الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

والعمومات المجموعية نادرة فلا يصار إليها إلا بدليل.

والّذي أتصوره أن الطريقة السائدة في عصورنا من الهجرة إلى مراكز التفقه كالنجف الأشرف ، وقم ، والقاهرة من بعض من يسكنون بعيدا عنها ، ثم العودة إلى بلادهم ليعلموا إخوانهم أحكام دينهم هي نفس الطريقة التي دأبوا عليها في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعت إليها الآية.

وليس في هذه الطريقة اجتماع المبلغين والمرشدين في مقام الأداء ليكوّنوا لمستمعيهم مقدار ما يتحقّق به التواتر ، بل يكتفون بالواحد الموثوق به منهم ، فالآية على هذا واردة في مقام جعل الحجة لأخبار آحاد الطائفة ، وإن شئت ان تقول انها واردة لإمضاء بناء عقلائي في ذلك كسابقتها.

وإذا صحت هذه الاستفادة لم تبق حاجة بعد إلى استعراض ما يراد من كلمة (لعل) في الآية ، أو كلمة (الحذر) فيها ، لعدم توقف دلالة الآية عليها ، ويكفي في الإلزام بالرجوع إليهم لأخذ الأحكام تشريع ذلك ، وان كان بلسان الترخيص ، ومن لوازم الترخيص في مثله جعل الحجية لما يحدثون به فلا يسوغ تجاهلها مع قيامها بداهة.

واحتمال ان يراد بالطائفة ما يبلغ به حد التواتر على أن يجتمع الكل لتبليغ كل واحد منهم احتمال يأباه ظاهر الآية وكيفية الاستفادة من نظائرها ، كما يأباه الواقع العملي لما درج عليه المبلغون في جميع العهود بما فيها عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن لفظ طائفة أوسع منه فتضييقها إلى ما يخصه بالخصوص لا ملجأ له ولا شاهد عليه.

وبهذا يتضح واقع ما أثاره الآمدي وغيره من التشكيكات حول دلالة الآية على حجية خبر الواحد (١) ، فلا حاجة إلى الدخول في تفصيلاته.

__________________

(١) راجع : ما كتبه الآمدي : ١ ـ ١٧١ من الأحكام وما ورد في الكفاية وشروحها ورسائل الشيخ حول

٢٠١

أدلتهم من السنّة :

وقد استغرقت أدلتهم من السنّة جوانبها الثلاث قولا وفعلا وتقريرا.

السنّة القولية :

أما السنّة القولية فهناك طوائف من الروايات عن أهل البيت عليهم‌السلام إذا لو حظت مجتمعة فهي متواترة المضمون.

أولاها : ما ورد عنهم عليهم‌السلام من إرجاعهم بعض أصحابهم إلى البعض كإرجاعه عليه‌السلام (١) إلى زرارة بقوله : «إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس» (٢) وأشار إلى زرارة وقوله عليه‌السلام : «العمري ثقة ، فما أدّى إليك ، فعنّي يؤدّي» (٣) وكثير من أمثالها.

ثانيها : ما دل على وجوب الرجوع إلى الرّواة كخبر الاحتجاج : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فانهم حجتي عليكم ، وأنا حجة الله عليهم» (٤).

ثالثها : ما ورد عنهم عليهم‌السلام من الحث على كتابة الحديث وإبلاغه كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حفظ على أمتي أربعين حديثا ، بعثه الله فقيها عالما» (٥) وقوله عليه‌السلام (٦) لأحد الرّواة : «واكتب وبثّ علمك في بني عمك ، فإنه يأتي زمان هرج لا يأنسون إلا بكتبهم» (٧).

__________________

هذه التشكيكات. (المؤلف).

(١) أي الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٧ ـ ١٤٣.

(٣) المصدر السابق : ٢٧ ـ ١٣٨. والحديث هكذا : «العمري ثقتي ، فما أدى إليك عنّي فعنّي يؤدي».

(٤) المصدر السابق : ٢٧ : ١٤٠. والحديث هكذا : «من حفظ على أمتي أربعين حديثا ينتفعون بها بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما».

(٥) المصدر السابق : ٢٧ ـ ٩٩.

(٦) أي الإمام الصادق عليه‌السلام.

