الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

تمهيد :

وقد استدل الشيعة على حجية سنّة أهل البيت عليهم‌السلام بأدلة كثيرة ، يصعب استعراضها جميعا واستيفاء الحديث فيها ، وحسبنا ان نعرض منها الآن نماذج لا تحتاج دلالتها إلى مقدمات مطوية ليسهل استيعاب الحديث فيها.

وأهم ما ذكروه من أدلتهم ـ على اختلافها ـ ثلاثة : الكتاب ، السنة النبوية ، العقل.

والّذي يهمنا من هذه الأدلة التي عرضوها لإثبات مرادهم هو كل ما دل أو رجع إلى لزوم التمسك بهم ، والرجوع إليهم ، واعتبار قولهم حجة يستند إليها في مقام إثبات الواقع.

ومجرد مدحهم والثناء عليهم من قبل الله عزوجل أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكفي في اعتبار الحجية لما يصدر عنهم ، وان قربت دلالته في كتب الشيعة الكلامية بعد ذكر مقدمات مطوية قد لا يخلو بعضها من مناقشة ، وقد سبق ان تحدثنا فيما يشبه الموضوع مع الشاطبي عند ما استدل على اعتبار سنة الصحابة بأخبار المدح والثناء عليهم ، وما قلناه هناك نقوله هنا ، وان كان نوع المديح يختلف لسانه ، وربما كان في لسان بعضه هنا ما يشعر بالحجية ، ولا يهم إطالة الحديث فيه.

ثم إن الأحاديث التي وردت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستدلوا بها على الحجية ، تختلف في أسانيدها ، فبعضها يرجع إلى أهل البيت عليهم‌السلام أنفسهم ، وينفرد أو يكاد بروايته شيعة أهل البيت عليهم‌السلام ، وبعضها الآخر مما يتفق على روايته الشيعة وأهل السنة على السواء.

والّذي يحسن ان نذكره في أحاديثنا هذه منها هو خصوص ما اتفق عليه

١٤١

الطرفان ، ووثقوا رواته ، اختصارا لمسافة الحديث وإبعادا لشبهة من لا يطمئن إلى غير أحاديث أرباب مذهبه ، لاحتمال تحكم بعض العوامل الشعورية أو اللاشعورية في صياغتها ، وتخلصا من شبهة الدور التي أثارها فضيلة الأستاذ الشيخ سليم البشري في مراجعاته القيمة مع الإمام شرف الدين ، فقد جاء في إحدى مراجعاته له :

١ ـ هاتها بينة من كلام الله ورسوله تشهد لكم بوجوب اتباع الأئمة من أهل البيت دون غيرهم ، ودعنا في هذا المقام من كلام غير الله ورسوله.

٢ ـ فإن كلام أئمتكم لا يصلح لئن يكون حجة على خصومهم ، والاحتجاج به في هذه المسألة دوري ، كما تعلمون (١).

وربما قرب الدور بدعوى ان حجية أقوال أهل البيت عليهم‌السلام موقوفة على إثبات كونها من السنة ، وإثبات كونها من السنة موقوف على حجية أقوالهم ، ومع إسقاط المتكرر ينتج ان إثبات كونها من السنة موقوف على إثبات كونها من السنة ، ونظير هذا الدور ما سبق أن أوردناه على من استدل بالسنة النبوية على حجية السنة.

ولكن الجواب عن هذا الدور هنا واضح ، إذا تصورنا أن حجية أقوال أهل البيت عليهم‌السلام هذه لا تتوقف على كونها من السنة ، وانما يكفي في إثبات الحجية لها كونها مروية من طريقهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدورها عنهم باعتبارهم من الرّواة الموثوقين ، واذن يختلف الموقوف عن الموقوف عليه فيرتفع الدور ، ويكون إثبات كون ما يصدر عنهم من السنة موقوفا على روايتهم الخاصة لا على أقوالهم كمشرعين. نعم لو أريد من أقوال الأئمة غير الرواية عن النبي ، بل باعتبارها

__________________

(١) المراجعات لشرف الدين : المراجعة ١٣ ص ٥١ ـ ٥٢ ط. المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام ، ويحسن لكل مسلم ان يطلع على هذه المراجعات فإن فيها من أدب المناظرة وعمق البحث ما يقل نظيره في هذا المجال.

١٤٢

نفسها سنة ، وأريد إثبات كونها سنة بنفس الأقوال لتحكمت شبهة الدور ولا مدفع لها.

وعلى أي حال فإن الّذي يحسن بنا ـ متى أردنا لأنفسنا الموضوعية في بحوثنا هذه ـ ان نتجنب هذا النوع من الأحاديث ونقتصر على خصوص ما اتفق الطرفان على روايته ، ووجد في كتبهم المعتمدة لهم.

أدلتهم من الكتاب :

استدلوا من الكتاب بآيات عدة نكتفي منها بما اعتبروه دالاّ على عصمتهم لأنه هو الّذي يتصل بطبيعة بحوثنا هذه ، وأهمها آيتان :

الأولى : آية التطهير وهي : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(١).

