الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

(١)

السنّة كلها تشريع :

والحديث حول كيفيات الاستفادة منها يدعونا ان نمهد له بالحديث عن تشخيص نفس السنة التي تقع موقع التشريع ، فهي وإن اتفقوا على تعريفها بقول المعصوم وفعله وتقريره إلا أنهم قيدوا حجيتها بما أحرز أنها واردة مورد التشريع ، ولذا قسموها إلى أقسام. يقول في سلّم الوصول ـ وهو كلام جار نظيره على ألسنة الكثير ـ : «ليس كل ما روي عن الرسول عليه الصلاة والسلام من أقواله وأفعاله وتقريراته تشريعا يطالب به المكلفون ، لأن الرسول بشر كسائر الناس اصطفاه الله رسولا لهداية الناس وإرشادهم ، قال تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ)(١) فما صدر منه ينتظم الأقسام الآتية:

١ ـ ما صدر منه بحسب طبيعته البشرية كالأكل ، والشرب ، والنوم ، وما إلى ذلك من الأمور التي مرجعها طبيعة الإنسان وحاجته.

٢ ـ ما صدر منه بحسب خبرته وتجاربه في الحياة وفي الأمور الدنيوية ، وبحسب تقديره الشخصي للظروف والأحوال الخاصة ، وذلك مثل شئون التجارة والزراعة والمسائل المتعلقة بالتدبيرات الحربية ، وما إلى ذلك من الأمور التي يعتمد فيها على مقتضيات الأحوال ومراعاة الظروف.

وهذان القسمان ليسا تشريعا ، لأن مرجع القسم الأول الطبيعة والحاجة البشرية ، ومرد القسم الثاني الخبرة والتجارب في الحياة والتقدير الشخصي

__________________

(١) سورة الكهف : الآية ١١٠.

٢٢١

للظروف الخاصة من غير ان يكون هناك دخل للوحي الإلهي ولا للنبوة والرسالة.

٣ ـ ما صدر منه على وجه التبليغ عن الله تعالى ، بصفته رسولا يجب الاقتداء به والعمل بما سنّة من الأحكام مثل تحليل شيء أو تحريمه ، والأمر بفعل أو النهي عنه ، وكبيان العبادات ، وتنظيم المعاملات ، والحكم بين الناس.

فهذا القسم الأخير تشريع عام يجب على كل مكلف العمل به. والأحاديث الواردة في هذا القسم تسمى بأحاديث الأحكام.

وبالجملة فإن أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته إنما تكون دليلا من الأدلة ، ومصدرا من المصادر التشريعية التي تستمد منها الأحكام الشرعية إذا صدرت منه بمقتضى رسالته لسنّ القوانين وتشريع الأحكام أو بيانها» (١).

ولكن هذه التفرقة بين أقسام ما يصدر عنه من قول أو فعل أو تقرير ، لا تخلو من غرابة إذا علمنا أنه ما من واقعة إلا ولها حكم في الشريعة الإسلامية كما هو مقتضى شموليتها ، ولا يفرق في ذلك بين ما تقتضيه طبيعته البشرية كالأكل والشرب وغيره ، إذا كان صادرا منه عن إرادة ، وبين غيره من تجارب.

وإذا تمّ ما سبق أن عرضناه من أدلة العصمة له ، فإن كل ما يصدر عنه بطبيعة الحال يكون موافقا لأحكام الشريعة ومعبّرا عنها ، وما دام الأكل والنوم والشرب من أفعاله الإرادية ، فهي محكومة حتما بأحد الأحكام ، فأصل الأكل محكوم بالجواز بالمعنى العام ، وأكله لنوع معين يدل على جوازه ، كما أن تركه لأنواع أخرى يدل على جواز الترك لها ، فالقول بأن ما كان من شئون طبيعته البشرية لا يعبر عن حكم ، لا يتضح له وجه.

كما أن ما يتصل بالقسم الثاني من شئون خبرته وتجاربه هو الآخر معبر عن

__________________

(١) سلم الوصول : ص ٢٦٢ وما بعدها.

٢٢٢

حكمه ، وحكمه هنا جواز التعبير عنه ـ وإن أخطأ الواقع ـ لو صحّ جواز خطئه في الموضوعات ، ولنا التأسي به في الإخبار عن تجاربنا وخبراتنا في حدود ما نعلم منها ، وحتى قوله ـ لو صح عنه : «أنتم أعلم بشئون دنياكم» (١) فهو إمضاء لهم على جواز إعمال تجاربهم وخبراتهم الخاصة ، فهو لا يخرج عن الدلالة على التشريع.

نعم ما كان من مختصات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالزواج بأكثر من أربع ، أو ما كان من أفعاله الطبيعية غير الإرادية ، فهو لا يعبر عن حكم عام.