(٧) وسائل الشيعة : ٢٧ ـ ٨١. باب ٨ ـ وجوب العمل بأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام والحديث

٢٠٢

رابعها : ما دل على ذم الكذب عليهم والتحذير من الكذابين ، مثل الحديث المتواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كذب عليّ متعمدا ، فليتبوأ مقعده من النار» (١) مما يدل على المفروغية عن حجية خبر الآحاد ، إذ لو كانوا مقتصرين في مجال الحجية على خصوص الخبر المتواتر لما كان مجال للكذب عليهم ، ولما كان أثر لأولئك الكذابين يخشى منه.

خامسها : الأخبار الواردة في باب التعارض (٢) من الأخذ بالمرجحات كالأعدلية ، والأصدقية ، والشهرة ، والقول بالتخيير عند التساوي ، ومع فرض عدم حجية خبر الآحاد لا يتصور فرض التعارض في أخبار المعصومين.

سادسها : الأخبار الواردة في تسويغ الرجوع إلى كتب الشلمغاني وبني فضال والأخذ بروايتها وترك آرائهم (٣).

ومن استعراض جميع هذه الطوائف نرى أن الحجية مجعولة فيها لخبر الثقة بما أنه ثقة ، وليس لنحلته أو مذهبه أثر في الأخذ بحديثه أو تركه كما هو الشأن في كتب بني فضال والشلمغاني ، وهم من غير الشيعة الإمامية ، ومناسبة الحكم والموضوع تقتضيه ، لذلك فلا خصوصية للعدالة أو غيرها من الشروط.

السنّة العملية :

وحسبنا منها «ما تواتر من إنفاذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمراءه وقضاته ورسله وسعاته إلى الأطراف ، وهم آحاد ، ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات ، وحلّ

__________________

هكذا : «اكتب وبثّ علمك في إخوانك ، فإن متّ فأورث كتبك بنيك ، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم».

(١) المصدر السابق : ١٢ ـ ٢٤٩.

(٢) المصدر السابق : ٢٧ ـ ١٠٦ باب ٩ ـ وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة.

(٣) المصدر السابق : ٢١ ـ ٤٤٨ و ٢٥ ـ ٣١ و ٢٧ ـ ١٠٢ و ١٤٢.

٢٠٣

العهود وتقريرها ، وتبليغ أحكام الشرع» (١). وشواهده أكثر من ان تحصى. فلو كان خبر الثقة ليس بحجة لما كان معنى لهذا الإرسال الملازم لتكليف المسلمين بالأخذ عنهم وإلزامهم بذلك ، ودعوى أن أحاديث أمثال هؤلاء مما يكتنفها من القرائن ما يوجب القطع بمطابقتها للواقع ، لا تعتمد على دليل ، لأن رسله ليسوا كلهم بهذا المستوى ، ولا الأحاديث التي يحدثون بها كذلك.

السنّة التقريرية :

وهي قائمة بإقراره لبناء العقلاء على الأخذ بأخبار الآحاد إذا كانوا ثقات في النقل ، يقول شيخنا النائيني : «وأما طريقة العقلاء فهي عمدة أدلة الباب ، بحيث لو فرض أنه كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد بخبر الثقة ، والاتكال عليهم في محاوراتهم ، بل على ذلك تدور رحى نظامهم ، ويمكن ان يكون ما ورد من الأخبار المتكفلة لبيان جواز العمل بخبر الثقة من الطوائف المتقدمة كلها إمضاء لما عليه بناء العقلاء ، وليست في مقام تأسيس جواز العمل به لما تقدم من أنه ليس للشارع في تبليغ أوامره طريق خاص ، بل طريق تبليغها هو الطريق الجاري» (٢) لدى الناس جميعا ، وهم يعتمدون أخبار الآحاد ، ويرتبون عليها جميع آثار العلم وإن لم تكن علما في واقعها.

وامتداد هذا البناء إلى زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الواضحات ، وقد حكى الغزالي في المسلك الأول «ما تواتر واشتهر من عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لا تنحصر» (٣) ، وقد ضرب لها بعشرات الأمثلة ، وبالطبع انه لو كانت للنبي طريقة

__________________

(١) المستصفى : ١ ـ ٩٦.

(٢) فوائد الأصول : ٣ ـ ٦٨.

(٣) المستصفى للغزالي : ١ ـ ٩٥.

٢٠٤

خاصة في تبليغ الأحكام لا تعتمد أخبار الآحاد لبيّنها ولردع صحابته عن العمل بغيرها ، وهذا ما لم يتحدث فيه التأريخ ، ومثله ما يشتهر عادة ويطول الحديث فيه.

