الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

ولا يعلم مخالف في ذلك من المسلمين على الإطلاق ، إلا ما يبدو من أولئك الذين ردّ عليهم الشافعي وهم على طوائف ثلاث ، وجل أقوالهم تنصب على السنة المرويّة لا على أصل السنة ، فراجعها في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد يوسف موسى (١).

ونقلة الإجماع على الحجية كثيرون ، إلا أن الإشكال في حجية أصل الإجماع لدى البعض وفي مصدر حجيته لدى البعض الآخر ، فإن أنكرنا حجية الإجماع أو قلنا : إن مصدره من السنة نفسها ، لم يعد يصلح للدليلية هنا ، أما مع إنكار الحجية فواضح ، واما مع انحصار مصدره بالسنة فللزوم الدور لوضوح ان حجية الإجماع تكون موقوفة على حجية السنة ، فإذا كانت حجية السنة موقوفة على حجية الإجماع ، كانت المسألة دائرة.

٣ ـ دلالة السنة على حجية نفسها :

وقد استدل بها غير واحد من الأصوليين ، يقول الأستاذ سلام : كما دل على حجيتها ومنزلتها من الكتاب قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع : «تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدهما أبدا : كتاب الله وسنة نبيه. وإقراره لمعاذ بن جبل لما قال : أقضي بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسوله» (٢).

ويقول الأستاذ عمر عبد الله ، وهو يعدد أدلته على حجيّة السنة : «ثانيا : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اعتبر السنة دليلا من الأدلة الشرعية ومصدرا من مصادر التشريع ، كما دل على ذلك حديث معاذ بن جبل حينما بعثه الرسول إلى اليمن» (٣).

وهذا النوع من الاستدلال لا يخلو من غرابة لوضوح لزوم الدور فيه ، لأن

__________________

(١) ص ٢٢٧ وما بعدها.

(٢) المدخل للفقه الإسلامي : ص ٢٢٥.

(٣) سلم الوصول : ص ٢٦١.

١٢١

حجية هذه الأدلة موقوفة على كونها من السنة ، وكون السنة حجة ، فلو توقف ثبوت حجية السنة عليها لزم الدور.

٤ ـ دليل العقل :

ويراد من دليل العقل هنا ، خصوص ما دل على عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وامتناع صدور الذنب والغفلة والخطأ والسهو منه ، ليمكن القطع بكون ما يصدر عنه من أقوال وأفعال وتقريرات هي من قبل التشريع ، إذ مع العصمة لا بد أن تكون جملة تصرفاته القولية والفعلية وما يتصل بها من إقرار موافقة للشريعة وهو معنى حجيتها.

وهذا الدليل من امتن ما يمكن أن يذكر من الأدلة على حجية السنة ، وإنكاره مساوق لإنكار النبوة من وجهة عقلية ، إذ مع إمكان صدور المعصية منه أو الخطأ في التبليغ أو السهو أو الغفلة لا يمكن الوثوق أو القطع بما يدعي تأديته عن الله عزوجل لاحتمال العصيان أو السهو أو الغفلة أو الخطأ منه ، ولا مدفع لهذا الاحتمال.

ومع وجود هذا الاحتمال لا يمكن تمامية الاحتجاج له أو عليه حتى في مجال دعواه النبوة ، لما سبق أن قلنا من أن كل حجة لا تنتهي إلى القطع فهي ليست بحجة ، لأن العلم مقوم للحجية.

فإذا ثبتت نبوته بالأدلة العقلية ، فقد ثبتت عصمته حتما للتلازم بينهما ، وبخاصة إذا آمنا باستحالة إصدار المعجزة من قبل الله تعالى على يد من يمكن أن يدعي النبوة كذبا ، لقاعدة التحسين والتقبيح العقليين أو لغيرها على اختلاف في المبنى.

١٢٢

إشكال ودفع :

وقد يقال بعدم التلازم عقلا بين إثبات العصمة له وتحصيل الحجة على اعتبار ما يصدر منه من قول أو فعل أو تقرير من قبيل التشريع ، لأن الدليل العقلي غاية ما يثبت امتناع كذبه في ادعاء النبوة لاستحالة صدور المعجزة على يد مدعي النبوة كذبا ، لا مطلق صدور الذنب منه فضلا عن الخطأ والسهو والنسيان.

