الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

قائلين قد اتفقنا على الحكم الفلاني ، فإن هذا مع امتناعه لا يفيد العلم بالإجماع لاحتمال ان يكون بعضهم مخالفا فيه وسكت تقية وخوفا على نفسه» (١).

وهذا الإشكال ـ على فجوات في بعض فقراته وخطابية في أسلوب عرضه ـ يكاد لا يكون له مدفع نعرفه إذا أخذنا في مفهوم الإجماع اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اختلاف في مذاهبهم وآرائهم ، أو اتفاق أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اختلاف طوائفها كما هو مقتضى أدلة حجيته السمعية التي عرضناها في البحث السابق.

أما إذا ضيقنا في مفهومه إلى ما يخص مجتهدي مذهب معين أو جماعة يعلم بدخول الإمام في ضمنهم ، فقد يقال بإمكانه مع جهد الفحص والقطع بعدم الاتقاء ، ولا يبعد وقوع ذلك أحيانا.

فالمباني على هذا فيه مختلفة ، والمسألة تتبع المباني في إمكان العلم به وعدمه.

نعم ما يتصل منه بضروريات الدين أو بعض المدركات العقلية التي يقطع باتفاق العقلاء وتطابقهم عليها بما أنهم عقلاء ، فإنكار وقوعه مصادرة لا تعتمد على أساس. ولكن الحكم فيها لا يستفاد من الإجماع ولا تتوقف حجيته عليه.

فالحق ان تحصيل الإجماع بمفهومه الواسع أمر متعذر فيما عدا الضروريات الدينية أو العقلية.

وأكثر منه تعذرا تحصيل الإجماع من الإجماع السكوتي ، لأن السكوت لا يكون كاشفا عن الموافقة على الحكم واختياره ، لاحتمال التقية أو الجهل بالحكم وعدم اعتقاده بضرورة إعلانه أمام الآخرين أو غفلته عنه وهكذا ، فمجرد السكوت لا يكشف عن الموافقة ليتحقق بها الإجماع والاتفاق ، ومن هنا نعرف قيمة الإجماع السكوتي الّذي ذهب إلى اعتباره بعض الأصوليين.

__________________

(١) إرشاد الفحول : ص ٧٢.

٢٦١

وثاني الطريقين : بلوغه من طريق النقل ، وهذا الطريق ينقسم بدوره إلى متواتر ونقل آحاد ، وقد بحثوا هذه الطريق بقسميها بما أسموه بالإجماع المنقول :

١ ـ الإجماع المتواتر :

وهذا التواتر في النقل للإجماع وان كان من شأنه ان يفيد القطع بمدلوله ، الا أن حساب تحصيله لكل واحد منهم هو نفس ذلك الحساب السابق ، والخلاف من حيث الإمكان وعدمه هو نفس ذلك الخلاف ، فإذا جوزنا تحصيل الإجماع بأن أخذنا بدعوى من يقول بأنه يكفي فيه اجتماع جماعة يعلم بدخول المعصوم في ضمنهم ، كان هذا التواتر حجة لتحصيله القطع بمدلوله ، وإلا فمع احتمال اشتباه كل واحد منهم في دعوى الإجماع لا يمكن ان يحصل من اخبارهم القطع فلا يكون حجة.

٢ ـ الإجماع المنقول بأخبار الآحاد :

وهذا النوع من الإجماع لا يمكن الإيمان بحجيته إلا بعد معرفة مبنى الناقل للإجماع في منشأ حجيته ، وملاحظة موافقة المنقول إليه في المبني ثم التعرف على ما إذا كان من الممكن تحصيله لمثله أو لا ، ومع فرض إمكانه معرفة ما إذا كان نقله له مستلزما لنقل الحجة في حق المنقول إليه ، أي ان المبنى متحد في مدرك حجية الإجماع بينهما ، أو انه يعطي نفس النتيجة التي يعطيها المبني الآخر من حيث استلزام الحجية لو قدر لهما الاختلاف.

والمقياس ان يكون نقل الإجماع نقلا للحجة الشرعية ، ليدخل في كبرى حجية أخبار الآحاد.

ومع عدم التوفر على هذه الأمور لا يمكن الإيمان بحجية الإجماع المنقول.

وقد أطال أعلامنا في تقريب حجيته ، وجل ما قالوه يرجع إلى ما ذكرناه ، فلا حاجة إلى الإطالة في عرضه والتحدث فيه مفصلا.

٢٦٢

الباب الأول

القسم الرابع

دليل العقل

* الاختلاف في تحديد العقل

* ما يصلح من حدوده أن يكون أصلا

* العقل مدرك وليس بحاكم

* تقسيم المدركات العقلية

* أقسام الحسن والقبح

* اتفاق واختلاف

* رأي الأشاعرة ، أدلة ونقاش

* ذاتية الحسن والقبح وعدمها

* رأي المعتزلة ، أقسام الحسن والقبح عندهم ، أدلة ونقاش

* حجية العقل

* مذهب الماتريدية ومناقشته

* مذهب بعض الأخباريين من الشيعة ومناقشته

* خلاصة البحث.