والخلاصة ان تقييد السنة بما صدر عنه على وجه التشريع كما صنع غير واحد في غير موضعه ، لأن كل ما يصدر عنه من أفعاله الإرادية فهو تشريع عام عدا مختصاته الخاصة ، اللهم الا ان يريدوا به الإيضاح لا الاحتراز وهو بعيد عن مساق كلامهم. أقصاه ان بعض أفعاله تختلف عن البعض الآخر من حيث دلالتها على الحكم بعنوانه الأوّلي أو العنوان الثانوي ، ودلالتها أحيانا على جواز العمل بالحكم الظاهري ، وهكذا ...

(٢)

كيفيات الاستفادة منها :

وما دمنا قد علمنا أن السنة هي القول والفعل والتقرير ، فلا بدّ من التحدث عن مدى دلالة كل منها.

__________________

(١) صحيح مسلم : كتاب الفضائل باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرّأي وفيه : «أنتم أعلم بأمر دنياكم».

٢٢٣

دلالة القول :

واستفادة ما له من دلالة انما تكون بحسب ما تدل عليه الألفاظ بمفاهيمها اللغوية ـ أو الاصطلاحية فيما ثبتت فيه الحقيقة الشرعية من قبله ـ لما سبق ان أكدناه من أن الشارع لم يخترع لنفسه ولأتباعه طريقة جديدة خاصة للتفاهم ، وانما جرى على وفق ما عند العرب منها.

وهذه الألفاظ إن كانت نصّا في مدلولها أو ظاهرة فيه أخذ بها ، وإلا فلا بدّ من الاستعانة ـ في غوامض اللغة وغرائبها ـ بالرجوع إلى أهل الفن في ذلك كاللغويين في المفردات اللغوية ، والنحويين ، والصرفيين ، والبلاغيين في الهيئات وتراكيب اللغة وخصائص الأساليب ، واستشارتهم في هذه الجوانب والصدور عما يقولون.

حجية أقوال أهل الفن :

والظاهر أن المنشأ في حجية أقوالهم ، هو البناء العقلائي في رجوع الجاهل إلى العالم الممضى من قبل الشارع قطعا ، وربما اعتبره بعضهم من الأحكام العقلية التي تطابق عليها العقلاء بما فيهم الشارع المقدس.

نعم يعتبر في هؤلاء ان يكونوا خبراء في فنهم ، وأن يكونوا موثوقين في أداء ما ينتهون إليه ، لأنه هو المتيقن من ذلك البناء أو الحكم العقلي.

فالتشكيك اذن في حجية أقوال اللغويين أو غيرهم من أهل الفن في غير موضعه.

الأصول اللفظية :

وهناك أصول لفظية يرجع إليها عند الشك في المراد بسبب بعض الطوارئ التي تولد احتمالا على خلاف الظاهر كأصالة عدم التخصيص عند الشك في طرو مخصص على العام ، وأصالة عدم التقييد عند الشك في طرو المقيد على المطلق ،

٢٢٤

وأصالة عدم القرينة عند الشك في إقامتها على خلاف الحقيقة وتجمعها أصالة الظهور ، وهذه الأصول ونظائرها ، انما تجري لدى أهل العرف ـ وهم منشأ حجيتها مع العلم بإقرار الشارع لهم عليها ، لما قلناه من عدم اختراعه طريقة للتفاهم خاصة به ـ عند الشك في تعيين المراد ، ولا تجري فيما إذا علم المراد وشك في كيفية الإرادة ، فأصالة عدم القرينة ـ مثلا ـ لا تجري فيما إذا علم باستعمال لفظة ما في أحد المعاني ، وشكّ في كون الاستعمال كان على نحو الحقيقة أو المجاز لتثبت أنه على نحو الحقيقة باعتبار أن المجاز مما لا يحتاج إلى قرينة ، وأصالة عدم القرينة تدفعها بل تجري إذا احتملنا إرادة أحد معنيين حقيقي ومجازي ولم نستطع تعيينه بالذات ، فأصالة عدم القرينة تعيّن المعنى الحقيقي منهما.

دلالة الفعل :

وقد اختلفوا في مقدار ما يستفاد من أفعاله ، فالذي عليه أبو اليسر هو التفصيل بين أن يكون الفعل معاملة فالإباحة إجماعا ، وبين ان يكون قربة فهو محل الخلاف ، والّذي نقل عن مالك : «الوجوب عليه وعلينا ، وقال الكرخي : مباح في حقه لتيقنها بالفعل ، وليس للأمة اتباعه إلا بدليل ، وقال جمع من الحنفية : الإباحة في حقه ، وليس لنا اتباعه إلا بدليل» (١).