وتقريب الاستدلال بها على عصمة أهل البيت عليهم‌السلام ما ورد فيها من حصر إرادة إذهاب الرجس ـ أي الذنوب ـ عنهم بكلمة (انما) ، وهي من أقوى أدوات الحصر ، واستحالة تخلف المراد عن الإرادة بالنسبة له تعالى من البديهيات لمن آمن بالله عزوجل وقرأ في كتابه العزيز : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٢) ، وتخريجها على أساس فلسفي من البديهيات أيضا لمن يدرك أن إرادته هي العلة التامة أو آخر أجزائها بالنسبة لجميع مخلوقاته ، واستحالة تخلف المعلول عن العلة من القضايا الأولية ، ولا أقل من كونها من القضايا المسلمة لدى الطرفين ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، وليس معنى العصمة إلا استحالة صدور الذنب عن صاحبها عادة.

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٣٣.

(٢) سورة يس : الآية ٨٢.

١٤٣

شبهات حول الآية :

١ ـ وقد يقال : ان الإرادة ـ كما يقسمها علماء الأصول ـ إرادتان : تكوينية وتشريعية ، وهي وإن كانت من حيث استحالة تخلف المراد عنها واحدة ، إلا انها تختلف بالنسبة إلى المتعلق ، فإن كان متعلقها خصوص الأمور الواقعية من أفعال المكلفين وغيرها سميت تكوينية ، وان كان متعلقها الأمور المجعولة على أفعال المكلفين من قبل المشرع سميت إرادة تشريعية.

والإرادة هنا لا ترتبط بالإرادة التكوينية لأن متعلقها الأحكام الواردة على أفعالهم ، فكأن الآية تقول : «إنما شرعنا لكم الأحكام يا أهل البيت لنذهب بها الرجس عنكم ولنطهركم بها تطهيرا».

ولكن تفسير الإرادة هنا بالإرادة التشريعية يتنافى مع نصّ الآية بالحصر المستفاد من كلمة (إنما) إذ لا خصوصية لأهل البيت في تشريع الأحكام لهم ، وليست لهم أحكام مستقلة عن أحكام بقية المكلفين ، والغاية من تشريعه للأحكام إذهاب الرجس عن الجميع ، لا عن خصوص أهل البيت عليهم‌السلام على أن حملها على الإرادة التشريعية يتنافى مع اهتمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأهل البيت وتطبيق الآية عليهم بالخصوص ، كما يأتي ذلك فيما بعد.

٢ ـ وقد يقال أيضا : ان حملها على الإرادة التكوينية وإن دل على معنى العصمة فيهم لاستحالة تخلف المراد عن إرادته تعالى ، إلا ان ذلك يجرنا إلى الالتزام بالجبر وسلبهم الإرادة فيما يصدر عنهم من أفعال ما دامت الإرادة التكوينية هي المتحكمة في جميع تصرفاتهم ، ونتيجة ذلك حتما حرمانهم من الثواب ، لأنه وليد إرادة العبد ، كما تقتضيه نظرية التحسين والتقبيح العقليين ، وهذا ما لا يمكن ان يلتزم به مدّعو الإمامة لأهل البيت عليهم‌السلام.

والجواب على هذه الشبهة يجرنا إلى الحديث حول نظرية الجبر والاختيار عند

١٤٤

الشيعة.

وملخص ما ذهبوا إليه أن جميع أفعال العبيد وإن كانت مخلوقة لله عزوجل ومرادة له بالإرادة التكوينية لامتناع جعل الشريك له في الخلق ، إلا أن خلقه لأفعالهم إنما هو بتوسط إرادتهم الخاصة غالبا وفي طولها ، وبذلك صححوا نسبة الأفعال للعبيد ونسبتها لله ، فهي مخلوقة لله عزوجل حقيقة ، وهي صادرة عن إرادة العبيد حقيقة أيضا ، وبذلك صححوا الثواب والعقاب ، وذهبوا إلى الحل الوسط الّذي أخذوه من أقوال أئمتهم عليهم‌السلام «لا جبر ولا تفويض ، وانما هو أمر بين أمرين» (١).

وبهذا سلموا من مخالفة الوجدان في نفي الإرادة وسلبها عنهم ، كما هو مفاد مذهب القائلين بالجبر ، كما سلموا من شبهة المفوضة في عزل الله عن خلقه وتفويض الخلق لعبيده ، كما هو مذهب المفوضة.

وبناء على هذه النظرية يكون مفاد الآية ان الله عزوجل لما علم أن إرادتهم تجري دائما على وفق ما شرعه لهم من أحكام ، بحكم ما زودوا به من إمكانات ذاتية ومواهب مكتسبة نتيجة تربيتهم على وفق مبادئ الإسلام تربية حوّلتهم في سلوكهم إلى إسلام متجسد ، ثم بحكم ما كانت لديهم من القدرات على إعمال إرادتهم وفق أحكامه التي استوعبوها علما وخبرة ، فقد صح له الإخبار عن ذاته المقدسة بأنه لا يريد لهم بإرادته التكوينية إلا إذهاب الرجس عنهم ، لأنه لا يفيض الوجود إلا على هذا النوع من أفعالهم ما داموا هم لا يريدون لأنفسهم إلاّ إذهاب الرجس والتطهير عنهم.

وبهذا يتضح معنى الاصطفاء والاختيار من قبله لبعض عبيده في ان يحملوا ثقل النهوض برسالته المقدسة كما هو الشأن في الأنبياء وأوصيائهم عليهم‌السلام.

__________________

(١) أصول الكافي : ١ ـ ١٦٠ ، الحديث : ١٣ ، وفيه «ولكن» بدل «وانما هو».

