الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

والحديث صريح في عدم افتراقهما حتى يردا الحوض.

ب ـ ولأنه اعتبر التمسك بهم عاصما عن الضلالة دائما وأبدا ، كما هو مقتضى ما تفيده كلمة «لن» التأبيدية ، وفاقد الشيء لا يعطيه.

ج ـ على أن تجويز الافتراق عليهم بمخالفة الكتاب وصدور الذنب منهم تجويز للكذب على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي أخبر عن الله عزوجل بعدم وقوع افتراقهما ، وتجويز الكذب عليه متعمدا في مقام التبليغ والإخبار عن الله في الأحكام وما يرجع إليها من موضوعاتها وعللها مناف لافتراض العصمة في التبليغ ، وهي مما أجمعت عليها كلمة المسلمين على الإطلاق حتى نفاة العصمة عنه بقول مطلق.

يقول الشوكاني بعد استعراضه لمختلف مبانيهم في عصمة الأنبياء : «وهكذا وقع الإجماع على عصمتهم بعد النبوة من تعمد الكذب في الأحكام الشرعية لدلالة المعجزة على صدقهم ، وأما الكذب غلطا فمنعه الجمهور ، وجوّزه القاضي أبو بكر» (١).

ولا إشكال أن الغلط لا يتأتى في هذا الحديث لإصرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تبليغه في أكثر من موضع وإلزام الناس بمؤداه ، والغلط لا يتكرر عادة. على ان الأدلة العقلية على عصمة النبي ، والتي سبقت الإشارة إليها ، من استحالة الخطأ عليه في مقام التبليغ ـ وكلما يصدر عنه تبليغ ـ كما يأتي ، تكفي في دفع شبهة القاضي أبي بكر ، وتمنع من احتمال الخطأ في دعواه عدم الافتراق.

٢ ـ لزوم التمسك بهما معا لا بواحد منهما منعا من الضلالة :

لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه : «ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا» ولقوله : «فانظروا كيف تخلفونني فيهما ، وأوضح من ذلك دلالة ما ورد في رواية الطبراني في تتمتها : «فلا

__________________

(١) إرشاد الفحول : ص ٣٤.

١٦١

تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم» (١).

وبالطبع ان معنى التمسك بالقرآن ، هو الأخذ بتعاليمه والسير على وفقها ، وهو نفسه معنى التمسك بأهل البيت عدل القرآن.

ومن هذا الحديث يتضح أن التمسك بأحدهما لا يغني عن الآخر «ما إن تمسكتم بهما» ، «ولا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا». ولم يقل : ما إن تمسكتم بأحدهما ، أو تقدمتم أحدهما ، وسيأتي السر في ذلك من أنهما معا يشكلان وحدة يتمثل بها الإسلام على واقعه وبكامل أحكامه ووظائفه.

٣ ـ بقاء العترة إلى جنب الكتاب إلى يوم القيامة :

أي لا يخلو منهما زمان من الأزمنة ما داما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض ، وهي كناية عن بقائهما إلى يوم القيامة. يقول ابن حجر : «وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة على عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة ، كما ان الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض كما يأتي ، ويشهد لذلك الخبر السابق : في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي» (٢).

٤ ـ دلالته على تميزهم بالعلم بكل ما يتصل بالشريعة وغيره :

كما يدل على ذلك اقترانهم بالكتاب الّذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ولا تعلموهم فانهم أعلم منكم». يقول ابن حجر ـ وهو من خير من كتبوا في هذا الحديث فهما وموضوعية ـ : «تنبيه : سمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن وعترته ـ وهي بالمثناة الفوقية ، الأهل والنسل والرهط الأدنون ـ الثقلين ، لأن

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ١٤٨.

(٢) الصواعق المحرقة : ١٤٩.

١٦٢

الثقل كل نفيس خطير مصون ، وهذان كذلك ، إذ كل منهما معدن العلوم اللدنية ، والأسرار والحكم العلية ، والأحكام الشرعية ، ولذا حث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الاقتداء والتمسك بهم والتعلم منهم ، وقال : «الحمد لله الّذي جعل فينا الحكمة أهل البيت» (١) وقيل : سميا ثقلين ، لثقل وجوب رعاية حقوقهما ثم إن الذين وقع الحث عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله ، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض ، ويؤيده الخبر السابق : «ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم» (٢) ، وتميزوا بذلك عن بقية العلماء لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وشرفهم بالكرامات الباهرة ، والمزايا المتكاثرة ، وقد مر بعضها» (٣).

مناقشة الحديث :

وقد ناقش الأستاذ محمد أبو زهرة هذا الحديث بمناقشات مطولة بعد ان استعرض استدلال الشيعة به على وجوب الرجوع إليهم ، نذكر كل ما يتصل بحديثنا منه ، ثم نعقب عليه بما يتراءى لنا من أوجه المفارفة فيه.

يقول : «ولكنا نقول : ان كتب السنة التي ذكرته بلفظ (سنتي) أوثق من الكتب التي روته بلفظ (عترتي) ، وبعد التسليم بصحة اللفظ نقول : بأنه لا يقطع بل لا يعين من ذكروهم من الأئمة الستة المتفق عليهم عند الإمامية الفاطميين ، وهو لا يعين أولاد الحسين دون أولاد الحسن ، كما لا يعين واحدا من هؤلاء بهذا الترتيب ، وكما لا يدل على ان الإمامة تكون بالتوارث ، بل لا يدل على إمامة السياسة ، وإنه أدل على إمامة الفقه والعلم» (٤).