٢٦٣
٢٦٤

الاختلاف في تحديد العقل :

والحديث حول العقل واعتباره من القواعد التي يستند إليها المجتهدون في مجالات استنباط أحكامهم كثر لدى الأصوليين ، إلا أنه لم يتحدد المراد منه عند الجميع.

وكلماتهم في ذلك مختلفة جدا ، وفي بعضها خلط بين العقل كمصدر للحجية في كثير من الأصول المنتجة للحكم الشرعي الفرعي الكلي أو الوظيفة ، وبين كونه أصلا بنفسه يصلح أن يقع كبرى لقياس استنباط الأحكام الفرعية الكلية كالكتاب والسنة على حد سواء.

وقد عقدت في كتب بعض الشيعة والسنّة أبواب لما أسموه بدليل العقل ، وعند فحص هذه الأبواب تجد المعروض فيها التماس العقل كدليل على ما ينتج الوظائف أو الأحكام الظاهرية ، أي أنك تجده دليلا على الأصل المنتج ، لا أنه بنفسه أصل منتج لها.

يقول الغزالي في مبحث دليل العقل ، وهو الأصل الرابع لديه : «دل العقل على براءة الذّمّة عن الواجبات وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسكنات قبل بعثة الرسل عليهم‌السلام ، وتأييدهم بالمعجزات ، وانتفاء الأحكام معلوم بدليل العقل قبل ورود السمع ، ونحن على استصحاب ذلك إلى أن يرد السمع» (١).

فالعقل عنده هنا من الأدلة على البراءة ، وهي أصل منتج للوظيفة ، فهو دليل على الأصل لا دليل على الوظيفة مباشرة.

__________________

(١) المستصفى : ١ ـ ١٢٧.

٢٦٥

وفي الحدائق الناضرة : «المقام الثالث : في دليل العقل ، وفسّره بعض بالبراءة والاستصحاب ، وآخرون قصروه على الثاني ، وثالث فسّره بلحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطاب ، ورابع بعد البراءة الأصلية والاستصحاب بالتلازم بين الحكمين المندرج في مقدمة الواجب ، واستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاصّ ، والدلالة الالتزامية» (١).

والّذي يتصل من كلامه هذا بدليل العقل كأصل ، هو خصوص ما يتصل بالتلازم بين الحكمين وإن كان اتصاله من حيث تشخيص الصغريات له ، أما الباقي منها فحسابه حساب ما ذكره الغزالي وغيره.

ما يصلح منها لأن يكون أصلا :

وعلى أي حال فان الّذي يرتبط ببحوثنا هذه من المدركات العقلية ، هو الإدراك الّذي يتعلق بالحكم الشرعي مباشرة ، وقد عرفه في القوانين المحكمة بأنه «حكم عقلي يوصل به إلى الحكم الشرعي ، وينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم بالحكم الشرعي» (٢).

والّذي يؤخذ على هذا التعريف من وجهة شكلية تعبيره بالحكم العقلي مع أنه ليس للعقل أكثر من وظيفة الإدراك وهو مقصوده حتما ، وأظن ان التعبير بالحكم وانتشاره هو الّذي أوجب ان يلتبس على بعض الباحثين في ان القائلين باعتبار العقل من الأصول يرونه هو الحاكم في مقابل الله عزوجل.

العقل مدرك وليس بحاكم :

والتعبير بالحكم العقلي ـ في المجالات التشريعية ـ وان أوهم ذلك إلا اننا لا

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ١ ـ ٤٠.

(٢) أصول الفقه للمظفر : ٣ ـ ١٠٨ نقلا عنه.

٢٦٦

نعرف من يذهب إلى القول به من المسلمين على الإطلاق ، وقد نسب ذلك على ألسنة بعض المشايخ إلى المعتزلة ، ففي مسلّم الثبوت «لا حكم إلا من الله تعالى بإجماع الأمة ، لا كما في كتب بعض المشايخ ان المعتزلة يرون ان الحاكم هو العقل ، فان هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الإسلام» (١).

وفي محيط الزركشي «ان المعتزلة لا ينكرون ان الله هو الشارع للأحكام والموجب لها ، والعقل عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي» (٢) نعم هناك مدركات عقلية لا تكشف عن حكم شرعي لاستحالة جعله من قبله وستأتي الإشارة إليها.

والخلاف الّذي وقع في الحقيقة انما هو في قابلية العقل لإدراك الأحكام الشرعية من غير طريق النقل ، أي ان الخلاف واقع في خصوص المستقلات العقلية لا غير ، ولإيضاح هذا الجانب نعرض المسألة بشيء من الحديث.

