الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

ودعوى المحقق القمي من احتمال الاعتماد على القرائن في وقت الخطاب يدفعها إمكان الرجوع إلى الأصول العقلائية ، كأصالة عدم القرينة وأمثالها لدفع الاحتمال. على أنا نقطع ان الكتاب ـ وهو الدستور الخالد ـ لا يختص بطائفة دون طائفة ، ولا زمان دون زمان ، ليصح افتراض اعتماده على القرائن الحالية التي لا يدركها الا من قصد إفهامهم بها ، ولو فرض اختصاصه بخصوص المخاطبين لوجب قصره على من كان حاضرا عند نزول الآيات ، وهم القلة من الصحابة ، وقد لا يكون في الحاضرين عند نزول بعضها غير واحد أو اثنين ، أفنقصر الحجية على خصوص هؤلاء في كتاب أنزل لهداية جميع البشر في جميع العصور؟

٣ ـ شبهة التحريف في القرآن بالنقيصة في بعض آياته ، ومع تحكم الشبهة لا يبقى مجال لاعتماد ظواهرها ، لاحتمال دخول النقيصة على الآية التي يراد العمل بظهورها مما يعكس خلاف الظهور لو أضيف إليها ما أنقص منها.

وكان مبعث هذه الشبهة ما ورد في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث من أحاديث وروايات يتبنى أصحابها فكرة التحريف والنقص فيه ، ففي صحيح البخاري ، من خطبة لعمر بن الخطاب : «ان الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان ان يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرّجال والنساء إذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف ، ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : (أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) أو : (إن كفرا بكم ان ترغبوا عن آبائكم) (١) والّذي يبدو ان هذه الخطبة لو صحت عنه كانت بعد ان جاءهم بهذه

__________________

(١) صحيح البخاري : ٨ ـ ١٦٩ ، كتاب الحدود ، الحديث : ٦٣٢٨.

١٠١

الآية ـ أعني آية الرجم ـ فامتنع زيد من إلحاقها بالقرآن ، ففي رواية ابن أشتة في المصاحف : عن الليث بن سعد قال : «أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد ، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت ، فكان لا يكتب آية إلاّ بشاهدي عدل ، وان آخر سورة براءة لم يجدها إلا مع خزيمة بن ثابت ، فقال : اكتبوها فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين ، فكتب ، وان عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده» (١).

وفي صحيح مسلم : عن عائشة انها قالت : «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن» (٢).

وفي روايته الأخرى قال : «بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن ، فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم ، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها ، غير أني قد حفظت منها : (لو كان لابن آدم وأديان من مال لابتغى واديا ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب) وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها ، غير أني حفظت منها (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة)» (٣).

وفي أصول الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ان القرآن الّذي جاء به جبرائيل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبعة عشر ألف آية» (٤).

__________________

(١) الإتقان : ١ ـ ٦٠.

(٢) صحيح مسلّم : ٤ ـ ١٦٧ ، كتاب الرضاع ، الحديث : ٢٦٣٤.

(٣) صحيح مسلّم : ٣ ـ ١٠٠ ، كتاب الزكاة ، الحديث رقم ١٧٤٠.

(٤) أصول الكافي : ٢ ـ ٦٣٤ ، الحديث : ٢٨.

١٠٢

إلى روايات أخرى حفلت بها هذه الكتب وغيرها ، وقد نسب القول في الإيمان بهذه الشبهة إلى الحشوية (١).

كما نسب الشيخ أبو زهرة ذلك إلى الكليني معتمدا ما استظهره الصافي من روايته لأخبار التحريف في أصوله وعدم تعقيبه عليها ، مما يدل على إيمانه بها وبخاصة وقد صرح في مقدمة كتابه انه لا يروي إلا ما يثق به ، وقد اعتبر هذا الاستظهار وثيقة من أهم وثائق التكفير ، فسارع إلى تكفيره ، يقول في كتابه (الإمام زيد) : «ومن الغريب أن الّذي ادعى هذه الدعاوي الكليني وهو حجة في الرواية عندهم ، وكيف تقبل رواية من يكون على هذا الضلال ، بل على هذا الكفر المبين؟» (٢).