ومواقع النّظر حول نصّه هذا ، تقع في ثلاث :

__________________

(١) بحار الأنوار : ١٠٤ ـ ٤١٢ ، الحديث : ١٩.

(٢) بحار الأنوار : ٢٢ ـ ٤٦٥ ، الحديث : ١٩.

(٣) هذا النص بطوله مستل من الصواعق المحرقة ، ص ١٤٩ ، مطبعة دار الطباعة المحمدية بمصر. (المؤلف).

(٤) الإمام الصادق : ١٩٩.

١٦٣

١ ـ مناقشة في الحديث من حيث سنده لتقديم ما ورد فيه من لفظ (سنتي) على ما ورد من لفظ (عترتي) ، لكون رواته من كتب السنة بهذا اللفظ أوثق.

٢ ـ كونه لا يعين المراد من الأهل ، كما لا يعين الأئمة المتفق عليهم لدى الشيعة أو غيرهم ، وكأنه يريد ان يقول : إن القضية لا تثبت موضوعها ، فكيف جاز الاستدلال به على إمامة خصوص الأئمة؟!

٣ ـ دلالته على إمامة الفقه لا السياسة.

أما المناقشة الأولى : فهي غير واضحة لدينا ، لأن رواية (وسنتي) لو صحت ، فهي لا تعارض رواية العترة ، واعتبار الصادر شيئا واحدا ، أما هذه أو تلك ، لا ملجئ له ، وأظن ان الشيخ أبا زهرة تخيل التعارض بينهما ، استنادا إلى مفهوم العدد ، ولكنه نسي أن هذا النوع من مفاهيم المخالفة ليس بحجة ـ كما هو التحقيق لدى متأخري الأصوليين ـ على ان التعارض لا يلجأ إليه إلا مع تحكم المعارضة ، ومع إمكان الجمع بينهما لا معارضة أصلا ، وقد جمع ابن حجر بينهما في صواعقه ، فقال : «وفي رواية : كتاب الله وسنتي ، وهي المراد من الأحاديث المقتصرة على الكتاب لأن السنة مبيّنة له ، فأغنى ذكره عن ذكرها ، والحاصل ان الحث وقع على التمسك بالكتاب وبالسنة وبالعلماء بهما من أهل البيت ، ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة» (١).

وان شئت ان تقول : إن ذكر أهل البيت معناه ذكر للسنة لأنهم لا يأتون إلا بها ، فكل ما عندهم مأخوذ بواسطة النبي ، أي بواسطة السنة ، وقد طفحت بذلك أحاديثهم ، ويؤيده ما ورد في كنز العمال من جواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عند ما سأله : ما أرث منك يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما ورّث الأنبياء من قبل : كتاب ربهم

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ١٤٨.

١٦٤

وسنة نبيهم» (١).

واذن يكون ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر ، وكلتا الروايتين يمكن ان تكونا صحيحتين ولا حاجة إلى تكذيب إحداهما وتعيين الصادرة منهما بالرجوع إلى المرجّحات.

ومع الغض عن ذلك وافتراض تمامية المعارضة ، وأن الصادر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمكن أن يكون إلا واحدة منهما ، فتقديمه لكلمة (وسنتي) لا أعرف له وجها. لأن حديث التمسك بالثقلين متواتر في جميع طبقاته ، والكتب التي حفلت به أكثر من أن تحصى ، وطرقه إلى الصحابة كثيرة ، ورواته منهم ـ أي الصحابة ـ كثيرون جدا ، وفي رواياته عدة روايات كانت في أعلى درجات الصحة ، كما شهد بذلك الحاكم وغيره.

بينما نرى الحديث الآخر لا يتجاوز في اعتباره عن كونه من أحاديث الآحاد ، ولقد كنت أحب للسيد أبي زهرة ان يتفضل بذكر الكتب السنية التي روت حديث (وسنتي) لنرى مدى ادعائه الأوثقية لها ، وأي كتب أوثق من الصحاح والسنن والمسانيد ومستدركاتها التي سبق ذكرها وذكر روايتها للحديث لتقدم عند المعارضة؟!

وفي حدود تتبعي لكتب الحديث ، واستعانتي ببعض الفهارس ، لم أجد رواية (وسنتي) إلا في عدد من الكتب لا تتجاوز عدد الأصابع لليد الواحدة ، وهي مشتركة في رواية الحديثين معا ، اللهم إلا ما يبدو من مالك حيث اقتصر في الموطأ على ذكرها فحسب ، ولم يذكر الحديث الآخر ـ إن صدق تتبعي لما في الكتاب ـ يقول راوي الموطأ : «وحدثني عن مالك : انه بلغه ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : تركت

__________________

(١) كنز العمال : ٥ ـ ٤١ ، راجع : السقيفة للمظفر : ص ٤٩.

١٦٥

فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله ، وسنة نبيه» (١).

ويكفي في توهين الرواية أنها مرفوعة ولم يذكر الكتاب رواتها ، مما يدل على عدم اطمئنان صاحبها إليها ولسانها «عن مالك أنه بلغه ان رسول الله» ، ولعل الموطأ هو أقدم مصادرها في كتب الحديث ، كما أن ابن هشام هو أقدم رواتها في كتب السير (٢) فيما يبدو.

