا للزم الخلف لأن معنى إناطته به وجودا وعدما عدم تخلفه عنه ، فإذا فرض إمكان التخلف ـ كما هو مفاد عدم الحجية ـ كان معناه عدم الإناطة ، وهو خلاف الفرض.

ولكن موضع الشبهة ومواقع التأمل إنما هو في استنباط الحكم من هذا الدليل لا في أصله ـ فيما نعتقد ـ وإن بدا التشكيك على ألسنة الكثير في ثبوت الحجية له نفسه ، والظاهر أن ذلك ناشئ إما من عدم تحديد مفهوم القياس ، أو من الخلط بين الدليل وعملية الاستنباط منه.

وعملية الاستنباط هذه موقوفة على تمامية مقدمتين :

أولاهما : معرفة العلة التي أناط بها الشارع حكمه في الأصل.

وثانيهما : معرفة توفرها في الفرع بكل شرائطها وقيودها ، وكلتا المقدمتين

٣١٠

موقوفة على حجية الطرق والمسالك إليهما ، ومع إثبات الحجية لها وثبوت العلة بها فلا بدّ من استنباط حكم الفرع وإثباته بها.

ومسالك العلة التي سبق عرضها ، تنقسم إلى قسمين : قطعية ، وغير قطعية ، وغير القطعية تنقسم إلى قسمين : ما قام على اعتبارها دليل قطعي ، وما لم يقم.

وعلى هذا فالأقسام المتصورة ثلاثة :

١ ـ المسالك المقطوعة.

٢ ـ المسالك غير المقطوعة ، ولكن قام عليها دليل قطعي.

٣ ـ المسالك غير المقطوعة مع عدم قيام الدليل القطعي عليها.

ولكل منها حديث يقتضينا استيفاؤه بكل ما يتصل به نظرا لما يترتب عليه من ثمرات.

المسالك المقطوعة :

وحجيتها أوضح من أن يقام عليها دليل ، لما سبق ان قلنا : من ان طريقية غير العلم لا بدّ وان تنتهي إلى العلم ، وطريقية العلم ذاتية لا تقبل الرفع والوضع ، وقلنا : إن الحجية من لوازمه العقلية القهرية التي لا تقع تحت إرادة المشرّع وتشريعه ، فإذا صح هذا ، اتضح عدم إمكان تصرف الشارع في هذا القسم من القياس ، لأن الحجية له من الأمور العقلية التكوينية ـ إن صح هذا التعبير ـ وهي غير واقعة ضمن نطاق قدرته كمشرع وان وقعت ضمن نطاقها كمكون ، واذن لا بدّ من تأويل ما ورد من الردع عن الأخذ بالقياس حتى إذا أنهى إلى القطع.

ولعل أجمل ما يمكن أن يذكر في هذا المجال من التوجيه ، هو ان الشارع وإن لم يمكنه التصرف في حجية العلم أو طريقيّته ، إلا أنه يمكنه التصرف بحكمه فيرفعه عن المكلف على تقدير المصادفة للواقع ، كأن يقول : إن أحكامي التي تنتهون إليها من طريق القياس لا أريدها منكم ولا أؤاخذكم على تركها ، وتكون أشبه

٣١١

بالأحكام التي يبدل واقعها إذا طرأ عليها عنوان ثانوي ، وذلك لما يعلم الشارع المقدس من كثرة تفويت الأقيسة لمصالح المكلفين وحرمانهم منها.

والّذي يهوّن الأمر أنه ليس في الأدلة الرادعة عن الأخذ بالقياس ما هو صريح الردع عن هذا القسم من الأقيسة ، اللهم إلا ما يبدو من رواية أبان ، يقول أبان : «قلت لأبي عبد الله : ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع امرأة ، كم فيها؟ قال : عشرة من الإبل ، قلت : قطع اثنين؟ قال : عشرون. قلت : قطع ثلاثا؟ قال. ثلاثون : قلت : قطع أربعا؟ قال : عشرون قلت : سبحان الله ، يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟ إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قال ، ونقول : ان الّذي قاله الشيطان ، فقال عليه‌السلام : مهلا يا أبان! هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن المرأة تعاقل الرّجل إلى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف ، يا أبان إنك أخذتني بالقياس ، والسنة إذا قيست محق الدين» (١).