وما دام الحديث قد بلغ بنا إلى هذا الموضع فلا بدّ من تحقيق هذه النسبة التي وسعها بعضهم إلى جميع أصحاب الصحاح وكتب الحديث ممن ذكروا أحاديث التحريف أخذا بوحدة الملاك في الجميع. والّذي يبدو أن الأخ أبا زهرة ممن يستسيغ التكفير بسهولة ، مع أنه لا يميز ـ فيما يبدو ـ بين نوعين من إنكار الضروري : أحدهما يوجب التكفير والآخر لا يوجبه ، فالذي يوجب التكفير إنكار ضروري من ضروريات الدين ، أي ما ثبت أنه دين بالضرورة مما يعود إنكاره إلى تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشبهه ، والقول بعدم التحريف لم يثبت أنه دين بالضرورة وإلاّ لما احتاج إلى الاستدلال عليه بآية : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٣). وما يحتاج إلى الاستدلال لا يكون من الضروريات ، على أنهم اختلفوا في صلاحية الآية للدليلية بشبهة الدور ، وما يقال عن هذه الآية يقال عن

__________________

(١) مجمع البيان : ١ ـ ١٥.

(٢) الإمام زيد : ٣٥١.

(٣) سورة الحجر : الآية ٩.

١٠٣

غيرها من الأدلة (١). نعم هو ضروري الثبوت لثبوت تواتره عندنا ، وإنكار الضروريات التي لا تستند في بداهة ثبوتها إلى الدين وان استندت إليه بالنظر لا تستوجب تكفيرا كما هو واضح لدى الفقهاء.

ومع الغض عن هذه الناحية فالتكفير لا يكون لأوهام وظنون ، لأن مجرد رواية أحاديث النقص وعدم التعقيب عليها لا يدل على وثوقه بصدورها ، ولعل روايتها في (النوادر) من كتابه دليل تشكيكه بصدورها ورفضه لها ، وكأنه أشار بذلك لما ورد في المرفوعة من قوله عليه‌السلام : «ودع الشاذ النادر» (٢) ، على أنه التزم في أول كتابه الأخذ بالروايات العلاجية ، وهي التي تتعرض لأحكام الخبرين المتعارضين من اعتبار ترجيح أحدهما على الآخر بعرضه على كتاب الله وسنة نبيه ، فما وافق الكتاب أخذ به ، يقول رحمة الله في أول كتابه : «فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء إلا ما أطلق عليه العالم ، اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردوه» (٣).

والأخبار التي رواها متعارضة بدليل روايته لما هو صريح بعدم التحريف ، وهي الرواية القائلة : «وكان من نبذهم الكتاب بأنهم أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده فهم يروونه ولا يرعونه» (٤) حيث صرحت بنسبة التحريف إلى الحدود مع اعترافها بإقامة حروفه ومع تحكم المعارضة بينها وبين تلك الرواية التي استظهروا منها التحريف في الحروف ، فإن مقتضى منهجه الّذي رسمه في بداية الكتاب عرضها على كتاب الله ، ومن الواضح أن الكتاب ظاهر بآية (إِنَّا نَحْنُ

__________________

(١) راجع استدلالهم في كتاب البيان ص ١٤٤ وما بعدها ، وتفنيد آية الله الخوئي قدس سرّه له.

(٢) عوالي اللئالي : ٤ ـ ١٣٣ ، الحديث : ٢٢٩.

(٣) أصول الكافي : ١ ـ ٨ ، في خطبة الكتاب.

(٤) فروع الكافي : ٨ ـ ٥٣ ، الحديث : ١٦.

١٠٤

نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١) وغيرها بعدم طروّ التحريف عليه ، ولا عبرة بمناقشات هذه الآية لكونها واردة على خلاف ظهورها ، والظهور حجة وان لم يوجب القطع بمدلوله للقطع باعتبار الحجية له ، وشبهة الدور لا ترد على مذهب من يؤمن بأهل البيت لإمضائهم عليهم‌السلام للكتاب القائم بما فيه هذه الآية كما سيتضح فيما بعد ، على ان الثقة بالصدور لا تستلزم الثقة بالمضمون لعدم التلازم بينهما ، وكلامه صريح في ذلك في أول كتابه بعد ذكره للرواية القائلة «ثم خذوا بالمجمع عليه فان المجمع عليه لا ريب فيه» ، «ونحن لا نعرف من ذلك إلا أقله ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم» (٢) فردها إلى العالم ـ مع تعارض مضمونها ـ والتخيير بينها وأخذ أحدها من باب التسليم ، كل ذلك مما يدل على ان ثقته بالصدور لا تستلزم الثقة بمدلول الأحاديث والتعبد بها ، نعم ما يختاره منها لعمله ملزم بالأخذ به من باب التسليم ، وما يدرينا هنا بأي القسمين من الأخبار المتعارضة قد أخذ لنحمّله مسئوليته؟ هذا إن لم نقل في أنه قد طرح تلك الأخبار الشاذة لمخالفتها للكتاب.

