التفسير الأثري الجامع - ج ٦

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-07-4
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٥٩

وهكذا قال في مجمع بيانه ما يقرب من ذلك ، قال : «إنّ السمع يسأل عمّا سمع ، والبصر عمّا رأى ، والقلب عمّا عزم عليه» (١).

وقال البيضاوي وغيره من المفسّرين : «في هذه الآية دليل على أنّ العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية» (٢). وعبارة الكشّاف هي بعينها عبارة الجوامع ، قال الزمخشري : «يقال للإنسان لم سمعت ما لم يحلّ سماعه ، ولم نظرت إلى ما لم يحلّ لك النظر إليه ، ولم عزمت على ما لم يحلّ لك العزم عليه؟» (٣).

وكذا عبارة الرازي في التفسير الكبير ، قال : «يقال له : لم سمعت ما لا يحلّ لك سماعه ، ولم نظرت إلى ما لا يحلّ لك النظر إليه ، ولم عزمت على ما لا يحلّ لك العزم عليه» (٤).

وقال السيّد المرتضى علم الهدى ـ عند ذكر قوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما)(٥) ـ : إنّما أراد تعالى أنّ الفشل خطر ببالهم. ولو كان الهمّ في هذا المكان عزما ، لما كان الله وليّهما.

ثمّ قال : «وإرادة المعصية والعزم عليها معصية. وقد تجاوز قوم حتّى قالوا : العزم على الكبيرة كبيرة ، وعلى الكفر كفر» (٦).

قال البهائي : وأيضا فقد صرّح الفقهاء بأنّ الإصرار على الصغائر ـ الّذي هو معدود من الكبائر ـ إمّا فعليّ ، وهو المداومة على الصغائر بلا توبة. وإمّا حكميّ ، وهو العزم على فعل الصغائر متى تمكّن منها.

قال : وبالجملة فتصريحات المفسّرين والفقهاء والأصوليّين بهذا المطلب ، أزيد من أن تحصى ، والخوض فيه من قبيل توضيح الواضحات. ومن تصفّح كتب الإماميّة وغيرهم لا يعتريه ريب فيما تلوناه.

قال : فإن قلت : قد ورد في أحاديث أئمّتنا عليهم‌السلام : أنّ من همّ بسيّئة لم تكتب عليه! (٧) قلت : لا

__________________

(١) مجمع البيان : ٦ : ٢٥١.

(٢) أنوار التنزيل ٣ : ٢٠٢.

(٣) الكشّاف ٢ : ٦٦٧.

(٤) التفسير الكبير ٢٠ : ٢١٠.

(٥) آل عمران ٣ : ١٢٢.

(٦) تنزيه الأنبياء : ٧٤.

(٧) الكافي ٢ : ٤٢٨ / ١ ، و ٤٣٠ / ٤.

٥٢١

دلالة في تلك الأحاديث على ما ظننت من أنّ العزم على المعصية ليس معصية ، وإنّما دلّت على أنّ من عزم على معصية ولم يقترفها لم تكتب عليه تلك المعصية ، ولم يؤاخذ عليها ، لأنّها معفوّ عنها (١).

قال المولى المجلسيّ : النيّة تطلق على النيّة المقارنة للفعل ، وعلى العزم المتقدّم عليه ، سواء تيسّر العمل أم لا. وعلى التمنّي للفعل ، وإن علم عدم تمكّنه منه. والمراد هنا أحد المعنيين الأخيرين.

قال : ويمكن أن يقال : إنّ النيّة لمّا كانت من الأفعال الاختياريّة القلبيّة ، فلا محالة يترتّب عليها ثواب. وإذا فعل الفعل المنويّ يترتّب عليه ثواب آخر. ولا ينافي اشتراط العمل بها [بالنيّة] تعدّد الثواب [تضاعفه]. كما أنّ صحّة الصلاة مشروطة بالوضوء ، ويترتّب على كلّ منهما ثواب.

فإذا لم يتيسّر الفعل ، لعدم قدرته أو لمانع ، يثاب على العزم ، وترتّب الثواب عليه غير مشروط بحصول الفعل ، بل بعدم تقصيره فيه. فالثواب الوارد في الخبر يحتمل أن يكون هذا الثواب ، فله مع الفعل ثوابان ، وبدونه ثواب واحد. فلا يلزم كون العمل لغوا ، ولا كون ثواب النيّة والعمل معا كثوابها فقط.

ويحتمل أن يكون ثواب النيّة كثوابها مع العمل بلا مضاعفة ، ومع العمل يضاعف عشر أمثالها أو أكثر.

