الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

وإثباته هناك لا يتوقف على دلالة هذه الرواية فحسب لتضافر أدلة النص وتكثرها في التأريخ.

وإنما الّذي يتصل بصميم رسالتنا ـ كمقارنين ـ إثبات لزوم الرجوع إليهم في الفقه وأصوله ، والحديث واف في الدلالة عليه كما ذكر أبو زهرة وغيره.

وأظن ان تحدثنا عن هذا الحديث وما انطوى عليه من عرض كثير من الأحاديث المعتبرة ذات الدلالة عي حجية رأيهم يغني عن استعراض بقية الأحاديث ودراستها ، فليرجع إليها في مظانها من الكتب المطولة.

الأدلة العقلية :

ودليل العقل على اعتبار العصمة لهم لا يختلف عما استدل به على اعتبارها في النبي ، لوحدة الملاك فيهما ، وبخاصة إذا تذكرنا ما قلناه من ان الإمامة امتداد للنبوة من حيث وظائفها العامة ، عدا ما يتصل بالوحي فانه من مختصات النبوة ، وهذا الجانب لا يستدعي العصمة بالذات إلا من حيث الصدق في التبليغ ، وهو متوفر في الإمام.

ولعل في شرحنا السابق لوظائف الإمام ما يغني عن معاودة الحديث فيها.

وقد صور هذا الدليل على ألسنتهم بصور ننقلها عن دلائل الصدق بنصها :

الأولى : «إن الإمام حافظ للشرع كالنبي ، لأن حفظه من أظهر فوائد إمامته ، فتجب عصمته لذلك ، لأن المراد حفظه علما وعملا ، وبالضرورة لا يقدر على حفظه بتمامه إلا معصوم ، إذ لا أقل من خطأ غيره ، ولو اكتفينا بحفظ بعضه لكان البعض الآخر ملغى بنظر الشارع وهو خلاف الضرورة ، فإن النبي قد جاء لتعليم الأحكام كلها وعمل الناس بها على مرور الأيام» (١).

__________________

(١) دلائل الصدق : ٢ ـ ١٠ وما بعدها. وللدليل تتمة مطولة فيها دفع شبه أوردها المصنف على نفسه وأجاب عليها ، لا أرى حاجة لعرضها. (المؤلف).

١٨١

والثانية : «ان الحاجة إلى الإمام في تلك الفوائد (يشير إلى ما ذكره العلامة من فوائد الإمامة كإقامة الحدود وحفظ الفرائض وغيرها) يوجب عصمته وإلا لافتقر إلى إمام آخر وتسلسل».

والثالثة : «ان الإمام لو عصى لوجب الإنكار عليه والإيذاء له من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو مفوت للغرض من نصبه ومضاد لوجوب طاعته وتعظيمه على الإطلاق المستفاد من قوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)(١)».

الرابعة : «لو صدرت المعصية منه لسقط محله من القلوب فلا تنقاد لطاعته ، فتنتفي فائدة النصب».

الخامسة : «انه لو عصى لكان أدون حالا من أقل آحاد الأمة ، لأن أصغر الصغائر من أعلى الأمة وأولاها بمعرفة مناقب الطاعات ومثالب المعاصي أقبح وأعظم من أكبر الكبائر من أدنى الأمة» (٢).

وهذه الأدلة لو تمت جميعا فهي غاية ما تثبته عصمة الأئمة ، ولازمها اعتبار كل ما يصدر عنهم موافقا للشريعة وهو معنى حجيته ، إلا أنها لا تعين الأئمة ولا تشخصهم فتحتاج إلى ضميمة الأدلة السابقة من كتاب وسنة لتشخيصهم جميعا.

والدخول في عرض ما أورد أو يورد عليها وما أجيب عنها من الشبه يخرج البحث من أيدينا إلى بحث كلامي لا نرى ضرورة الخوض فيه هنا ، وهو مفروض في جل كتب الشيعة الكلامية.