فرواية هذه الأحاديث في الشواذ النوادر من كتابه ، وتعارضها في مروياته ، ولزوم طرحها بالنسبة إلى منهجه الّذي رسمه ، وعدم التلازم بين الإيمان بالصدور ـ لو آمن بصدورها ـ وبين الإيمان بمضمونها ، كل ذلك مما يوجب القطع بطرحه لهذه الأخبار وإيمانه بعدم التحريف.

على ان التحريف لو كان مذهبا له لما صح دعوى الشيخ كاشف الغطاء قدس سرّه (٣) وغيره إجماع الإمامية على عدم التحريف ، ومثل الكليني ممن لا يتجاهل أمره

__________________

(١) سورة الحجر : الآية ٩.

(٢) أصول الكافي : ١ ـ ٩ ، في خطبة الكتاب.

(٣) كشف الغطاء ، كتاب القرآن من كتاب الصلاة ، المبحث السابع والثامن : ٢٩٨.

١٠٥

عادة.

ومن الطريف ما ورد من الشيخ أبي زهرة (١) وهو يقارن بين الكليني والسيوطي صاحب الإتقان ، ودفاعه عن الأخير بأن روايته لأحاديث التحريف إنما ذكرها في مقام بيان ما نسخ منها تلاوة ، مع أنه ذكر قسما منها في هذا الموضع ، وأقساما أخرى في مواضع أخر لا علاقة لها بالنسخ ، كالأحاديث الواردة في باب (جمع القرآن وترتيبه) (٢) وباب (عدد سوره وآياته وكلماته وحروفه) (٣) وغيرها من كتاب الإتقان ، ونحن نذكر له للتفكهة فقط ـ وشر البلية ما يضحك ـ بعض السور التي روى زيادتها في القرآن عن ابن مسعود كالمعوذتين ، والسور التي أسقطت من القرآن في رأي أبي بن كعب يقول : «أخرج أبو عبيد عن ابن سيرين قال : كتب أبي بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين واللهم إنا نستعينك واللهم إياك نعبد ، وتركهن ابن مسعود ، وكتب عثمان منهن فاتحة الكتاب والمعوذتين ، وذكر ان في مصحف ابن عباس قراءة أبيّ وأبي موسى بسم الله الرحمن الرحيم (اللهم انا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك) وفيه : (اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نخشى عذابك ونرجو رحمتك ان عذابك بالكفار ملحق)» (٤) إلى غير ذلك مما رواه ، ولم ينكر عليه في كثير من أبواب كتابه ، ولعل أبا زهرة لم يستوف هذا الكتاب قراءة.

ثم قال بعد ذلك : «ان الذين افتروا هذه الفرية ونسبوها إلى الأئمة ، ومنهم الكليني ، ادعوا التغيير والتبديل وذكروا آيات غيرت ونسب هذا إلى الصادق ،

__________________

(١) الإمام الصادق : لأبي زهرة : ٣٣٤.

(٢) الإتقان : للسيوطي : ١ ـ ٥٨ وما بعدها.

(٣) المصدر السابق : ١ ـ ٦٦ وما بعدها.

(٤) المصدر السابق : ١ ـ ٦٧.

١٠٦

ولم يقل ذلك أحد من علماء السنة ولم يرو عن أحد منهم» (١).

وما أدري ، هل كانت هذه النسب إلى كبار الصحابة والتي حفلت بها أهم الصحاح والمسانيد والمستدركات أمثال صحيح مسلم وصحيح البخاري ، ومسند أحمد والطبراني ، ومستدرك الحاكم ، وكنز العمال ، وغيرها من مفتريات الكليني ، أم ما ذا؟! على أن فيها ما هو أفظع من دعوى التحريف ، وهو إنكار تواتر ما بين الدفتين لروايتهم في كيفية جمعه اعتماد خبر الواحد أو البينة في مقام الجمع ، ومن المعلوم أن التواتر إذا كان في بعض طبقاته اخبار آحاد لا تفيد القطع لا يصبح مقطوعا بمدلوله ، لأن النتيجة تتبع أخس المقدمتين ، وقد مرّ في الروايات وأمثالها كثير مما هو صريح بذلك ، وقد جمعها أستاذنا الخوئي قدس سرّه في كتابه «البيان» وأبدع في مناقشتها وإثبات تناقضها وكذبها (٢).