تقسيم المدركات العقلية :

لقد قسموا مدركات العقل إلى : مستقلة وغير مستقلة ، وأرادوا بالمستقلة ما تفرد العقل بإدراكه لها دون توسط بيان شرعي ، ومثلوا له بإدراك العقل الحسن والقبح المستلزم لإدراك حكم الشارع بهما ، وفي مقابلها غير المستقلة وهي التي يعتمد الإدراك فيها على بيان من الشارع ، كإدراكه وجوب المقدمة عند الشارع بعد اطلاعه على وجوب ذيها لديه ، أو إدراكه نهي الشارع عن الضد العام بعد اطلاعه على إيجاب ضده ، إلى ما هنالك مما ذكروه من الأمثلة وأكثرها موضع نقاش.

والظاهر ان ما يدركه العقل من اللوازم على اختلافها من بينة بالمعنى الأخص

__________________

(١) مباحث الحكم عند الأصوليين : ١ ـ ١٦٢ وما بعدها.

(٢) المصدر السابق.

٢٦٧

أو الأعم ، أو غير بينة إذا كانت لازمة لدليل لفظي ، أي ان ما لا يستقل العقل به من المدركات ، لا موضع لخلاف فيه لدى علماء الإسلام لا من حيث قابلية الإدراك العقلي ، ولا من حيث حجية مدركاته.

وإذا كانت هناك خلافات فإنما هي في تشخيص صغريات القاعدة ، كما يستفاد ذلك من عرضهم لمباحث غير المستقلات العقلية ، وانتهائهم في الكثير منها إلى إثبات هذه اللوازم واعتبارها حجة من دون مناقشة في صلاحية العقل لهذا الإدراك.

والخلاف بعد ذلك إنما هو في خصوص المستقلات العقلية ، أو قل في خصوص مسألة التحسين والتقبيح العقليين ، والظاهر أنها هي المصدر الوحيد لجل المدركات العقلية المستتبعة لإدراك الأحكام الشرعية.

والأمثلة التي أوردوها «كوجوب قضاء الدين وردّ الوديعة ، والعدل والإنصاف ، وحسن الصدق النافع ، وقبح الظلم وحرمته ، والكذب مع عدم الضرورة ، وحسن الإحسان واستحبابه ...» (١) ، انما هي من صغريات هذه القاعدة.

وبما أن الحديث في هذه القاعدة ، صغرى وكبرى يشكل أهم ما يتصل بمبحث العقل كدليل ، فلا بدّ من صرف الحديث إليها وتشخيص مواقع النزاع فيها ، ثم البحث عن حجيتها وعدمها.

أقسام الحسن والقبح :

يطلق الحسن والقبح على معاني ثلاثة ، اثنان منها موضع اتفاق الكلاميين والفلاسفة من المسلمين في إمكان إدراك العقل لها ، وواحد منها موضع الخلاف.

__________________

(١) أعيان الشيعة : ١ ـ ١٨ ق ٢.

٢٦٨

اتفاق واختلاف :

أما موضع الاتفاق منهما فيهما :

١ ـ الحسن بمعنى الملاءمة للطبع ، والقبح بمعنى عدمها ، فيقال مثلا : هذا المنظر حسن جميل وذلك المنظر قبيح ، أو هذا الصوت حسن وذلك قبيح ، ويريدون بذلك أنها ملائمة للطبع أو غير ملائمة.

٢ ـ الحسن بمعنى الكمال ، والقبح بمعنى عدمه ، فيقال بأن العلم حسن وأن الجهل قبيح ، يعني أن العلم فيه كمال للنفس بخلاف الجهل.

وهذا المعنيان ، هما اللذان كانا موضع الاتفاق ، فالأشاعرة والمعتزلة وغيرهما ، يؤمنون جميعا بإمكان إدراك العقل لهما.

وموضع الخلاف بعد ذلك هو في المعنى الثالث وهو :

٣ ـ الحسن بمعنى إدراك أن هذا الشيء أو ذاك مما ينبغي ان يفعل ، بحيث لو أقدم عليه الفاعل لكان موضع مدح العقلاء بما هم عقلاء ، والقبح بخلافه ، ولا ينافي ذلك أن يكون منشأ هذا الإدراك ـ أعني ـ إدراك أن هذا مما ينبغي أن يفعل أو لا يفعل هو أحد الإدراكين السابقين ، بمعنى أن العقل بعد أن يدرك ملائمة الشيء للنفس أو مجافاته لها أو يدرك كمال الشيء أو نقصه ، يدرك مع ذلك انه مما ينبغي أن يفعل أو لا يفعل.

والإدراك بالمعنى الثالث ، هو الّذي يسمّى على ألسنة الفلاسفة ب «العقل العملي» ويقابله ما يسمى ب «العقل النظريّ» كإدراك العقل أن الكل أعظم من الجزء ، وان النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وهما من حيث انتمائهما للعقل متحدان ، إلا أنهما يختلفان بلحاظ متعلق إدراكهما ، فإن كان مما ينبغي أن يعلم سمي بالعقل النظريّ ، وإن كان مما ينبغي أن يعمل سمي بالعقل العملي (١).

