الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

٣ ـ «ما يدرك بالسمع كحسن الصلاة والحج وسائر العبادات» (١) واعتبروها «متميزة لصفة ذاتها عن غيرها بما فيها من اللطف المانع من الفحشاء الداعي إلى الطاعة ، لكن العقل لا يستقل بدركه» (٢).

أدلة ونقاش :

واستدلوا ـ أو استدل لهم ـ على نظريتهم في الحسن والقبح بعدة أدلة نذكر أهمها :

١ ـ قولهم : «ان الحسن والقبح لو لم يكونا عقليين لجاز الكذب على الله وأنبيائه ، لأن الكذب ليس قبيحا في ذاته وانما صفة القبح ثبتت له بالشرع ، وهذا باطل ويترتب عليه فساد الرسالات والأحكام» (٣).

وقد أجاب الأستاذ سلام على هذا الاستدلال بقوله : «ويمكن رد هذا الدليل ، بأن الصدق والكذب ليسا من الحسن والقبح بالإطلاق الثالث الّذي وقع فيه الخلاف ، وانما هو يدخل في الإطلاق الثاني وهو متفق عليه ، فالملازمة غير صحيحة» (٤).

والسؤال الّذي يوجه إلى سلام ، هل ان الكذب مما ينبغي صدوره من المولى مهما كانت مناشئه أو لا ينبغي ، أو ان العقل لا يقول كلمته في ذلك؟ والظاهر ان القول بأن العقل لا يستطيع ان يقول كلمته في ذلك لا يخلو من مصادرة ، وإذا افترضنا له القول فقد تمت الملازمة وصح الاستدلال لأن الحسن والقبح بالمعنى الثالث ليس هو الا إدراك ان هذا الشيء مما ينبغي صدوره أو لا ينبغي من الفاعل ، كما سبقت الإشارة إليه.

__________________

(١) المستصفى : ١ ـ ٣٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) مباحث الحكم : ١ ـ ١٧٣.

(٤) المصدر السابق.

٢٨١

٢ ـ ما استدل به الماتريدية على ذلك من : «ان الحسن والقبح لو كانا شرعيين ، ولم يكن ذلك وصفا في الفعل ، لكانت الصلاة والصوم والزنى والسرقة وغير ذلك أمورا متساوية قبل ورود الشرع فجعل الشارع بعضها مأمورا به ، والآخر منهيا عنه ترجيح لأحد المتساويين دون مرجح» (١).

وقالوا : «إنهما لو كانا شرعيين لكانت بعثة الرسل والأديان بلاء على الناس ومثار النزاع ، وسببا في المتاعب والمشاق والصد عن بعض الأمور والإلزام بالأخرى وترتب الثواب والعقاب على ذلك. وقد كان الناس قبلها في حرية مطلقة ، يفعلون ما يرغبون في فعله ويحجمون عما لا يشتهون دون مخافة عقاب أو ترتب ثواب ، وكون بعثة الرسل ضارة بالناس باطل منقوض. بقول الله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(٢)» (٣).

ولكن هذا النوع من الاستدلال ـ بعد الغض عما يوهمه من الخلط بين أقسام الحسن والقبح ـ لا يتم إلا إذا افترض المفروغية عن ان فساد الرسالات أو الأحكام أو كونهما ضارة بالناس ، وليست رحمة لهم ، والكذب وأمثالها مما لا ينبغي صدوره منه بحكم العقل وإلا فلا يبطل اللازم بداهة. ولعل محاولة إثبات ذلك بهذه الأدلة لا يخلو من شبهة الدور.

نعم ، هذه الأدلة إنما تصلح لإلزام الأشاعرة ببطلان ما انتهوا إليه من المبنى في اعتبار الحسن والقبح شرعيين لبطلان اللوازم الفاسدة التي تترتب عليها ، لا في إثبات أصل المبنى لدى المعتزلة ، ولعلها سيقت لهذا الغرض كما هو غير بعيد.

٣ ـ وأكثر منها إلزاما لهم ما ذكره العلامة المظفر وهو يصحح للعدلية بعض أدلتهم فيقول : «انه من المسلّم عند الطرفين وجوب طاعة الأوامر والنواهي

__________________

(١) مباحث الحكم : ١ ـ ١٧٤.

(٢) سورة الأنبياء : الآية ١٠٧.

(٣) مباحث الحكم : ١ ـ ١٧٤.

٢٨٢

الشرعية وكذلك وجوب المعرفة ، وهذا الوجوب عند الأشاعرة وجوب شرعي حسب دعواهم ، فنقول لهم : من أين يثبت هذا الوجوب؟ لا بد ان يثبت بأمر من الشارع ، فننقل الكلام إلى هذا الأمر لهم : من أين تجب طاعة هذا الأمر؟ فان كان هذا الوجوب عقليا فهو المطلوب ، وان كان شرعيا أيضا فلا بدّ له من أمر ولا بد له من طاعة ، فننقل الكلام إليه. وهكذا نمضي إلى غير النهاية ولا نقف حتى ننتهي إلى طاعة وجوبها عقلي لا تتوقف على أمر الشارع. وهو المطلوب.