قال : ويتأيّد ذلك بما سيأتي في الحديث ـ فيما رواه زرارة عن أحدهما ـ :

[٢ / ٨٢١٩] قال عليه‌السلام : «إنّ الله جعل لآدم في ذرّيّته ، من همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة. ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا» (٢).

قال : وإن أمكن حمله على ما إذا لم يعملها مع القدرة عليها (٣).

قال : وعلى ما حقّقنا أنّ النيّة تابعة للشاكلة والحالة [النفسانيّة] وأنّ كمالها لا يحصل إلّا بكمال النفس واتّصافها بالأخلاق الكريمة ، فلا استبعاد في تساوي ثواب من عزم على فعل على وجه خاصّ من الكمال ، ولم يتيسّر له ، ومن فعله على ما نوى.

__________________

(١) البحار ٦٨ : ٢٥١ ـ ٢٥٦.

(٢) الكافي ٢ : ٤٢٨ / ١.

(٣) أي لصارف آخر ، لا لعدم قدرته أو لمانع عرض وهي الصورة الثالثة للاقتصار على مجرّد النيّة دون العمل. والحديث بإطلاقه شامل لهذه الصورة أيضا.

٥٢٢

ولعلّه من المتّفق عليه بين الأمّة : أنّ المؤمن يثاب على نيّته الخير.

[٢ / ٨٢٢٠] روى مسلم بإسناده إلى أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من طلب الشهادة صادقا ، أعطيها ولو لم تصبه» (١).

[٢ / ٨٢٢١] وبإسناد آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من سأل الله الشهادة بصدق ، بلّغه الله منازل الشهداء ، وإن مات على فراشه» (٢).

قال الماذريّ ـ في الشرح ـ : وفي هذين الخبرين دلالة على أنّ من نوى شيئا من أعمال البرّ ولم يفعله لعذر ، كان بمنزلة من عمله ، وعلى استحباب طلب الشهادة ونيّة الخير (٣).

قال المجلسيّ : وقد صرّح بذلك جماعة من العلماء ، حتّى قال الآبيّ : لو لم ينوه كان حاله حال المنافق ؛ لا يفعل الخير ولا ينويه (٤).

قلت : وبذلك ورد الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه مسلم ـ أيضا ـ بالإسناد إلى أبي صالح عن أبي هريرة :

[٢ / ٨٢٢٢] قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات ولم يغز ولم يحدّث به نفسه ، مات على شعبة من نفاق» (٥).

وقال ـ تعقيبا لحديث أبي هاشم مع الإمام الصادق عليه‌السلام في سبب خلود أهل الجنّة وأهل النار ، بحسب نيّاتهم في الطاعة أبدا والمعصية أبدا ، وأخيرا قال : فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء ، ثمّ تلا قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) قال : على نيّته ـ (٦). ويمكن أن يستدلّ به على أنّ بالعزم على المعصية ، يستحقّ العقاب ، وإن عفى الله عن المؤمنين تفضّلا.

قال : وما ذكره المحقّق الطوسيّ ـ في مسألة خلق الأعمال ـ حيث قال : «وإرادة القبيح

__________________

(١) مسلم ٦ : ٤٨ ؛ أبو داوود ١ : ٣٤٠ / ١٥٢٠ ؛ الترمذي ٣ : ١٠٣ / ١٧٠٥.

(٢) مسلم ٦ : ٤٩ ؛ ابن ماجة ٢ : ٩٣٥ / ٢٧٩٧ ، باب ١٥.

(٣) وهكذا قال النووي : وفيه استحباب سؤال الشهادة واستحباب نيّة الخير. (شرح مسلم ١٣ : ٥٥).

(٤) البحار ٦٧ : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٥) مسلم ٦ : ٤٩ ؛ مسند أحمد ٢ : ٣٧٤ ؛ أبو داوود ١ : ٥٦٢ / ٢٥٠٢ ، باب ١٨ ، الحاكم ٢ : ٧٩ ؛ كنز العمّال ٤ : ٢٩٣ / ١٠٥٥٨.

(٦) الكافي ٢ : ٨٥ / ٥.

٥٢٣

قبيحة» (١) يدلّ على أنّه يعدّ إرادة العباد للحرام فعلا قبيحا محرّما.

قال : وهو الظاهر من كلام أكثر الأصحاب ، سواء أكان تامّا مستتبعا للقبيح ، أو عزما ناقصا غير مستتبع ، لكن قد تقرّر عندهم أنّ إرادة القبيح إذا كانت غير مقارنة لفعل القبيح ، يتعلّق بها العفو ، كما دلّت عليه الروايات.