ودعوى عدم حصول العلم بكون ما يصدر عنه تشريعا ، لاحتمال الخطأ ، أو النسيان ، أو الكذب في التبليغ ، أو السهو ، يدفعها الرجوع إلى أصالة عدم الخطأ ، أو السهو ، أو الغفلة ونظائرها ، وهي من الأصول العقلائية التي يجري عليها الناس في واقعهم ، ويكون حسابه حساب أئمة المذاهب ، من حيث وجود هذه الاحتمالات فيهم ، ومع ذلك فإن الناس يثقون بأقوالهم ويدفعون الخطأ فيها أو السهو أو الغفلة ، أو تعمد الكذب بأمثال هذه الأصول.

وهذا الإشكال من أعقد ما يمكن ان يذكر في هذا الباب ، ولكن دفعه انما يتم إذا تذكرنا ما سبق ان قلناه من أن كل حجة لا تنتهي إلى العلم فهي ليست بحجة ، لأن القطع هو الحجة الوحيدة التي لا تحتاج إلى جعل ، وبها ينقطع التسلسل ويرتفع الدور.

وهذه الأصول العقلائية التي يفزع إليها الناس في سلوكهم مع بعضهم ، لا تحدث علما بمدلولها ولا تكشف عنه أصلا لا كشفا واقعيا ولا تعبديا.

أما نفي الكشف الواقعي عنها فواضح لعدم التلازم بين إجراء أصالة عدم الخطأ في سلوك شخص مّا وبين إصابة الواقع والعلم به ، ولو كان بينهما تلازم عقلي لأمكن إجراء هذا الأصل مثلا في حق أي شخص واعتبار ما يصدر عنه من السنة ولا خصوصية للنبي في ذلك.

وأما نفي الكشف التعبدي عنها فلأنه مما يحتاج إلى جعل من قبل الشارع ،

١٢٣

ومجرد بناء العقلاء لا يعطيه هذه الصفة ما لم يتم إمضاؤه من قبله.

وشأنه في ذلك شأن جميع ما يصدرون عنه من عادات وتقاليد وأعراف ، والسر في ذلك ان القطع بصحة الاحتجاج به على الشارع لا يتم الا إذا تم تبنّيه من قبله وعلم ذلك منه ، وكل حجة لا تنتهي إلى القطع بصحة الاحتجاج بها فهي ليست بحجة ، كما سبق بيان ذلك مفصلا.

هذا إذا أعطينا هذه الأصول صفة الأمارية ، اما إذا جردناها منها واعتبرناها وظائف عقلائية ـ جعلوها عند الشك لينتظم سلوكهم في الحياة ـ فأمرها أوضح ، لعدم حكايتها عن أي واقع ليعتبر ما تحكي عنه من قبيل التشريع.

والاعتماد عليها كوظائف لا يتم إلا إذا تم تبني الشارع لها بالإمضاء أيضا لنفس السبب السابق.

وعلى هذا فحجية هذه الأصول وأمثالها موقوفة على إمضاء الشارع لها بقوله أو فعله أو تقريره ، وكون هذا الإمضاء حجة ، أي موقوفة على حجية السنة ، فلو كانت حجية السنة موقوفة عليها كما هو الفرض لزم الدور. لبداهة ان حجية الإقرار من قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلا موقوفة على حجية أصالة عدم الخطأ أو أصالة الصحة أو أصالة عدم الغفلة أو السهو ، وحجية هذه الأصول موقوفة على حجية إقراره لها لو كان هناك إقرار ، ومع إسقاط المتكرر ينتج ان حجية إقراره موقوفة على حجية إقراره.

والحقيقة ان القول بحجية السنة بشكلها الواسع لا يلتئم مع إنكار العصمة أو بعض شئونها بحال.

وليس المهم بعد ذلك ان ندخل في شئون العصمة وأدلتها ، فإن ذلك من بحوث علم الكلام.

والكلمات بعد ذلك مختلفة ومشتّتة ، والتأمل فيما عرضناه يكشف فيما نعتقد وجه

١٢٤

الحق فيها.

ومهما قيل أو يقال في العصمة على صعيد علم الكلام فإنهم في الفقه مجمعون على اعتبار حجية السنة قولا وفعلا وتقريرا ، وهو حسبنا في مجال المقارنة.