__________________

(١) أصول الفقه للمظفر : ٢ ـ ١٨.

٢٦٩

رأي الأشاعرة ، أدلة ونقاش :

من رأي الأشاعرة أنه «ليس للفعل نفسه حسن ولا قبح ذاتيان ولا لصفة توجبهما ، وإنما حسنه ورود الشرع بالإذن لنا فيه على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة ، وقبحه وروده بحظر من الشارع لنا منه على سبيل التحريم أو الكراهة ، وإذا ورد الشرع بإطلاق الفعل لنا أو منعنا منه ، فقلنا : إن ما أذن لنا فيه الشارع فحسن وما منعنا عنه فقبيح ، فإن هذا الوصف بالنسبة لأفعال المكلفين ليس منشؤه العقل إنما منشؤه حكم الشارع ، فمقياس الحسن والقبح عندهم هو الشرع لا العقل.

فالصلاة والصوم وأمثالهما مما أمر الله به حسن ، وليس حسنه إلا من جهة أمر الشارع به فقط ، والزنى والسرقة والقتل عدوانا بغير حق ، وأكل أموال الناس بالباطل ، كل ذلك قبيح لنهي الشارع عنه فقط ، فلو لم يكن أمر الشارع بما أمر ، ونهي الشارع عما نهى ، لما كان حسنا أو قبيحا» (١).

وهذا الرّأي الّذي تبناه الأشاعرة يشبه إلى حدّ بعيد مذهب بعض علماء الأخلاق في دعواهم بأن الخير والشر لا مقياس لهما غير القانون ، فما منع منه القانون كان شرّا محضا ، وما أجازه أو ألزم به كان خيرا كذلك.

وقد استدل الأشاعرة على ذلك بعدة أدلة نذكر أهمها :

١ ـ قولهم : «لو كان الحسن والقبح عقليين ، لاختلف الحكم على الأفعال من ناحية تحسينها وتقبيحها ، إذ العقول متفاوتة في حكمها على الأفعال ، فقد يعقل البعض حسنا فيما يقبحه الآخر والعكس ، بل ان العقل الواحد قد يحكم على الفعل تارة بالقبح وتارة بالحسن ، تحت تأثير الهوى والغرض أو مؤثرات أخرى» (٢).

__________________

(١) مباحث الحكم عند الأصوليين : ١ ـ ١٦٨.

(٢) المصدر السابق : ١ ـ ١٦٩.

٢٧٠

والجواب على هذا : ان العقول بما هي عقول لا تتفاوت في إدراكاتها وانما يقع التفاوت بين الناس بتأثير الهوى والغرض والمؤثرات الأخرى.

والمدركات العقلية المدعاة هي التي يتطابق عليها العقلاء بما أنهم عقلاء ، ومع فرض تطابقهم من حيث كونهم عقلاء ، فانه لا مسرح لافتراض الهوى والغرض والمؤثرات الأخرى ، والا للزم الخلف.

وما أكثر ما تتطابق آراء العقلاء على شيء ، وأمثلتها من العقل النظريّ كثيرة كالأوليات التي عرضناها في مبحث أصول الاحتجاج ، وكون الكل أكبر من الجزء ، ومن العقل العملي إدراكهم لحسن النظام وقبح الفوضى ، وحسن الاستقامة في السلوك وقبح الاستهتار والتعدي على الآخرين. إلى عشرات أمثالها.

ودليل تطابق العقلاء فيها اننا لا يمكن ان نتصور أمة من الأمم مهما كان شأنها من البداءة أو التحضر تستطيع ان تتبنى في دساتيرها الفوضى والكذب والاستهتار كمبدإ من مبادئ الدولة.

وأظن ان المستدل قد اختلطت عليه الكبريات العقلية بمجالات تطبيقها فوقع فيما وقع فيه من الخلط.

والظاهر ان تأثير الهوى والغرض والمؤثرات الأخرى انما يكون في الغالب في مجالات التطبيق والتماس الصغريات لحكم العقل ، وبها يكون الاختلاف ، ولعل إدراك الكثير من هذه الصغريات يكون بقوى أخرى غير العقل وبخاصة إذا كانت جزئية لأن العقل لا يدرك غير الكليات.

٢ ـ قولهم : «لو كان الحسن والقبح من الصفات الذاتيّة لكان ذلك مطردا فيه ولما تخلف عنه ، بل يبقى الفعل حسنا دائما أو قبيحا دائما ، والواقع غير ذلك ، لأن الكذب قد يكون قبيحا وقد يكون حسنا ، بل يكون واجبا إذا ترتب عليه خير محقق كإنقاذ بريء من يد سلطان جائر ، أو من يد ظالم له بطش ونفوذ ، ويقابل

٢٧١

ذلك ان الصدق يكون قبيحا في هذا المقام» (١).

والجواب على هذا يدعونا ان نتحدث قليلا في واقع هذا القسم من الحسن والقبح وموقعه من الذاتيّة وعدمها ليتضح لنا الجواب على هذا الاستدلال.