والخلاصة : ان دلالة الكتاب والسنة على عصمة أهل البيت عليهم‌السلام وأعلميتهم وافية جدا. وان ما ورد من انسجام واقعهم التأريخي مع طبيعة ما فرضته أدلة

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٥٩.

(٢) دلائل الصدق : ٢ ـ ١٠ وما بعدها.

١٨٢

حجيتهم من العصمة والأعلمية وبخاصة في الأئمة الذين لا يمكن إخضاعهم للعوامل الطبيعية التي نعرفها كالأئمة الثلاثة الجواد والهادي والعسكري عليهم‌السلام خير ما يصلح للتأييد.

فتعميم السنة اذن لهم في موضعه.

وما أورع ما نسب إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي من الاستدلال على إمامة الإمام علي عليه‌السلام بقوله : «استغناؤه عن الكل واحتياج الكل إليه دليل إمامته» (١) ، وهو دليل يصلح للاستدلال به على إمامة جميع الأئمة ، إذ لم يحدث التأريخ في رواية صحيحة عن احتياج أحد منهم إلى الاستفسار عن أي مسألة أو أخذها أو دراساتها من الغير مهما كان شأنه عدا المعصوم الّذي سبقه ، ولو وجد لحفلت بذكره أحاديث المؤرخين كما هو الشأن في نظائره من الأهمية ، وبخاصة وأن الشيعة يفترضون لهم ذلك.

وتمام ما انتهينا إليه من بداية الحديث عن السنة إلى هذا الموضع ، ان حجية السنة في الجملة من ضروريات الإسلام ، بل لا معنى للإسلام بدونها ، فإطالة الحديث في التماس الحجج لها من التطويل غير المستساغ لوسط إسلامي ، وإن كنا محتاجين في الجملة لإطالة التحدث حول بعض ما ورد من التعميمات فيها إلى الصحابة ، أو الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام.

__________________

(١) لم يسعني التأكد من صحة النسبة فعلا لعدم عثوري عليها في المصادر التي أملكها. (المؤلف).

١٨٣
١٨٤

الباب الأول

القسم الثاني

السّنّة

(٤)

الطرق القطعيّة إليها

* تمهيد

* الخبر المتواتر

* الخبر المحفوف بقرائن قطعية

* الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم

* بناء العقلاء

* سيرة المتشرعة

* ارتكاز المتشرعة

١٨٥
١٨٦

تمهيد :

والسنة بما هي سنة ، وإن كانت حجيتها ـ كما قلنا ـ من الضروريات ، إلا أن مجالات الاستفادة منها لبحوثنا الفقهية موقوفة على ركائز أخر بالنسبة إلينا.

وقد نكون في غنى عن هذه الركائز لو كنا على عهد المعصومين ، ولدينا من المؤهلات البيانية ما يرفعنا إلى فهم كلماتهم والاستفادة منها.

ولكن بعدنا عن زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام ولّد لنا بحوثا لا بدّ من اعتمادها ركيزة من ركائز الاستنباط الأساسية بعد دراستها والخروج منها بالثمرة المتوخاة.

وهذه البحوث ذات أقسام يقع بعضها في الطرق والوسائل المثبتة للسنة والموصلة إليها ، وتقع الأخرى في كيفية الاستفادة منها ، ثم معرفة مدى نسبتها للكتاب.

ولعلنا نرى بعد حين أن أكثر ما أثير من الشبه حول حجية السنّة على ألسنة بعض القدامي فإنما هو منصبّ على الطرق الموصلة إليها ، أو على كيفيات الاستفادة منها ، وإن ضاق ببعضهم التعبير فأداه بما يشعر بإنكار حجية أصل السنّة ، وسيتضح ذلك من عرض حججهم ومناقشتها.

وعلى هذا ، فالبحوث (حول السنة) إنما تقع في مواقع :

(١) الطرق المثبتة لها بطريق القطع.

(٢) الطرق المثبتة لها بغير القطع.

(٣) كيفيات الاستفادة منها.

١٨٧

(٤) موقع السنة من الكتاب.

ولكل منها أقسام وفيه بحوث.