«وهذان المذهبان ، يعكران على نقل أبي اليسر الإجماع على الإباحة في المعاملات ، فانهما لم يفرقا بين قربة ومعاملة ، وقال المحققون : إن الخلاف إنما هو بالنسبة إلى الأمة ، فمن قائل بالوجوب ، ومن قائل بالندب ، ومن قائل بالإباحة ، ومن قائل بالوقف» (٢).

والّذي عليه من نعرف من محققي الشيعة عدم دلالته على أكثر من الإباحة

__________________

(١) أصول الفقه للخضري : ص ٢٣٢ وما بعدها.

(٢) المصدر السابق.

٢٢٥

بالمعنى العام لا الإباحة في مقابل الوجوب والحرمة ، باستثناء ما كان قريبا منه ، لأن التقرب يصلح للقرينية على رجحان ما أتى به ، ولا يعيّن نوعه من وجوب أو استحباب إذ لا معنى للتقرب بالمكروه أو المباح.

وعمدة ما يصلح للدليلية لهم هو كون الفعل مجملا بنفسه لا لسان له ليتعبد بمقتضى ما يدل عليه لسانه ، وغاية ما تدل عليه أدلة العصمة أن المعصوم لا يرتكب الذنب ، فمجرد صدور الفعل منه ، يدل على أن ما أتى به ليس بمحرم عليه وإنما هو مباح بالمعنى الأعم للإباحة ، وأوامر الاقتداء به تدل على مشاركتنا له في جميع الأحكام إلا ما كان من مختصاته ، فهو إذن مباح لنا أيضا ، ودعوى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصدر منه إلا ما كان راجحا ، فلا يعمل المكروه ولا المباحات مع توفر العناوين الثانوية التي يمكن أن تحول ما كان مباحا بالأصل إلى مستحب بالعنوان الثانوي ـ وإن كان مما يقتضيها مقام النبوة ـ إلا أن أدلة العصمة لا تلزم بها أصلا.

واستدلال بعضهم على الوجوب علينا بأوامر الاقتداء ـ الدالة على لزوم متابعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل ما يفعله حتى المباحات حيث تتحول مباحاته إلى واجبات في حقنا بحكم لزوم المتابعة ـ لا يخلو من غرابة ، لأن أوامر الاقتداء لا تقتضي أكثر من الإتيان بالأفعال على الوجه الّذي أتى به ، فإذا افترضناها مباحة أو مستحبة ، فتحويلها إلى الوجوب في حقنا ينافي طبيعة الاقتداء والالتزام بما التزم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن معنى اقتدائنا به في المباحات هو كوننا مخيرين بين الفعل والترك كما هو مخير بينهما ، فإضفاء صفة الوجوب عليها ، ينتهي بنا إلى الخلف طبعا.

والظاهر ان الآمدي ، وابن الحاجب ، والخضرمي من المتأخرين ، ممن تبنوا هذا الرّأي الّذي انتهى إليه المحققون من الشيعة ، يقول الخضري : «ومختار الآمدي

٢٢٦

وابن الحاجب ما ذكرنا أولا وهو الظاهر ، لأن المتيقن من صدور الفعل منه إباحته فلا يثبت الزائد على ذلك إلاّ بدليل.

وظهور قصد القربة دليل على أن الفعل مطلوب ، والمتيقن من الطلب الندب ، فلا يثبت ما زاد عنه.

أما ادعاء ان الفعل يثبت بنفسه مع جهل صفته حكما شرعيا فوق الإباحة ، فهو قول بلا دليل ، وكل ما ذكروه من أدلتهم إنما يتجه إذا علمت صفة الفعل ، وفرض المسألة انها مجهولة» (١).

إلا أن الّذي يؤخذ على الخضري عدم تقييده الإباحة بكونها بالمعنى العام مما يوهم إرادة الإباحة الاصطلاحية ، أي تساوي الطرفين ، وهي لا معين لها أيضا ، كما ان تعبيره بعد ذلك ان المتيقن من الطلب الندب ، لا يخلو من مسامحة أيضا ، لأن الندب نوع من أنواع الطلب في مقابل الوجوب وله فصله الخاصّ ، فتعيينه بالذّات يحتاج إلى معنى لأن نسبة الطلب إليهما نسبة واحدة ما دام معتبرا من قبيل الجنس لهما.

نعم لو كان هو مرتبة من الوجوب لأمكن ان يقال بالقدر المتيقن بالنسبة له ، ولكنه ليس كذلك بداهة ، بل هو نوع في مقابله له حدوده الخاصة فلا معنى لاعتباره قدرا متيقنا له.

دلالة الترك :

ولا يستفاد منها أكثر من عدم الوجوب ، أما تعيين الحرمة أو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة فلا معين لها ، لأن القدر المتيقن من أدلة العصمة انه لا يرتكب الذنب ، فتركه للشيء إذن لا يكون تركا لواجب كما هو مقتضى ما تدل عليه

__________________

(١) أصول الفقه : ص ٢٣٣.