بل ثبوت الشرائع من أصلها يتوقف على التحسين والتقبيح العقليين ، ولو كان ثبوتها من طريق شرعي لاستحال ثبوتها لأنا ننقل الكلام إلى هذا الطريق الشرعي فيتسلسل إلى غير النهاية ، والنتيجة ان ثبوت الحسن والقبح شرعا يتوقف على ثبوتهما عقلا» (١).

وخير ما يستدل به على أصل المبنى هو البداهة العقلية ، وكل شبهة في مقابلها فهي شبهة في مقابل البديهة ، وقد رأيت مثار الشبهة لدى الأشاعرة فيما عرضوه من دليل وعرفت الجواب عليه ، وما أحسن ما قاله الشوكاني بعد عرضه لأدلتهم ، وبالجملة «فالكلام في هذا البحث يطول ، وإنكار مجرد إدراك العقل لكون الفعل حسنا أو قبيحا مكابرة ومباهتة» (٢).

حجيته :

وإذا صح ما عرضناه من إمكان إدراك العقل للحسن والقبح ـ بما أنه عقل ـ الملازم لإدراكه ـ لتطابق العقلاء عليه ـ بعد تأدبه بذلك ـ بما فيهم سيدهم ـ فقد أدركنا قطعا حكم الشارع فيها ، وليس وراء القطع حجة كما سبق التأكيد على ذلك ولا حاجة لإعادة الكلام فيه. وبهذا يتضح الجواب على :

__________________

(١) أصول الفقه : ٢ ـ ٢٩.

(٢) إرشاد الفحول : ص ٩.

٢٨٣

مذهب الماتريدية :

وهم أتباع أبي منصور محمد الماتريدي من الأحناف ، حيث أنكروا «ترتب حكم الشرع على حكم العقل ، لأن العقول مهما نضجت قد تخطئ ، ولأن بعض الأفعال مما تشتبه فيه العقول» (١) ، وذلك لأن العقول ـ بما هي عقول ـ لا تخطئ ولا تشتبه. نعم هناك تخيلات لأحكام عقلية وهي صادرة عن قوى أخرى في النّفس وفيها يقع الخطأ والاشتباه.

على أن القطع مصدر الحجج ومنتهاها ، ومع فرض قيامه فلا يعقل تصور الخطأ والاشتباه من القاطع ، إذ ليس وراء الرؤية الكاملة شك أو احتمال اشتباه ـ نعم ربما أرادوا بذلك المناقشة من حيث تحقق الصغرى ، أي إنكار حصول القطع بحكم الشارع على الدوام ، وهذا صحيح كما سبق بيانه مفصلا ـ ولكن ضيق التعبير هو الّذي أدّى بهم إلى نسبة الخطأ والاشتباه إلى العقول ، وما يقال عن مذهب الماتريدية يقال عن :

مذهب بعض الأخباريين من الشيعة :

من القول : «بعدم جواز الاعتماد على شيء من الإدراكات العقلية في إثبات الأحكام الشرعية ، وقد فسر هذا القول بأحد وجوه ثلاثة حسب اختلاف عبارات الباحثين منهم :

١ ـ إنكار إدراك العقل للحسن والقبح الواقعيين ...

٢ ـ بعد الاعتراف بثبوت إدراك العقل إنكار الملازمة بينه وبين حكم الشرع.

٣ ـ بعد الاعتراف بثبوت إدراك العقل وثبوت الملازمة إنكار وجوب إطاعة الحكم الشرعي الثابت من طريق العقل ، ومرجع ذلك إلى إنكار حجية

__________________

(١) مباحث الحكم : ١ ـ ١٧٤.

٢٨٤

العقل» (١).

لأن إنكار الإدراك العقلي للحسن والقبح مصادرة ، كما سبق بيانه ، وإنكاره الملازمة بينه وبين حكم الشرع بعد فرض تطابق العقلاء ـ بما فيهم الشارع ـ مصادرة أخرى.

وإنكار حجية العقل ، إن كان من طريق العقل لزم من وجوده عدمه ، لأن الإنكار ـ لو تم ـ فهو رافع لحجية العقل فلا يصلح العقل للدليلية عليه ولا على غيره ، وان كان من غير العقل فما هو المستند في حجية الدليل؟ فان كان من غير العقل لزم التسلسل ، وإن كان من العقل لزم من وجوده عدمه لانتهائه إلى إنكار حجيته أيضا ، لفرض قيامه بالآخرة على إنكار ثبوت الحجية له ، هذا بالإضافة إلى ما سبق ان ذكرناه من ذاتية حجية القطع وعدم إمكان تصرف الشارع فيها رفعا أو وضعا.