وقد ناقشها بعض أساتذتنا بمناقشات جد متينة ننقلها نصّا من تقريرات بعض تلامذته : «وأما ما أفاده ـ يعني أستاذه ـ من ثبوت المنع عن العمل بالقطع الحاصل من القياس لرواية أبان ، ففيه أولا : أن رواية أبان ضعيفة السند (٢) لا يمكن الاعتماد عليها ، وثانيا : أنه لا دلالة فيها على كونه قاطعا بالحكم ، نعم يظهر منها أنه كان مطمئنا به ، ولذا قال : كنا نسمع ذلك بالكوفة ، ونقول : ان الّذي جاء به شيطان ، وثالثا : ليس فيها إشعار بالمنع عن العمل بالقطع ، وانما أزال الإمام قطعه ببيان أن السنة إذا قيست محق الدين ، نعم ظهورها في المنع عن الغور في المقدمات العقلية لاستنباط الأحكام الشرعية غير قابل للإنكار ، بل لا يبعد ان

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٩ ـ ٣٥٢. راجع : القوانين المحكمة : ٢ ـ ٨٩.

(٢) بلغنا ان الأستاذ عدل عن تضعيف الرواية لثبوت صحتها لديه ، ولم تسعني مراجعته للتأكد من ذلك.

(المؤلف).

٣١٢

يقال : انه إذا حصل منها القطع وخالف الواقع ، ربما يعاقب على ذلك في بعض الوجوه» (١).

وفي هذا القسم ـ أعني القياس المقطوع العلة ـ تنتظم بعض القياسات الجلية كقياس الأولوية ، وما يقطع به لمناسبة الحكم والموضوع كمثال الأعرابي السابق ، وما شابه ذلك من الأقيسة.

المسالك غير المقطوعة مع قيام الدليل القطعي عليها :

وينتظم في هذا القسم كلما يرجع إلى حجية الظواهر من المسالك السابقة ، أي ما كانت العلة فيها مستفادة من دليل لفظي سواء كانت مدلولة له بالدلالة المطابقية ، أم الدلالة الالتزامية.

وهذه المسألة تعد من صغريات مسألة حجية الظهور ، والأدلة الدالة على حجية الظهور ـ والتي سبق عرضها ـ دالة عليها ، وحالها حال بقية الظهورات التي هي المستند في استنباط أكثر الأحكام الشرعية.

والحقيقة أن عدّها في مقابل السنة في غير موضعه ، فالأنسب كما يقول الأستاذ خلاف وغيره : إبعادها عن مباحث القياس وإلحاقها بمباحث السنة (٢).

وكل ما وقع فيها من نقاش من بعض نفاة القياس أمثال السيد المرتضى (٣) ، وابن حزم (٤) ، إنما هو من قبيل النقاش في الصغرى ، أي إنكار الظهور لا التشكيك بحجيته بعد ثبوته.

وما يقال عن هذه المسالك ، يقال عن الإجماع المثبت للعلة بعد القول بحجيته ، وقد سبق الحديث عنها مفصلا.

__________________

(١) دراسات في الأصول العملية : ص ٢٩.

(٢) مصادر التشريع الإسلامي : ص ٢٤.

(٣) القوانين المحكمة : ٢ ـ ٨.

(٤) إبطال القياس والاستحسان : ص ٢٩.

٣١٣

والإشكال الّذي يرد على هذا القسم منه ، شمول الأدلة الرادعة عن العمل بالقياس من قبل أهل البيت عليهم‌السلام له.

والأدلة الرادعة عن العمل به على نوعين :

١ ـ نوع منها منصب على القياس المتعارف ، وهو الّذي يلتمس فيه حكم الفرع من حكم الأصل لوحدة العلة فيهما ، ومفاد رواياته أن علل الأحكام لا تبلغ بالظنون ، وتنتظم في هذا النوع الكثير من احتجاجات الإمام الصادق عليه‌السلام على أبي حنيفة (١).

٢ ـ والنوع الآخر منصب على القياس بالاصطلاح الثاني ، وهو الّذي تتخيل فيه العلل للأحكام ، وتنزل النصوص عليها ، يقول ابن جميع : «دخلت على جعفر ابن محمد ، أنا وابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة ، فقال لابن أبي ليلى : من هذا معك؟ قال : هذا رجل له بصر ونفاذ في أمر الدين. قال : لعله يقيس أمر الدين برأيه ، ـ إلى أن يقول والحديث طويل نقتصر منه على موضع الحاجة ـ : يا نعمان ، حدثني أبي عن جدي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال الله تعالى له : اسجد لآدم ، فقال : أنا خير منه ، خلقتني من نار وخلقته من طين ، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس ، لأنه اتبعه بالقياس» (٢). ثم قال له جعفر ـ كما في رواية ابن شبرمة ـ : «أيهما أعظم : قتل النّفس أو الزنى؟ قال : قتل النّفس. قال : فإن الله عزوجل قبل في قتل النّفس شاهدين ، ولم يقبل في الزنى إلا أربعة ، ثم قال : أيهما أعظم : الصلاة أم الصوم؟ قال : الصلاة ، قال : فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فكيف