وما عدا هذين الكتابين ، فقد ذكرها ابن حجر في صواعقه مرسلة ، وذكرها الطبراني فيما حكي عنه (٣).

ومثل هذه الرواية ـ وهي بهذه الدرجة من الضعف لأنها لا تزيد على كونها مرفوعة أو مرسلة ، ولو قدر صحتها فهي لا تزيد على كونها من أخبار الآحاد ـ هل يمكن ان تقف بوجه حديث الثقلين مع وفرة رواته في كتب السنة وتصحيح الكثير من رواياته ، كما سبق بيانه؟

هذا كله من حيث سند الحديثين.

أما من حيث المضمون ، فأنا ـ شخصيا ـ لا أكاد أفهم كيف يمكن أن تكون السنة مرجعا يطلب إلى المسلمين في جميع عصورهم أن يتمسكوا بها إلى جنب الكتاب ، وهي غير مجموعة على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيها الناسخ والمنسوخ ، والعام والخاصّ ، والمطلق والمقيد؟

ولقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة وأصحابه كما يقول ابن حزم : «مشاغيل في المعاش ، وتعذر القوت عليهم لجهد العيش بالحجاز ، وانه كان يفتي بالفتيا ويحكم بالحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط ، وأنه إنما قامت الحجة على سائر من

__________________

(١) الموطأ : ٢ ـ ٢٠٨. طبعة مصطفى البابي الحلبي.

(٢) حديث الثقلين : ١٨ دار التقريب.

(٣) المصدر السابق.

١٦٦

لم يحضره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنقل من حضره ، وهم واحد أو اثنان» (١).

وإذا صح هذا ـ وهو صحيح جدا لأن التاريخ لم يحدثنا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يجمع الصحابة جميعا ، ويبلغهم بكل ما يجد من أحكام ، ولو تصورناه في أقواله فلا نتصوره في أفعاله وتقريراته وهما من السنة ـ فما ذا يصنع من يريد التمسك بسنته من بعده ولنفترضه من غير الصحابة؟ أيظل يبحث عن جميع الصحابة ـ وفيهم الولاة والحكام ، وفيهم القواد والجنود في الثغور ـ ليسألهم عن طبيعة ما يريد التعرف عليه من أحكام ، أم يكتفي بالرجوع إلى الموجودين وهو لا يجزيه ، لاحتمال صدور الناسخ أو المقيد أو المخصص أمام واحد أو اثنين ممن لم يكونوا بالمدينة؟ والحجية ـ كما يقول ابن حزم ـ : لا تتقوّم إلا بهم.

والعمل بالعامّ أو المطلق لا يجوز قبل الفحص عن مخصصه أو مقيدة ، ما دمنا نعلم أن من طريقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التبليغ هو الاعتماد على القرائن المنفصلة ، فالإرجاع إلى شيء مشتّت وغير مدون تعجيز للأمة وتضييع للكثير من أحكامها الواقعية.

وإذا كانت هذه المشكلة قائمة بالنسبة إلى من أدرك الصحابة وهم القلة نسبيا ، فما رأيكم بالمشكلة بعد تكثر الفتوح ، وانتشار الإسلام ، ومحاولة التعرف على أحكامه من قبل غير الصحابة من رواتهم ، وبخاصة بعد انتشار الكذب والوضع في الحديث للأغراض السياسية أو الدينية أو النفسيّة؟

ومثل هذه المشكلة هل يمكن ان لا تكون أمامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو المسئول عن وضع الضمانات لبقاء شريعته ما دامت خاتمة الشرائع ، وقد شاهد قسما من التنكر لسنته على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما مرت الإشارة إلى ذلك في سابق من الأحاديث.

إن الشيء الطبيعي أن لا يفرض أي مصدر تشريعي على الأمة ما لم يكن

__________________

(١) تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية : ١٢٣ نقلا عنه.

١٦٧

مدوّنا ومحدد المفاهيم ، أو يكون هناك مسئول عنه يكون هو المرجع فيه.

وما دمنا نعلم أن السنة لم تدوّن على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزّه عن التفريط برسالته ، فلا بدّ أن نفترض جعل مرجع تحدد لديه السنة بكل خصائصها ، وبهذا تتضح أهمية حديث الثقلين وقيمة إرجاع الأمة إلى أهل البيت عليهم‌السلام فيه لأخذ الأحكام عنهم ، كما تتضح أسرار تأكيده على الاقتداء بهم (١) ، وجعلهم سفن النجاة تارة (٢) ، وأمانا للأمة أخرى (٣) ، وباب حطة ثالثة (٤) وهكذا ... وبخاصة إذا أدركنا مقام النبوة وما يقتضيه من تنزيه عن جميع المجالات العاطفية غير المنطقية ، وإلا فما الّذي يفرق أهل بيته عن غيرهم من الأمة ليضفي عليهم كل هذا التقديس ، ويلزمها بهذه الأوامر المؤكدة بالرجوع إليهم ، والاقتداء بهم ، والتمسك بحبلهم؟

أما ما يتصل بعدم تعيينه المراد من أهل البيت ، فهذا من أوجه ما أورده أبو زهرة من إشكالات على هذا الحديث.