ذاتية الحسن والقبح وعدمها :

ذكرنا فيما سبق ان للحسن والقبح بالمعنى الثالث ـ أعني إدراك العقلاء بأن هذا الشيء مثلا مما ينبغي ان يفعل ـ مناشئ تعود في واقعها إلى الحسن والقبح بمعنييهما السابقين ، أعني الكمال والنقص أو الملاءمة وعدمها.

ونسبة هذه المناشئ إلى الحسن والقبح بالمعنى الثالث تختلف من حيث ما لها من قابلية في التأثير ، ويمكن تقسيمها استنادا لهذا السبب إلى ثلاثة أقسام :

أولها : ما كان علة تامة في التأثير «ويسمى الحسن والقبح فيه بالذاتيين مثل العدل والظلم ، فان العدل بما هو عدل لا يكون إلا حسنا أبدا ، أي أنه متى ما صدق عنوان العدل فانه لا بد ان يمدح عليه فاعله عند العقلاء ويعد عندهم محسنا ، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون إلا قبيحا ، أي انه متى ما صدق عنوان الظلم ، فان فاعله مذموم عندهم ويعد مسيئا» (٢).

ثانيها : ما فيه اقتضاء التأثير ، أي لو خلي وطبعه لكان مؤثرا ، ومثاله الصدق والكذب ، فالصدق بما هو صدق فيه اقتضاء التأثير في إدراك العقلاء بأنه مما ينبغي ان يفعل ويمدحون فاعله عليه ، بخلاف الكذب فإنه مذموم لديهم ، ولكن هذا التأثير لا يتم عادة مع وجود مزاحم له يمنع من تأثيره نظرا لأهميته ، كأن يكون في الصدق ما يوجب قتل النّفس المحترمة ، أو انتهاك عرض ، أو تسلط ظالم على مؤمن ، وهكذا.

__________________

(١) مباحث الحكم عند الأصوليين : ١ ـ ١٦٩.

(٢) أصول الفقه للمظفر : ٢ ـ ٢٤.

٢٧٢

ثالثها : ما ليس فيه اقتضاء ولا علّية فهو فاقد للتأثير لو خلي ونفسه ، ولكنه يتقبل العناوين الأخر ، فقد يأخذ عنوانا له علية التأثير في الحسن فيكون حسنا أو القبح قبيحا ، وأكثر المباحات الشرعية من هذا القبيل ، فشرب الماء مثلا لو لوحظ بمعزل عن أي عنوان آخر قد لا يكون له التأثير في إدراك العقلاء لحسنه أو قبحه لا على نحو العلية ولا على نحو الاقتضاء ، فوجوده لدى العقلاء كعدمه ، ولكنه إذا عرض عليه عنوان إنقاذ حياة صاحبه أو عرض عليه عنوان هلاكه ، كما لو كان ممنوعا عن شربه ، يكون علة في إدراك العقلاء لحسنه أو قبحه.

وعلى هذا فمعنى «كون الحسن أو القبح ذاتيا : ان العنوان المحكوم عليه بأحدهما ، بما هو في نفسه وفي حد ذاته ، يكون محكوما به لا من جهة اندراجه تحت عنوان آخر ، فلا يحتاج إلى واسطة في اتصافه بأحدهما» (١). ومعنى العلية والاقتضاء هنا هو «أن المراد من العلية أن العنوان بنفسه هو تمام موضوع حكم العقلاء بالحسن أو القبح ، وأن المراد من الاقتضاء أن العنوان لو خلي وطبعه ، يكون داخلا فيما هو موضوع لحكم العقلاء بالحسن أو القبح ، وليس المراد من العلية والاقتضاء ما هو معروف من معناهما انه بمعنى التأثير والإيجاد ، فإنه من البديهي انه لا علية ولا اقتضاء لعناوين الأفعال في أحكام العقلاء إلا من باب علية الموضوع لمحموله» (٢).

وبهذا العرض ـ فيما اعتقد ـ يتضح الجواب على استدلالهم هذا بأنه «لو كان الحسن والقبح من الصفات الذاتيّة ، لكان ذلك مطردا» ، لأن هذا الإشكال لا يتم إلا على مبنى من يذهب إلى أن الحسن والقبح لا يكونان إلا ذاتيين ـ ولست أعرف قائلا به على التحقيق ـ ومثل هذا الدليل يصلح للنقض إذا أريد إثبات

__________________

(١) أصول الفقه للمظفر : ٢ ـ ٢٥.

(٢) المصدر السابق.

٢٧٣

الذاتيّة لهما على سبيل الموجبة الكلية. أما على ما ذكرناه من التقسيم فلا يبقى له موضوع ، والأمثلة التي ذكرها مما تنتظم في القسم الثاني ، أي ما فيه اقتضاء التأثير لا عليته.