__________________

(١) راجع بحار الأنوار للمجلسي رحمة الله : ٢ ـ ٢٨٦ ـ ٣١٥ و ١٠ ـ ٩٤ و ٢١٢ و ٢٢٠ و ٢٢١. و ١١ ـ ١٠٢ و ١٣٢. و ٤٧ ـ ٢٢٦ و ٦١ ـ ٣٠٦ و ٣١٢ ـ ٣١٤. و ٦٣ ـ ٢٧٤.

(٢) راجع : حلية الأولياء : ٣ ـ ١٩٧.

٣١٤

ويحك يقوم لك قياسك؟ اتق الله ولا تقس الدين برأيك» (١).

هذه الرواية مع تتمتها منصبة على الردع عن نوعي القياس ، فمن استشهاده بقياس إبليس ـ وهو الّذي تمرد على الأمر بالسجود لأنه على خلاف قياسه لتخيله أن الأمر بالسجود يقتضي ان يبتنى على أساس التفاضل العنصري ، وخطّأ الحكم الشرعي على هذا الأساس لاعتقاده بأنه أفضل في عنصره من آدم لكونه مخلوقا من نار وهو مخلوق من طين ـ أقول : من هذا الاستشهاد ندرك الردع عن النوع الثاني من القياس ، كما أن رواية أبان السابقة منصبة في ردعها على هذا النوع بقرينة تكذيبه للحديث ونسبة مضمونه إلى الشيطان ، لأنه ورد على خلاف قياسه ، وهذا النوع هو الّذي يشكل الخطر على الدين لفسحه المجال للتلاعب بالشريعة ومسخ أحكامها باسم مخالفة القياس. ومن الطبيعي ان يقف منه أهل البيت عليهم‌السلام وبخاصة الإمام الصادق عليه‌السلام الّذي انتشر هذا النوع من القياس على عهده موقفهم المعروف ، والحق كما يقول الإمام عليه‌السلام : (ان السنة إذا قيست محق الدين) وقد سبق أن قلنا في مبحث العقل : أن مسرحه في إدراك علل الأحكام محدود جدا ، ففتح الباب له على مصراعيه يشكل الخطر العظيم على الشريعة ، وهذا معنى قول الإمام عليه‌السلام : (إن دين الله لا يصاب بالعقول) أي ما ثبت أنه دين لا يمكن ان تدرك جميع علله العقول.

والشق الثاني من الرواية ـ ولعلها رواية أخرى ـ وهي التي تكفل ذكرها ابن شبرمة ، منصب على تعجيز العقل عن التعرف على علل الأحكام بعيدا عن الشرع كما يتضح من النقوض التي ذكرها الإمام عليه‌السلام عليه ، وهو الّذي يناسب القياس بالمعنى الأول ، ونظائر هذه الرواية كثيرة ، وهي معروضة في جلّ كتب الأصول الشيعية الباحثة عن القياس.

__________________

(١) حلية الأولياء : ٣ ـ ١٩٧.

٣١٥

ونسبة ما دلّ على حجية الظواهر إلى الأدلة الرادعة عن النوعين معا هي نسبة العموم والخصوص من وجه ، لأن الأدلة الرادعة تشمل القياس المنصوص العلة ومستنبطها ، وأدلة حجية الظواهر تشمل القياس المنصوص العلة وغير القياس ، فمورد الاجتماع هو القياس المنصوص على علته ، ومقتضى القاعدة التعارض والتساقط فيه ثم الرجوع إلى أصالة عدم الحجية ، لأن الشك في الحجية كاف للقطع بعدمها ، كما سبق القول فيه.

ولكن التعارض إنما يتم إذا لم يمكن الأخذ بالدليلين معا وتم تدافعهما في مورد الاجتماع ، أما إذا أمكن الأخذ بهما فلا مجال للتعارض والتساقط.

والّذي أعتقده أنه لا تدافع بين هذين النوعين من الأدلة ، لأن القياس المنصوص العلة إن قلنا بأنه ليس بقياس ، كما ذهب إلى ذلك كثير من الأعلام ، كان خارجا عن موضوع الأدلة الرادعة عنه على نحو التخصص.