وما أدري ما رأي الشيخ أبي زهرة في كتاب المصاحف للسجستاني الّذي سجل فيه اختلاف مصاحف الصحابة بالزيادة والنقيصة؟ هل كان مؤلفه الكليني بالذات؟!!

ثم ما أدري أيضا لم لم يجرؤ الشيخ أبو زهرة على تكفير الشيخين لروايتهما في صحيحهما أخبار التحريف وهي لا تتحمل دعوى نسخ التلاوة فيها لتصريح أصحابها بأنها مما يقرأ من القرآن إلى ما بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وهل يقع النسخ بعد وفاة النبي؟! على أنهما ذكرا هذه الروايات ولم يعقبا عليها بالتشكيك ، فالمشكلة ليست مشكلة الإتقان وحده ليتم الدفاع عنه بما ذكر ، وإنما هي مشكلة جميع من روى عنهم الإتقان من كتب الصحاح وغيرها رأسا ، والشيء الّذي يقتضينا ان نفهمه ونوسع له صدورنا أن مجرد نقل الحديث وعدم التعقيب عليه لا يدل على

__________________

(١) الإمام الصادق : لأبي زهرة : ٣٣٩.

(٢) راجع : البيان في تفسير القرآن : ١٥٦ وما بعدها.

١٠٧

رأي صاحبه ، ما دامت هناك مسارب لحمل الصحة وبخاصة في مسائل تتصل بصميم العقيدة.

يبقى سؤال : لما ذا دوّنوا هذه الأخبار في الكتب المعتمدة إذا لم تمثل آراؤهم؟ والجواب على ذلك : ان طبيعة الأعمال الموسوعية لا تتقيد بوجهات نظر أصحابها وبخاصة في عالم نقل الأحاديث.

ولقد كان من المألوف قديما أن مؤلفي كتب الحديث ما كان ليهمهم تمحيص الأحاديث بقدر ما يهمهم تدوينها ، وكأن مهمة التمحيص موكولة إلى المجتهدين في مجالات استنباط أحكامهم ، ومن هنا احتجنا إلى تسليط الأضواء على جميع كتب الحديث وإخضاعها لقواعد النقد والتمحيص التي عرضت في كتب الدراية ، وحسب هؤلاء المؤلفين أمثال : الكليني ، والشيخ الطوسي ، وأصحاب الصحاح والمسانيد ، ان لا يكونوا موضعا للطعن في أمانتهم في مجالات النقد والتجريح ، ولعل لهم من وجهات النّظر في نقل مختلف الأحاديث ما يحمدون عليه ، وإلاّ فإن الاقتصار على ما يراه صاحب الكتاب حقا من الأحاديث وإلغاء ما عداه ، معناه تعريض ثرواتنا إلى كثير من الضياع ، وإخضاع أكثرها إلى الزاوية التي ينظر منها المؤلف إلى الحديث ، وهي تتأثر عادة بعوامل بيئية وزمانية ، بالإضافة إلى ترسبات أصحابها وقيمهم وعواطفهم ، على أن في ذلك ما فيه من تحديد لطبيعة الاجتهاد وتضييق نطاقه وحصره في غير إطار صاحبه ، بل في أطر رواة الحديث بما لهم من ثقافات ضيقة لو بالغنا في توسعتها لما تجاوزنا بها طبيعة عصورهم وبيئاتهم ، مع ان الدين بطبعه يتسع لجميع العصور ، فما نراه اليوم حقا قد لا يرونه غدا كذلك ، وما كانوا يرونه حقا بالأمس قد لا نراه اليوم كذلك ، واختلاف المجتهدين من أدل البراهين على هذا الأمر.