١٤٥

على أن الشبهة لو تمت فهي جارية في الأنبياء جميعا ، وثبوت العصمة لهم ـ ولو نسبيا ـ موضع اتفاق الجميع ، فما يجاب به هناك يجاب به هنا من دون فرق ، والشبهة لا يمكن ان تحل إلاّ على مذهب أهل البيت عليهم‌السلام في نظرية الأمر بين الأمرين على جميع التقادير.

٣ ـ وشبهه ثالثة ، أثاروها حول المراد من أهل البيت ، فالذي عليه عكرمة ومقاتل ـ وهما من أقدم من تبنّى إبعادها عن أهل البيت في عرف الشيعة ـ نزولها في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة.

وكان من مظاهر إصرار عكرمة وتبنّيه لهذا الرّأي : انه كان ينادي به في السوق (١) ، وكان يقول : «من شاء باهلته انها نزلت في أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) والّذي يبدو ان الرّأي السائد على عهده كان على خلاف رأيه ، كما يشعر فحوى رده على غيره «ليس بالذي تذهبون إليه إنما هو نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وقد نسب هذا الرّأي إلى ابن عباس ، ويبدو أنه المصدر الوحيد في النسبة إليه ، وإن كان في أسباب النزول للواحدي رواية عن ابن عباس يرويها سعيد بن جبير دون توسط عكرمة هذا (٤) ، إلا ان رواية ابن مردويه لها عن سعيد بن جبير عنه (٥) ـ أي عن عكرمة ـ عن ابن عباس يقرب ان يكون في رواية الواحدي تدليس ، وهما رواية واحدة ، وقد استدل هو أو استدلوا له بوحدة السياق ، لأن الآية إنما وردت ضمن آيات نزلت كلها في نساء النبي ، ووحدة السياق كافية لتعيين المراد من أهل البيت.

__________________

(١) الواحدي في أسباب النزول : ص ٢٦٨.

(٢) الدر المنثور : ٥ ـ ١٩٨.

(٣) المصدر السابق.

(٤) أسباب النزول : ص ٢٦٧.

(٥) الدر المنثور : ٥ ـ ١٩٨.

١٤٦

والحديث حول هذه الشبهة يدعونا إلى تقييم آراء كل من عكرمة ومقاتل ، ومعرفة البواعث النفسيّة التي بعثت بعكرمة على كل هذا الإصرار والموقف غير المحايد ، حتى اضطره الموقف إلى الدعوة إلى المباهلة والنداء في الأسواق ، وهو موقف غير طبيعي منه ، ولا الف في غير هذا الموقف المعين.

والظاهر ان لذلك كله ارتباطا بعقيدته التي تبناها يوم اعتنق مذهب الخوارج (١) وبخاصة رأي نجدة الحروري (٢).

وللخوارج موقف مع الإمام علي عليه‌السلام معروف ، فلو التزم بنزول الآية في أهل البيت بما فيهم علي ، لكان عليه القول بعصمته ولأهار على نفسه أسس عقيدته التي سوغت لهم الخروج عليه ومقاتلته ، وبررت لهم ـ أعني الخوارج ـ قتله.

وقد استغل علائقه بابن عباس وسيلة للكذب عليه ، وكان ممن يستسيغون الكذب في سبيل العقيدة ـ فيما يبدو ـ ومن أولى من ابن عباس في الكذب عليه فيما يتصل بهذا الموضوع الحساس؟

وقد اشتهرت قصة كذبه على ابن عباس بين خاصته حتى كان يضرب المثل فيه ، فعن ابن المسيب انه قال لمولى له اسمه برد : لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس. وعن ابن عمر أنه قال ذلك أيضا لمولاه نافع (٣).

وقد حاول علي بن عبد الله بن عباس صده وردعه عن ذلك ، ومن وسائله التي اتخذها معه أنه كان يوثقه على الكنيف ليرتدع عن الكذب على أبيه ، يقول عبد الله بن أبي الحرث : «دخلت على ابن عبد الله بن عباس وعكرمة موثق على باب كنيف ، فقلت : أتفعلون هذا بمولاكم؟ فقال : ان هذا يكذب على أبي» (٤).

__________________

(١) وفيات الأعيان : ١ ـ ٣٢٠ ، ترجمة عكرمة.

(٢) راجع الكلمة الغراء للإمام السيد شرف الدين : ص ٢١٥ وما بعدها ، نقلا عن ميزان الاعتدال وغيره ، ففيه بالإضافة إلى ذلك آراء مختلف النقاد الرجاليين فيه.

(٣) راجع الكلمة الغراء للإمام السيد شرف الدين : ص ٢١٥ وما بعدها ، نقلا عن ميزان الاعتدال وغيره ، ففيه بالإضافة إلى ذلك آراء مختلف النقاد الرجاليين فيه.

(٤) وفيات الأعيان : ١ ـ ٣٢٠.

١٤٧

وحقده فيما يبدو لم يختص بأهل البيت عليهم‌السلام وانما تجاوزهم إلى جميع المسلمين عدا الخوارج ، فعن خالد بن عمران قال : «كنا في المغرب وعندنا عكرمة في وقت الموسم ، فقال : وددت أن بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يمينا وشمالا. وعن يعقوب الحضرمي ، عن جده ، قال : وقف عكرمة على باب المسجد فقال : ما فيه إلا كافر» (١).