والّذي يبدو أن المستدل ينطوي في أعماقه على الإيمان بالحسن والقبح العقليين وإن لم ينتبه لذلك تفصيلا ، وتعبيره بأن «الكذب قد يكون قبيحا وقد يكون حسنا بل يكون واجبا» من أمارات ذلك الانطواء ، وإلا فما معنى حكمه على الكذب بالقبح أو الحسن إن لم يكن هناك حسن وقبح عقليان! ٣ ـ قولهم : «لو قيل : إن الحسن والقبح عقليان للزوم أن يكون الشارع الحكيم مقيدا في تشريعه للأحكام بهذه الأوصاف وإلاّ لكان التشريع مخالفا للمعقول ، وهذا نفسه قبح ينزه الله عنه» (١).

وبطلان اللازم في هذا الكلام لا أكاد أفهم له وجها ولا أعرف السر في نسبته إلى القبح.

وما هو المحذور في ان تكون تشريعاته عزوجل جارية على وفق المعقول؟! وهل ينتظر المستدل أن يجري في تشريعه على غير المعقول مع نسبته إلى الحكمة في لسان الدليل؟

والظاهر أن لفظة التقيد التي ورد مضمونها في تعبيره هي التي أوهمته ببطلان اللازم.

وربما كان الوجه في ذلك شعوره أن طبيعة التقيد تنافي الاختيار فيمن تنسب إليه لانطوائها على ضرورة السير وفق ما تقيد به ، وفي نسبة عدم الاختيار إليه تعالى قبح ينزه عنه.

والحقيقة أن لفظة التقيد لم ترد على لسان العدلية ـ في حدود ما قرأت من

__________________

(١) مباحث الحكم : ١ ـ ١٧٠.

٢٧٤

كلماتهم ـ وإنما ورد ما يعطي نتيجتها ، وهو السير على وفق المعقول واستحالة تخطي الشارع له.

وهذا النوع من السير والسلوك لا ينافي طبيعة الاختيار في صاحبه ، فالعاقل السوي مثلا لا يقدم على التضحية جزافا وهو مختار ، وإحجامه عنها لا ينافي اختياره بل هو بنفسه اختار ذلك الإحجام.

وبما أن الله عزوجل وهو خالق العقل وواهبه القدرة ـ بل هو العقل المحض ـ لو صح هذا التعبير ـ فسيره على وفق مخططه هو الّذي يقتضيه اختياره ، وليس من الممكن بالنسبة إليه اختيار المرجوح وترك الراجح ، بل ليس من الممكن لأي عاقل مهما كان شأنه ان يختار المرجوح وهو سليم معافى ، فكيف بخالق العقل ومدبره؟

فالالتزام بتقيده في تشريعاته على وفق العقل إن أريد به التقيد السالب للاختيار فليس بصحيح وهو تعالى مما ينزه عنه ، وإن أريد نتيجة التقيد وهو ما يقتضيه عمل العاقل المختار ، فليس فيه أي محذور.

٤ ـ قولهم : «لو لم يكن الحسن والقبح في الأفعال بحكم الشارع نفسه ، وكان بحكم العقل ، لاستحق تارك الحسن وفاعل القبح قبل بعثة الرسل العقاب ، وهذا مخالف لصريح الكتاب ، يقول الله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) ، ويقول : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى)(٢) ، فإن احتجاج الكافرين برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إيقاع العذاب من غير إرسال رسل ، لو فرض وقوعه ، وعدم

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ١٥.

(٢) سورة القصص : الآيتان ٤٧ ـ ٤٨.

٢٧٥

النكير من الله تعالى دليل على أنه لا عقاب ولا ثواب دون إرسال الرسل كما يدل عليه قوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(١)» (٢).

وللإجابة على هذا الدليل وهو من أهم أدلتهم نحتاج إلى تمهيد أمور :

١ ـ التذكير بما سبق أن ذكرناه من ان موضع الخلاف في معنى الحسن والقبح هو المعنى الثالث ، وهو إدراك العقل أن هذا الشيء مما ينبغي أن يفعل أو لا ينبغي ، ومدح الفاعل أو ذمه على ذلك.

ولازم هذا الإدراك الصادر منه ـ بما أنه عقل ـ هو تطابق العقلاء ـ بما أنهم عقلاء ـ على ذلك بما فيهم الشارع المقدس.

٢ ـ إن إدراكنا لهذا اللازم وتصديقنا به ليس هو من القضايا الضرورية ، وإنما هو من الآراء المحمودة والتأديبات الصلاحية.

والقضايا التأديبية لا يجب أن يحكم بها العقل إذا لم يتأدب بقبولها والاعتراف بها ، بخلاف القضايا الضرورية التي يكفي في الحكم بها تصور طرفيها ، ومقتضى ذلك ان الحكم بتطابق العقلاء في مسألة ما يحتاج إلى تأدب به ، ولا يجب ان يحكم به كل عاقل لو خلي ونفسه.