الإجماع :

وقد حكاه في إرشاد الفحول عن الصحابة والتابعين (١) ، وحكاه الشيخ الطوسي عن الإمامية ، وغيرهما.

ولكن الاستدلال بالإجماع لا يتضح له وجه لعدم الطريق إليه بالنسبة إلينا غير أخبار الآحاد ، لبداهة عدم إمكان تحصيله من قبلنا ، ولعدم إمكان استيعاب الصحابة والتابعين كما هو الشأن في الدعوى الأولى ، وعدم إمكان التعرف على آراء الإمامية جميعا بالنسبة للدعوى الثانية ، والإجماع المنقول متوقفة حجيته على حجية خبر الناقل له ، فلو كانت حجية خبر الناقل له موقوفة عليه لزم الدور ، وهناك مناقشات أخرى له لا داعي للإطالة في عرضها فلتراجع في المطولات (٢).

العقل :

وقد صوّر بصور عدة ، نذكر بعضها ، ونحيل البعض الآخر على الكتب المطولة لعدم الجدوى بعرضها ومناقشتها جميعا :

أولاها : ما ذكره الغزالي من أن «المفتي إذا لم يجد دليلا قاطعا من كتاب أو إجماع أو سنّة متواترة ، ووجد خبر الواحد ، فلو لم يحكم به لتعطلت الأحكام ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان مبعوثا إلى أهل عصر يحتاج إلى إنفاذ الرسل إذ لا يقدر

__________________

(١) إرشاد الفحول : ص ٤٩.

(٢) راجع : حقائق الأصول : ٢ ـ ١٣٦ وغيره.

٢٠٥

على مشافهة الجميع ، ولا إشاعة جميع أحكامه على التواتر إلى كل أحد ، إذ لو أنفذ عدد التواتر إلى كل قطر لم يف بذلك أهل مدينته» (١).

وقد أجاب الغزالي على الشقّ الأول بأن «المفتي إذا فقد الأدلة القاطعة ، يرجع إلى البراءة الأصلية والاستصحاب ، كما لو فقد خبر الواحد أيضا» (٢) ، ولكن هذا الجواب غير واضح لأن الرجوع إلى البراءة الأصلية في غير ما يقطع فيه محق للرسالة من أساسها ، لبداهة أن الأحكام القطعية محدودة جدا إن لم تكن معدومة.

والأحكام المعروفة بضروريات الدين كالصوم ، والصلاة ، والحج ، وأمثالها ، وإن ثبتت لها الضرورة القطعية ، إلا أن ثبوتها لها إنما هو ثبوت في الجملة لا في جميع الخصوصيات ، ولو جردت من الخصوصيات الثابتة بالأمارات المعتبرة لتحولت إلى واقع لا تقرّه جميع المذاهب الإسلامية ، فضلا عن إنكار كونه من الضروريات ، على أن الإسلام ليس هو هذه الضروريات فحسب كما هو ثابت بالبداهة.

والرجوع إلى الاستصحاب ، وهو في رتبة سابقة على البراءة كما سبق بيانه ويأتي ، مناقش صغرى وكبرى ، أما الصغرى فلاحتياجه إلى حالة سابقة معلومة وشك طارئ عليها ، وهو نادر ما يقع في الأحكام الكلية الثابتة بالضرورة ، وفي غيرها لا علم بحالة سابقة ، كما هو الفرض ، وأما الكبرى فللشكّ في حجية مثل هذا الاستصحاب لرجوعه إلى ما يدور أمره بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، لأن الحكم المجعول إن كان واسع المنطقة إلى هذا الزمان ، فهو مقطوع البقاء ، وإن كان ضيق المنطقة فهو مقطوع الارتفاع ، فما هو الحكم المعلوم اذن ليستصحب

__________________

(١) المستصفى : ١ ـ ٩٤.

(٢) المصدر السابق.

٢٠٦

بقاؤه؟ وأصالة عدم النسخ إن رجعت إلى الاستصحاب فحسابها نفس هذا الحساب ، وسيأتي فيها الكلام مفصلا.