وأما مقاتل فحسابه من حيث العداء لأمير المؤمنين عليه‌السلام حساب عكرمة ، ونسبة الكذب إليه لا تقل عن نسبتها إلى زميله عكرمة ، حتى عدّه النسائي في جملة الكذابين المعروفين بوضع الحديث (٢). وقال الجوزجاني ، كما في ترجمة مقاتل من ميزان الذهبي : «كان مقاتل كذابا جسورا» (٣) «وكان يقول لأبي جعفر المنصور : انظر ما تحب ان أحدثه فيك حتى أحدثه ، وقال للمهدي : إن شئت وضعت لك أحاديث في العباس ، قال : لا حاجة لي فيها» (٤).

وإذا كان كل من مقاتل وعكرمة بهذا المستوى لدى أرباب الجرح والتعديل ، فأمر روايتهما ورأيهما لا يحتاج إلى إطالة حديث ، وبخاصة في مثل هذه المسألة التي تمس مواقع العقيدة أو العاطفة من نفسيهما.

ولكن هذه البواعث ـ فيما يبدو ـ خفيت على بعض الأعلام ، فأقاموا لرأيهما وروايتهما وزنا ، ولذلك نرى ان نعود إلى التحدث عن ذلك بعيدا عن شخصيتهما لنرى قيمة هذه الرواية أو هذا الرّأي.

١ ـ والّذي لاحظته من قسم من الروايات : أن لفظة الأهل لم تكن تطلق في ألسنة العرب على الأزواج إلاّ بضرب من التجوز ، ففي صحيح مسلم : «ان زيد

__________________

(١) الكلمة الغراء : ص ٢١٠ ، وهي ملحقة بكتاب الفصول المهمة للسيد شرف الدين قدس سرّه.

(٢) دلائل الصدق : ٢ ـ ٩٥.

(٣) الكلمة الغراء : ص ٢١٢.

(٤) اقرأ مصادرها في الغدير : ٥ ـ ٢٦٦.

١٤٨

ابن أرقم سئل عن المراد بأهل البيت هل هم النساء؟ قال : لا وايم الله ، ان المرأة تكون مع الرّجل العصر من الدهر ، ثم يطلقها ، فترجع إلى أبيها وقومها» (١).

وفي رواية أم سلمة ، قالت : نزلت هذه الآية في بيتي (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وفي البيت سبعة : جبريل وميكائيل وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ، وانا على باب البيت ، قلت : ألست من أهل البيت؟ قال : إنك إلى خير إنك من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

فدفعها عن صدق هذا العنوان عليها وإثبات الزوجية لها ، يدل على أن مفهوم الأهل لا يشمل الزوجة ، كما ان تعليل زيد بن أرقم يدل على المفروغية عن ذلك ، ولا يبعد دعوى التبادر من كلمة أهل ، خصوص من كانت له بالشخص وشائج قربي ثابتة غير قابلة للزوال ، والزوجة وان كانت قريبة من الزوج إلا ان وشائجها القربية قابلة للزوال بالطلاق وشبهه ، كما ذكر زيد.

٢ ـ ومع الغض عن هذه الناحية ، فدعوى نزولها في نساء النبي شرف لم تدّعه لنفسها واحدة من النساء ، بل صرحت غير واحدة منهن بنزولها في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين.

«أخرج الترمذي وصححه (٣) ، وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصححه (٤) وابن مردويه والبيهقي في سننه (٥) من طرق عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : في بيتي نزلت : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ...)(٦) ، وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين ، فجللهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكساء كان عليه ، ثم

__________________

(١) صحيح مسلم : ٧ ـ ١٢٩ ، كتاب فضائل الصحابة ، الحديث ٤٤٢٥.

(٢) الدر المنثور : ٥ ـ ١٩٨.

(٣) سنن الترمذي : كتاب تفسير القرآن ، الحديث : ٣١٢٩ ، وكتاب المناقب ، الحديث ٣٧١٩.

(٤) المستدرك ، للحاكم : ٣ ـ ١٤٦.

(٥) سنن البيهقي : ٢ ـ ١٦٩.

(٦) سورة الأحزاب : الآية ٣٣.

١٤٩

قال : هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً» (١).

وفي رواية أم سلمة الأخرى ، وهي صحيحة على شرط البخاري : «في بيتي نزلت : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ...) ، فأرسل رسول الله إلى علي وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : هؤلاء أهل بيتي» (٢).

وحديث الكساء ، الّذي كاد أن يتواتر مضمونه لتعدد رواته لدى الشيعة والسنة في جميع الطبقات ، حافل بتطبيقها عليهم بالخصوص ، تقول عائشة : خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي ، فأدخله ، ثم جاء الحسين فدخل معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٣).

والّذي يبدو ان الغرض من حصرهم تحت الكساء ، وتطبيق الآية عليهم ، ومنع حتى أم سلمة من الدخول معهم ، كما ورد في روايات كثيرة ، هو التأكيد على اختصاصهم بالآية ، وقطع الطريق على كل ادعاء بشمولها لغيرهم.

وهناك روايات آحاد توسع بعضها في الجالسين تحت الكساء إلى ما يشمل جميع أقاربه وبناته وأزواجه ، وبعضها تخصهم بالعباس وولده حيث اشتمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «على العباس وبنيه بملاءة ، ثم قال : يا رب هذا عمي وصنو أبي ، وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم فأمنت أسكفة الباب (٤) وحوائط البيت ، فقالت : آمين وهي ثلاثا» (٥).