على ان حجيتها ـ كما سبق ان قلنا ـ ضرورة دينية لا يمكن لمسلم ان ينكرها وهو باق على الإسلام ، والاعتراف بها ينطوي على الاعتراف بالعصمة حتما وعدم جواز الخطأ عليه خلافا للقاضي أبي بكر (١).

__________________

(١) راجع أقوال المسألة في إرشاد الفحول : ص ٣٤.

١٢٥
١٢٦

الباب الأول

القسم الثاني

السّنّة

(٢)

سنّة الصّحابة

* الأدلة على حجيتها

* الكتاب

* السنة

* أخذ العلماء بأقوالهم

* الروايات الآمرة بمحبتهم

* مناقشات ذلك كلّه

١٢٧
١٢٨

سنة الصحابة :

يقول الشاطبي : «سنة الصحابة (رض) سنة يعمل عليها ويرجع إليها ، والدليل على ذلك أمور» (١).

والأمور التي ذكرها لا تنهض بإثبات ما يريده ، نعرضها ملخصة :

أحدها : «ثناء الله عليهم من غير مثنوية ، ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(٢) ، وقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(٣) ، ففي الأولى إثبات الأفضلية على سائر الأمم ، وذلك يقتضي باستقامتهم على كل حال ، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة ، وفي الثانية إثبات العدالة مطلقا ، وذلك يدل على ما دلت عليه الأولى» (٤).

والجواب على الآية الأولى يقع من وجوه :

أ ـ ان إثبات الأفضلية لهم على سائر الأمم ، كما هو مفاد أفعل التفضيل في كلمة (خير أمة) لا تستلزم الاستقامة لكل فرد منهم على كل حال ، بل تكفي الاستقامة النسبية لأفرادها ، فيكون معناها ان هذه الأمة مثلا في مفارقات أفرادها أقل من الأمم التي سبقتها ، فهي خيرهم من هذه الناحية ، هذا إذا لم نقل إن الآية انما فضلتهم من جهة تشريع الأمر بالمعروف لهم والنهي عن المنكر ، كما هو ظاهر تعقيبها بقوله تعالى : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فلا تكون واردة

__________________

(١) الموافقات : ٤ ـ ٧٤.

(٢) سورة آل عمران : الآية ١١٠.

(٣) سورة البقرة : الآية ١٤٢.

(٤) الموافقات : ٤ ـ ٧٤.

١٢٩

في مقام جعل الحجية لأقوالهم أصلا.

ب ـ ان التفضيل الوارد فيها انما هو بلحاظ المجموع ـ ككل ـ لا بلحاظ تفضيل كل فرد منها على كل فرد من غيرها لنلتزم لهم بالاستقامة على كل حال ، ولذا لا ترى أية منافاة بين هذه الآية وبين ما يدل ـ لو وجد ـ على تفضيل حواري عيسى مثلا على بعض غير المتورعين من الصحابة.

ج ـ انها واردة في مقام التفضيل لا مقام جعل الحجية لكل ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال وتقريرات ، إذ هي أجنبية عن هذه الناحية ، ومع عدم إحراز كونها واردة لبيان هذه الجهة لا يمكن التمسك بها بحال.

د ـ ان هذا الدليل لو تم فهو أوسع من المدعى بكثير لكون الأمة أوسع من الصحابة ولا يمكن الالتزام بهذا التعميم.

وقد تنبه الشاطبي لهذا الإشكال ودفعه بقوله : «ولا يقال ان هذا عام في الأمة فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم.

لأنا نقول أولا ليس كذلك بناء على انهم المخاطبون على الخصوص ، ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل أخر ، وثانيا على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب ، فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة والسّلام ، وهم المباشرون للوحي ، وثالثا انهم أولى بالدخول من غيرهم إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلاّ هم ، فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح» (١).

ولكن هذه المناقشات لا يتضح لها وجه ، أما الأولى فلأن اختصاص الخطاب بهم مبني على ما سبقت الإشارة إليه من اختصاص الحجية بخصوص المشافهين لامتناع خطاب المعدوم ، وقد تقدم ما فيه ، بالإضافة إلى ان هذا الإشكال لو تم

__________________

(١) الموافقات : ٤ ـ ٧٥.