وإن قلنا إنه من القياس فلا بدّ من صرف الأدلة الرادعة إلى غيره ، بل لا يمكن أن تكون متناولة له كما يدل على ذلك ما في بعضها من التعليل بأن دين الله لا يصاب بالعقول ، إذ مع فرض كون العلة مستفادة من النص لظهوره فيها ، يكون المشرع هو الّذي دل عليها لا ان العقول أصابتها بمنأى عنه ، كما أن ما في بعضها الآخر من القول بأن «السنة إذا قيست محق الدين» ظاهر في ذلك ، إذ لا معنى لئن تمحق السنة نفسها ، إذ المفروض أنها هي التي صرحت بالعلل أو كانت ظاهرة فيها ، فلا بدّ أن تكون واردة في خصوص ما لم تدلنا هي على علله ، بل كان الدليل عليها هو عقولنا التي أثبتت لها هذه الروايات في الجملة العجز والقصور.

المسالك التي لم يقم عليها دليل قطعي :

وهي المسالك إلى العلة من طريق الاستنباط بوسائله التي عرضناها سابقا كالسبر ، والتقسيم ، وإثبات المناسبة ، وسلامة العلة عن النقيض ، واطراد العلة ،

٣١٦

واطرادها وانعكاسها ، إلى غيرها من المسالك التي لا تفيد غير الظن على أكثر التقادير.

والظن كما سبق شرحه مرارا ، ليست طريقيته ذاتية لنقصان الكشف فيه ، كما ان حجيته ليست من اللوازم العقلية القهرية التي لا تحتاج إلى جعل من قبل الشارع ، ولذلك احتجنا إلى الاستدلال عليه بالأدلة القطعية ـ شرعية كانت أو عقلية ـ وهذه الأدلة ان تمّت أخذنا بها ، وإلا فحسبنا من القطع بعدم الحجية عدم ثبوتها ، والشك وحده فيها كاف للقطع بعدمها.

ولهذا ، لا ترانا بحاجة إلى التماس أدلة على النفي ، بل لا نحتاج إلى عرض الأدلة التي ذكرها النافون ، بما فيها الأدلة الرادعة وتقييمها وبيان مقدار صلوحها للدلالة ، اللهم إلا إذا تمت أدلة حجية هذا القسم من القياس ، فاننا محتاجون إلى فحصها ومعرفة مدى صلوحها لمعارضة الأدلة المثبتة.

والأدلة التي ذكرها المثبتون لهذا النوع من القياس كثيرة نعرض نماذج من كل قسم منها ، ويعرف حساب الباقي من هذه النماذج ، وسنختار أقواها وأظهرها في الدلالة.

وهذه الأدلة تعتمد الأدلة الأربعة : الكتاب ، السنّة ، الإجماع ، العقل.

أدلتهم من الكتاب :

وقد استدلوا من الكتاب بعدة آيات هي :

١ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(١).

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٥٩.

٣١٧

وخير ما تقرب به دلالة هذه الآية : ان القياس بعد استنباط علته بالطرق الظنية من الكتاب والسنة ، يكون ردّا إلى الله والرسول ، ونحن مأمورون بالرجوع إليهما بهذه الآية ، ومعناه اننا مأمورون بالرجوع إلى القياس عند التنازع ، وليس معنى الأمر بذلك إلا جعل الحجية له.

وهذا التقريب منتزع من مختلف الصور المعروضة لدى المثبتين في توجيهها مع إكمال نقص بعضها ببعض.

ولكن هذا التوجيه لم يتضح بعد لما أورد أو يرد عليه من مؤاخذات وهي :

أ ـ ان دلالة الآية متوقفة على أن يكون القياس الظني ردّا إلى الله والرسول ، وهو موضع النزاع ، ولذلك احتجنا إلى هذه الآية ونظائرها لإثبات كونه ردا.

والمقياس في الرد وعدمه قيام الدليل عليه ، فإن كان هذه الآية لزم الدور بداهة أن دلالتها على حجية القياس المظنون موقوفة على كونه ردا ، وكونه ردا موقوف على دلالتها على حجيته ، على أن القضية لا تثبت موضوعها بالضرورة. وإن كان الدال على كونه ردا غير هذه الآية تحول الحديث إلى حجيته ، ومع قيامها لا نحتاج إلى الاستدلال بهذه الآية.