__________________

(١) الدر المنثور : ٥ ـ ١٩٨.

(٢) المستدرك ، للحاكم : ٣ ـ ١٤٦.

(٣) صحيح مسلم : ٧ ـ ١٣٠ ، كتاب فضائل الصحابة ، الحديث : ٤٤٥٠.

(٤) أسكفة الباب : خشبة الباب التي يوطأ عليها. (راجع : محيط المحيط مادة «سكف»).

(٥) الصواعق المحرقة : ص ٢٢٢. ط. دار الكتب العلمية بيروت.

١٥٠

وهي لعدم طبيعتها وضعف أسانيدها ومجافاتها لواقع الكثير منهم لا تستحق أن يطال فيها الحديث ، ومن رغب في الاطلاع عليها فليقرأها مع محاكماتها في كتاب دلائل الصدق (١) ، وحسبها وهنا أن لا يستدل بها أو يستند إليها أحد من أولئك أو أحد أتباعهم مع ما فيها من الشرف العظيم لأمثالهم.

وكأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد خشي ان يستغل بعضهم قربه منه فيزعم شمول الآية له ، فحاول قطع السبيل عليهم بالتأكيد على تطبيقها على هؤلاء بالخصوص ، وتكرار هذا التطبيق حتى تألفه الأسماع ، وتطمئن إليه القلوب.

يقول أبو الحمراء : «حفظت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمانية أشهر بالمدينة ، ليس من مرة يخرج إلى صلاة الغداة إلا أتى إلى باب علي فوضع يده على جنبتي الباب ، ثم قال : الصلاة الصلاة ، (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٢). وفي رواية ابن عباس ، قال : «شد هنا رسول الله تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند وقت كل صلاة ، فيقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)» (٣).

ومع ذلك كله ، فهل تبقى لدعوى عكرمة وروايته مجال لمعارضة هذه الصحاح وعشرات من أمثالها حفلت بها كتب الحديث والكثير من صحاحها (٤)؟

٣ ـ أما ما يتصل بدعوى وحدة السياق ، فهي لو تمت لما كانت أكثر من كونها اجتهادا في مقابلة النص ، والنصوص السابقة كافية لرفع اليد عن كل اجتهاد جاء

__________________

(١) دلائل الصدق : ٢ ـ ٧٢ وما بعدها.

(٢) الدر المنثور : ٥ ـ ١٩٩.

(٣) المصدر السابق.

(٤) لاستيعاب روايات آية التطهير راجع : دلائل الصدق : ٢ ـ ٦٤ ـ ٧٤ ، بحث آية التطهير. والكلمة الغراء الملحقة بكتاب الفصول المهمة : ص ٢١٧.

١٥١

على خلافها ، على أنها في نفسها غير تامة ، لأن من شرائط التمسك بوحدة السياق ان يعلم وحدة الكلام ليكون بعضه قرينة على المراد من البعض الآخر ، ومع احتمال التعدد في الكلام لا مجال للتمسك بها بحال.

ووقوع هذه الآية أو هذا القسم منها ضمن ما نزل في زوجات النبي لا يدل على وحدة الكلام ، لما نعرف من أن نظم القرآن لم يجر على أساس من التسلسل الزمني ، فرب آية مكية وضعت بين آيات مدنية وبالعكس فضلا ، عن إثبات ان الآيات المتسلسلة كان نزولها دفعة واحدة.

ومع تولد هذا الاحتمال لا يبقى مجال للتمسك بوحدة السياق ، وأي سياق يصلح للقرينية مع احتمال التعدد في أطرافه وتباعد ما بينها في النزول؟

على ان تذكير الضمير في آية التطهير وتأنيث بقية الضمائر في الآيات السابقة عليها واللاحقة لها يقرّب ما قلناه ، إذ ان وحدة السياق تقتضي اتحادا في نوع الضمائر ، ومقتضى التسلسل الطبيعي ان تكون الآية هكذا «انما يريد الله ليذهب عنكن الرجس أهل البيت» لا عنكم.

والظاهر من روايات أم سلمة ـ وهي التي نزلت في بيتها هذه الآية ـ أنها نزلت منفردة كما توحي به مختلف الأجواء التي رسمتها رواياتها ، لما أحاط بها من جمع أهل البيت وإدخالهم في الكساء ومنعها من مشاركتهم في الدخول ، إلى ما هنا لك.

والحق الّذي يتراءى لنا من مجموع ما رويناه من نزول الآية وحرص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عدم مشاركة الغير لهم فيها واتخاذه الاحتياطات بإدخالهم تحت الكساء ، ليقطع بها الطريق على كل مدع ومتقول ، ثم تأكيده هذا المعنى خلال تسعة أشهر في كل يوم خمس مرات يقف فيها على باب علي وفاطمة عليهما‌السلام ، كل ذلك مما يوجب القطع بأن للآية شأنا يتجاوز المناحي العاطفية ، وهو مما يتنزه عنه مقام النبوة ، لأمر يتصل بصميم التشريع من إثبات العصمة لهم ، وما يلازم ذلك

١٥٢

من لزوم الرجوع إليهم والتأثر والتأسي بهم في أخذ الأحكام ، على ان الآية لا يتضح لها معنى غير ذلك كما أوضحناه في بداية الحديث.