وشبهة التحريف ـ بعد هذا ـ من الشبه التي لا تستحق أن يطال فيها الحديث

١٠٨

لكونها شبهة في مقابل البديهة ، فأخبار التحريف ـ مع تضارب مضامينها وتهافتها في أنفسها ـ لا تزيد على كونها أخبار آحاد ، وهي لا تنهض للوقوف أمام التواتر الموجب للقطع بأن هذا القرآن الّذي بأيدينا هو القرآن الّذي نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون أن يزاد أو ينقص فيه.

وحسبك ان تعرض ما ادعي إسقاطه أمثال سورتي الحفد والخلع وآية الرجم ـ المأثورة عن الخليفة عمر ـ على أي سورة من سور القرآن ، لترى تباين أسلوبيهما واختلافهما من حيث المستوى البلاغي بما يقتضيه من عظم الأسلوب وروعة المضامين وعدمهما ، على ان دعوى النقيصة فيه لو أمكن ان تكون ، فان الّذي يتحمل مسئوليتها عادة الخليفة الثالث لحرقه المصاحف الكاملة.

ومثل هذه المسئولية لا يمكن ان يسكت عليها الرّأي العام المسلم بما فيهم المهاجرون والأنصار ، وهم الذين أنكروا عليه أمورا لا يقاس أعظمها فظاعة بالتلاعب في آيات الله ، ولكانت عمليته هذه من أعظم وثائق الإدانة بيد الثوار للتشنيع عليه ، وهذا ما لم يحدثنا عنه التاريخ ولم يشر إليه بحرف ، على ان الثائرين ـ وقد تم لهم القضاء على عثمان ـ كان بوسعهم أن يعيدوا الأمور إلى نصابها الطبيعي ، فيخرجوا ما لديهم من النسخ الكاملة للقرآن الكريم وينشروها بين الناس كردّ من ردود الفعل التي تقتضيها طبيعة الثورة.

والّذي يبدو ان عمل عثمان في جمع الناس على رسم واحد للمصحف ولهجة واحدة ، كان له صداه العميق في نفوسهم ، لذلك ، كانت استجابتهم له استجابة جماعية بتسليم ما لديهم من النسخ والتعويض عنها بالنسخة الجديدة ذات الرسم المعين واللهجة المعينة.

والظاهر ان الكثير من تلكم الروايات أراد أصحابها التشنيع بها على عثمان ، مثل رواية أبي موسى الأشعري وبعض روايات عائشة السابقة وغيرها ، ولم تلق

١٠٩

من الناس تشجيعا كافيا ، وإلا فما الباعث لأبي موسى على جمع قراء البصرة وإخبارهم بما أخبرهم به من النقص؟ هذا لو قلنا بصحة نسبة هذه الروايات لأصحابها ، وهي موضع شك وتأمل رغم روايتها في الصحاح المأثورة.

والّذي يهوّن الخطب ان أمثال هذه الروايات لم تجد لها أي صدى في نفوس جميع علماء الإسلام على اختلاف طوائفهم شيعة وسنة ، إلا من شذ منهم. يقول الشيخ الطوسي : «وأما الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لا يليق به أيضا ، لأن الزيادة مجمع على بطلانها والنقصان منه ، فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الّذي نصره المرتضى وهو الظاهر في الروايات ، غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، والأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها» (١) ومثل هذا المضمون ورد في كثير من كتب الشيعة والسنة على السواء ، وتواتره أوضح من أن يطال فيه الحديث. وما أجمل ما ذكره المرتضى في ذلك ، حيث قال : «إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان ، والحوادث الكبار ، والوقائع العظام ، والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة ، فإن العناية اشتدت ، والدواعي توفرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حد لم يبلغه ما ذكرناه ، لأن القرآن معجزة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل ما اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز ان يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد» (٢).

__________________

(١) التبيان : ١ ـ ٣.

(٢) مجمع البيان : ١ ـ ١٥.

١١٠

ومع هذه البديهة ، لا أظن أننا نحتاج بعد إلى الاستدلال على عدم التحريف بآية (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١) وآية (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(٢) لأن الاستدلال بهما انما يكون مع الشك في التحريف ، ومع فرض الشك فإن هذه الآيات لا تصلح للدلالة للزوم الدور بداهة ان دلالتها على عدم التحريف في القرآن موقوفة على ان تكون هي غير محرفة ، وكونها غير محرفة موقوف على دلالتها على عدم التحريف فيه فيلزم الدور.

والظاهر ان هذا الدور لا مدفع له مع الشك.