وكون القضية لا تشخص موضوعها بديهية ، لذلك نرى ان نتعرف على المراد من أهل البيت من خارج نطاق هذا الحديث.

من هم أهل البيت؟

وأول ما يلفت النّظر سكوت الأمة عن استيضاح أمرهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبخاصة وقد سمعوه منه في نوب متفرقة وأماكن مختلفة ، أما كان فيهم من يقول له : إنك عصمتنا من الضلالة بالرجوع إلى أهل بيتك ، وجعلتهم قرناء القرآن ، فمن هم أهل هذا البيت لنعتصم بهم؟ أترى ان عصمتهم من الضلالة من الأمور العادية

__________________

(١) راجع : المراجعات للإمام السيد شرف الدين : ص ٢٣ وما بعدها.

(٢) ينابيع المودة : ص ٣٠ وص ٣٧٠ ط. الحيدرية. والصواعق المحرقة : ص ١٨٤ و ٢٣٤ ط. المحمدية.

(٣) ذخائر العقبى : ص ١٧. والصواعق المحرقة : ص ١٥٠.

(٤) مجمع الزوائد : ٩ ـ ١٦٨. والصواعق المحرقة : ص ١٥٠.

١٦٨

التي لا تهم معرفتها والاستفسار عنها ، أم ترى أنهم كانوا معروفين لديهم فما احتاجوا إلى استفسار وحديث؟

والّذي يبدو ان الصحابة ما كانوا في حاجة إلى استفسار وهم يشاهدون نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل يوم يقف على باب علي وفاطمة ، وهو يقرأ : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(١) ، وتسعة أشهر ـ وهي المدة التي حدث عنها ابن عباس ـ كافية لأن تعرف الأمة من هم أهل البيت ، ثم يشاهدونه وقد خرج إلى المباهلة وليس معه غير علي وفاطمة وحسن وحسين عليهم‌السلام وهو يقول : «اللهم هؤلاء أهلي» (٢) ، وهم من أعرف الناس بخصائص هذا الكلام ، وأكثرهم إدراكا لما ينطوي عليه من قصر واختصاص.

وأحاديث الكساء التي سبقت الإشارة إليها فيما سبق ، بما في بعضها من إقصاء حتى لزوجته أم سلمة ، ما يغني عن إطالة الحديث معه في التعرف على المراد من أهل البيت على عهده ، وأحاديثه على اختلافها يفسر بعضها بعضا ، ويعين بعضها المراد من البعض.

على أنا لا نحتاج في بدء النّظر إلى أكثر من تشخيص واحد منهم يكون المرجع للقيام بمهمته من بعده ، وهو بدوره يعين الخلف الّذي يأتي بعده وهكذا ... وليس من الضروري ان يتولى ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه إن لم نقل أنه غير طبيعي لو لا ان تقتضيه بعض الاعتبارات.

ومن هنا احتجنا إلى النص على من يقوم بوظيفة الإمامة ، لأن استيعاب السنة والأحكام الشرعية وطبيعة الصيانة لحفظها التي تستدعي العصمة لصاحبها

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) صحيح مسلم : ٧ ـ ١٢١ الحديث وفيه : «لما نزلت هذه الآية (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ) دعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : «اللهم هؤلاء أهلي» وقد رواه كل من : الترمذي ، والحاكم ، والبيهقي ، وغيرهم ، انظر دلائل الصدق : ٢ ـ ٨٦.

١٦٩

والعاصمية للآخرين ، ليست من الصفات البارزة التي يدركها جميع الناس ليتركها مسرحا لاختيارهم وتمييزهم ، ولو أمكن تركها لهم في مجال التشخيص فليس من الضروري أن يتفق الناس على اختيار صاحبها بالذات مع تباين عواطفهم وميولهم.

وطبيعة الصيانة والحفظ ومراعاة استمرارها منهجا وتطبيقا في الحياة ، وتستدعي اتخاذ مختلف الاحتياطات اللازمة لذلك.

ولقد أغنانا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين عيّن عليا عليه‌السلام في نفس حديث الثقلين وسماه من بين أهل بيته لينهض بوظائفه من بعده ، ومما جاء في خطابه التاريخي في يوم غدير خم ، وهو ينعى نفسه لعشرات الألوف من المسلمين الذين كانوا معه : «كأني قد دعيت فأجبت ، اني قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله وعترتي ، فانظروا كيف تخلفونني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، ـ ثم قال ـ : إن الله عزوجل مولاي ، وأنا مولى كل مؤمن ـ ثم أخذ بيد عليّ ، فقال ـ : من كنت مولاه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه» (١).

ثم قال في مرض موته بعد ذلك مؤكدا : «أيها الناس ، يوشك ان أقبض قبضا سريعا فينطلق بي ، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ، الا اني مخلف فيكم كتاب ربي عزوجل وعترتي أهل بيتي ، ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال : هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فأسألهما ما خلفت فيهما» (٢).

على أن الأحاديث الدالة على عصمته كافية في تعيينه ، أمثال قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) مستدرك الحاكم وتلخيصه للذهبي : ٣ ـ ١٠٩ ، وقد صححه الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله.

(٢) الصواعق المحرقة لابن حجر : ٢٤.