الآية الثانية : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(١) وقد قرّب الفخر الرازي دلالتها على عصمة أولي الأمر في تفسيره لهذه الآية بقوله : «ان الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وأنه محال ، فثبت ان الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت ان كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب ان يكون معصوما عن الخطأ ، فثبت قطعا أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وان يكون معصوما» (٢).

ولكن الفخر الرازي خالف الشيعة في دعواهم في إرادة خصوص أئمتهم من هذه الآية ، وقرب ان يكون المراد منها أهل الإجماع بالخصوص ، واستدل على ذلك بقوله : «ثم نقول : ذلك المعصوم. أما مجموع الأمة أو بعض الأمة ، لا جائز ان يكون بعض الأمة ، لأنا بيّنا ان الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعا ، وإيجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم ، قادرين على الوصول

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٥٩.

(٢) التفسير الكبير : ١٠ ـ ١٤٤. ويؤيد هذا التقريب مساواتهم لله والرسول في وجوب طاعتهم مما يدل على ان جعل الإطاعة لهم ليس من نوع جعلها للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، بل هي من نوع إطاعة الله والرسول التي تجب على كل حال (المؤلف).

١٥٣

إليهم والاستفادة منهم ، ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم ، عاجزون عن الوصول إليهم ، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم ، وإذا كان الأمر كذلك ، علمنا أن المعصوم الّذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضها من أبعاض الأمة ولا طائفة من طوائفهم ، ولمّا بطل هذا وجب ان يكون ذلك المعصوم الّذي هو المراد بقوله : (وَأُولِي الْأَمْرِ) أهل الحل والعقد من الأمة ، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة» (١).

ثم استعرض بعد ذلك الأقوال الأخر في الآية وناقشها جميعا مناقشات ذات أصالة وجهد حتى انتهى إلى رأي من أسماعهم بالروافض ، فقال :

«وأما حمل الآية على الأئمة المعصومين على ما تقوله الروافض ففي غاية البعد ، لوجوه :

أحدها : ما ذكرناه أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم ، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق ، ولو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الإيجاب مشروطا ، وظاهر قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يقتضي الإطلاق ، وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال ، وذلك لأنه تعالى أمر بطاعة الله وطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة ، وهو قوله : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) واللفظة الواحدة لا يجوز ان تكون مطلقة ومشروطة معا ، فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب ان تكون مطلقة في حق أولي الأمر.

الثاني : أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر ، وأولو الأمر جمع ، وعندهم لا يكون في الزمان إلا إمام واحد ، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر.

__________________

(١) التفسير الكبير : ١٠ ـ ١٤٤.

١٥٤

وثالثها : أنه قال : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)(١) ولو كان المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم لوجب ان يقال : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الإمام ، فثبت ان الحق تفسير الآية بما ذكرناه» (٢).

والّذي يرد على الفخر الرازي ـ في استفادته وجوب إطاعة أهل الإجماع وانهم هم المراد من كلمة أولي الأمر لا الأئمة ـ بناؤه هذه الاستفادة على اعتبار معرفة متعلق الحكم من شروط نفس التكليف ، وبانتفاء هذا الشرط لتعذر معرفة الأئمة والوصول إليهم ينتفي المشروط.

وهذا النوع من الاستفادة غريب في بابه ، إذ لازمه ان تتحول جميع القضايا المطلقة إلى قضايا مشروطة ، لأنه ما من قضية إلا ويتوقف امتثالها على معرفة متعلقها ، فلو اعتبرت معرفة المتعلق شرطا فيها لزمت ان تكون مشروطة.

والظاهر ان الرازي خلط بين ما كان من سنخ مقدمة الوجوب وما كان من سنخ مقدمة الواجب ، فلزوم معرفة المتعلق إنما هو من النوع الثاني ، أي من نوع ما يتوقف عليه امتثال التكليف لا أصله ، ولذلك التزم بعضهم بوجوبه المقدمي ، بينما لم يلتزم أحد فيما نعلم بوجوب مقدمات أصل التكليف وشروطه ، إذ الوجوب قبل حصولها غير موجود ليتولد منه وجوب لمقدماته ، وبعد وجودها لا معنى لتولد الوجوب منه بالنسبة إليها ، للزوم تحصيل الحاصل.

وعلى هذا فوجوب معرفة المتعلق للتكاليف لا يمكن أخذه شرطا فيها بما هو متعلق لها لتأخره رتبة عنها ، ويستحيل أخذ المتأخر في المتقدم للزوم الخلف أو الدور.

على ان هذا الإشكال وارد عليه نقضا ، لأن إجماع أهل الحل والعقد هو نفسه

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٥٩.

(٢) التفسير الكبير : ١٠ ـ ١٤٦.

١٥٥

مما يحتاج إلى معرفة ، وربما كانت معرفته أشق من معرفة فرد أو أفراد ، لاحتياجها إلى استيعاب جميع المجتهدين ، وليس من السهل استقراؤهم جميعا والاطلاع على آرائهم ، وعلى مبناه يلزم تقييد وجوب الإطاعة بمعرفتهم ، ويعسر تحصيل هذا الشرط ، والإشكال نفس الإشكال.

والغريب في دعواه بعد ذلك ادعاء العجز عن الوصول إلى الأئمة ومعرفة آرائهم!! مع توفر أدلة معرفتهم وإمكان الوصول إلى ما يأتون به من أحكام بواسطة رواتهم الموثوقين.