نعم من آمن بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام وآمن بإمضائهم للكتاب الموجود ، يرتفع هذا الإشكال عنه لأن دلالة هذه الآيات على عدم التحريف في القرآن موقوف على كونها غير محرفة ، وكونها غير محرفة يثبت بإمضاء أهل البيت عليهم‌السلام لها على ما هي عليه ، فهي حجة في مدلولها ، ومدلولها ظاهر في عدم تحريف القرآن ولا يتوقف على عدم التحريف في القرآن ومتى اختلف الموقوف عن الموقوف عليه ارتفع الدور.

وإمضاء أهل البيت عليهم‌السلام للقرآن المتداول ضروري واخبارهم بالإرجاع إليه والتمسك به وعرض الأخبار الصحيحة عليه في غاية التواتر ، وعلى هذا فحجية ظواهر الكتاب مما لا مجال للمناقشة فيها بعد ما ثبت تواتر ما بين الدفتين ، وانه هو الكتاب المنزل من السماء من دون زيادة أو نقيصة فيه ، والشبهة الباقية ليس فيها ما يقف دون الأخذ بحجيتها كما سبق بيانه.

__________________

(١) سورة الحجر : الآية ٩.

(٢) سورة فصلت : الآية ٤٢.

١١١
١١٢

الباب الأول

القسم الثاني

السّنّة

(١)

* السنّة في اللغة

* السنّة عند الفقهاء والكلاميين

* السنة عند الأصوليين

* اتفاق واختلاف

السنة النبوية

* حجيتها من الضروريات

* الأدلّة التي ذكروها على الحجية : الكتاب ، السنّة ،

الإجماع ، العقل ، ومناقشاتها

* إشكال ودفع

١١٣
١١٤

تعريف السنة :

السنة في اللغة :

لكلمة (السنة) تحديدات تختلف باختلاف المصطلحين ، فهي في عرف أهل اللغة «الطريقة المسلوكة ، وأصلها من قولهم سننت الشيء بالمسن إذا أمررته عليه حتى يؤثر فيه سنا أي طريقا».

وقال الكسائي : «معناها الدوام ، فقولنا : سنة ، معناها الأمر بالإدامة من قولهم : سننت الماء إذا واليت في صبه».

وقال الخطابي : «أصلها الطريقة المحمودة ، فإذا أطلقت انصرفت إليها ، وقد تستعمل في غيرها مقيدة ، كقوله : من سن سنة سيئة» (١).

وقيل : هي الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أو سيئة ، كما في الحديث الصحيح : «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (٢).

السنة عند الفقهاء والكلاميين :

وتطلق في عرف الفقهاء على ما يقابل البدعة ، ويراد بها كل حكم يستند إلى أصول الشريعة في مقابل البدعة فإنها تطلق على «ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة» (٣) وربما استعملها الكلاميون بهذا الاصطلاح ، كما تطلق في

__________________

(١) تراجع هذه الأقوال في إرشاد الفحول ص ٣٣.

(٢) صحيح مسلم : كتاب الزكاة ، الحديث : ١٦٩١ ، والنسائي : كتاب الزكاة ، الحديث : ٢٥٠٧ ، باختلاف يسير.

(٣) نهاية ابن الأثير مادة (بدع).

١١٥

اصطلاح آخر لهم على «ما يرجح جانب وجوده على جانب عدمه ترجيحا ليس معه المنع من النقيض» (١) وهي بذلك ترادف كلمة المستحب ، وربما كان إطلاقها على النافلة في العبادات من باب إطلاق العام على الخاصّ ، وكذلك إطلاقها على خصوص «ما واظب على فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع ترك ما بلا عذر» (٢) كما جاء في بعض التحديدات.

السنة عند الأصوليين :

وقد اختلفوا في مدلولها من حيث السعة والضيق مع اتفاقهم على صدقها على «ما صدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول أو فعل أو تقرير» وقيدها الشوكاني بقوله : «من غير القرآن» وهو قيد في غير موضعه لأن القرآن لم يصدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما صدر عن الله وبلّغه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو لا يصدق عليه أنه قوله إلا بضرب من التجوز والتحديد العلمي لا يتحمله ، وهناك قيود أخر أضافها غير واحد كقولهم : إذا كان في مقام التشريع ، وسيتضح ان هذه القيود لا موضع لها أيضا لأنه ما من شيء يصدر عن الإنسان بإرادته إلا وله في الشريعة حكم ، فجميع ما يصدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ثبوت عصمته ـ لا بد ان يكون صادرا عن تشريع حكم وله دلالته في مقام التشريع العام ، إلا ما اختص به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيأتي الحديث فيه.