٢٢٧

وتلزم به ، وإن كان في ما يقتضيه مقام النبوة ان لا يواظب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ترك مستحب ، كما سبقت الإشارة إليه.

دلالة التقرير :

والظاهر أن ما يفيده الإقرار على الشيء لا يدل على أكثر من الجواز بالمعنى العام سواء كان متعلقه فعلا عابرا ، أم عادة متحكمة ، أم عرفا خاصا ، أم بناء عقلائيا ، اللهم إلا ان يكون البناء أو العرف قائما على حجة ملزمة فإقراره يستلزم ثبوت حجيتها عند الشارع المساوق للإلزام بها في مواقع الإلزام كما هو الشأن في الأخذ بأخبار الثقات وبالبناء العقلائي على الأخذ بالظواهر والعمل بالاستصحاب وأمثالها.

هذا إذا لم تكن هناك قرينة تبين نوع الحكم المقر ، كما لو كانت بعض العادات مثلا قد اتخذت طابع الحكم الإلزاميّ عندهم ، فإقرارهم عليه يدل على الإلزام به ، أما الإقرار على عدم الفعل فهو لا يدل على أكثر من عدم وجوبه.

والقول بأن التقرير يدل على الإباحة (١) إذا أريد من الإباحة تساوي الطرفين مشكل إذ لا معين لها من بين أنواع الجواز والتقرير كالفعل لا لسان له فهو مجمل ، والقدر المتيقن منه الإباحة بالمعنى العام فتعيين فصلها يحتاج إلى معين.

وقد اشترط غير واحد اعتبار القدرة على الإنكار في حجية التقرير وهو شرط سار في جميع أنواع السنّة ، لأن القدرة على التبليغ شرط فيها جميعا.

نعم يستفاد من السكوت مع عدم القدرة على الإنكار أن ذلك ـ أعني السكوت ـ مشروع للتقية ، بل هو من أدلة مشروعية التقية التي لا مدفع لها.

__________________

(١) أصول الفقه : ص ٢٣٣.

٢٢٨

الباب الأول

القسم الثاني

السّنّة

(٧)

السنّة والكتاب

* السنّة وعلائقها بالكتاب

* نوعية أحكامها

* تخصيص الكتاب بها وعدمه

* نسخ الكتاب بالسنّة

* رتبة السنّة من الكتاب

٢٢٩
٢٣٠

السنّة وعلائقها بالكتاب :

وإذا عرفنا مفهوم السنة وتعرفنا على حجيتها ، واستطعنا التوصل إليها من طرقها الذاتيّة أو المجعولة ، وعرفنا مضامينها حسب الكيفيات المجعولة ، لذلك كان علينا بعدها ان نبحث علائقها بالكتاب العزيز. والحديث حول ذلك يقع في مواقع أهمها أربعة :

١ ـ نوعية ما ترد به من أحكام ونسبته إلى الكتاب العزيز.

٢ ـ إمكان تخصيص الكتاب بها وعدمه.

٣ ـ إمكان نسخ الكتاب بها وعدمه.

٤ ـ رتبتها من الكتاب عند الاستدلال والمعارضة.

١ ـ نوعية أحكامها :

أما نوعية أحكامها فهي حسبما يدل عليه استقراؤها في مصادرها لا تخرج عن أحد ثلاثة :

أ ـ تأكيد ما ورد في الكتاب من أحكامه عامة ، كالأحاديث الآمرة بأصل الصلاة والصيام والزكاة والحج ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكالأحاديث الناهية عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وما أهلّ به لغير الله ، وحسابها حساب الآيات المتعددة الدالة على حكم واحد.

ب ـ شرح ما ورد من آيات عامة في القرآن ، وبيان أساليب أدائها وامتثالها والتعرض لكل ما يتصل بها من أجزاء وشرائط وموانع ، كالأحاديث المحددة للمراد من الصلاة والصيام والحج ، والمبيّنة لأجزائها وشرائطها وموانعها وكل ما

٢٣١

يرتبط بها من شئون الأداء.

ج ـ تأسيس أحكام جديدة لم يتعرض لها الكتاب فيما نعرف من آيات أحكامه مثل حرمان القاتل من الميراث إذا قتل مورثه ، وتحريم الجمع بين نكاح العمة وابنة أخيها أو الخالة وابنة أختها إلا بإذنها ، وكتحريم لبس الحرير للرجال وأمثالها ، يقول ابن القيم : «والسنة مع القرآن ثلاثة أوجه : أحدها : أن تكون موافقة له من كل وجه فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها ، والثاني : ان تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له ، والثالث : ان تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه» (١).