١٧٠

«علي مع الحق ، والحق مع علي يدور معه حيثما دار» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمار : «يا عمار ، إن رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس واديا غيره ، فاسلك مع علي ودع الناس ، إنه لن يدلّك على ردى ولن يخرجك من هدى» (٢). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم أدر الحق مع عليّ ، حيث دار» (٣) إلى غيرها من الأحاديث.

ومن هنا قال أبو القاسم البجلي وتلامذته من المعتزلة : «لو نازع علي عقيب وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلّ سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدم عليه ، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه ، ولكنه مالك الأمر وصاحب الخلافة ، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها ، وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها ، وحكمه في ذلك حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال : «علي مع الحق ، والحق مع علي يدور معه حيثما دار» (٤) ، وقال له غير مرة : «حربك حربي ، وسلمك سلمي» (٥).

وإذا كانت هذه الأحاديث التي مرت تعين عليا وولديه ، فما الّذي يعين بقية الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام؟

هناك روايات مأثورة لدى الشيعة وأخرى لدى السنة ، يذكرها صاحب الينابيع (٦) وغيره ، تصرح بأسمائهم جميعا».

ولكن الروايات التي حفلت بها الصحاح والمسانيد لا تذكرهم بغير عددهم. ففي رواية البخاري ، عن جابر بن سمرة ، قال : «سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : يكون

__________________

(١) مجمع الزوائد : ٧ ـ ٢٣٥.

(٢) كنز العمال : ١١ ـ ٦١٤ ، ح ٣٢٩٧٢ ط. مؤسسة الرسالة.

(٣) المستصفى : ١ ـ ١٣٦.

(٤) بحار الأنوار : ٣٣ ـ ٣٣٢ ، الحديث : ٥٧٧.

(٥) بحار الأنوار : ٢٤ ـ ٢٦١ ، الحديث ١٥. راجع أيضا «شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد» ١ ـ ٢١٢.

(٦) ينابيع المودة : ٣ ـ ٩٩.

١٧١

اثنا عشر أميرا ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلهم من قريش» (١).

وفي صحيح مسلم بسنده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش» (٢).

وفي رواية أحمد عن مسروق قال : «كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، هل سألتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ، ثم قال : نعم ، ولقد سألنا رسول الله ، اثني عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل» (٣).

وفي نظير هذه الأحاديث مع اختلاف في بعض المضامين ، حدّث كل من أبي داود ، والبزار ، والطبراني (٤) ، وغيرهم ، وطرقها في هذه الكتب كثيرة وبخاصة في صحيح مسلم (٥) ومسند أحمد (٦).

والّذي يستفاد من هذه الروايات :

١ ـ ان عدد الأمراء أو الخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر ، وكلهم من قريش.

٢ ـ وان هؤلاء الأمراء معيّنون بالنص ، كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء بني إسرائيل لقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً)(٧).

٣ ـ ان هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الإسلامي ، أو حتى

__________________

(١) صحيح البخاري : ٩ ـ ٨١ ، كتاب الأحكام ، الحديث : ٦٦٨٢.

(٢) صحيح مسلم : ٦ ـ ٤ ، كتاب الأمارة ، الحديث ٣٣٩٣. وفي ص ٣ ـ ٤ روايات أخرى بمضمون رواية البخاري.

(٣) مسند أحمد : مسند المكثرين من الصحابة ، الحديث ٣٥٩٣ ، راجع دلائل الصدق : ٢ ـ ٣١٦.

(٤) أضواء على السنة المحمدية : ص ٢١٠ وما بعدها.

(٥) صحيح مسلم : ٦ ـ ٣ ، كتاب الأمارة ، الحديث : ٣٣٩٣ و ٣٣٩٤ و ٣٣٩٨.

(٦) مسند أحمد : مسند المكثرين من الصحابة.

(٧) سورة المائدة : الآية ١٢.

١٧٢

تقوم الساعة ، كما هو مقتضى رواية مسلم السابقة ، وأصرح من ذلك روايته الأخرى في نفس الباب : «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان» (١).

وإذا صحت هذه الاستفادة فهي لا تلتئم إلا مع مبنى الإمامية في عدد الأئمة وبقائهم وكونهم من المنصوص عليهم من قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي منسجمة جدا مع حديث الثقلين وبقائهما حتى يردا عليه الحوض.

وصحة هذه الاستفادة موقوفة على ان يكون المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الإمامة والخلافة ـ بالاستحقاق ـ لا السلطة الظاهرية.

لأن الخليفة الشرعي خليفة يستمد سلطته من الله ، وهي في حدود السلطنة التشريعية لا التكوينية ، لأن هذا النوع من السلطنة هو الّذي تقتضيه وظيفته كمشرع ، ولا ينافي ذلك ذهاب السلطنة منهم في واقعها الخارجي لتسلط الآخرين عليهم.

على ان الروايات تبقى بلا تفسير لو تخلينا عن حملها على هذا المعنى ، لبداهة ان السلطنة الظاهرية قد تولاها من قريش أضعاف أضعاف هذا العدد ، فضلا عن انقراض دولهم وعدم النص على أحد منهم ـ أمويين وعباسيين ـ باتفاق المسلمين.

ومن الجدير بالذكر ان هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح والمسانيد قبل ان يكتمل عدد الأئمة ، فلا يحتمل ان تكون من الموضوعات بعد اكتمال العدد المذكور ، على ان جميع رواتها من أهل السنة ومن الموثوقين لديهم.