١٣٠

فهو لا ينفع المستدل لاختصاصه بخصوص الحاضرين في مجلس الخطاب لامتناع خطاب غير الحاضر ، وإذن تختص الآية بخصوص من حضروا المجلس عند نزول الآية ، وليس كل الصحابة ، على ان دليل المشاركة وحده كاف في التعميم.

وأما المناقشتان الثانية والثالثة ، فهما واضحتا البطلان لإنكار الأولية والأولوية في القضايا التي يكون مساقها مساق القضية الحقيقية ، لأن نسبتها إلى الجميع تكون نسبة واحدة من حيث الدلالة اللفظية ، على أن أولية الدخول أو أولويته لا يستلزم صرف الخطاب إليهم وقصره عليهم ، لأن مقتضاهما يوجب مشاركة الغير لهم في الدخول مع تأخر في الزمان أو الرتبة ، فما ذكره من الاختصاص بهم من هذه الجهات لا يخلو من مؤاخذة.

ومع ثبوت التعميم لا يمكن إثبات أحكام السنة لجميع الأمة كما هو واضح.

وما يقال عن هذه الآية يقال عن الآية الثانية ، فهي بالإضافة إلى هذه المؤاخذات على الاستفادة منها والغض عن تسليم افادتها لعدالتهم جميعا ، ان مجرد العدالة لا يوجب كون كل ما يصدر عنهم من السنة ، وإلا لعممنا الحكم إلى كل عادل سواء كان صحابيا أم غير صحابي ، لورود الحكم على العنوان كما هو الفرض ، وغاية ما تقتضيه العدالة هو كونهم لا يتعمدون الخطيئة ، أما مطابقة ما يصدر عنهم للأحكام الواقعية ليكون سنة فهذا أجنبي عن مفهوم العدالة تماما.

والثاني : ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم ، وان سننهم في طلب الاتباع كسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقوله : (... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ.) (١). ، وقوله : (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ، قالوا : ومن هي يا رسول الله؟ قال : ما أنا

__________________

(١) مسند أحمد : مسند الشاميّين ، الحديث ١٦٥٢٢.

١٣١

عليه وأصحابي) (١). وعنه أنه قال : (أصحابي مثل الملح لا يصلح الطعام إلا به) ، وعنه أيضا : (ان الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر وعمر وعثمان وعليا ، فجعلهم خير أصحابي وفي أصحابي كلهم خير) (٢). ويروى في بعض الأخبار : (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (٣) إلى غير ذلك مما في معناه» (٤).

والجواب عن هذه الأحاديث ونظائرها ـ بعد التغافل عن أسانيدها وحساب ما جاء في بعضها من الطعون أمثال ما ذكره ابن حزم عن حديث أصحابي كالنجوم من أنه «حديث موضوع مكذوب باطل ، وقال أحمد : حديث لا يصح ، وقال البزار : لا يصح هذا الكلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) ـ ان هذه الروايات لا يمكن الأخذ بظاهر بعضها ، ولا دلالة للبعض الآخر على المدعى.

وأول ما يرد على الرواية الأولى ونظائرها من الروايات الآمرة بالاقتداء بهم استحالة صدور مضمونها من المعصوم لاستحالة ان يعبّدنا الشارع بالمتناقضين ، وتناقض سيرة الخلفاء في نفسها من أوضح الأمور لمن قرأ تاريخهم واستقرأ ما صدر عنهم من أحداث.

وحسبك ان سيرة الشيخين مما عرضت على الإمام علي عليه‌السلام يوم الشورى ، فأبى التقيد بها ولم يقبل الخلافة لذلك ، وقبلها عثمان وخرج عليها بإجماع المؤرخين ، وفي أيام خلافة الإمام نقض كل ما أبرمه الخليفة عثمان ، وخرج على سيرته سواء في توزيع الأموال أم المناصب أم أسلوب الحكم ، والشيخان نفسهما

__________________

(١) اقرأ ما كتبه الشيخ عبد الله دراز في تعليقه على هذا الحديث في نفس المصدر ، وما جاء فيه من تضعيف وتصحيح.

(٢) سنن الترمذي : ٥ ـ ٢٦ ، ح ٢٦٤١.

(٣) مجمع الزوائد : ١٠ ـ ١٦.

(٤) لسان الميزان : ٢ ـ ٤٨٨.

(٥) الموافقات : ٤ ـ ٧٦.