تقسيم الطرق إلى السنة :

والّذي ينبغي أن يقال جريا على ما أصّلناه في مباحث الحجة : إن الطرق التي لها أهلية الإيصال إليها ذات قسمين :

١ ـ قطعية.

٢ ـ وغير قطعية.

ولكل منها أقسام لا بدّ من استقراء المهم منها والتماس أدلّته وحججه ، وفحصها وتقييمها على أساس مقارن.

الطرق القطعية :

وقد ذكروا لها أقساما أهمها ستة :

١ ـ الخبر المتواتر.

٢ ـ الخبر المحفوف بقرائن توجب القطع بصدوره.

٣ ـ الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم.

٤ ـ بناء العقلاء الكاشف عن رأي المعصوم فيه.

٥ ـ سيرة المتشرعة الكاشفة عن رأي المعصوم فيها.

٦ ـ ارتكاز المتشرعة.

(١)

الخبر المتواتر :

ويراد به إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب وصدورهم جميعا عن خطأ أو اشتباه أو خداع حواس ، على ان يجري هذا المستوى في الاخبار في جميع

١٨٨

طبقات الرّواة ، حتى الطبقة التي تنقل عن المعصوم مباشرة.

فلو تأخر التعدد في طبقة ما ، أو فقد أحد تلكم الشروط ، خرج عن كونه متواترا إلى أخبار الآحاد ، لأن النتائج ـ كما يقول علماء الميزان ـ تتبع دائما أخسّ المقدمات.

ومثل هذا الخبر ـ أعني المتواتر ـ مما يوجب علما بصدور مضمونه ، والعلم ـ كما سبق بيانه ـ حجة ذاتية لا تقبل الوضع والرفع.

شروطه :

وقد جعلوا له شروطا اختلفوا في تعددها ، ويمكن انتزاعها جميعا من نفس التعريف ، يقول المقدسي : «وللتواتر ثلاثة شروط :

الأول : أن يخبروا عن علم ضروري مستند إلى محسوس ، إذ لو أخبرنا الجم الغفير عن حدوث العالم وعن صدق الأنبياء ، لم يحصل لنا العلم بخبرهم.

الثاني : أن يستوي طرف الخبر ووسطه في هذه الصفة وفي كمال العدد ، لأن كل عصر يستقل بنفسه فلا بدّ من وجود الشروط فيه ، ولأجل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى عليه‌السلام تكذيب كل ناسخ لشريعته.

الشرط الثالث : في العدد الّذي يحصل به التواتر واختلف الناس فيه ، فمنهم من قال : يحصل باثنين ، ومنهم من قال : يحصل بأربعة ، وقال قوم : بخمسة ، وقال قوم : بعشرين ، وقال آخرون : بسبعين ، وقيل : غير ذلك.

والصحيح أنه ليس له عدد محصور» (١).

ويقول زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني في درايته وهو يعرّفه ويشير إلى شروطه : «هو ما بلغت رواته في الكثرة مبلغا أحالت العادة تواطؤهم على

__________________

(١) روضة الناظر : ص ٥٠.

١٨٩

الكذب ، واستمر ذلك الوصف في جميع الطبقات حيث تعدد ، فيكون أوله كآخره ، ووسطه كطرفيه ، ولا ينحصر ذلك بعدد خاص» (١).

ومثلهما غيرهما من أعلام الشيعة والسنة على غموض في أداء بعضهم ربما أو هم خلاف ذلك.

على أن هذه التحديدات ، ليست بذات ثمرة إلا في حدود تشخيص المصطلح للخبر المتواتر وتحديد مفهومه ، وكل ما كتب في هذا الشأن فإنما هو لتشخيص صغريات ما يقع به العلم عادة ، وهذه الشرائط وأشباهها من موجبات ما يحصل بها التشخيص ، وإلا فإن المدار على العلم ، فإن حصل منها فهو الحجة وإن لم يحصل احتجنا إلى التماس دليل على الحجية ، وليس في هذه الشرائط ما يشير إليه.