والأحكام العقلية ـ موضع الحديث ـ كلها مقطوعة.

خلاصة البحث :

وخلاصة ما انتهينا إليه من مجموع البحث :

١ ـ ان العقل مصدر الحجج وإليه تنتهي ، فهو المرجع الوحيد في أصول الدين وفي بعض الفروع التي لا يمكن للشارع المقدس ان يصدر حكمه فيها ، كأوامر الإطاعة وكالانقسامات اللاحقة للتكاليف من قبيل العلم والجهل بها أو اعتبار التقرب بها إذا أريد اعتبارها بجعل واحد شروطا للتكاليف ، للزوم الدور أو التسلسل فيها ، بداهة ان إطاعة أوامر الإطاعة مثلا اما ان ترجع إلى العقل أو تتسلسل إلى غير النهاية ، إذ لو كانت شرعية لتوجه السؤال عن لزوم إطاعتها ،

__________________

(١) أصول الفقه للمظفر : ٢ ـ ٣٠ ، ويحسن الرجوع إلى هذا الكتاب لاستعراض حججهم والإجابة عليها فهو من خير ما كتب في موضوعه استيعابا وعمق نظر. (المؤلف).

٢٨٥

فان كان شرعيا توجه السؤال عن لزوم إطاعته ، وهكذا فلا بدّ ان يفترض فيها ان تكون عقلية ، وما ورد من الأوامر الشرعية بالإطاعة فإنما هو إرشاد وتأكيد لحكم العقل ، لا انها أوامر تأسيسية.

٢ ـ قابليته لإدراك الأحكام الكلية الشرعية الفرعية بتوسط ـ نظرية التحسين والتقبيح العقليين ـ ولكن على سبيل الموجبة الجزئية وعدم قابليته لإدراك جزئياتها وبعض مجالات تطبيقها ، لعجزه عن إدراك الجزئيات وتحكم بعض القوى الأخرى وتأثيرها في مجالات التطبيق.

٣ ـ عدم إدراكه ـ وحده ـ لكثير من الأحكام الكلية كالعبادات وغيرها لعدم ابتناء ملاكاتها ـ على نحو الموجبة الكلية ـ على ما كان ذاتيا من معاني الحسن والقبح.

وما كان فيه اقتضاء التأثير أو ليس فيه حتى الاقتضاء لا طريق له غالبا إلى إحراز عدم المانع فيه أو إحراز عروض بعض العناوين الملزمة عليه ، ومع عدم الإحراز لا يحصل له القطع فلا يسوغ له الاعتماد عليه لعدم توفر عنصر الحجية فيه. على ان هناك ما لا يمكن ان يدركه العقل من الملاكات لاتصاله بتنظيم قوى أخرى لا تسلط له عليها في مجالات الإدراك.

٤ ـ الالتزام بالتحسين والتقبيح لا ينهي إلى إنكار الشرائع بل الاحتياج قائم على أتم صوره إليها لتدارك ما يعجز العقل عن الولوج إليه وهو أكثر الأحكام ، بل كلها مع استثناء القليل على اختلاف سبق عرضه في سبب هذا العجز.

٢٨٦

الباب الأول

القسم الخامس

القياس

* تعريف القياس لغة واصطلاحا

* اصطلاح آخر في القياس

* أركان القياس ، تعريف العلة ، تعريف السبب ، تعريف الحكمة ، تعريف الشرط

* تقسيمات العلة : تقسيمها باعتبار المناسبة

* تقسيم الاجتهاد في العلة : تحقيق المناط ، تنقيح المناط ، تخريج المناط

* تقسيم مسالك العلة

* حجية القياس ، الإحالة العقلية وأدلتها

* الوجوب العقلي وأدلته ، أدلة الإمكان والوقوع

* المسالك المقطوعة* المسالك غير المقطوعة مع قيام الدليل القطعي عليها

* المسالك التي لم يقم عليها دليل قطعي

* أدلتهم من الكتاب

* أدلتهم من السنة

* استدلالهم بالإجماع

* أدلتهم من العقل

* خلاصة البحث

٢٨٧
٢٨٨

والحديث حول القياس كثر بين الفقهاء كثرة غير متعارفة ، وكتبت عنه المجلدات ، وكان موضع خلاف كثير ، ونظرا لما يترتب عليه من ثمرات فقهية واسعة ، اقتضانا أن نطيل الحديث فيه ، عارضين ، مختلف وجهات النّظر وأدلتها على أساس من المقارنة وفق ما انتهينا إليه سابقا من نهج.

وأول ما يواجهنا منها اختلافهم في تعريفه.