٣ ـ التفرقة بين مدح الشارع وذمه ـ بما أنه سيد العقلاء ـ وبين ثوابه على الفعل وعقابه ، فالذم والمدح يكفي فيهما صدور نفس الفعل من الفاعل بمنأى عن أي انتساب إلى جهة ، والثواب والعقاب لا يكفي فيهما ذلك بل يحتاجان إلى ان يكون صدور الفعل أو تركه منتسبا إلى المولى ليتحقق فيهما معنى الإطاعة أو العصيان ، وهما لا يكونان عادة بدون أن تتنجز التكاليف بالوصول ، وتوفر شرائطها بما فيها

__________________

(١) سورة النساء : الآية ١٦٤.

(٢) مباحث الحكم : ١ ـ ١٧٠. وقد آثرنا نقل أدلتهم عن هذا المصدر نظرا لوفائه بالتأدية مع يسر التعبير وسهولته (المؤلف).

٢٧٦

القدرة على الأداء ، ومن هنا حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل من المشرع.

فالثواب والعقاب ، وليدا إطاعة أو عصيان التكاليف الواصلة من المشرع ، كما هو واضح بالبداهة.

٤ ـ إن العقل وان كانت له وظيفة الإدراك ، إلاّ ان إدراكه محدد بحدود خاصة لا تتجاوز الكليات من ناحية ، ولا تعني كثيرا بمجالات التطبيق والقضايا الجزئية من ناحية أخرى.

وفي البشر قوى أخرى كالحواس والغرائز وغيرها مسئولة عن ذلك ، وهذه القوى عرضة لكثير من الأخطاء ، وكثير من تصرفاتها لا منطقية.

ومن هنا نرى كثرة الأخطاء في مجالات التطبيق لبعض المدركات العقلية ، فالعدالة مثلا مما تطابق على حسنها العقلاء ، وأقاموا عليها دساتيرهم وأنظمتهم وشرائعهم ، ولكنك لو حاولت التعرف عليها في مجالات التطبيق ، لرأيت التفاوت الكبير بينهم ، فالشيوعية ـ مثلا ـ ترى ان العدالة لا تتحقق إلا إذا ألغيت الملكية الفردية إلغاء تاما ، وعوضت بالملكية الجماعية ، بينما يرى دعاة الحرية الاقتصادية فسح المجال للفرد في ان يتملك ما يشاء ويعمل مواهبه في إنماء ملكيته دون تعرض لتحكم السلطات في شأنه ، وكل يدعي تحقيق العدل فيما تبناه من تشريعات ، وقد يكون بعضهم مخلصا في ذلك.

ولكن النظرة التجزيئية للإنسان وتركيز النّظر على بعض جوانبه الفردية أو الاجتماعية مع غفلة أو تغافل عن بقية الجوانب ، وقصور عن استيعاب النظرة وشمولها ، كل ذلك مما أوقعه بهذه التناقضات.

ومن هنا كان احتياج الإنسان إلى من يضمن له العدل في تشريعاته على أن تستوعب مختلف أبعاده المتشابكة ، سواء ما يتصل منها بتحديد علائق الفرد بربه ، أم بنفسه ، أم بمجتمعه ، أم المجتمعات بعضها ببعض.

٢٧٧

وبالطبع ، لا يمكن أن يضمن ذلك غير خالق الإنسان ، لأن خالق الشيء أخبر بمخلوقاته ، وأعرف من غيره بمتطلبات حياتها.

فالأحكام ـ كما يقول العدلية بل جميع المسلمين على اختلاف في منشأ القول ومبناه ـ وليدة مصالح ومفاسد في المتعلقات ، والعقول لو استشرفتها واطلعت على واقعها لأقرّتها حتما.

ولكن قصورها عن ذلك الإدراك وتطفلها على ما لا تحسن القول فيه ، هو الّذي أوقع بعض أربابها في كثير من المفارقات.

ومن هنا ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام : «إن دين الله لا يصاب بالعقول» (١) أي ما ثبت أنه من الدين لا يمكن للعقول أن تدرك فلسفته ككل لقصور إمكاناتها عنها في مجالات الإدراك.

ولكن هذا لا يمنع ، من أن يدرك العقل شيئا ـ على سبيل الموجبة الجزئية ـ ومن إدراكه يدرك حكم الشارع فيه إذا كان إدراكه على سبيل القطع.

وإذا تمت هذه التمهيدات اتضح عدم الوجه في دعوى التلازم بين المقدم والتالي في قولهم : «لو لم يكن الحسن والقبح في الأفعال بحكم الشارع نفسه وكان بحكم العقل لاستحق تارك الحسن وفاعل القبح قبل بعثة الرسول العقاب». إذ لا تنافي بين القول بأن الحسن بحكم العقل وبين عدم استحقاق العقاب.