وأمثلة المتواتر كثيرة ، وقد عدوا منها كل ما يتصل بضروريات الدين ، كالفرائض اليومية وأعدادها وأعداد ركعاتها ، وصوم شهر رمضان ، وكالذي مرّ في حديث الثقلين ، والغدير ، وأشباههما.

واعتبروا منها قوله عليه‌السلام : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (٢).

(٢)

الخبر المحفوف بالقرائن القطعية :

ويراد به الخبر غير المتواتر ، سواء كان مشهورا أم غير مشهور ، على ان يحتف بقرائن توجب القطع بصدوره عن المعصوم.

والمدار في حجية هذا النوع من الأخبار هو حصول العلم منه كالخبر المتواتر ،

__________________

(١) الدراية : ص ١٢ مطبعة النعمان ، النجف.

(٢) بحار الأنوار : ٢ ـ ١٦٠ ، الحديث : ١٠ وصحيح البخاري : كتاب العلم ، الحديث : ١٠٧ و ١٢٠٩ و ٣٢٠٢.

١٩٠

والعلم بنفسه ـ كما سبق بيانه ـ حجة ذاتية ، فلا نحتاج بعده إلى التماس أدلة على الحجية.

(٣)

الإجماع :

والبحث في الإجماع له استقلاله ، وليس موضعه هنا نظرا لاعتباره لدى الأكثر مصدرا مستقلا من مصادر التشريع في مقابل الكتاب والسنّة.

نعم في بعض المباني ـ وبخاصة لدى الأكثر من علماء الشيعة ـ هو كشفه عن رأي المعصوم على نحو القطع ، فيكون من حقه على هذا المبنى ان يبحث عنه في هذا الموضع ، ولا يعتبر من الأدلة المستقلة.

وقد آثرنا تأخير البحث عنه إلى موضعه جريا على ما سلكه الأكثر في عدّه من مصادر التشريع.

(٤)

بناء العقلاء :

ويراد به صدور العقلاء عن سلوك معين تجاه واقعة مّا صدورا تلقائيا ، ويتساوون في صدورهم عن هذا السلوك على اختلاف في أزمنتهم وأمكنتهم ، وتفاوت في ثقافتهم ومعرفتهم ، وتعدد في نحلهم وأديانهم.

وأمثلته كثيرة منها : صدور العقلاء جميعا عن الأخذ بظواهر الكلام ، وعدم التقيد بالنصوص القطعية منه ، على نحو يحمّل بعضهم بعضا لوازم ظاهر كلامه ، ويحتج به عليه.

١٩١

ومنها : صدور العقلاء جميعا عن الرجوع إلى أهل الخبرة ـ فيما يجهلونه من شئونهم الحياتية وغيرها ـ فالمريض يرجع إلى الطبيب ، والجاهل يرجع إلى العالم ، وهكذا ....

وحجية مثل هذا البناء إنما تتم إذا تمّ كشفه عن مشاركة المعصوم لهم في هذا الصدور فيما تمكن فيه المشاركة ، أو إقراره لهم على ذلك فيما لم تمكن فيه.

وسرّ احتياجنا إلى الكشف عن مشاركة المعصوم ، أو إقراره ولو من طريق عدم الردع فيما يمكنه الردع عنه مع اطلاعه عليه ، أن هذا البناء ليس من الحجج القطعية في مقام كشفه عن الواقع ، لجواز تخطئة الشارع لهم في هذا السلوك.

والفرق بينه وبين حكم العقل ، أن حكم العقل فيما يمكنه الحكم فيه وليد اطلاع على المصلحة أو المفسدة الواقعية ، كما يأتي بيانه ، وهذا البناء لا يشترط فيه ذلك لكونهم يصدرون عنه ، ـ كما قلنا ـ صدورا تلقائيا غير معلل ، فهو لا يكشف عن واقع متعلقه من حيث الصلاح والفساد ، ولعل قسما كبيرا من الظواهر الاجتماعية منشؤه هذا النوع من البناء.