اللهم إلا ان يدّعي أن مراده هنا من الاستصحاب استصحاب عدم الجعل قبل البعثة ، أو استصحاب عدم الحكم المجعول في حقه حال الصغر ، ولكن الإشكال في جريان هذين الاستصحابين جار أيضا إما لعدم الموضوع فعلا وإما لعدم مشاهدتنا للحالتين : حالة ما قبل البعثة ، وحالة ما بعدها ، لنجري في حقنا استصحاب الحالة السابقة ، لو أريد استصحاب العدم بالنسبة لحكمنا الخاصّ ، أمّا لو أريد استصحاب عدم الجعل الكلي فهو مثبت بالنسبة إلينا ، واستصحاب عدم الجعل حال الصغير يشكل جريانه للشك في تبدل الموضوع ، فنحن حال الصغر غيرنا عند ما نقع تحت التكاليف ، وللاعلام في هذه الأنواع من الاستصحابات حديث يأتي في موضعه ولعل لنا في بعضها رأيا.

على أن استصحاب عدم الجعل هنا ، لا يجري في جميع المشكوكات للعلم الإجمالي بجعل الكثير منها لبداهة أن الإسلام لم يأت بهذه المقطوعات أو الضروريات فحسب ، ومع قيام العلم الإجمالي لا يمكن جريان الاستصحاب ولا البراءة الأصلية في أطرافه ، إما لعدم إمكان جريانها أصلا ، أو انها تجري وتتساقط للمعارضة ، وسيأتي إيضاح ذلك في مبحث الاحتياط العقلي.

والأنسب ان يجاب عنه بأن هذا الدليل لو تم فهو لا يعين العمل بأخبار الآحاد إلا بضميمة مقدمات أجنبية عن حكم العقل لجواز ان تكون هناك طرق مجعولة من قبله تؤمن هذا الغرض الخاصّ أو الإيكال إلى الاحتياط فيها مثلا.

وأجاب عن الشقّ الثاني بقوله : «أما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليقتصر على من يقدر على تبليغه ، فمن الناس في الجزائر من لم يبلغه الشرع فلا يكلف به ، فليس تكليف

٢٠٧

الجميع واجبا» (١).

وهذا الجواب غريب في بابه أيضا لمنافاته للشمولية التي جاءت بها رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمومها لجميع البشر (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)(٢) ولأن فرض الاقتصار على البعض يوجب اختصاص الرسالة بهم وحرمان غيرهم مع فرض احتياجهم إلى مثلها ، وأين قاعدة اللطف منها إذن؟ ولما ذا لا يبعث لكل أمة نبيا يفي بحاجتها إذا تعذر قيام نبي واحد بهذه المهمة؟

فلا بدّ إذن أن يفرض ـ بعد ثبوت الجانب الشمولي فيها ـ أن طرق التبليغ المعتمدة لدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كافية بإيصال صوته إليها بالوسائل المتعارفة ، وبذلك يتم ما قال المستدل.

ثم عقّب ـ أعني الغزالي ـ بعد ذلك بقوله : «نعم لو تعبد نبي بأن يكلف جميع الخلق ، ولا يخلي واقعة عن حكم الله تعالى ، ولا شخصا عن التكليف ، فربما يكون خبر الواحد ضرورة في حقه» (٣).

وهذا الاستدراك عين ما أراده المستدل لتحدثه عن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخصوص ورسالته ، لأنها موضع حاجتنا الفعلية.

ومن البديهي ان شريعتنا عامة لجميع البشر ، وما من واقعة إلا ولها فيها حكم ، إلا أن قوله : «فربما يكون الاكتفاء بخبر الواحد ضرورة» لا يتم إلا بضميمة مقدمات أخرى تحصر الطريق فيه ، وهو ما لم يذكر في الدليل ، كما لم يذكره في استدراكه عليه.

الصورة الثانية : ما ذكره صاحب الوافية «وحاصله إنا نعلم تفصيلا ببقاء التكليف بالصلاة والصوم ونحوهما من الضروريات ، وليس لنا علم تفصيلي

__________________

(١) المستصفى : ١ ـ ٩٤.

(٢) سورة سبأ : الآية ٢٨.

(٣) المستصفى : ١ ـ ٩٤.

٢٠٨

بأجزائها وشرائطها ، فإذا تركنا العمل بمؤديات الأمارات ، واقتصرنا على خصوص ما علمناه من الأجزاء والشرائط ، خرجت هذه الأمور عن حقائقها ، لأن الضرورية ، من الأجزاء والشرائط ليست إلا أمورا معدودة ، بحيث نقطع بعدم العناوين المزبورة على ما هو المتفق دخله فيها. فلا مناص من الرجوع إلى الأخبار المودعة في الكتب المعتبرة» (١).