ثم إن استفادة الإجماع من كلمة (أولي الأمر) مبنية على إرادة العموم المجموعي منها ، وحملها على ذلك خلاف الظاهر ، لأن الظاهر من هذا النوع من العمومات هو العموم الاستغراقي المنحل في واقعه إلى أحكام متعددة بتعدد أفراده ، ومن استعرض أحكام الشارع التي استعمل فيها العمومات الاستغراقية ، يجدها مستوعبة لأكثر أحكامه ، وما كان منها من قبيل العموم المجموعي نادر نسبيا ، فلو قال الشارع : أعطوا زكواتكم لأولي الفقر والمسكنة ـ مثلا ـ فهل معنى ذلك لزوم إعطائها لهم مجتمعين ، وإعطاء الزكوات مجتمعة أم ما ذا؟ وعلى هذا فحمل (أولي الأمر) في الآية على العموم المجموعي حمل على الفرد النادر من دون قرينة ملزمة ، وما ذكره من القرينة لا تصلح لذلك ما دام أهل الإجماع أنفسهم مما يحتاجون إلى المعرفة كالأئمة ، ومعرفة واحد أو آحاد أيسر بكثير من معرفة مجموع المجتهدين ـ كما قلنا ـ وبخاصة بعد توفر وسائل معرفتهم وأخذ الأحكام عنهم.

وقد اتضحت الإجابة بهذا على ما أورده على الشيعة من إشكالات.

أما الإشكال الأول : فهو بالإضافة إلى وروده نقضا عليه ، لأن إطاعة الله والرسول وأهل الحل والعقد كلها مما تتوقف على المعرفة ، ان المعرفة لا يمكن

١٥٦

أخذها قيدا في أصل التكليف لما سبق بيانه ، ولو أمكن فالوجوبات الواردة على إطاعة الله والرسول كلها مقيدة بها ، فلا يلزم التفرقة في التكليف الواحد كما يقول.

والإشكال الثاني : يتضح جوابه مما ذكرناه في اعتبار هذا النوع من الجموع من العمومات الاستغراقية التي ينال فيها كل فرد حكمه ، فإذا قال المشرع الحديث ـ مثلا ـ : حكم الحكام نافذ في المحاكم المدنية ، فإن معناه ان حكم كل واحد منهم ، نافذ لا حكمهم مجتمعين ، نعم يظهر من إتيانه بلسان الجمع ان أولي الأمر أكثر من فرد واحد ، وهذا ما تقول به الشيعة ، ولا يلزمه ان يكونوا مجتمعين في زمان واحد لأن صدق الجمع على الأفراد الموزعين على الأزمنة لا ينافي ظاهره.

يبقى الإشكال الثالث : وهو عدم ذكره لأولي الأمر في وجوب الرد إليهم عند التنازع ، بل اقتصر في الذّكر على خصوص الله والرسول ، وهذا الإشكال أمره سهل لجواز الحذف اعتمادا على قرينة ذكره سابقا ، وقد سبق في صدر الآية ان ساوى بينهم وبين الله والرسول في لزوم الطاعة ، ويؤيد هذا المعنى ما ورد في الآية الثانية (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(١).

والإشكال الّذي يرد على الشيعة ـ بعد تسليم دلالتها على عصمة أولي الأمر كما قال الفخر ـ ان القضية لا تثبت موضوعها ، فهي لا تعين المراد من أولي الأمر ، وهل هم الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام أو غيرهم ، فلا بدّ من إثبات ذلك إلى التماس أدلة أخرى من غير الآية ، وسيأتي الحديث حول ذلك في جواب سؤال : من هم أهل البيت؟

والآيات الباقية التي استدلوا بها على العصمة حساب ما يدل منها عليها حساب هذه الآية من حيث عدم تعيينها للإمام المعصوم ، فالمهم ان يساق

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٨٣.

١٥٧

الحديث إلى أدلتهم من السنة النبوية.

أدلتهم من السنة :

وأول أدلتهم من السنة وأهمها :

حديث الثقلين :

وهذا الحديث يكاد يكون متواترا بل هو متواتر فعلا ، إذا لوحظ مجموع رواته من الشيعة والسنة في مختلف الطبقات ، واختلاف بعض الرّواة في زيادة النقل ونقيصته تقتضيه طبيعة تعدد الواقعة التي صدر فيها ، ونقل بعضهم له بالمعنى وموضع الالتقاء بين الرّواة متواتر قطعا.

ومن حسنات دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في مصر ، أنها أصدرت رسالة ضافية ألّفها بعض أعضائها في هذا الحديث أسمتها : (حديث الثقلين) ، وقد استوفى فيها مؤلفها ما وقف عليه من أسانيد الحديث في الكتب المعتمدة لدى أهل السنة (١).

وحسب الحديث لأن يكون موضع اعتماد الباحثين ان يكون من رواته كل من : صحيح مسلم (٢) ، وسنن الدارمي (٣) ، وخصائص النسائي (٤) ، وسنن أبي داود (٥) ، وسنن ابن ماجة (٦) ، ومسند أحمد (٧) ، ومستدرك الحاكم (٨) ، وذخائر

__________________

(١) وقد جمع هذه الأحاديث الشيخ قوام الوشنوه إي في كتاب سمّاه «حديث الثقلين». وقال صاحب الوسائل : وقد تواتر بين العامة والخاصة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : «إني تارك فيكم الثقلين ...». راجع الوسائل : ٢٧ ـ ٣٣ ، باب ٥ ، الحديث ٣٣١٤٤.