٢ ـ تخصيص الكتاب بها وعدمه :

ومن اعتبار صفة الشرح والبيان لها يتضح أنه ليس هناك ما يمنع من تخصيص الكتب بها ما دام المخصص بمنزلة القرينة الكاشفة عن المراد من العام ، والظاهر أنه بهذا المقدار موضع اتفاق المسلمين ، ولذلك أرسلوا ـ إرسال المسلمات ـ إمكان تخصيص الكتاب بما تواتر من السنة ، ولكن موضع الخلاف في السنة التي تثبت باخبار الآحاد ، فالذي عليه الجمهور ان «خبر الواحد يخص عام الكتاب كما يخصه المتواتر» (٢) وفصل الحنفية بين أن يكون العام الكتابي قد خصص من قبل بقطعي حتى صار بذلك التخصيص ظنيا ، وبين ما لم يخصص فجوزوه في الأول ومنعوه في الثاني (٣) ، وذهب البعض إلى المنع مطلقا.

وعمدة ما استدلوا به دليلان :

__________________

(١) سلم الوصول : ص ٢٥٩ نقلا عن أعلام الموقعين : ٢ ـ ٢٣٢.

(٢) أصول الفقه للخضري : ص ١٨٤.

(٣) المصدر السابق.

٢٣٢

أولهما : دعوى ان الخبر الواحد لا يقوى على معارضة الكتاب ، لأن الكتاب قطعي وخبر الواحد ظني.

وثانيهما : موقف عمر بن الخطاب من حديث فاطمة بنت قيس : «حينما روت انه عليه الصلاة والسلام لم يجعل لها نفقة ولا سكنى وهي بائن ، فقال عمر : لا نترك كتاب ربنا ، ولا سنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصابت أم أخطأت» (١).

وكلاهما لا يصلحان للدلالة على المقصود ، أما الأول منهما فلأن نسبة الخاصّ إلى العام نسبة القرينة إلى ذي القرينة ، وليس بينهما تعارض كما هو فحوى الدليل ، وحيث يمكن الجمع بين الدليلين لا مجال لطرح أحدهما وإلغائه. ولو فرض التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما عرفا ، لما أمكن رفع اليد عن الكتاب بالتخصيص حتى في السنة المتواترة ، بينما لم يلتزم أحد منهم بذلك ، بل لما أمكن ورود الخاصّ من الشارع أصلا لاستحالة تناقضه على نفسه كما هو الشأن في المتباينين أو العامين من وجه عند ما يلتقي الحكمان في موضع التقائهما حيث حكموا بالتساقط في الأخبار الحاكية لذلك فيهما.

وبعد افتراض حجية الخاصّ في نفسه وإن كان مرويا بأخبار الآحاد ، فأي مانع من إعطائه صفة الشرح لما أريد من العام الكتابي؟ ومع التنزل فان التعارض في الحقيقة ليس بين سنديهما ليقدم القطعي على الظني ، وإنما هو بين ظنية الطريق في خبر الآحاد ، وظنية الدلالة في العام الكتابي ، فالكتاب وإن كان قطعي الصدور إلا أنه ظني الدلالة بحكم ما له من ظهور في العموم ، ولا موجب لإسقاط أحدهما بالآخر.

نعم لو كان العموم الكتابي مما لا يقبل التخصيص لكونه نصا في مدلوله لا يحتمل الخلاف ، ولا يتقبل قرينة عليه ، لتعين القول بإسقاط الخبر وتكذيبه

__________________

(١) أصول الفقه للخضري : ص ١٨٤.

٢٣٣

لاستحالة صدور التناقض من الشارع ، وحيث ان الكتاب مقطوع الصدور ومقطوع الدلالة ، فلا بدّ ان يكون الكذب منسوبا إلى الخبر ويتعين لذلك طرحه.

وبهذا العرض يتضح معنى الأخبار الواردة عن المعصومين في اعتبار ما خالف كتاب الله زخرفا ، أو يرمى به عرض الجدار ، وجعل الكتاب مقياسا لصحة الخبر عند المعارضة في الأحكام التي تعرّض لها الكتاب.

واتهام الزنادقة بوضع هذه الأخبار ـ كما ورد على لسان بعض الأصوليين ـ منشؤه عدم إدراك معنى الحديث.

نعم قد يقال ان النسخ يقتضي أحيانا مصادمة الحديث الناسخ للكتاب ، فكيف يجعل الكتاب مقياسا لصحته ، وهذا الإشكال صحيح لو كانت هذه الأحاديث واردة في غير أبواب التعادل المستدعي لتعارض الأخبار ، والتعارض لا يكون إلا في أخبار الآحاد ، وسيأتي أن النسخ لا يكون بخبر الواحد إجماعا على أن النسخ ـ لو لا الإجماع على عدم وقوعه بخبر الآحاد ـ لأمكن القول به هنا أيضا ، لحكومة الدليل الناسخ على الدليل المنسوخ ، ولا تصادم بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم ، فلا تصدق المخالفة مع عدم التصادم ، وسيأتي إيضاح ذلك عما قليل.