ولكن هذا الدليل أضيق من المدعى لعدم اقتضائه إثبات الحجية لمطلق الاخبار بل لخصوص ما أثبت منها الأجزاء والشرائط للتكاليف المعلومة.

أما الأخبار النافية التي ورد على خلافها عموم مثبت للتكليف أو إطلاق أو أصل عملي فلا تتعرض لها بإثبات ، ومقتضاه عدم الحجية فيها ، والتحقيق ان العقل لا يلزم بأخبار الآحاد ، وحسبنا في ذلك ما مرّ من الأدلة السمعية «فما ذهبت إليه الجماهير من سلف الأمة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين ، إنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلا ، ولا يجب التعبد به عقلا ، وإن التعبد واقع به سمعا» (٢) هو الحق في المسألة ، وهو الّذي اختاره جلّ علماء الشيعة كما يظهر مما أوردوه في كتبهم المطولة.

أدلة المانعين :

أما المانعون فقد استدلوا على المنع بالأدلة السمعية ، كالآيات الناهية عن العمل بالظن أو بغير العلم ، باعتبار أن أخبار الآحاد لا تفيد علما بمدلولها.

والجواب على ذلك ان هذه الآيات مخصصة بما دل على جواز العمل باخبار الآحاد لأنها أخص منها إن لم تكن هذه الأدلة حاكمة عليها.

وقد اعتبروا هذه الآيات أيضا رادعة عن بناء العقلاء بعد التغافل عن

__________________

(١) دراسات الأستاذ المحقق الخوئي قدس سرّه : ص ١٢٥.

(٢) المستصفى : ١ ـ ٩٥.

٢٠٩

تخصيصها بما دل على الجواز.

وأجيب عن ذلك أيضا بحكومة بناء العقلاء عليها لاعتبار العقلاء هذا النوع من أخبار الآحاد علما من حيث ترتيب جميع آثار العلم عليه ، ومع اعتباره علما ، فهو خارج عن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم موضوعا ، فلا يكون مشمولا لها بحال.

واستدلوا أيضا بالإجماع على المنع من العمل بها ، وهو مناقش صغرى وكبرى ، أما الصغرى فلعدم حصوله لما سمعت من أن جل العلماء يذهبون إلى جواز العمل بها ، فأين موقع الإجماع منها؟ وأما الكبرى فلمعارضته بمثله ، وهو ما سبق حكايته عن الشيخ الطوسي قدس سرّه ، على ان هذا النوع من الإجماع يستحيل أن يكون حجة لأنه يلزم من إثبات حجيته عدمها بداهة أن معنى قيامه على عدم العمل بأخبار الآحاد أن لا يكون هو بنفسه حجة لأنه منقول بأخبار الآحاد ، وما يلزم من وجوده عدمه لا يصلح للدليلية أصلا.

أما أدلتهم من العقل ، فأركزها ما سبق ان عرضناه من دعوى استحالة جعل الأحكام الظاهرية من قبل الشارع للزوم تناقضها أو تماثلها مع الأحكام الواقعية ، وقد عرفت في البحوث التمهيدية مناقشتها فلا نعيد.

وكأن بعض المانعين لهذه الأسباب أو ما يشبهها أوهمت كلماتهم نفي الحجية عن نفس السنّة ، وهم لا يريدون ذلك قطعا ، وكان ذلك من نتائج الضيق في الأداء كما يوحي به تفصيل كلماتهم وضم بعضها إلى بعض (١).

شرائط العمل به :

وقد اختلفوا في الشرائط المعتبرة للعمل بأخبار الآحاد ، وفي مقدار اعتبارها ،

__________________

(١) راجع : تاريخ الفقه الإسلامي ، لمحمد يوسف موسى : ص ٢٢٧ وما بعدها.

٢١٠

على أقوال قد لا يكون في عرضها وتعدادها والاستدلال عليها أي جدوى ، ما دمنا قد انتهينا في استدلالنا السابق إلى أن المدار في الحجية وعدمها هي وثاقة الراوي والاطمئنان بعدم كذبه ، كما هو مقتضى ما يدل عليه بناء العقلاء ، وبعض الأدلة اللفظية التي تسأل عن وثاقة الراوي ، ومناسبات الحكم والموضوع ، وما سبق من إرجاع الأئمة إلى كتب بني فضال.