تعريف القياس لغة واصطلاحا :

القياس في اللغة «التقدير ، ومنه قست الثوب بالذراع إذا قدرته به ، قال الشاعر يصف جراحة أو شجّة :

إذا قاسها الآسي النطاسيّ أدبرت

غثيتها أو زاد وهيا هزومها(١)

وقد عرف في اصطلاحهم بالاجتهاد تارة ، كما ورد ذلك عن الشافعي ، وببذل الجهد لاستخراج الحق (٢) أخرى.

ويرد على هذين التعريفين أنهما غير جامعين ولا مانعين ، أما كونهما غير جامعين فلخروج القياس الجليّ عنهما ، إذ لا جهد ولا اجتهاد فيه في استخراج الحكم ، وأما كونهما غير مانعين فلدخول النّظر في بقية الأدلة كالكتاب ، والسنة ، وغيرهما من مصادر التشريع ضمن هذا التعريف ، مع أنها ليست من القياس المصطلح بشيء.

ولهذين التعريفين نظائر لا تستحق إطالة الكلام فيها لبعدها عن فنية التعريف ،

__________________

(١) روضة الناظر وجنة المناظر : ص ١٤٥.

(٢) الأحكام للآمدي : ٣ ـ ٣.

٢٨٩

وهي أقرب إلى الشروح اللفظية منها إلى الحد المنطقي.

والّذي يقرب من الفن ما ذكره القاضي أبو بكر الباقلاني من أنه «حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما ، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة» (١).

يقول في المحصول : «واختاره جمهور المحققين منا» (٢) وقريب منه ما عرفه به الغزالي (٣).

وقد سجّلت على هذا التعريف عدة مفارقات ، لعل أهمها ما أورده الآمدي عليه من لزوم الدور «لأن الحكم في الفرع نفيا وإثباتا متفرع على القياس إجماعا ، وليس هو ركنا في القياس ، لأن نتيجة الدليل لا تكون في الدليل لما فيه من الدور الممتنع» (٤).

وتقريب الدور ، هو أن إثبات الحكم للفرع موقوف على ثبوت القياس ، وثبوت القياس موقوف على تمام كل ما اعتبر فيه ، ومنه إثبات الحكم للفرع ، فهو إذن موقوف على إثبات الحكم للفرع ، ومع إسقاط المتكرر تكون النتيجة هي أن إثبات الحكم للفرع موقوف على إثبات الحكم للفرع ، على أن هذا التعريف مشعر بأن إثبات حكم الأصل إنما هو من نتائج القياس مع أن القياس لا يتكفل أكثر من إثبات حكم الفرع ، والمفروض فيه هو المفروغية عن معرفة حكم الأصل ، إذ هي من متممات الدليل إلى إثبات الحكم في الفرع كما هو واضح.

ولهذا السبب وغيره ، عدل كلّ من الآمدي وابن الهمام عن ذلك التعريف إلى تعاريف أبعد عن المؤاخذات ، فقد عرفه الآمدي بأنه عبارة «عن الاستواء بين

__________________

(١) إرشاد الفحول : ص ١٩٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المستصفى : ٢ ـ ٥٤.

(٤) الأحكام : ٣ ـ ٤.

٢٩٠

الفرع والأصل في العلة المستنبطة من حكم الأصل» (١) ، وتعريف ابن الهمام له : «هو مساواة محل لآخر في علة حكم له شرعي لا تدرك بمجرد فهم اللغة» (٢).

وقد سلم هذان التعريفان من مؤاخذة عامة وردت على أكثر التعاريف التي أخذت في مفهومه ، أمثال هذه الكلمة (تسوية فرع لأصله) ، أو حكمك على الفرع بمثل ما حكمت به على الأصل ، أو حملك الفرع على أصله ، وما شابه ذلك من الألفاظ التي تبعد القياس عن كونه دليلا للمجتهد ، لبداهة أن حمل المجتهد الفرع على أصله وإثبات الحكم له إنما هو وليد إجراء القياس ، فهو متأخر رتبة عن أصل القياس ، فكيف يؤخذ في تعريفه ، ولزوم الخلف أو الدور فيه واضح؟ هذا ، بالإضافة إلى سلامتهما من الإشكالات السابقة. لكن أخذهما كلمة «المستنبطة» أو «لا تفهم من مجرد اللغة» في التعريفين لا يتضح له وجه لإخراجه القياس الجلي أو منصوص العلة عن تعريف القياس ، مع أنهما داخلان في التعريف اصطلاحا ، والآمدي نفسه يأتي بعد ذلك فيقسم القياس إلى جلي وخفي ، أي منصوص العلة ومستنبطها» (٣).

والّذي يبدو لنا أن أسلم التعاريف من الإشكالات ما ورد من أنه «مساواة فرع لأصله في علة حكمه الشرعي» لسلامته من المؤاخذات السابقة ، وصلوحه بعد إقامة الأدلة على حجيته لاستنباط الأحكام الشرعية منه.