أما الدليل الثاني ـ أعني رأي الخليفة عمر ـ فإن أريد من الاستدلال به أنه سنة واجبة الاتباع أخذا بما ذهب إليه الشاطبي ، فقد عرفت ما فيه في مبحث سنة الصحابة ، وإن أريد الاستدلال به بما أنه مذهب الصحابي واجتهاده ، فسيأتي ما فيه ، وأنه لا يصلح ان يكون حجة إلا عليه وعلى مقلديه لا على المجتهدين ، كما هو التحقيق ، على أن الّذي يبدو من الرواية المذكورة تشكيك الخليفة في قيمة روايتها ، وهو أجنبي عن جواز التخصيص بخبر الثقة وعدمه ، فلا تصلح للاستدلال بها أصلا ، والّذي يظهر من إقرار الخليفة عمر للخليفة الأول في

٢٣٤

تخصيصه لآية المواريث بخبره الّذي انفرد بنقله : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» (١) ، وعدم الإنكار عليه ، أنه من القائلين بجواز التخصيص بخبر الآحاد.

ودعوى الخضري (٢) أن هذا الحديث ونظائره قد يكون مستفيضا إلى درجة توجب القطع ، غريبة ، لأنها تصادم كلما صحّ نقله في هذا الباب من انفراد الخليفة بنقله (٣).

وما يقال عن التخصيص يقال عن التقييد بأخبار الآحاد لمطلقات الكتاب ، والحديث فيهما واحد.

وإذا صحّ هذا لم نعد بحاجة إلى استعراض ما طرأ على آية (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ)(٤) ونظائرها من الآيات من التخصيصات المأثورة بأخبار الآحاد ، والمقرة من قبل الصحابة ، كما أنا لم نعد بحاجة إلى مناقشة الحنفية في تفصيلهم الّذي لا يعرف له مأخذ يمكن الركون إليه.

٣ ـ نسخ الكتاب بالسنّة :

ويراد من النسخ ـ على ما هو التحقيق في مفهومه ـ : رفع الحكم في مقام الإثبات عن الأزمنة اللاحقة مع ارتفاعه في مقام الثبوت لارتفاع ملاكه ، وهو لا يتأتى إلا في الأحكام التي تؤدي بصيغ العموم ، أو كل ما يدل عليه ـ ولو بمعونة القرائن ـ من حيث التعميم لجميع الأزمنة.

وارتفاع الأحكام التي تقيد بوقت معين لانتهاء وقتها لا يسمى نسخا اصطلاحا ، وقد أحاله فريق لأدلة عقلية لا تنهض بذلك وسرها الجهل بحقيقته ، بتخيل ان الرفع واقع في مقام الثبوت بعد وضع الحكم على الأزمان اللاحقة للعلم

__________________

(١) مسند أحمد : مسند أبي هريرة ، الحديث ٩٦٥٥ ، وفيه : «انا معشر الأنبياء لا نورث».

(٢) أصول الفقه للخضري : ص ١٨٤.

(٣) راجع مصادره في النص والاجتهاد في قصة فدك وغيره.

(٤) سورة النساء : الآية ٢٤.

٢٣٥

الحادث بتبدل المصلحة مما يوجب نسبة الجهل إلى الله تعالى وتقدس عما يتخيلون ، بينما هو في واقعة لا يتجاوز مقام الإثبات لمصلحة التدرج في التبليغ ، والحكم ابتداء لم يجعل إلا على قدر توفر الملاك فيه ، والمصلحة والمفسدة اللذان هما ملاكا الأحكام مما يتأثران بعوامل الزمان والمكان قطعا ، وسيأتي إيضاح أنهما ليسا من قبيل الحسن والقبح الذاتيّين دائما ليلزم الخلف ، والحكم في الأزمنة اللاحقة لم يثبت في مقام الجعل ليقال كيف يرتفع الحكم الثابت مع ما يلزم منه فرض إثبات صفة الثبوت له.

والحقيقة ان النسخ لا يتجاوز الإخبار عن عدم تحقق الملاك في الأزمنة اللاحقة ، الملازم لارتفاع الحكم ثبوتا وان أدي بصيغ الرفع في مقام التبليغ.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى إمكانه وأجمع المسلمون على وقوعه ، ولم ينقل الخلاف الا عن أبي مسلم الأصفهاني «ولم يحقق الناقلون مذهبه» (١) وقد استظهر الخضري «ان خلاف أبي مسلم انما هو في نسخ نصوص القرآن ، فهو يرى ان القرآن كله محكم لا تبديل لكلمات الله» (٢) وما أدري ما قيمة هذا الكلام بعد تصريح القرآن بإمكان النسخ في آياته (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)(٣) على ان النسخ المدعى هنا ليس هو تبديلا لكلمات الله وانما هو شرح للمراد منها وتقييد أو تخصيص لظهوراتها ، ثم ليس فيها مصادمة لنص لا يحتمل الخلاف ، وحاشا لله ان يكذب نفسه أو وليا من أوليائه المبلغين عنه (٤) ، وما قلناه أو قالوه عن التخصيص يقال عن النسخ.