فالظاهر أن الحديث في هذه الشرائط كالحديث عن اعتبار العدالة أو البلوغ أو الذكورية أو غيرها ، إنما هو من قبيل اتخاذ الاحتياطات من قبل بعض الأصوليين للحد من الفوضى والتسامح في قبول جميع الأخبار ، أو هي من قبل بعضهم اعتقاد بعدم إمكان تشخيص الصغريات لما هو حجة من الأخبار إلا من هذه الطريق.

وعلى هذا فافتقاد بعض شرائط العدالة في الراوي وعلى الأخص فيما تختلف المذاهب في اعتباره منها ، لا يضر باعتماد الخبر إذا كان راويه من الثقات.

واختلاف المذاهب في الرّواة إذا عرف من حالهم عدم التأثير والانفعال بمسبقات مذهبهم في مجال النقل ، لا يمنع من اعتماد خبرهم والأخذ به ما لم تكن هناك قرائن أخر توجب التوقف عن العمل به.

ومن هنا اعتبر الشيعة الإمامية ـ خلافا لما نقل عنهم من قبل بعض المتأخرين من الكتّاب غير المتورعين ـ أخبار مخالفيهم في العقيدة حجة إذا ثبت أنهم من الثقات ، وأسموا أخبارهم بالموثقات ، وهي في الحجية كسائر الأخبار ، وقد طفحت بذلك جلّ كتب الدراية لديهم ، فلتراجع في مظانها المختلفة.

وما يقال عن اعتبار هذه الشرائط ونظائرها ، يقال عن تقسيماتهم للخبر غير المتواتر.

تقسيمات :

فقد قسموه إلى : مشهور ، أو مستفيض ، وغير مشهور ، وقسموا غير المشهور

٢١١

إلى : صحيح ، وحسن ، وموثق ، وضعيف ، ثم قسموه إلى : مرسل ، ومقطوع ، ومرفوع ، ومسند.

وجل هذه التقسيمات منصب على تشخيص صغريات ما يحصل به الاطمئنان بالصدور.

وقسم منها لا يجدي إلا في مجال الترجيح عند تعارض الأخبار ، ولا يهم فعلا الدخول في تفصيلاتها ما دمنا نملك المقياس في الحجية ، وهو التوثق والاطمئنان بصدور الخبر من قبل المعصوم.

وحتى اعتبارهم هجر الأصحاب للخبر الصحيح من قبيل الموهنات له ، وعمل الأصحاب بالخبر الضعيف جابرا له انما هو من قبيل تشخيص الصغرى لما يوجب الثقة بالصدور لا للتعبد المحض بذلك.

وعلى هذا فالدخول هنا في الأقسام وتحديدها لا يهم الآن بحثه ، وهو من شئون علماء الحديث ، وموضعها في كتب الدراية ، فلتراجع في مظانها الخاصة.

(٢)

أما ما لم يقم عليه دليل قطعي فأهمه أمران ، أولهما :

الشهرة :

وربما عللت حجيتها بما لها من كشف عن رأي المعصوم مما اقتضى ان تعرض ضمن الأدلة الكاشفة عن رأيه.

ويراد من الشهرة انتشار الخبر ، أو الاستناد ، أو الفتوى ، انتشارا مستوعبا لجلّ الفقهاء أو المحدثين ، فهي دون مرتبة الإجماع من حيث الانتشار ، وقد قسموها إلى ثلاثة أقسام قد تختلف من حيث الحجية وعدمها :

٢١٢

أولاها : الشهرة في الرواية.

ومؤداها انتشار رواية ما ، تداولها بين الرّواة على نحو مستوعب في الجملة ومقابلها الندرة والشذوذ.

وقد اعتبروها من مرجحات باب التعارض بين الروايات ، وأدلتها من السنّة كثيرة ، بالإضافة إلى ان كثرة النقل عن حس مما يوجب الوثوق بالصدور بخلاف الندرة والشذوذ ، فالقول بحجيتها وصلوحها للترجيح مما لا ينبغي ان يكون موضعا لكلام.

ثانيها : الشهرة في الاستناد.

ويراد بها انتشار الاستناد في مقام استنباط الحكم إلى رواية مّا من قبل أكثر المجتهدين.

وهذه الرواية قد لا تكون مستوفية لشرائط القبول ، الا ان استناد الفقهاء إليها يكون جابرا لضعفها ، كما ان إعراضهم عن رواية ما ، وان كانت صحيحة ، يكون من موجبات تركها وعدم العمل بها.