فالعقول وإن قلنا بأن لها قابلية الإدراك إلا أن إدراكها منحصر في الكليات ولا يتناول الأمور الجزئية كما لا يتناول مجالات التطبيق إلاّ نادرا ، والكليات لا تستوعب شريعة ولا تفي بحاجات البشر ، ومع ذلك فالعقاب والثواب انما يتولدان عن التكاليف الواصلة ، ومجرد إدراك العاقل أن هذا الشيء مما ينبغي ان يفعل أو لا يفعل لا يستكشف منه رأي الشارع إلا إذا انتبه إلى أن العقلاء متطابقون على

__________________

(١) بحار الأنوار للمجلسي : ٢ ـ ٣٠٣ ، الحديث ٤١.

٢٧٨

هذا المعنى بما فيهم الشارع ، وإدراكه لتطابق العقلاء ليس من الأمور البديهية كما سبق أن قلنا ، وإنما هو من الآراء المحمودة التي تحتاج إلى تنبه وتأدب ، وأين التأدب في أمثال هذه القضايا قبل بعثة الرسل؟!

فالتكليف اذن ، بالنسبة إلى نوع الناس غير واصل قبل البعثة ، ولا تتم الحجة إلا بوصوله (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١).

ومن أوليات العقل تقبيحه للعقاب قبل وصول البيان ، وعلى هذا فليس هناك ما يمنع من الالتزام بإدراك العقل للحسن وعدم الالتزام بالعقاب والثواب.

والّذي يبدو من بعض الأحاديث أن هناك من أدرك حكم الشارع من طريق العقل وخالفه فاستحق لذلك العقاب ، ففي بعض الأحاديث : «إمرؤ القيس قائد الشعراء إلى النار» ، وفي بعضها الآخر «رأيت عمرو بن لحي يجر قصبة ـ أي أمعاءه ـ في النار» (٢) لأنه أول من بحر البحائر (٣) وسيب السوائب (٤). ومن المعلوم انه لا عقاب بلا تكليف واصل ، اللهم إلا ان يدعى وصول التكليف إليهم من الرسل السابقين على الإسلام.

وعلى أي حال فالثواب والعقاب وليدا وصول التكاليف ، وإدراك تطابق العقلاء الكاشف عن رأي المولى والموصل للتكاليف ليس من البديهيات ، وكونه من الآراء المحمودة مما يحتاج إلى التأدب ، وهو غير حاصل نوعا في تلكم العصور السابقة على بعثة الرسل قطعا ، فلا تلازم اذن بين إدراك العقل وعدم العقاب ،

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ١٥.

(٢) صحيح البخاري : كتاب المناقب ، الحديث ٣٢٦٠. ومسند أحمد : الحديث ٧٣٨٥.

(٣) البحيرة : الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا بحروا أذنها ، أي شقّوها ، وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل ... وجاء في الحديث : «أول من بحر البحائر ، وحمى الحامي ، وغيّر دين إسماعيل عمرو بن لحي». (تاج العروس : ١٠ ـ ١١٥ (بحر) طبع دار الهداية.

(٤) سيّب : أي أطلق البهائم للآلهة فلا يحمل عليها. والسوائب جمع السائبة وهي ما أطلق من الدواب للآلهة.

٢٧٩

والقول بأن مدح الشارع ثوابه وذمه عقابه لا أعرف له وجها ، فمدحه وذمه باعتباره سيد العقلاء شيء ، وباعتباره مشرعا شيء آخر ، فالأوّل لا يتوقف على وصول حكمه بخلاف الثاني ، إذ الثواب والعقاب موقوف على وصوله وامتثاله أو عصيانه ، ولا يكتفى فيه بصدور الفعل وعدمه.

رأي المعتزلة :

والمعتزلة في الوقت الّذي اتفقوا فيه على أن للأفعال في أنفسها حسنا وقبحا اختلفوا في كونهما ذاتيين فيها أو لصفة عارضة عليها ، فالذي عليه قدامي المعتزلة هو الأول منهما. وذهب الجبائية ـ وهم أتباع أبي علي الجبائي ـ إلى الثاني ، وقد عرفت من مناقشة الأشاعرة وجه الحق في المسألة ، فقد ذكرنا أن إدراكنا للشيء بأنه مما ينبغي ان يفعل أو لا ينبغي يختلف باختلاف مناشئه من حيث العلية والاقتضاء وعدمهما ، وان كلاّ من القولين هنا له منشأ سليم ولكن لا على سبيل الموجبة الكلية ، وانما يصدقان على سبيل الموجبة الجزئية فقط.

أقسام الحسن والقبح عندهم :

ولقد قسموا الحسن والقبح من حيث نوعية الإدراك إلى أقسام ثلاثة :

١ ـ «ما يدرك بضرورة العقل كحسن إنقاذ الغرقى والهلكى ، وشكر المنعم ، ومعرفة حسن الصدق وكقبح الكفران ، وإيلام البريء ، والكذب الّذي لا غرض فيه» (١).

٢ ـ «ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الّذي فيه ضرر ، وقبح الكذب الّذي فيه نفع» (٢).

__________________

(١) المستصفى : ١ ـ ٣٦.

(٢) المصدر السابق.

٢٨٠