__________________

(١) أصول الفقه للخضري : ص ٢٤٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) سورة البقرة : الآية ١٠٥.

(٤) ومن هنا صرحوا ان أمثال هذه الآيات لا تقبل نسخا (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) كما صرحوا ان الآيات المخبرة عن أمور تقع لا تقبل النسخ لانتهائها إلى التكذيب (راجع : سلم الوصول : ص ٣٣٧).

٢٣٦

وهذا من الأمور التي تكاد تكون بديهية بين المسلمين فلا تحتاج إلى إطالة حديث ، والظاهر ان النسخ واقع في الكتاب من الكتاب ومن السنة على خلاف في قلة وكثرة الأحكام التي يدعى لها النسخ ، وقد استعرض أستاذنا الخوئي قدس سرّه في كتابه «البيان» كل ما قيل عن الآيات المنسوخة وحاكمه بجهد ولم يجد فيها ما يصلح ان يكون منسوخا الا أقل القليل.

والخلاف الّذي وقع انما هو في إمكان نسخ الأحكام ـ المقطوعة أسانيدها كالأحكام الكتابية والمتواترة من السنة ـ بأخبار الآحاد ، وأكثرية المسلمين على المنع وربما ادعي عليه الإجماع ، وأهم ما لديهم من الشبه هي شبهة ان الظني لا يقاوم القطعي فيبطله ، وهي شبهة عرفت قيمتها في الحديث عن التخصيص لعدم المعارضة بينهما ، لأن الدليل الناسخ لا يزيد على كونه شارحا للمراد من الدليل المنسوخ وقرينة على عدم إرادة الظهور وحاله حال التخصيص ، على ان الخبر وان كان ظنيا في طريقه ، الا أنه مقطوع الحجية للأدلة السابقة ، ومع الغض وافتراض المعارضة فانها في الحقيقة قائمة بين ظنين لا بين قطعي وظني ، أي بين ظنية الدلالة في مقطوع السند وظنية الطريق.

ولعل منشأ الإجماع المدعى أو اتفاق الأكثرية انما هو في وضع حد لما يمكن ان يقع من التسامح في دعوى النسخ وإبطال الأحكام لمجرد ورود خبر ما ، وهو عمل في موضعه وربما استدعته صيانة الشريعة عن عبث المتلاعبين بأحكام الله والوقوف دون تصرفاتهم ، وعلى الأخص وان في الدخلاء على الإسلام من تمثل بصورة القديسين ليتسنى له هدم الإسلام وتقويض قواعده.

٤ ـ رتبة السنّة من الكتاب :

من الكلمات المألوفة على ألسنة كثير من الأصوليين ان رتبة السنّة متأخرة عن رتبة الكتاب في الاعتبار.

٢٣٧

وهو كلام لا أعرف له مدلولا يمكن الاطمئنان إليه لاضطراب في تحديد معنى الرتبة هنا ، فالذي يظهر من بعض أقوالهم ان مرادهم بها ان تقدم الكتاب على السنّة من قبيل تقدم الحاكم على المحكوم ، أي مع وجود دليل من الكتاب لا ينظر إلى السنّة ولا تلتمس كدليل ، وهي أشبه بما ذكرنا من التقدم الرتبي لأدلة الأمارات على الأصول ، ولكن بعضها الآخر يبدو منه ان المراد منها هو السبق الرتبي من حيث الشرف والأهمية ، ووجودها أقرب إلى الوجود الظلي بالنسبة للكتاب ، وفي ثالث من الأقوال ان الكتاب يقدم عليها عند التعارض فسبقه الرتبي من حيث أرجحيته في هذا الباب.

ومن أدلتهم على هذا السبق الرتبي تتضح وجهات النّظر ، وان كان قد جمع بعض المتأخرين بين هذه الأدلة وكأنها مساقة لمبنى واحد ، في تفسيرها لا لمباني متعددة.

وأول هذه الأدلة : قولهم : «ان الكتاب مقطوع والسنة مظنونة ، والقطع فيها انما يصح على الجملة لا على التفصيل ، بخلاف الكتاب فانه مقطوع به على الجملة والتفصيل ، والمقطوع به مقدم على المظنون ، ولعله لا يوجد من متواترها القولي شيء» (١).