والغريب أن يعتبر الأستاذ خلاف هذا التعريف من أبعد التعريفات ، معلّلا ذلك بأن «التعريف إنما هو للعملية التي يجريها القائس ، وتساوي الأصل والفرع في العلة ليس من عمله ، وكذلك القياس المقصود به الوصول إلى حكم الفرع لا إلى

__________________

(١) الأحكام : ٣ ـ ٤.

(٢) سلم الوصول : ص ٢٧٤.

(٣) راجع الأحكام : ٣ ـ ٦٣.

٢٩١

مجرد تساوي الأصل والفرع في العلة» (١).

وما أدري كيف تكون عملية الاستنباط من الدليل هي الدليل نفسه مع أنها متأخرة في الرتبة عنه؟ والظاهر أن منشأ ما ذهب إليه اختلاط مفهوم الدليل عليه بكيفية الاستفادة منه وعدم التفرقة بينهما ، فاستكشاف حكم الفرع إنما يكون من مساواتهما واقعا في العلة لا من تسويتنا لهما فيها.

هذا كله في القياس الّذي يدخل ضمن ما يصلح للدليلية ، وهو الّذي يدار عليه الحديث لدى المتأخرين.

اصطلاح آخر في القياس :

وهناك اصطلاح آخر للقياس ، شاع استعماله على ألسنة أهل الرّأي قديما ، وفحواه : التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية من طريق العقل ، وجعلها مقياسا لصحة النصوص التشريعية ، فما وافقها فهو حكم الله الّذي يؤخذ به ، وما خالفها كان موضعا للرفض أو التشكيك.

وعلى هذا النوع من الاصطلاح ، تنزل التعبيرات الشائعة : ان هذا الحكم موافق للقياس وذلك الحكم مخالف له.

وقد كان القياس بهذا المعنى مثار معركة فكرية واسعة النطاق على عهد الإمام الصادق عليه‌السلام وأبي حنيفة (٢) ، وستأتي الإشارة إليها في موضعها من هذه الأحاديث ، وعلى أساس من هذا المصطلح ألّفت كتب للدفاع عن الشريعة وبيان أن أحكامها موافقة للقياس أي موافقة للعلل المنطقية ، وفي رسالة (القياس في الشرع الإسلامي) لابن القيم وابن تيمية مثل على ذلك ، ولكن هذا المصطلح

__________________

(١) مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه : ص ١٩.

(٢) عرضنا لهذه المعركة الفكرية مفصلا في محاضراتنا عن (تاريخ التشريع الإسلامي) الملقاة على طلاب السنة الثالثة في كلية الفقه. (المؤلف).

٢٩٢

تضاءل استعماله على ألسنة المتأخرين ، وأصبحت لفظة القياس لا تطلق غالبا إلا على ما عرضناه من المعنى الأول له ، وكاد ان يهجر المعنى الثاني على ألسنتهم ، وإنما أشرنا إليه لما يترتب على تاريخ هذه الكلمة (القياس) ومعناها ، عبر الأزمان ، من ثمرات في مجالات المناقشة في حجيته ستأتي الإشارة إليها في موضعها.

أركان القياس :

وللقياس بمعناه الأول أركان أربعة ، يمكن انتزاعها من نفس التعريف :

١ ـ الأصل أو المقيس عليه : وهو المحل الّذي ثبت حكمه في الشريعة ، ونصّ على علته ، أو استنبطت بإحدى المسالك الآتية.

٢ ـ الفرع أو المقيس : وهو الموضوع الّذي يراد معرفة حكمه من طريق مشاركته للأصل في علة الحكم.

٣ ـ الحكم : ويراد به الاعتبار الشرعي الّذي جعله الشارع على الأصل ، والّذي يطلب إثبات نظيره للفرع.

٤ ـ العلة : وهي على نحو الإجمال الجهة المشتركة بينهما التي بنى الشارع حكمه عليها في الأصل.

فإذا قال الشارع ـ مثلا ـ : حرّمت الخمر لإسكارها ، فالخمر أصل ، والحرمة حكمه ، والإسكار علتها ، فإذا وجد الإسكار في النبيذ (وهو الفرع) فقد ثبتت الحرمة له بالقياس.

وقد ذكروا لهذه الأركان شرائط ، وأطالوا في التحدث عنها وأكثرها انما ذكر للوقاية عن الوقوع فيما أسموه بالقياسات الفاسدة ، وليس من المهم عرضها الآن عدا ما يتصل منها بالعلة وملابساتها ، لأنها هي المنطلق للتحدث عن حجية القياس وعدمها ، فالأنسب قصر الكلام عليها.

٢٩٣

وقبل ان نبدأ الحديث فيها لا بدّ من التعرض إلى المراد من لفظ العلة وما يرجع إليها على نحو التفصيل.