١٣٢

مختلفا السيرة ، فأبو بكر ساوى في توزيع الأموال الخراجية وعمر فاوت فيها ، وأبو بكر كان يرى طلاق الثلاث واحدا ، وعمر شرّعه ثلاثا ، وعمر منع عن المتعتين ، ولم يمنع عنهما الخليفة الأول ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى.

وعلى هذا ، فأية هذه السير هي السنة؟ وهل يمكن ان تكون كلها سنة حاكية عن الواقع ، وهل يتقبل الواقع الواحد حكمين متناقضين؟! وما أحسن ما ناقض الغزالي أمثال هذه الروايات بقوله : «فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله ، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ؟ وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة؟ وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟ وكيف يختلف المعصومان؟ كيف ، وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة؟ فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه ، فانتفاء الدليل على العصمة ووقوع الاختلاف بينهم وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ، ثلاثة أدلة قاطعة» (١).

على أن بعض هذه الروايات أضيق من المدعى لاختصاصها بالخلفاء الراشدين ، كالرواية الأولى ، فتعميمها إلى مختلف الصحابة لا يتضح له وجه ، والروايات الباقية أجنبية عن إفادة إثبات جعل الحجية لما يصدر عنهم ، وغاية ما تدل عليه ـ لو صحت أسانيدها ـ مدحهم والثناء عليهم ، والمدح والثناء لا يرتبطان بعالم جعل الحجية للممدوحين.

على ان هذه الروايات ـ على تقدير تمامية دلالتها ـ مخصصة بما دل على ارتداد أكثرهم ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «بينا أنا قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت : أين؟

__________________

(١) المستصفى : ١ ـ ١٣٥.

١٣٣

قال إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟ قال : انهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلم ، قلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم» (١).

وفي روايته الأخرى ، عن سهل بن سعد قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني فرطكم على الحوض من مرّة عليّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبدا ، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم ، قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم ، فقال : اشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها ، فأقول : انهم مني ، فيقال : انك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا لمن غير بعدي» (٢).

وفي روايته الثالثة عن أنس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي ، فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك» (٣).

إلى غير هذه الروايات مما عرضها البخاري في باب الحوض وغيره ، كما عرضها غيره من أصحاب الصحاح وسائر السنن (٤) ، ولا يهم عرضها ، وطبيعة الجمع بين الأدلة تقتضي تقييد تلكم الأدلة بغير المرتدين ، فمع الشك في ارتداد أحد الصحابة لا يمكن التمسك بتلكم العمومات لعدم إحراز موضوعها وهو الصحابي غير المرتد ، ويكون التمسك بها من قبيل التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٨ ـ ١٢١ ، كتاب الرقاق ، الحديث : ٦٠٩٩.

(٢) المصدر السابق : الحديث : ٦٠٩٧ وكتاب الفتن ، الحديث ٦٥٢٨.

(٣) صحيح البخاري : ٨ ـ ١٢٠ كتاب الرقاق ، الحديث : ٦٠٩٦.

(٤) أجوبة مسائل جار الله للإمام شرف الدين ، ص ١٣ ط. المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام.

١٣٤

والتحقيق انه لا يسوغ لأن القضية لا تثبت موضوعها بل تحتاج إلى إثباته من خارج نطاق الدليل.

وقد يقال : ان المراد بالمرتدين هم أصحاب الردة الذين قاتلهم الخليفة أبو بكر ، وهم معلومون ، فلا تصل النوبة إلى الشك والتوقف عن التمسك بتلكم العمومات. ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا لمنافاته بصراحة لرواية أبي هريرة السابقة التي صرحت بقولها : «فلا أراه يخلص إلا مثل همل النعم» وهي أبلغ كناية عن القلّة ، ومعنى ذلك أنها حكمت على أكثرهم بالارتداد ، ومعلوم ان هؤلاء المرتدين الذين حاربهم الخليفة لا يشكلون إلا أقل القليل.

ولو لا أننا في مقام التماس الأدلة إلى أحكام الله عزوجل وهو يقتضينا ان لا نترك ما نحتمل مدخليته في مقام الحجية رفعا أو وضعا ، لكنّا في غنى عن عرض هذه الأخبار والأحاديث والتحدث فيها.