وموضع الاختلاف في التحديد توسعة الشاطبي لها إلى ما تشمل الصحابة حيث اعتبر ما يصدر عنهم سنة ويجري عليه أحكامها الخاصة من حيث الحجية (٣).

وربما وافقه بعضهم على ذلك ، بينما وسعها الشيعة إلى ما يصدر عن أئمتهم عليهم‌السلام

__________________

(١) إرشاد الفحول : ٣٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الموافقات : ٤ ـ ٧٤.

١١٦

فهي عندهم كل ما يصدر عن المعصوم قولا وفعلا وتقريرا ، وبالطبع ان الّذي يهمنا هو المصطلح الثالث ، أعني مفهومها عند الأصوليين لأن الحديث عن حجيتها انما يتصل بهذه الناحية دون غيرها ، وطبيعة المقارنة تستدعي استعراض آرائهم على اختلافها في هذه المسألة الهامة.

والحديث حول حجية السنة يقع في مواقع ثلاث :

١ ـ حجية ما صدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول ، أو فعل ، أو تقرير.

٢ ـ حجية ما صدر عن الصحابة من ذلك بالإضافة إلى معناها الأول ، وهو الّذي اختاره الشاطبي.

٣ ـ حجية ما صدر عن الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام بالإضافة إلى معناها الأول أيضا ، وهو الّذي تبنّاه الشيعة على اختلاف منهم في المراد من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

حجية السنة النبوية :

والحديث حول حجية ما صدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول أو فعل أو تقرير ، أوضح من ان يطال فيها الحديث ، إذ لولاها لما اتضحت معالم الإسلام ، ولتعطل العمل بالقرآن ، ولما أمكن ان يستنبط منه حكم واحد بكل ما له من شرائط وموانع ، لأن أحكام القرآن لم يرد أكثرها لبيان جميع خصوصيات ما يتصل بالحكم ، وإنما هي واردة في بيان أصل التشريع ، وربما لا نجد فيه حكما واحدا قد استكمل جميع خصوصياته قيودا وشرائط وموانع ، خذوا على ذلك مثلا هذه الآيات المباركة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(١) ، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(٢) ، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٤٣.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٨٣.

١١٧

سَبِيلاً)(١) ، ثم حاولوا التجرد عن تحديدات السنة لمفاهيمها وأجزائها وشرائطها وموانعها ، فهل تستطيعون ان تخرجوا منها بمدلول محدد؟ وما يقال عن هذه الآيات يقال عن غيرها ، فالقول بالاكتفاء بالكتاب عن الرجوع إلى السنة تعبير آخر عن التنكر لأصل الإسلام وهدم لأهم معالمه وركائزه العملية.

وقد قامت محاولات على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده للتشكيك بقيمة السنة ، أمثال ما حدّث به عبد الله بن عمرو ، قال : «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أريد حفظه ، فنهتني قريش ، فقالوا : انك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا ، فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك للرسول ، فقال : اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق» (٢).

وربما كان من ردود الفعل لموقف قريش هذا من السنة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يحذر من مغبة تركها : «لا ألفينّ أحدكم على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» (٣).

وقد حاولوا بعد ذلك ان تصبغ هذه الدعوة الهادمة بصبغة علمية على يد أتباعهم بعد حين ، فاستدلوا لها بأن القرآن نزل تبيانا لكل شيء ، وأمثالها من الأدلة التي ذكرها الشافعي في كتابه الأم وردّ عليها بأبلغ ردّ ، وخلاصة ما جاء في ردّه : «إن القرآن لم يأت بكل شيء من ناحية ، وفيه الكثير مما يحتاج إلى بيان من ناحية أخرى ، وسواء في ذلك العبادات والمعاملات ، ولا يقوم بذلك إلا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحكم رسالته التي عليه ان يقوم بها ، وفي هذا يقول الله تعالى :

__________________

(١)سنن أبي داود : كتاب العلم ، الحديث : ٣١٦١ ، لمزيد الاطلاع راجع كتاب المدخل للفقه الإسلامي ص ١٨٤.