تعريف العلة :

عرف كل من المقدسي والغزالي العلة بمناط الحكم (١) ، وفسر الغزالي مناط الحكم بقوله : «ما أضاف الشرع الحكم إليه وناطه به ونصبه علامة عليه» (٢). ومن هذا التعريف ، يعلم أن غرضهم من العلة ليس مدلولها الفلسفي ، أعني ما أوجبت معلولها لذاتها ولم يتخلف عنها ، وهي المؤلفة من المقتضى والشرط وعدم المانع ، بل غرضهم منها ما جعله الشارع علامة على الحكم ، وبهذا صرّح الغزالي بقوله : «لأن العلة الشرعية علامة وأمارة لا توجب الحكم بذاتها ، إنما معنى كونها علة نصب الشارع إياها علامة ، وذلك وضع من الشارع» (٣) ، وأضاف بعضهم إلى كونها أمارة وعلامة ، اعتبار المناسبة بينها وبين الحكم.

وأرادوا بالمناسبة ان تكون مظنّة لتحقيق حكمة الحكم «أي أن ربط الحكم بها وجودا وعدما من شأنه ان يحقق ما قصده الشارع بتشريع الحكم من جلب نفع أو دفع ضرر» (٤).

وقد فضل بعض الأصوليين ان يعرف العلة بقوله : هي «الوصف الظاهر المنضبط الّذي جعله الشارع علامة على الحكم مع مناسبته له» (٥).

وقد انتزعوا من هذا التعريف أمورا أسماها خلاف بالشرائط المتفق عليها ، والأنسب تسميتها بالأركان لأنها جماع ما أخذ في تعريف العلة وتحديدها ، هي :

__________________

(١) روضة الناظر : ص ١٤٦ ، والمستصفى : ٢ ـ ٥٤.

(٢) المستصفى : ٢ ـ ٥٤.

(٣) المصدر السابق : ٢ ـ ٧٢.

(٤) علم أصول الفقه لخلاف : ص ٧٧.

(٥) مباحث الحكم : ١ ـ ١٣٦.

٢٩٤

١ ـ ان تكون وصفا ظاهرا ، أي مدركا بحاسة من الحواس الظاهرة ليمكن اكتشافه في الفرع.

٢ ـ ان يكون وصفا منضبطا ، أي محددا بحدود معينة يمكن التحقق من وجودها في الفرع.

٣ ـ ان يكون وصفا مناسبا ، ومعنى مناسبته ان يكون مظنة لتحقيق حكمة الحكم.

وأضافوا إلى ذلك أمرا رابعا ، وهو :

٤ ـ ان لا يكون الوصف قاصرا على الأصل ، وهذا الأخير كان موضعا لخلاف بينهم ، ومن رأي خلاف ـ والحق معه ـ أنه لا ينبغي ان يكون موضعا لخلاف «لأنه لا تكون العلة أساسا للقياس إلا إذا كانت متعدية» (١).

وبهذه الشروط المنتزعة من التعريف ، حاولوا إقصاء العبادات عن كونها مجرى للقياس ، لأنها مما لا تدرك عللها بالعقل كعدد ركعات كل صلاة ، وعدد أيام الصيام ، وغيرهما من العبادات ، كما ألحقوا بها العقوبات المقدرة كعدد الجلد في الزنى ، وقذف المحصنات (٢) ، وهكذا ... وسيتضح فيما بعد أن قسما من هذه القيود إنما اتخذ على ألسنة المتأخرين منعا عن الوقوع في مفارقات السابقين عند ما توسعوا في التماس العلل حتى في العبادات وغيرها.

ولزيادة تحديد المراد من العلة ، نعرض لما عرضوا لذكره من التفرقة بينها وبين السبب والحكمة والشرط ، وهي ألفاظ شائعة الاستعمال على ألسنة الأصوليين ، ويتضح الفرق بينها إذا عرضنا لكلّ منها بشيء من التحديد.

__________________

(١) علم أصول الفقه : ص ٧٨.

(٢) مصادر التشريع الإسلامي : ص ٢١.

٢٩٥

تعريف السبب :

و «هو معنى ظاهر منضبط ، جعله الشارع أمارة للحكم» (١) وهو بهذا المعنى أعم من العلة لعدم أخذ المناسبة في تعريفه ، وقيد بعضهم السبب بما ليس بينه وبين المسبب مناسبة ظاهرة ، فيكون مباينا للعلة ، وقيل : انهما مترادفان ، يقول خلاف : «وبعض الأصوليين فرقوا بين علة الحكم وسببه بأن الأمر الظاهر ـ الّذي ربط الحكم به لأن من شأن ربطه به تحقيق حكمة الحكم ـ إن كان يعقل وجه كونه مظنة لتحقيق الحكمة يسمى علة الحكم ، وإن كان لا يعقل وجه هذا الارتباط يسمى بسبب الحكم ، فشهود شهر رمضان سبب لإيجاب صومه لا علة له ، لأن العقل لا يدرك وجه كون هذا الشهر دون سواه مظنة لتحقيق الحكمة لإيجاب الصوم ، ودلوك الشمس أي زوالها أو غروبها ، سبب لإيجاب إقامة الصلاة لا علة له ، لأن العقل لا يدرك وجه كون هذا الوقت دون غيره مظنّة لتحقيق الحكمة من إيجاب إقامة الصلاة ، فكل علة سبب وليس كل سبب علة ، وبعض الأصوليين لم يفرقوا بين لفظي العلة والسبب» (٢) ، وهذه التفرقة التي ذكرها بين السبب والعلة تنتهي إلى التباين بينهما ، فتفريعه بعد ذلك عليها بقوله : «فكل علة سبب ، وليس كل سبب علة» أي يكون النسبة بينهما هي العموم المطلق لا يتضح له وجه.