وأمّا إذا كانت مقارنة ، فلعلّه أيضا كذلك (٢) ، وادّعى بعضهم الإجماع على أنّ فعل المعصية لا يتعلّق به إلّا إثم واحد! ومن البعيد أن يتعلّق به إثمان ، أحدهما بإرادته والآخر بإيقاعه!

قال : فيندفع حينئذ التدافع بين ما ذكره المحقّق الطوسيّ من قبح إرادة القبيح ، وبين ما هو المشهور من أنّ الله تعالى لا يعاقب بإرادة الحرام ، وإنّما يعاقب بفعله.

قال : وما أوّله به بعضهم من أنّ المراد أنّه لا يعاقب العقوبة الخاصّة لمعصية ، بمجرّد إرادتها (٣) ، ففيه أنّ شيئا من ذلك غير صحيح ، فإنّ الظاهر من النصوص أنّه تعالى لا يعاقب ولا يؤاخذ على إرادة المعصية أصلا.

قال : والإجماع قائم على أنّ ثواب الطاعة [الخاصّ بها] لا يترتّب على إرادتها ، بل المترتّب عليها نوع آخر من الثواب يختلف باختلاف الأحوال المقارنة لها ، من خلوص النيّة ، وشدّة الجدّ فيها ، والاستمرار عليها ، إلى غير ذلك ، ولا مانع من أن تصير في بعض الأحوال أعظم من ثواب نفس الفعل الّذي لم يكن لصاحبه تلك الإرادة البالغة الجامعة لهذه الخصوصيّات (٤).

انتهى كلامه ، رفع مقامه. ولله درّه من محقّق متعمّق ، قد أخذ بجوانب المسألة وأوفى حقّها كملا ومستقصا بقوّة وإحكام.

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٦٦ ؛ البحار ٦٧ : ٢٠٢.

(٢) أي لا تكون الإرادة إثما ولا مؤاخذة عليها ، كما لو كانت مجرّدة عن العمل.

(٣) فلا ينافيه ثبوت عقوبة غيرها بشأن الإرادة ، لكن يردّه ما ذكره المجلسي من أنّ الظاهر من النصوص هو عدم العقاب على الإرادة المجرّدة مطلقا ، لا العقوبة الخاصّة بتلك المعصية الّتي أرادها ولم يفعلها ، ولا عقوبة أخرى تكون خاصّة بشأن الإرادة محضا.

(٤) البحار ٦٧ : ٢٠١ ـ ٢٠٢. وراجع شرحه على أصول الكافي (مرآة العقول) ٨ : ١٠٤ ـ ١٠٦.

٥٢٤

هل يحاسب العباد على النيّات؟

هناك فرق بين المحاسبة والمؤاخذة ، حيث محاسبة الشيء تقييمه واعتباره على موازين العقل والحكمة الرشيدة ، أمّا المؤاخذة فهي المسائلة على موافاة العهد لغرض المجازاة عليها ، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ.

ومن ثمّ فالمحاسبة على النيّات أمر معقول ، ولا سيّما في ذلك اليوم الّذي تبلى فيه السرائر ، فيحاسب الناس على نيّاتهم ، إن طيّبا فمع الطيّبين وإن خبيثا فمع الخبيثين. وليست الأعمال بذواتها معيارا لمعرفة الشخص ، لو لا كشفها عن شاكلة نفسه.

وبذلك يعرف معنى قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ، إن أريد منها المحاسبة على النيّات محضا ، دون المؤاخذة لموافاة الثواب أو العقاب ، الأمر الّذي لا يتنافى مع ما ورد من أنّ المؤاخذة على الأعمال إنّما هي بحسب النيّات أي ليست المؤاخذة على نفس العمل بالنظر إلى كمّيّته ، ولكن بالنظر إلى كيفيّته الّتي تتحدّد حسب النيّات. فالمؤاخذة إنّما هي على العمل ، أمّا النيّة فهي المحدّدة لأبعاد العمل والجزاء على هذه الأبعاد.

[٢ / ٨٢٢٣] أخرج ابن جرير من طريق الضحّاك عن ابن عبّاس في الآية قال : إنّ الله يقول يوم القيامة : إنّ كتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلّا ما ظهر منها ، فأمّا ما أسررتم في أنفسكم ، فأنا أحاسبكم به اليوم ، فأغفر لمن شئت وأعذّب لمن شئت! (١)

[٢ / ٨٢٢٤] وأخرج ابن جرير عن الضحّاك قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) قال : كان ابن عبّاس يقول : إذا دعي الناس للحساب ، أخبرهم الله بما كانوا يسرّون في أنفسهم ممّا لم يعملوه ، فيقول : إنّه كان لا يعزب عنّي شيء ، وإنّي مخبركم بما كنتم تسرّون من السوء ، ولم تكن حفظتكم عليكم مطّلعين عليه. قال : فهذه المحاسبة (٢).