ولعل حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الأحاديث وملائمتها للواقع

__________________

(١) صحيح مسلم : كتاب الأمارة ، الحديث ٣٣٩٢ ، ومسند أحمد : مسند المكثرين من الصحابة ، الحديث : ٤٦٠٠ و ٥٤١٩.

١٧٣

التأريخي كان منشؤها عدم تمكنهم من تكذيبها ، ومن هنا تضاربت الأقوال في توجيهها وبيان المراد منها.

والسيوطي بعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة خرج برأي غريب نورده هنا تفكهة للقراء ، وهو «وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر ، الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز وهؤلاء ثمانية ، ويحتمل ان يضم إليهم المهدي من العباسيين لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية ، وكذلك الظاهر لما أوتيه من العدل ، وبقي الاثنان المنتظران أحدهما : المهدي لأنه من أهل بيت محمد ولم يبين المنتظر الثاني ، ورحم الله من قال في السيوطي : إنه حاطب ليل» (١).

وما يقال عن السيوطي يقال عن ابن روزبهان في رده على العلامة الحلي وهو يحاول توجيه هذه الأحاديث (٢).

والحقيقة ان هذه الأحاديث لا تقبل توجيها إلا على مذهب الإمامية في أئمتهم. واعتبارها من دلائل النبوة في صدقها عن الإخبار بالمغيبات ، أولى من محاولة إثارة الشكوك حولها كما صنعه بعض الباحثين المحدثين متخطيا في ذلك جميع الاعتبارات العلمية ، وبخاصة بعد ان ثبت صدقها بانطباقها على الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام.

على أنا في غنى من هذه الروايات وغيرها بحديث الثقلين نفسه ، فهو الّذي ترك بأيدينا مقياسا لتشخيص العصمة في أصحابها ، وقديما قيل : (اعرف الحق تعرف أهله) (٣).

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية : ٢١٢.

(٢) دلائل الصدق : ٢ ـ ٣١٥.

(٣) ذكر الغزالي في «المنقذ من الضلال» ما هذا لفظه : والعاقل يقتدي بسيّد العقلاء علي عليه‌السلام حيث قال : لا يعرف الحق بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله» (بحار الأنوار : ٤٠ ـ ١٢٥).

١٧٤

والمقياس في العصمة هو عدم الافتراق عن القرآن ، فلنمسك بأيدينا هذا المقياس ، ونسبر به الواقع السلوكي لجميع من تسمّوا بالأئمة لدى فرق الشيعة ، ونختار أجدرهم بالانطباق عليه لنتمسك بإمامته.

وأظن ان الأنسب والأبعد عن الادعاء ان نهمل كتب الشيعة على اختلافها ، وننزع إلى كتب إخواننا من أهل السنة ونجعلها الحكم في تطبيق هذا المقياس عليهم ، فإنها أقرب إلى الموضوعية عادة من كتب قد يقال في حق أصحابها أن كل طائفة تريد التزيّد لأئمتها بالخصوص.

ولنا من ابن طولون مؤرخ دمشق في كتابه «الأئمة الاثنا عشر» ، وابن حجر في صواعقه ، والشيخ سليمان البلخي وغيرهم رادة لأمثال هذه البحوث.

ولنترك قراءة تراجمهم جميعا للأخ أبي زهرة ليرى أيهم أكثر انسجاما في واقعه مع المقياس الّذي استفدناه من حديث الثقلين.

يقول أحمد وهو يعلق على حديث الإمام الرضا عن آبائه عليهم‌السلام حين مر بنيسابور : «لو قرأت هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جنّته» (١).

والّذي نرجوه ونأمل أن لا ننساه ونحن نستعرض تراجمهم ، ان هؤلاء الأئمة الاثني عشر قد ادعوا لأنفسهم الإمامة في عرض السلطة الزمنية ، واتخذوا من أنفسهم كما اتخذهم الملايين من أتباعهم قادة للمعارضة السلمية للحكم القائم في زمنهم ، وكانوا عرضة للسجون والمراقبة ، وكثير منهم قتل بالسم ، وفيهم من استشهد في ميدان الجهاد على يد القائمين بالحكم.

وفي هؤلاء الأئمة من تولى الإمامة وهو ابن عشرين سنة كالحسن العسكري عليه‌السلام ، بل فيهم من تولى منصبها وهو ابن ثمان كالإمامين الجواد والهادي عليهما‌السلام.

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ٢٠٣.

١٧٥

ومن المعروف عن الشيعة ادعاؤهم العصمة لأئمتهم الملازمة لدعوى الإحاطة في شئون الشريعة جميعها ، بل ادعوا الأعلمية لهم في جميع الشئون ، وهم أنفسهم صرحوا بذلك.

ومن كلمات أئمتهم في ذلك كله ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهجه الخالد «نحن شجرة النبوة ، ومحط الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومعادن العلم ، وينابيع الحكمة» (١) ، وقوله عليه‌السلام : «أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا ، أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم؟ بنا يستعطي الهدى ، ويستجلي العمى ، ان الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم» (٢).