ومع عدم كشفه عن الواقع فهو لا يصلح للاحتجاج به على المولى لكونه غير ملزم له ، ومع إقراره أو عدم ردعه أو صدوره هو عنه يقطع الإنسان بصحة الاحتجاج به عليه.

وسيأتي مزيد حديث عنه بما أسموه ب (العرف) واعتبروه من الأدلة المستقلة مع رجوع قسم كبير منه إلى حجية هذا البناء.

(٥)

سيرة المتشرعة :

وهي صدور فئة من الناس ينتظمها دين معين أو مذهب معين عن عمل مّا أو

١٩٢

تركه ، فهي من نوع بناء العقلاء مع تضييق في نوع من يصدر عنهم ذلك البناء ، وحجية مثل هذه السيرة إنما تكون بعد إثبات امتدادها تاريخيا إلى زمن المعصوم وإثبات مشاركته لهم في السلوك فيما يمكن صدوره منه أو إقرارها من قبله ، ولو من قبيل عدم ردعه عنها مع إمكان الردع والاطلاع عليها فيما لم يمكن صدورها منه.

ومع عدم إثبات ذلك لا مجال للتمسك بها بحال ، وما أكثر السير المنقطعة من وجهة تاريخية لكونها حادثة ، أو لا يمكن إثبات امتدادها لذلك الزمن.

والمقياس في حجيتها كشفها عن فعل المعصوم أو إقراره كشفا قطعيا ليصح الاحتجاج بها.

وبهذا ندرك قيمة ما يحتج به أحيانا من ادعاء قيام السيرة القطعية على فعل شيء أو تركه مع عدم إمكان إثبات امتدادها تاريخيا إلى زمن المعصوم ، وقد يكون منشؤها فتوى سائدة يمر عليها جيل أو جيلان ، تتخذ طابع السيرة لدى الناس.

وكثير من الأعراف والعادات التي تشيع في بلد ما أو بيئة معينة حسابها نفس هذا الحساب ، وإن أصبح لها في نفوس العوام طابع الشعار المقدس.

وسيأتي في مبحث العرف ان قسما من الفتاوى التي سادت في بعض المذاهب لا منشأ لها إلا هذا العرف المستحدث ، وهو ما لا يصلح ان يكون حجة.

وربما عرضنا في مبحث العرف جملة من أقوال العلماء بما يكشف عن التقاء في وجهات النّظر في مناشئ اعتبار الحجية لها وعدمها.

وعلى أي حال فما كشف عن السنة منها قولا أو فعلا أو إقرارا كان حجة ، وإلا فلا دليل على حجيته قطعا لما سبق ان قلنا في التمهيد الثاني من أن كل حجة لا تنهي إلى القطع فهي ليست بحجة ، وان الشك في حجية شيء مّا كاف للقطع بعدمها.

١٩٣

(٦)

ارتكاز المتشرعة :

وقد شاع استعمال هذا الاصطلاح على السنة عند بعض أساتذتنا المتأخرين ، والظاهر انهم يريدون به بالإضافة إلى توفر السيرة على الفعل أو الترك ، بالنسبة إلى شيء ما ، شعور معمق بنوع الحكم الّذي يصدر عن فعله أو تركه المتشرعون لا يعلم مصدره على التحقيق.

الفارق بينه وبين سيرة العقلاء أو المتشرعة :

ان سيرة العقلاء أو المتشرعة بحكم كونها فعلا أو تركا لا لسان لها ، فهي مجملة من حيث تعيين نوع الحكم ، وإن دلّت على جوازه بالمعنى العام عند الفعل أو عدم وجوبه عند الترك ، لكن ارتكاز المتشرعة يعين نوعه من وجوب أو حرمة أو غيرهما.

حجيته :

وحجية مثل هذا الارتكاز لا تتم الا إذا علمنا بوجوده في زمن المعصومين وإقرارهم لأصحابه عليه ، ومثل هذا العلم يندر حصوله جدا ، وتكوين الارتكاز في نفوس الرّأي العام لا يحتاج من وجهة نفسية إلى أكثر من إمرار فتوى مّا في جيلين أو ثلاثة على الحرمة مثلا ، ليصبح ارتكازا في نفوس العاملين عليها.