وهذا النوع من الاستناد أو الاعراض لا دليل على اعتباره من المرجحات ، اللهم الا ان يولد وثوقا للإنسان بصدور ما استندوا إليه وعدم صدور ما هجروه أو صدوره لا لغاية بيان الحكم الواقعي باعتبار أن إصرار أكثرية الفقهاء على الأخذ برواية مع ضعفها ، أو هجر رواية وهي بأيديهم مع صحتها ، لا يكون بلا مستند جابر أو موهن عادة.

وعلى أي فالمدار ـ كما سبقت الإشارة إليه ـ في ذلك كله على حصول الوثوق بالصدور وعدمه ، ولا خصوصية للاستناد أو الهجران ، ولا يبعد ان يكون الوثوق بالصدور حاصلا في أكثر ما استندوا إليه وبعدم صدوره فيما هجروه من الروايات وهو العمدة في مقام الحجية للأخبار وعدمها.

٢١٣

ثالثها : الشهرة في الفتوى.

ومضمونها انتشار فتوى ما بين الفقهاء انتشارا يكاد يكون مستوعبا دون ان يعلم لها أي مستند.

وقد استدلوا على حجيتها بأدلة ثلاثة : الكتاب ، والسنّة ، والقياس.

أدلتهم من الكتاب :

وأهمها التعليل الوارد في آية النبأ السابقة (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١) حيث ركزت الآية في وجوب التبيّن على التعليل بإصابة قوم بجهالة ، ومقتضى ذلك دوران هذا الحكم مدارها وجودا وعدما ، وبما أن الاستناد إلى الشهرة الفتوائية لا يعد من الجهالة والسفه ، فلا يجب التبيّن معه في هذا الحال وهو معنى حجيته.

والجواب على ذلك : أن دوران حكم مع علة ما وجودا وعدما لا يكون إلا مع فرض انحصار العلة ، ولا دليل على انحصارها في أمثال هذه التعابير ، فإذا قال الشارع ـ مثلا ـ : حرّمت الخمرة لإسكارها ، فغاية ما يدل عليه هذا التعبير تعميم العلة في الحرمة إلى غير الخمر من المسكرات لا ارتفاع الحرمة عن شيء عند ارتفاع الإسكار لجواز ثبوتها له لعلة أخرى كالنجاسة ، أو الغصبية ، أو غيرهما من موجبات التحريم ، وانما التزمنا بدوران التبيّن مدار خبر الفاسق وجودا وعدما في صدر الآية لدلالة مفهوم الشرط عليها لا أخذا بهذا التعليل ، فارتفاع السفاهة هنا لا يدل على ارتفاع التبيّن لجواز ثبوته بعلة أخرى غيرها.

أدلتهم من السنّة :

وهي كثيرة ، وقد وردت رواياتها في باب تعارض الخبرين كمرفوعة زرارة ،

__________________

(١) سورة الحجرات : الآية ٦.

٢١٤

قال : «قلت : جعلت فداك! يأتي عنكما الخبران أو الحديثان المتعارضان ، فبأيهما آخذ؟ قال عليه‌السلام : خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذ النادر» (١).

وقد قربوا الاستدلال بها أن الموصول في قوله : «ما اشتهر» مبهم ، وصلته معرفة له ، وبما أن الشهرة التي اعتبرت في الصلة مطلقة ، فهي شاملة للشهرة في الفتوى بمقتضى ذلك الإطلاق.

وقد أجيب عليها بأن المراد من الشهرة هنا الشهرة بمدلولها اللغوي ، وهي الوضوح والإبانة ، أخذا من شهر السيف إذا جرده من غمده وأبانه ، وهي مختصة بهذا المعنى بما علم صدوره من الشارع ، لا ما ظن أو شك فيه ، فكأنه قال عليه‌السلام : خذ بما وضح وبان انتسابه إلينا لدى أصحابك ، على أن طبيعة السؤال والجواب تقتضي أن يكون الجواب على قدر السؤال ولا يتجاوزه إلى غيره ، والمسئول عنه هنا هو خصوص الخبرين المتعارضين ، فلا معنى للإجابة بما يعمهما ويعم الشهرة الفتوائية ، لأنها غير داخلة في السؤال ، ومن شرائط الإطلاق أن يعلم أن الشارع كان في مقام البيان من هذه الجهة ولم يقم قرينة على الخلاف ليصح التمسك به ، فكونه في مقام البيان من حيث التعميم لها ، تأباه طبيعة التطابق بين السؤال والجواب الّذي يقتضي السنخية بينهما حتى مع فرض التعميم لغير المورد.