(٢) صحيح مسلم : كتاب فضائل الصحابة ، الحديث : ٤٤٢٥.

(٣) سنن الدارمي : كتاب فضائل القرآن ، الحديث : ٣١٨٢.

(٤) الخصائص : ص ٣٥ ط. بيروت.

(٥) راجع تذكرة الخواصّ لابن الجوزي : ص ٣٢٢.

(٦) راجع كفاية الطالب للكنجي الشافعي : ص ٥٣.

(٧) مسند أحمد : باقي مسند المكثرين ، الحديث : ١٠٦٨١ و ١٠٧٠٧ و ١٠٧٧٩ و ١١١٣٥ ومسند الأنصار ، الحديث : ٢٠٥٩٦ ومسند الكوفيين ، الحديث ١٨٤٦٤.

(٨) مستدرك الحاكم : ٣ ـ ١٤٨.

١٥٨

الطبري (١) ، وحلية الأولياء (٢) ، وكنز العمال (٣) ، وغيرهم ، وان تعني بروايته كتب المفسرين أمثال : الرازي ، والثعلبي ، والنيسابوري ، والخازن ، وابن كثير ، وغيرهم ، بالإضافة إلى الكثير من كتب التأريخ ، واللغة ، والسير ، والتراجم. وقد استقصت رسالة دار التقريب عشرات المؤلفين من هؤلاء وغيرهم (٤) ، وقد كنت أورد نقلها بنصها لقيمة ما ورد فيها من رأي ونقل لو لا انتشارها وتداولها ، وما أظن أن حديثا يملك من الشهرة ما يملكه هذا الحديث ، وقد أوصله ابن حجر في الصواعق المحرقة إلى نيف وعشرين صحابيا ، يقول في كتابه : «ثم اعلم ان لحديث التمسك بذلك طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا» (٥) ، وفي غاية المرام وصلت أحاديثه من طرق السنة إلى (٣٩) حديثا ، ومن طرق الشيعة إلى (٨٢) حديثا (٦).

والظاهر أن سرّ شهرته تكرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له في أكثر من موضع ، يقول ابن حجر : «ومرّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه ، وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة ، وفي أخرى أنه قال بالمدينة في مرضه ، وقد امتلأت الحجرة بأصحابه ، وفي أخرى أنه قال ذلك بغدير خم ، وفي أخرى أنه قال ذلك لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف ـ وقال ـ : ولا تنافي إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماما بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة» (٧).

__________________

(١) ذخائر العقبى : ص ١٦ باب في فضل أهل البيت عليهم‌السلام.

(٢) حلية الأولياء : ١ ـ ٣٥٥ ط. السعادة.

(٣) كنز العمال : ١ ـ ١٨٦ ، ح ٤٩٤٥. مؤسسة الرسالة.

(٤) راجع ذلك في الرسالة المذكورة ص ٥ وما بعدها ، مطبعة مخيمر مصر.

(٥) الصواعق المحرقة : ١٤٨.

(٦) أصول الاستنباط : ٢٤.

(٧) الصواعق المحرقة : ص ١٤٨.

١٥٩

ولسان الحديث كما في رواية زيد بن أرقم : «إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفونني فيهما» (١).

وفي رواية زيد بن ثابت : «إني تارك فيكم خليفتين : كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، أو ما بين السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (٢).

ورواية أبي سعيد الخدري : «إني أوشك ان أدعى فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله عزوجل وعترتي ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وان اللطيف أخبرني أنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفونني فيهما» (٣).

وقد استفيد من هذا الحديث عدة أمور نعرضها بإيجاز :

١ ـ دلالته على عصمة أهل البيت عليهم‌السلام :

أ ـ لاقترانهم بالكتاب الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وتصريحه بعدم افتراقهم عنه ، ومن البديهي أن صدور أية مخالفة للشريعة ، سواء كانت عن عمد أم سهو أم غفلة ، تعتبر افتراقا عن القرآن في هذا الحال ، وإن لم يتحقق انطباق عنوان المعصية عليها أحيانا كما في الغافل والساهي ، والمدار في صدق عنوان الافتراق عنه عدم مصاحبته لعدم التقيد بأحكامه وإن كان معذورا في ذلك ، فيقال : فلان ـ مثلا ـ افترق عن الكتاب وكان معذورا في افتراقه عنه ،

__________________

(١) كنز العمال : ١ ـ ٤٤ ، ح ٨٧٤ ، ومستدرك الصحيحين : ج ٣ ـ ١٠٩ و ٥٣٣. وخصائص النسائي : ص ٣٥. ط. بيروت ، ومناقب الخوارزمي : ص ٩٣. ط. الحيدرية ، وينابيع المودة للقندوزي : ص ٣٢ ط. إسلامبول.

(٢) مسند أحمد : ٥ ـ ١٨٢ و ١٨٩ ، والمعجم الكبير للطبراني ، وكنز العمال : ١ ـ ٤٤ ، ح ٨٣٧.

(٣) مسند أحمد : ٣ ـ ١٧ و ٢٦ ، وكنز العمال : ١ ـ ٤٧ ، ح ٩٤٥.

١٦٠