١٩٤

الباب الأول

القسم الثاني

السّنّة

(٥)

الطرق غير القطعيّة

خبر الواحد

* تحديده

* أدلة حجيته : الكتاب ، السنة ، الإجماع ، العقل

* أدلة المانعين ومناقشتها

* شرائط العمل به

* تقسيمات

الشهرة

* تحديدها

* أقسامها : الشهرة في الرواية ، الشهرة في الاستناد ،

الشهرة في الفتوى

* أدلة حجيتها : الكتاب ، السنة ، القياس ، ومناقشتها

مطلق الظن في السنة

* تحديده

* أدلة حجيته ومناقشتها.

١٩٥
١٩٦

الطرق غير القطعية

ونريد بها خصوص ما كان له قابلية الكشف عن السنة كشفا ناقصا ، وهي على قسمين :

١ ـ ما قام على اعتباره دليل قطعي.

٢ ـ ما لم يقم على اعتباره دليل.

ويكاد ينحصر الأول منهما بأخبار الآحاد على تفصيل فيها.

(١)

خبر الواحد :

وقد عرفوه بتعريفات متعددة ترجع في جوهرها إلى ما يقابل الخبر المتواتر والخبر المحفوف بقرائن توجب القطع واحدا كان أو أكثر.

الاختلاف في حجيته :

وقد اختلفوا في حجيته على أقوال لا تكاد تلتقي ، فمنهم من منع العمل به مطلقا ، ومنهم من أجازه (١).

والمانعون يختلفون في سبب المنع ، فمنهم من يعزوه إلى حكم العقل ، وينسب ذلك إلى ابن علية والأصم ، ومنهم من ينسبه إلى الشرع كالقاشاني من أهل

__________________

(١) إرشاد الفحول : ص ٤٩.

١٩٧

الظاهر (١).

والمجوزون مختلفون بدورهم أيضا ، فمنهم من يستند في حجيته إلى حكم العقل ، وينسب ذلك إلى أحمد بن حنبل وابن شريح وأبو الحسن البصري والصيرفي من الشافعية (٢) ، وزاد أحمد بن حنبل : «ان خبر الواحد يفيد بنفسه العلم ، وحكاه ابن حزم في كتاب الأحكام عن داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي والحارثي المحاسبي ، قال : وبه نقول ، وحكاه ابن خوازمنداد عن مالك بن أنس ، واختاره وأطال في تقريره» (٣).

وأكثر علماء الإسلام على حجيته على اختلاف بينهم في شروط الحجية ومناشئها.

ويعرف الوجه في حجيته وعدمها من عرض أدلتها إثباتا ونفيا ، فلا حاجة إلى الدخول في تفصيل الأقوال فيهما ومناقشتها بجميع ما لها من خصوصيات.

أدلة المثبتين :

وقد استدل المثبتون ـ على اختلاف أدلتهم ـ بعد ضم بعضها إلى بعض بالأدلة الأربعة : الكتاب ، السنة ، الإجماع ، حكم العقل.

وأهم أدلتهم من الكتاب آيتان :

أولاهما : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(٤).

والظاهر من الآية بقرينة مورد نزولها أنها واردة مورد الردع عن بناء عقلائي قائم إذ ذاك ، وهو الاعتماد على خبر الواحد وان كان غير مؤتمن على النقل.

__________________

(١) إرشاد الفحول : ص ٤٩.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) سورة الحجرات : الآية ٦.

١٩٨

وقد صبت الآية ردعها على خصوص الفاسق ، بما أنه غير مؤتمن على طبيعة ما ينقله بقرينة تعليقها التبيين على نبئه بالخصوص.

وتخصيص التبين بخبر الفاسق ، يكشف بمفهوم الشرط عن إقرارهم على الأخذ بخبر غيره.