وما يقال عن هذه الأحاديث ، يقال عن آية (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً)(١) وكأن هذه الأحاديث واردة مورد التفسير لهذه الآية ، ومؤكدة لتحقق مضمونها بعد وفاته.

الثالث : «ان جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل ، فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة ودليلا ، وبعضهم عدّ قول الخلفاء الأربعة دليلا ، وبعضهم يعدّ قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلا ، ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة ، وهذه الآراء وإن ترجّح عند العلماء خلافها ففيها تقوية تضاف إلى امر كلي هو المعتمد في المسألة ، وذلك ان السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة ويتكثرون بموافقتهم ، وأكثر ما تجد هذا المعنى

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ١٤٤.

١٣٥

في علوم الخلاف الدائر بين الأئمة المعتبرين ، فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قدّموا ذكر من ذهب إليها من الصحابة ، وما ذاك إلا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم وقوة مآخذهم دون غيرهم وكبر شأنهم في الشريعة ، وانهم مما يجب متابعتهم وتقليدهم فضلا عن النّظر معهم فيما نظروا فيه ، وقد نقل عن الشافعي أن المجتهد قبل ان يجتهد لا يمنع من تقليد الصحابة ويمنع من غيره ، وهو المنقول عنه في الصحابي : كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته؟ ولكنه مع ذلك يعرف لهم قدرهم» (١).

والجواب على هذا النوع من الاستدلال أنه أجنبي عن اعتبار ما يصدر عنهم من السنة ، وغاية ما يدل عليه ـ لو صح ـ ان جمهور العلماء كانوا يرونهم في مجالات الرواية أو الرّأي أوثق أو أوصل من غيرهم ، والصدق والوثاقة وأصالة الرّأي شيء وكون ما ينتهون إليه هو من السنة شيء آخر ، وقول الشافعي الّذي نقله نفسه يبعدهم عن هذا المجال ، إذ كيف يمكن له ان يحج من كان قوله سنة؟ وهل يستطيع ان يقول مثل هذا الكلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

على ان هذا النوع من الترجيح لأقوالهم لا يعتمد أصلا من أصول التشريع ، والعلماء لم يتفقوا عليه ليشكل اتفاقهم إجماعا يركن إليه.

الرابع : «ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم ، وذم من أبغضهم ، وان من أحبهم فقد أحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن أبغضهم النبي عليه الصلاة والسّلام ، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه فقط ، إذ لا مزية في ذلك ، وانما هو لشدة متابعتهم له وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته ونصرته ، ومن كان بهذه المثابة حقيق ان يتخذ قدوة وتجعل سيرته قبلة» (٢).

__________________

(١) الموافقات : ٤ ـ ٧٧ وما بعدها.

(٢) الموافقات : ٤ ـ ٧٩ وما بعدها.

١٣٦

والجواب عن هذا الاستدلال أوضح من سابقه ، لأنّ ما ذكره من التعليل لا يكفي لإعطائهم صفة المشرعين أو إلحاق منزلتهم بمنزلة النبوة ، وغاية ما يصورهم أنهم أناس لهم مقامهم في خدمة الإسلام والالتزام بتعاليمه ، ولكنه لا ينفي عنهم الخطأ أو السهو أو الغفلة ، على ان لأرباب الجرح والتعديل حسابا مع الكثير من روايات هذا الباب لأيهم عرضها الآن.

هذا كله من حيث اعتبار ما يصدر عنهم من السنة ، أما جعل الحجية لأقوالهم من حيث كونهم رواة ومجتهدين فلذلك حساب آخر يأتي موضعه في مبحث (مذهب الصحابي).

١٣٧
١٣٨

الباب الأول

القسم الثاني

السّنّة

(٣)

سنّة أهل البيت عليهم‌السلام

* تمهيد ما يصلح للدليلية

* أدلتهم من الكتاب

* آية التطهير ودلالتها على العصمة

* شبهات حول الآية ودفعها

* آية أولي الأمر

* استدلال الرازي بها على العصمة

* شبهات حول تعيين أولي الأمر ودفعها

* أدلتهم من السنة

* حديث الثقلين

* سند الحديث

* دلالته على العصمة

* مناقشات أبي زهرة للحديث

* حديث حول المناقشات

* من هم أهل البيت

* الأدلة العقلية ومدى دلالتها على ذلك

١٣٩
١٤٠