وهذا الدليل يصلح للقول الثالث أي تقديم الكتاب على السنة عند المعارضة لا مطلقا ، إذ لا معنى لرفع اليد عن المظنون بالمقطوع مع عدم المعارضة ، وكلاهما حجة كما هو الفرض.

والمعارضة لا تتعقل بين الكتاب والسنة بما هي قول أو فعل أو تقرير ، لاستحالة تناقض الشارع على نفسه ، وإنما تمكن في الأخبار الحاكية لها ، وعليها يقتضي أن تحرر المسألة في تقدم الكتاب على أخبار الآحاد لا على السنة.

__________________

(١) أصول الفقه للخضري : ص ٢٣٧.

٢٣٨

وقد سبق ان أيدنا دعوى من يذهب إلى طرح الأخبار إذا خالفت الكتاب ولم يمكن الجمع بينها وبينه ، لنفس هذا الدليل وللأخبار الآمرة بطرح ما يخالف الكتاب.

ثانيها : قولهم : «إن السنة ، إما بيان للكتاب أو زيادة على ذلك ، فإن كانت بيانا فالبيان تال للمبين في الاعتبار ، إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان لا العكس ، وما شأنه هذا فهو أولى بالتقدم ، وإن لم يكن بيانا فلا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب ، وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب» (١).

وهذا الدليل يصلح للاستدلال به على التقديم من حيث الشرف والأولوية ، لا من حيث الاقتصار على الكتاب مع وجوده ، لعدم إمكان الاستغناء عن البيان بحال ، وما دامت السنة بيانا للكتاب فهي متممة للاستدلال به ، بل كلاهما يكونان دليلا واحدا ، لبداهة أن ما يحتاج إلى البيان لا ينهض بالدليلية إلا به ، ولكن اعتبار التقدم في الرتبة على أساس التفاضل في المكانة لا معنى لإدراجه في مباحث الأصول والتماس الأدلة له لعدم إعطائه أية ثمرة عملية في مجالات الاستنباط.

ثالثها : «ما دل على ذلك من الأخبار كحديث معاذ وأثر عمر ، اللذين تقدم ذكرهما ، ومثله عن ابن مسعود : (من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ومثل ذلك عن ابن عباس وهو كثير في كلام السلف والعلماء وهو الوجه في تفرقة الحنفية بين الفرض والواجب» (٣) وهذا الدليل صالح للدلالة على المبنى الأول في التقدم الرتبي ، أي مع قيامه لا ينظر إلى السنة ولا تعتبر دليلا.

__________________

(١) أصول الفقه للخضري : ص ٢٣٧.

(٢) مستدرك الحاكم : ٤ ـ ٩٤.

(٣) أصول الفقه للخضري : ص ٢٣٧.

٢٣٩

وهذا المذهب من أغرب المذاهب ، إذ كيف يعقل الاستغناء بالكتاب عن السنة ومنها بيانه وشروحه وشروط أحكامه وأدلتها؟ فهل يكتفي ابن مسعود أو عمر أو ابن عباس ، لو صح عنهم ذلك ، بالرجوع إلى الكتاب والاكتفاء به في حكم واحد من الأحكام فضلا عن جميع ما ورد فيه منها ، وهم يعلمون من طريقة الكتاب في البيان هي الاتكال على القرائن المنفصلة ، والسنة هي الكفيلة ببيانها؟ وكيف يسوغ لهم العمل بظواهره مع هذا الاحتمال؟

على أن هذه الأقوال لا تصلح للاستدلال بها ، لأنها لا تمثل أكثر من رأي أصحابها لو أرادوا ظواهرها ، وهو بعيد ، وهم ليسوا بمعصومين ليجب علينا التعبد بها.

نعم في إقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعاذ ما يصلح للاستدلال ، باعتبار ان الإقرار من السنة ، فالاستدلال بها استدلال بالسنة ، إلا أن الكلام في صحة رواية معاذ ، وسيأتي في مبحث القياس إثبات أنها من الموضوعات.

فالحق ان السنة في مجالات الاستدلال صنو للكتاب وفي رتبته ، بل هما واحد من حيث انتسابهما إلى المشرع الأول وهو الله عزوجل ولا يمكن الاستغناء به عنها ، وما أروع ما قاله الأوزاعي : «الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب ، وذلك لأنها تبين المراد منه» (١). وقال رجل لمطرف بن عبد الله : لا تحدثونا إلا بالقرآن ، فقال : «والله ما نريد بالقرآن بدلا ، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا» (٢).

ومن هذا العرض ندرك أن هذه الأدلة لا تصلح ان تكون لمبنى واحد.

__________________

(١) أصول الفقه للخضري : ص ٢٣٤.

(٢) المصدر السابق.

٢٤٠