ولو تنزلنا فلا محرز له إن لم نقل ان التطابق يصلح للقرينية على الخلاف.

ثالثها ـ القياس :

وقد قربوه بما ادعي استفادته في خبر الواحد من كون العلة في حجيته هو حصول الظن بمدلوله ، وهي متوفرة في الشهرة الفتوائية ، بل هي فيها أقوى منها في خبر الآحاد.

وهذا الاستدلال من أمتنها لو كان المنشأ في حجية أخبار الآحاد هو الظن

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ١٧ ـ ٣٠٣.

٢١٥

الحاصل منه.

ولكن سبق لنا ان استعرضنا جلّ أدلة أخبار الآحاد ، فلم نجد فيها ما يشير إلى هذه العلة ، وهي اعتبار الظن ، لذلك عممنا حجيته إلى ما لم يفد الظن منه ، ولم نجعل الظن مقياسا لنلجأ إليه ، فأركان القياس إذن لم تتوفر في هذا الموضع ليصح الأخذ به.

وعلى هذا ، فالشهرة الفتوائية لا مستند لها ليؤخذ بها ، فهي ليست بحجة كما ذهب إلى ذلك الكثير من الفقهاء.

(٣)

حجية مطلق الظن بالسنّة :

ويراد به العمل بكل ظن يتولد للإنسان من أي سبب كان ، إذا كان متعلقا بحكم شرعي يظن انه ثبت بالسنّة.

وقد استدل له بأدلة كلها عقلية ، وليس فيها ما ينهض بالدليلية ، وجل أدلته مما ترجع إلى ما يسمى بدليل (الانسداد الكبير) وقد عرضناه وناقشناه في مبحث القياس لاستدلال بعضهم به على حجيته باعتباره من مصاديق ما يحصل به الظن ، والّذي يرتبط من أدلته ببحوثنا هذه ما ذكره صاحب الحاشية من عده في جملة ما تثبت به السنّة بمقتضى فحوى دليله ، وحاصل ما استدل به : «إنا نعلم علما قطعيا بلزوم الرجوع إلى السنّة بحديث الثقلين وغيره مما دل على ذلك ، فيجب علينا العمل بما صدر عن المعصومين ، فإن أحرز ذلك بالقطع فهو ، وإلا فلا بدّ من الرجوع إلى الظن في تعيينه ، ونتيجة ذلك وجوب الأخذ بما يظن بصدوره» (١) ، ومن الواضح ان الظن هنا لم يقيد بكونه حاصلا من الأخبار ليكون دليلا على حجية ما يفيد الظن منها كما أفيد ، بل أطلق لما يشمل كل ظن بالسنّة ومن أي

__________________

(١) الدراسات : ص ١٢٥.

٢١٦

سبب كان ، لذلك آثرنا عده من أدلة مطلق الظن بالسنّة.

والجواب على هذا أن دعوى القطع بالعمل بمطلق الظن بالسنّة مع عدم إحرازها بالقطع ـ كما هو مقتضى مفاد دليله ـ لا تخلو من مصادرة ، لأن الظن بما هو ظن ليس من الحجج الذاتيّة التي لا تحتاج إلى جعل أو إمضاء ، وهذا الدليل لا يثبت جعلا ولا إمضاء شرعيا له بل لا تعرض فيه لهذه الجهة أصلا.

ووجوب العمل بالسّنة ـ وإن كان ضروريا ـ إلا أنه لا يتنجز على المكلف إلا بعد إحرازها بمحرز ذاتي أو مجعول ، وهذا الترديد الّذي ورد في الدليل لا يتم إلا إذا ثبت من الخارج أن الظن محرز للسنة في عرض القطع أو في طوله على الأقل ، وإثبات محرزيته بهذا الدليل دوري كما هو واضح.

وحسبنا من الأدلة الرادعة عن العمل بالظن حجة في الردع عن مثله ما دام لم يثبت لنا بهذا الدليل ما يخصصها أو يحكم عليها لعدم تماميته وصلوحه لإثبات ما أريد له.

٢١٧
٢١٨

الباب الأول

القسم الثاني

السّنّة

(٦)

السنة وكيفية الاستفادة منها

* السنة كلها تشريع

* كيفيات الاستفادة منها

* دلالة القول

* حجية أقوال أهل الفن

* الأصول اللفظية

* دلالة الفعل

* دلالة الترك

* دلالة التقرير

٢١٩
٢٢٠