ب ـ ومع الغضّ عن هذه المناقشة ، فالآية إنما وردت في التنازع والرجوع إلى الله والرسول لفضّ النزاع والاختلاف ، ومن المعلوم أن الرجوع إلى القياس لا يفضّ نزاعا ولا اختلافا لاختلاف الظنون ، بل الرجوع إلى الكتاب والسنة ، كذلك لما يقع فيه المتنازعون عادة من الاختلاف في فهم النصوص ، ومن هنا رأينا أعاظم العلماء والصحابة يختلفون في فتاواهم مع وحدة مصادرهم ، واذن فلا بدّ ان يكون المراد من الآية هو تشريع الرجوع في مقام التخاصم إلى الرسول باعتباره منصوبا من الله عزوجل ومن ينصبه الرسول من أولي الأمر لفظ خصوماتهم ، أي إلى أشخاص القائمين بالحكم بأمر الله ، أو قل إلى أشخاص

٣١٨

الولاة ومن يعينونهم لفض الخصومات.

ومن هنا أعطي لحكم الحاكم أهمية كبرى في الإسلام ، حتى جعل الرادّ عليه رادّا على الله ، وهو على حد الشرك بالله كما طفحت بذلك كثير من الروايات (١).

وعلى هذا ، فالآية أجنبية عن جعل الحجية لأي مصدر من مصادر التشريع قياسا أو غير قياس ، وموردها الرجوع إلى من له حق القضاء والحكم باسم الإسلام لفض الخصومات.

ج ـ ومع تناسي هذه الناحية والتي قبلها ، فإن الآية لا تدل على حجية القياس بقول مطلق إلا بضرب من القياس ، وذلك لورودها في خصوص باب التنازع ، فتعميمها إلى مقام الإفتاء والعمل الشخصي ، لا يتم إلا من طريق السبر والتقسيم أو غيره ، وإذن يكون ظهور الآية في حجية القياس مطلقا موقوفا على حجية القياس ، فإذا كانت حجية القياس موقوفة على هذا الظهور لزم الدور.

٢ ـ قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ)(٢).

وموضع الدلالة منها كلمة «اعتبروا» الظاهرة في جعل الوجوب للاعتبار ، وقد اختلفت كلمتهم في المراد من الاعتبار ، فقال بعضهم : إن المراد منه الاتعاظ ، وقيل كما ـ عن ابن حزم ـ : إن معناه التعجب ، وقيل : إنه مأخوذ من العبور والمجاوزة ، والّذي يرتبط بالقياس هو المعنى الأخير بدعوى ان في القياس عبورا من حكم الأصل ومجاوزة عنه إلى حكم الفرع ، فإذا كنا مأمورين بالاعتبار فقد

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة : ١ ـ ٣٤ ، باب ثبوت الكفر والارتداد بجحود بعض الضروريات ، ح ١٢.

(٢) سورة الحشر : الآية ٢.

٣١٩

أمرنا بالعمل بالقياس ، وهو معنى حجيته ، بل حتى لو أريد من الآية الأمر بالاتعاظ وقلنا : ان المراد من الاعتبار هو هذا المعنى ، فالآية ـ فيما يرى خلاف ـ ظاهرة في جعل الحجية للقياس لأنها «تقرير لأن سنة الله في خلقه أن ما جرى على النظير يجري على نظيره» (١).

ولكن هذه الاستفادة كسابقتها لا يتضح لها وجه وذلك :

أ ـ لأن إثبات الحجية لمطلق الاعتبار بحيث يشمل المجاوزة القياسية ، موقوف على أن يكون المولى في مقام البيان من هذه الجهة ، والمقياس في كونه في مقام البيان هو أننا لو صرحنا بالمعنى الّذي يراد بيانه لكان التعبير سليما ، وظاهر الدلالة على كونه مرادا لصاحبه ، فلو قال الشارع : أحلّ الله البيع ، وأردنا ان نصرح بمختلف البيوع بدلا من الإطلاق لساغ الكلام ، وليس ما يمنع من ذلك إلا التطويل كأن نقول : أحلّ الله البيع العقدي والبيع المعاطاتي ، وهكذا حتى نستوفي جميع أنواع البيوع ...

وإذا صح هذا المقياس عدنا إلى الآية لنرى هل ان سياقها يتسع لهذا النوع من التفصيل كأن نقول : وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا يا أولي الأبصار أنفسكم عليهم ، والنبيذ على الخمر ، والضرب على التأفف ، والذرة على البر في الرّبا ، وهكذا أمثال هذا مما يسيغه كلام عربي لتصح نسبة مدلوله إلى قائله؟

ومن هنا يعلم ان الآية ليست واردة لبيان هذا المعنى ، فلا يسوغ الاستدلال بها عليه.

ب ـ ومع التنزل وافتراض مجيئها لبيان هذا المعنى ولو بإطلاقها إلا أنها واردة لجعل الحجية لأصل القياس كدليل ، وأصل القياس لا ينبغي ان يكون موضعا

__________________

(١) مصادر التشريع الإسلامي : ص ٢٦.

٣٢٠