تعريف الحكمة :

و «هي المصلحة المقصودة للشارع من تشريع الحكم» (٣) أي «ما قصد إليه الشارع من جلب نفع ودفع ضرر» (٤) والفارق بينها وبين العلة أن العلة أخذ فيها قيد الانضباط ، والحكمة لم يؤخذ فيها ذلك القيد ، ولذا لم يجعلها الشارع أمارة على

__________________

(١) مباحث الحكم : ص ١٣٥.

(٢) مصادر التشريع الإسلامي : ص ٤٢.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٢٩٦

حكمه ، ولم يدر الحكم معها وجودا وعدما بخلاف العلة والسبب في حدود تعريفهما السابقين.

تعريف الشرط :

أما الشرط فقد أخذ في تعريفه ـ بالإضافة إلى ما اعتبر في السبب ـ عدم الإفضاء إلى المشروط ، أي عرفوه بأنه «الوصف الظاهر المنضبط الّذي يتوقف عليه وجود الشيء من غير إفضاء إليه» (١) أي من غير اقتضاء لوجود المشروط عند وجوده ، وان استلزم انعدام المشروط عند عدمه فيكون الفارق بينه وبينهما أن الحكم يدور معهما وجودا وعدما بخلاف الشرط ، فان وجوده لا يستلزم وجود المشروط ، فلا يدور مداره وجودا وإن استلزم انعدامه انعدام ما أخذ فيه ذلك الشرط.

تقسيمات العلة :

١ ـ تقسيمها باعتبار المناسبة :

وقد قسموا العلة من حيث اعتبار الشارع لمناسبتها وعدمه ونوعية ذلك الاعتبار إلى أربعة أقسام :

أ ـ ما أسموه بالمناسب المؤثر ، وهو الّذي اعتبر الشارع علة بأتم وجوه الاعتبار ، ودلل صراحة أو إشارة على ذلك و «ما دام الشارع دل على أن هذا المناسب هو علة الحكم فكأنه دل على أن الحكم نشأ عنه وأنه أثر من آثاره ، ولهذا سماه الأصوليون المناسب المؤثر وهو العلة المنصوص عليها» (٢) ، يقول خلاف : «ولا خلاف بين العلماء في بناء القياس على المناسب المؤثر ، ويسمون القياس بناء

__________________

(١) مباحث الحكم : ص ١٤٤.

(٢) مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه : ص ٤٥.

٢٩٧

عليه قياسا في معنى الأصل» (١) ، ولكن دعوى عدم الخلاف سينقضها ما يرد عن ابن حزم وغيره من عدم الأخذ به أصلا ، اللهم إلا ان يريد من عدم الخلاف هو عدم الخلاف بين خصوص الأخذين بالقياس كدليل من الأدلة الشرعية ، وهو خلاف ظاهر كلامه.

ب ـ المناسب الملائم : وهو الّذي لم يعتبره الشارع بعينه علة لحكمه في المقيس عليه وان كان قد اعتبره علة لحكم من جنس هذا الحكم في نصّ آخر ، ومثلوا له بالحديث القائل : «لا يزوّج البكر الصغيرة إلا وليّها» (٢) ففي رأي أصحاب القياس أن الحديث اشتمل على وصفين كل منهما صالح للتعليل وهو الصغر والبكارة ، وبما أنه علل ولاية الولي على الصغيرة في المال في آية (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)(٣) ، «وما دام الشارع قد اعتبر الصغر علة للولاية على المال ، والولاية على المال والولاية على التزويج نوعان من جنس واحد هو الولاية ، فيكون الشارع قد اعتبر الصغر علّة للولاية على التزويج بوجه من وجوه الاعتبار ، ولهذا يقاس على البكر الصغيرة من في حكمها من جهة نقص العقل وهي المجنونة أو المعتوهة وتقاس عليها أيضا الثيّب الصغيرة» (٤) وبذا أسقطوا دلالة لفظ البكارة من الحديث مع إمكان ان تكون جزءا من التعليل كما هو مقتضى جمعها مع الصغر لو أمكن استفادة التعليل من أمثال هذه التعابير ، وستأتي المناقشة في المسألة كبرويا ، فلا تهم المناقشة في الصغرى.