(٢) سنن الترمذي : كتاب العلم ، الحديث : ٢٥٨٧ ، وسنن أبي داود : كتاب السّنّة ، الحديث ٣٩٨٩ ، وسنن ابن ماجة : كتاب المقدمة ، الحديث : ١٣. راجع كتاب في الحديث النبوي : ص ١٦ ، ط. ٢ ، لمصطفى الزرقاء ، وبمضمونه وردت عدة أحاديث اقرأها في الموافقات : ٤ ـ ١٥.

(٣) سورة آل عمران : الآية ٩٧.

١١٨

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(١) ـ ثم يقول ـ : «لو رددنا السنة كلها لصرنا إلى أمر عظيم لا يمكن قبوله ، وهو أن من يأتي بأقل ما يسمى صلاة أو زكاة فقد أدّى ما عليه ، ولو صلّى ركعتين في كل يوم أو أيام ، إذ له ان يقول : ما لم يكن فيه كتاب الله فليس على أحد فيه فرض ، ولكن السنة بينت لنا عدد الصلوات في اليوم وكيفياتها ، والزكاة وأنواعها ومقاديرها ، والأموال التي تجب فيها» (٢).

والحقيقة ، ان المناقشة في حجية السنة أو إنكارها مناقشة في الضروريات الدينية وإنكار لها ، وليس لنا مع منكر الضروري من الدين حساب ، لأنه خارج عن طبيعة رسالتنا بحكم خروجه عن الإسلام.

يقول الشوكاني : «والحاصل ان ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ، ولا يخالف في ذلك إلا من لاحظّ له في دين الإسلام» (٣).

ويقول الخضري من المتأخرين : «وعلى الجملة فإن حجية السنة من ضروريات الدين ، أجمع عليها المسلمون ونطق بها القرآن» (٤) وكذلك غيرهما من الأصوليين.

والحقيقة اني لا أكاد أفهم معنى للإسلام بدون السنة ، ومتى كانت حجيتها بهذه الدرجة من الوضوح ، فإن إقامة البرهان عليها لا معنى له ، لأن أقصى ما يأتي به البرهان هو العلم بالحجية ، وهو حاصل فعلا بدون الرجوع إليه ، ولكن الأعلام من الأصوليين درجوا على ذكر أدلة على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع

__________________

(١) سورة النحل : الآية ٤٤.

(٢) راجع كتاب (تاريخ الفقه الإسلامي) للدكتور محمد يوسف موسى ص ٢٢٩.

(٣) إرشاد الفحول : ص ٣٣.

(٤) أصول الفقه : ص ٣٣٤.

١١٩

والعقل ، ولا بد لنا من مجاراتهم في هذا المجال ما دمنا نريد أن نؤرخ لمبانيهم وحججها من جهة ، ونقيّمها بعد ذلك من الجهة الأخرى.

١ ـ حجيتها من القرآن :

استدلوا بآيات من القرآن الكريم على اعتبار الحجية لها ، أمثال قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(١) ، (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(٢) ، (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(٣).

ودلالة هذه الآيات في الجملة من أوضح الدلالات على حجيتها ، إلا أنها ـ فيما تبدو ـ أضيق من المدعى لأنها لا تشمل غير القول إلا بضرب من التجوز ، والمراد إثباته عموم حجيتها لمطلق السنة قولا وفعلا وتقريرا.

٢ ـ الإجماع :

وقد حكاه غير واحد من الباحثين ، يقول خلاّف : «أجمع المسلمون على ان ما صدر عن رسول الله من قول أو فعل أو تقرير ، وكان مقصودا به التشريع والاقتداء ونقل إلينا بسند صحيح يفيد القطع أو الظن الراجح بصدقة يكون حجة على المسلمين» (٤).

وفي سلّم الوصول : «الإجماع العملي من عهد الرسول إلى يومنا هذا على اعتبار السنة دليلا تستمد منه الأحكام ، فإن المسلمين في جميع العصور استدلوا على الأحكام الشرعية بما صح من أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يختلفوا في وجوب العمل بما ورد في السنة» (٥).

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٥٨.

(٢) سورة الحشر : الآية ٧.

(٣) سورة النجم : الآية ٣ ـ ٤.

(٤) علم أصول الفقه : ص ٣٩.

(٥) سلم الوصول : ٢٦١.

١٢٠