وقول علي بن الحسين السجاد عليهما‌السلام : «... وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا واحتجوا بمتشابه القرآن فتأولوا بآرائهم واتهموا مأثور الخبر فينا ـ إلى ان يقول ـ : فإلى من يفزع خلف هذه الأمة ، وقد درست أعلام هذه الأئمة ، ودانت الأمة بالفرقة والاختلاف يكفر بعضهم بعضا؟ والله تعالى يقول : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ)(٣) فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة ، وتأويل الحكم الا أعدال الكتاب وأبناء أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى الذين احتج الله بهم على عباده ، ولم يدع الخلق سدى من غير حجة؟ هل تعرفونهم أو تجدونهم إلا من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا؟» (٤).

ومع هذه الأقوال ونظيرها صادر عن أكثر الأئمة ، وهم مصرحون بمبادئهم ،

__________________

(١) نهج البلاغة تحقيق الدكتور صبحي الصالح ذيل الخطبة ١٠٩ ص ١٦٢ وفيه «ينابيع الحكم».

(٢) المصدر السابق : الخطبة : ١٤٤ ، ص ٢٠١.

(٣) سورة آل عمران : الآية ١٠٥.

(٤) بحار الأنوار : ٢٧ ـ ١٩٣ ، الحديث ٥٢. واقرأ هذه الأقوال وغيرها في المراجعات لشرف الدين مأثورة عن النهج والصواعق ص ١٨.

١٧٦

أما كان بوسع السلطة وهي تملك ما تملك من وسائل القمع أن تقضي على هذه الجبهة من المعارضة ذات الدعاوي العريضة من أيسر طرقها؟ وذلك بتعريض أئمتها لشيء من الامتحان العسير في بعض ما يملكه العصر من معارف ، وبخاصة ما يتصل منها بغوامض الفقه والتشريع ليسقط دعواها في الأعلمية من الأساس ، أو يعرضهم إلى شيء من الامتحان في الأخلاق والسلوك ليسقط ادعاءهم العصمة.

وإذا كان في الكبار منهم عصمة وعلم ، نتيجة دربة ومعاناة ، فما هو الشأن في ابن عشرين عاما أو ابن ثمان؟ فهل تملك الوسائل الطبيعية تعليلا لتمثلهم لذلك كله؟

ولو كان هؤلاء الأئمة في زوايا أو تكايا ، وكانوا محجوبين عن الرّأي العام ، كما هو الشأن في أئمة الإسماعيلية أو بعض الفرق الباطنية ، لكان لإضفاء الغموض والمناقبية على سلوكهم من الأتباع مجال ، ولكن ما نصنع وهم مصرحون بأفكارهم وسلوكهم وواقعهم تجاه السلطة وغيرها من خصومهم في الكفر؟ والتأريخ حافل بمواقف السلطة منهم ومحاربتها لأفكارهم وتعريضهم لمختلف وسائل الإغراء والاختبار ، ومع ذلك فقد حافل التأريخ بنتائج اختباراتهم المشرّفة وسجلها بإكبار.

ولقد حدث المؤرخون عن كثير من هذه المواقف المحرجة وبخاصة مع الإمام الجواد عليه‌السلام ، مستغلين صغر سنه عند تولي الإمامة (١).

وحتى لو افترضنا سكوت التأريخ عن هذه الظاهرة ، فإن من غير الطبيعي ان لا تحدث أكثر من مرة تبعا لتكرر الحاجة إليها ، وبخاصة وان المعارضة كانت على أشدها في العصور العباسية.

وطريقة إعلان فضيحتهم بإخراج أئمتهم فيما يدعونه من علم أو استقامة

__________________

(١) اقرأ موقفه من امتحان الخليفة له على يد يحيى بن أكثم في الصواعق المحرقة ص ٢٠٤.

١٧٧

سلوك ، وإبراز سخفهم لاحتضانهم أئمة بهذا السن وهذا المستوى ، لو أمكن ذلك أيسر بكثير من تعريض الأمة إلى حروب قد يكون الخليفة نفسه من ضحاياها ، أو تعريض هؤلاء الأئمة إلى السجون والمراقبة أو المجاملة أحيانا.

وإذا كان بوسع الأخ أبي زهرة ان يعلل هذه الظاهرية بتعليل منطقي يخضع لما نعرف من عوامل طبيعية ـ أعني ظاهرة تفوقهم في مجالات الاختبار والتمحيص ـ بالنسبة إلى الكبار من الأئمة بإرجاعها إلى الجهد والدراسة والتجربة السلوكية سرا ، فهل بوسع فضيلته ان يعللها في ابن عشرين سنة أو في ابن ثمان ، كما هو الشأن في الأئمة الثلاثة : الجواد ، والهادي ، والعسكري عليهم‌السلام؟

وما لنا نبعد والأخ أبو زهرة ، وهو من الأساتذة الذين عانوا مشاكل التدريس في الجامعات؟ هل يستطيع ان يعطي الضمانة لنجاح أي أستاذ ـ لو عرض لامتحان عسير ـ في خصوص ما ألفه من كتب من دون سابق تحضير؟ فكيف إذا وسعنا الامتحان إلى مختلف مجالات المعرفة ـ وهي المدعاة لأئمة أهل البيت في مذهب الشيعة الإمامية ـ ودون سابق تحضير؟

وإذا كان للصدفة ـ وهي مستحيلة ـ مجالها في امتحان ما بالنسبة إلى شخص ما فليس لها موقع بالنسبة إليه في مختلف المجالات فضلا عن تكررها بالنسبة إلى جميع الأئمة صغارهم وكبارهم كما يحدث في ذلك التأريخ.