ج ـ المناسب الملغى : وهو الّذي ألغى الشارع اعتباره مع أنه مظنّة تحقيق

__________________

(١) مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه : ص ٤٥.

(٢) صحيح مسلم : كتاب النكاح ، أحاديث باب تزويج الأب البكر الصغيرة.

(٣) سورة النساء : الآية ٦.

(٤) مصادر التشريع : ص ٤٦.

٢٩٨

المصلحة «أي أن بناء الحكم عليه من شأنه ان يحقق مصلحة ، ولكن دل دليل شرعي على إلغاء اعتبار هذا المناسب ومنع بناء الحكم الشرعي عليه» (١).

ومثلوا له بفتوى من أفتى أحد الملوك بأن كفّارته في إفطار شهر رمضان هو خصوص صيام شهرين متتابعين ، لأنه وجد أن المناسب من تشريع الكفارات ردع أصحابها عن التهاون في الإفطار العمدي ، ومثل هذا الملك لا تهمة بقية خصال الكفارة لتوفّر عناصرها لديه ، فإلزامه بالصيام أكثر مناسبة لتحقيق مظنّة الحكمة من التشريع.

ولكن هذا الاستنتاج ينافي إطلاق التخيير ، فكأن الشارع المقدس ألغى بإطلاقه التخيير وعدم تقييده بالأخذ بالأشق هذا المناسب ، ولذلك لم يصبّوا هذا المفتي بفتياه.

د ـ المناسب المرسل : وهو الّذي يظهر للمجتهد أن بناء الحكم عليه لا بدّ ان يحقق مصلحة ما مع أن الشارع لم يقم على اعتباره أو إلغائه أيما دليل ، وسنطيل الوقوف عند هذا القسم في مبحث المصالح المرسلة ، إن شاء الله تعالى (٢).

٢ ـ تقسيم الاجتهاد في العلة :

ذكروا للاجتهاد في العلة أقساما ثلاثة :

أ ـ تحقيق المناط :

وقد قسّمه المقدسي إلى نوعين :

أولاهما : «أن تكون القاعدة الكلية متفقا عليها أو منصوصا عليها ، ويجتهد في تحقيقها في الفرع» (٣) ، ومثل له بالاجتهاد في القبلة وهو معلوم بالنص ، والاجتهاد

__________________

(١) مصادر التشريع : ص ٤٦.

(٢) راجع : ص ٣٥٩ وما بعدها من هذا الكتاب.

(٣) روضة الناظر : ص ١٤٦ وما بعدها.

٢٩٩

إنما يكون في تشخيص القبلة من بين الجهات ، وكذلك تعيين الإمام ، والعدل ، ومقدار الكفايات في النفقات ونحوها.

ثانيهما : «ما عرف علة الحكم فيه بنص أو إجماع ، فيبين المجتهد وجودها في الفرع باجتهاده ، مثل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الهرة (انها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات) (١) جعل الطواف علة ، فيبين المجتهد باجتهاده وجود الطواف في الحشرات من الفأرة وغيرها ليلحقها بالهر في الطهارة ، فهذا قياس جلي قد أقرّ به جماعة ممن ينكر القياس» (٢).

والأول من النوعين موضع اتفاق المسلمين على الأخذ به ، إلا أن اعتباره من قبيل تحقيق المناط مما لا يعرف له وجه ، لأنه لا يزيد على كونه اجتهادا في مقام تشخيص صغريات موضوع الحكم الكبروي ، وليس هو اجتهادا في تشخيص علة الأصل في الفرع لينتظم في هذا القسم ، فعده قسما من تحقيق المناط لا يبدو له وجه ، ولقد استدرك بعد ذلك فنفى هذا القسم من تحقيق المناط عن القياس لأن «هذا متفق عليه ، والقياس مختلف فيه» (٣) والأنسب تعليله بعدم انطباق مفهوم القياس عليه ، لأن الاتفاق والاختلاف لا يغيّر من واقع الأشياء إذا كان مفهومها متسعا له ، ثم علل سر الاتفاق عليه ـ فيما يبدو ـ بأن «هذا من ضرورة كل شريعة ، لأن التنصيص على عدالة كل شخص وقدر كفاية الأشخاص لا يوجد» (٤) ، وكأن مراده أن جميع القضايا الشرعية إنما وردت على سبيل القضايا الحقيقية لا القضايا الخارجية ، فلا تتكفل تشخيص وتعيين موضوعاتها خارجا ، وإنما يترك تشخيص الموضوعات إلى المكلفين أنفسهم بالطرق والقواعد المجعولة

__________________

(١) سنن الترمذي : كتاب الطهارة ، ح ٨٥.

(٢) روضة الناظر : ص ١٤٦ وما بعدها.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٣٠٠