وليست القضية هنا واردة لبيان الموضوع ـ كما قد يتخيل ذلك ـ لكون الجزاء معلقا على المجيء ، وانتفاء التبين لانتفائه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، وهي لا تدل على المفهوم.

وذلك لأن الموضوع في القضية الشرطية إذا كان مؤلفا من جزءين : «أحدهما مما يتوقف عليه الجزاء عقلا دون الآخر ، كما إذا قيل : إن ركب الأمير ، وكان ركوبه يوم الجمعة ، فخذ بركابه ، فإنّ توقف الجزاء على أصل الركوب عقلي ، وعلى كونه في يوم الجمعة شرعي مولوي ، ففي ذلك يثبت لها المفهوم بالإضافة إلى خصوص الجزء الّذي لا يتوقف عليه تحقق الجزاء عقلا ولا يكون لها مفهوم بالإضافة إلى الجزء الآخر» (١).

والموضوع الّذي ركز عليه التبين هنا كان مركبا من النبأ ومجيء الفاسق به ، فإذا انتفى مجيء الفاسق به انتفى لزوم التبين عنه ، فكأنه قال : النبأ الّذي لا يجيء به الفاسق لا يجب التبين عنه ، وهو معنى حجية النبأ الّذي يجيء به غير الفاسق ، والظاهر أن انطواء الآية على تخصيص الردع بقسم من الأخبار التي قام بناؤهم على الأخذ بها مطلقا وإقرار الباقي مما لا ينبغي ان يكون موضعا لكلام ، وظهورها في ذلك لا تزعزعه كثرة ما أورد عليها من الإشكالات قد يخضع أكثرها لفلسفة لغوية ، ولكنه لا يقوى مهما كانت قيمته على زلزلة ما لها من ظهور عرفي وهو الأساس في الحجية ، وبخاصة إذا لاحظنا أسلوب عرضها للفكرة وألقينا عليها

__________________

(١) دراسات الأستاذ المحقق الخوئي قدس سرّه : ص ٩٧.

١٩٩

الأضواء من أسباب النزول.

ولكن الآية في ظاهرها واردة لإقرار بناء عقلائي قائم ورادعة عن قسم منه ، وهو الأخذ بأخبار الفاسق ـ بما أنه غير مؤتمن على خبره كما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع ، ويقتضيه التعليل ـ فهي من مكملات الدليل القادم ، أعني بناء العقلاء.

الآية الثانية : وهي قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١).

والّذي يبدو لي من صدر الآية أن شبهة عرضت لبعض من هم خارج المدينة من المسلمين في أن لزوم التفقه المباشر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انما هو من قبيل الواجبات العينية التي لا يسقطها قيام البعض بها عنهم ، ففكروا بالنفر جميعا إلى المدينة ليأخذوا الأحكام عنه مباشرة ، فنزلت هذه الآية لتفهمهم بأن هذا النوع من النفر الجماعي لا ضرورة له ، وليس هو مما ينبغي ان يكون لما ينطوي عليه من شلّ لحركتهم الاجتماعية وتعطيل لأعمالهم ، فاكتفى الشارع بمجيء طائفة من كل فرقة منهم للتفقه في الدين والقيام بمهمة تعليمهم إذا رجعوا إليهم.

والظاهر من أمثال هذه الآيات التي يقع فيها تقابل الجمع بالجمع انها واردة على نحو الجمع الانحلالية لا المجموعية ، بمعنى أن كل واحد من هذه الطائفة مسئول عن تعليم بعض المكلفين لا ان المجموع مسئولون عن تعليم المجموع ، ونظيره في تعبيراتنا المتعارفة ما لو أصدرت وزارة التعليم مثلا بيانا إلى المعلمين في الدولة في ان يكافحوا الأمية بتعليم المواطنين الأميين ، فليس معنى ذلك ان يجتمع المعلمون جميعا ليعلموا دفعة واحدة مجموع الأميين ، بل معناه أن على كل واحد ان يجند نفسه لتعليم غيره فردا كان أو أكثر.

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ١٢٢.

٢٠٠