وأظن ان في هذه الاعتبارات التي ذكرناها مجتمعة ما يغني عن استيعاب كل ما ذكر في تشخيص المراد من أهل البيت.

أما الدعوى الثالثة : وهي دلالته على إمامة الفقه لا السياسة ، فهي ما لا أعرف لها وجها يمكن الركون إليه لافتراضها فصل السلطتين الدينية والزمنية عن بعضهما ، مع ان الإسلام لا يعترف بذلك لما فيه من تجاهل لوظائف الإمامة وهي امتداد لوظائف النبي إلا فيما يتصل بعالم الاتصال بالسماء ، وبخاصة فيما يتصل في

١٧٨

الشئون التطبيقية.

لأن الفكرة ـ أية فكرة ـ لا يكفي في تحقيق نفسها ان تشرع وتعيش على صعيد من الورق ، بل لا بد ان تضمن لها تطبيقا تتلاءم فيه الوسائل والأهداف ، وإلا لما صح نسبة النجاح لتجربتها بحال من الأحوال ، ولقد كتبت فصلا مطولا في البحث الّذي يتصل بانبثاق فكرة الإمامة والضرورات الداعية إليها في محاضراتي عن تاريخ التشريع الإسلامي في كلية الفقه ، ومما جاء فيه مما يتصل بحديثنا هذا : «والّذي إخاله ان من أوليات ما يقتضيه ضمان التطبيق ان يكون القائم على تطبيقها شخصا تتجسد فيه مبادئ فكرته تجسدا مستوعبا لمختلف المجالات التي تكفلت الفكرة تقويمها من نفسه.

ولا نريد من التجسد أكثر من أن يكون صاحبها خليا عن الأفكار المعاكسة لها من جهة ، وتغلغلها في نفسه كمبدإ يستحق من صاحبه التضحية والفناء فيه من جهة أخرى ، ومتى كان الإنسان بهذا المستوى استحال في حقه من وجهة نفسية ان يخرج على تعاليمها بحال.

وإذا لم يكن القائم بالحكم بهذا المستوى من الإيمان بها وكانت لديه رواسب على خلافها لم يكن بالطبع أمينا على تطبيقها مائة بالمائة ، لاحتمال انبعاث إحدى تلكم الرواسب في غفلة من غفلات الضمير واستئثارها في توجيه الوجهة المعاكسة التي تأتي على الفكرة في بعض مناحيها وتعطلها عن التأثير ككل ، وربما استجاب الرّأي العام له تخفيفا لحدة الصراع في أعماقه بين ما جدّ من تعاليم هذه الفكرة وما كان معاشا له ومتجاوبا مع نفسه من الرواسب.

على ان الناس ـ كل الناس ـ لا يكادون يختلفون إلا نادرا في قدرتهم على التفكيك بين الفكرة وشخصية القائم عليها ، فالتشريع الّذي يحرم الرشوة أو الرّبا أو الاستئثار لا يمكن ان يأخذ مفعوله من نفوس الناس متى عرف الارتشاء أو

١٧٩

المراباة أو الاستئثار في شخص المسئول عن تطبيقه ولو في آن مّا ، أو احتمل فيه ذلك».

وبما ان الإسلام يعالج الإنسان علاجا مستوعبا لمختلف جهاته داخلية وخارجية ، احتجنا لضمان تبليغه وتطبيقه إلى العصمة في الرسول ثم العصمة في الّذي يتولى وظيفته من بعده ، وعلى هذا يتضح سر إصرار النبي على تعيين أهل بيته الذين أعدهم الله لهذه المهمة إعدادا خاصا بالإضافة إلى مواهبهم الإرادية للقيام بشئونها.

وما لنا نبعد بالأستاذ أبي زهرة وطبيعة النص الّذي تحدث حوله تقتضيه ، وهل وراء التعبير بلفظ «مخلّف» ولفظ «خليفتين» ما يؤدي هذا المعنى؟

على ان الأخ أبا زهرة حاول ان يقتطع النص من أجوائه التي تسلط الأضواء على تحديد مفاهيمه ، ويدرسه بعيدا عنها فوقع فيما وقع فيه.

وهل نسي حضرته مجيئه في معرض التمهيد لحديث النص في يوم الغدير؟ ومما جاء فيه : «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» وصفة الأولوية لا تكون إلا لمن له الولاية العامة على الأمة ليستطيع التصرف بما تقتضيه مصلحتها ، ثم تعقيبها بإعطاء الولاية له بقوله : «من كنت وليه فهذا علي وليه» ولحوقها بالدعاء الّذي لا يناسب إلا الولاية العامة «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره».

ثم ورودها بعد ذلك في معرض تأكيد النص قبيل وفاته كما سبق التحدث في ذلك مما يوجب القطع بشمولها للجانب السياسي إذا لوحظت بمجموع ما لابسها من قرائن وأجواء.

على ان شمولها للجانب السياسي وعدم شمولها لم يعد موضعا لحاجتنا اليوم لنطيل التحدث فيه. لأن البحث في هذا الجانب لا يثمر ثمرة فقهية ومجاله التأريخ.

١٨٠