[٢ / ٨٢٢٥] وفيما رواه الصدوق من وصيّة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لابنه محمّد بن الحنفيّة :

__________________

(١) الدرّ ٢ : ١٣٠ ـ ١٣١ ؛ الطبري ٣ : ٢٠٠ / ٥٠٨٥ ؛ الثعلبي ٢ : ٣٠٠ ؛ القرطبي ٣ : ٤٢٢.

(٢) الطبري ٣ : ٢٠٠ / ٥٠٨٧.

٥٢٥

«وفرض على القلب ـ وهو أمير الجوارح ـ الّذي به تعقل وتفهم وتصدر عن أمره ورأيه ، فقال ـ عزوجل ـ : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(١)».

[٢ / ٨٢٢٦] وقال عبد الله بن المبارك : قلت لسفيان : أيؤاخذ الله العبد بالهمّة؟ قال : «إذا كان عزما أخذ بها!» (٢).

[٢ / ٨٢٢٧] وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير من طريق الضحّاك عن عائشة في قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية. قالت : هو الرجل يهمّ بالمعصية ولا يعملها ، فيرسل الله عليه من الغمّ والحزن بقدر ما كان همّ من المعصية ، فتلك محاسبته (٣).

[٢ / ٨٢٢٨] وأخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنّه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أميّة ، أنّها سألت عائشة عن قول الله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) وعن قوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)(٤) فقالت : ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : «هذه معاقبة الله العبد فيما يصيبه من الحمى والنكبة ، حتّى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها فيفزع لها ثمّ يجدها في ضبنه (٥) ، حتّى أنّ العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير» (٦).

قلت : والمراد ـ إن صحّت الرواية ـ : أنّه تعالى إذا وجد عبده المؤمن أضمر سوءا ، حتّى ولو لم يظهره في عمل ، فإنّه يؤاخذه مؤاخذة طفيفة ، ليتنبّه ويعود إلى رشده ، ويعلم أنّه مراقب بعين الله.

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٦٢٧ / ٣٢١٥ ، باب الفروض على الجوارح.

(٢) الثعلبي ٢ : ٣٠١ ؛ البغوي ١ : ٤٠٠ ؛ أبو الفتوح ٤ : ١٤٨.

(٣) الدرّ ٢ : ١٣١ ؛ سنن سعيد ٣ : ١٠١٤ / ٤٨١ ؛ الطبري ٣ : ٢٠١ / ٥٠٩١ ، بلفظ : «كانت عائشة تقول : من همّ بسيّئة فلم يعملها أرسل الله عليه من الهمّ والحزن مثل الّذي همّ به من السيّئة فلم يعملها ، فكانت كفّارته».

(٤) النساء ٤ : ١٢٣.

(٥) الضّبن : الحجر والجانب.

(٦) الدرّ ٢ : ١٣١ ؛ مسند الطيالسي : ٢٢١ ؛ مسند أحمد ٦ : ٢١٨ ؛ الترمذي ٤ : ٢٨٩ ؛ الطبري ٣ : ٢٠٢ / ٥٠٩٢ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٧٤ / ٣٠٦٢ ؛ الشعب ٧ : ١٥٢ / ٩٨٠٩ ؛ ابن كثير ١ : ٣٤٨ ؛ البغوي ١ : ٣٩٩ / ٣٤٩ ؛ الثعلبي ٢ : ٣٠٠ ـ ٣٠١ / ٢١١ ؛ أبو الفتوح ٤ : ١٤٧.

٥٢٦

من همّ بحسنة أو سيّئة ولم يعملها

تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهار ، بأنّ الله تعالى لا يؤاخذ العباد على مجرّد النيّات ما لم يقترفوا السيّئات ، فليس مجرّد نيّة السوء ممّا يؤخذ العبد عليها ما لم يرتكب إثما ، فإنّ الجزاء إنّما هو على المعصية ولا عصيان في سوى العمل ، عملا جارحيّا لا جانحيّا (١).

نعم ، إنّ نيّة السوء لدليل على خبث تنطوي عليه سريرته ، وهو انحراف عن الفطرة عارض يجب معالجته ، والله تعالى ـ كما هو ساتر عليه ـ غافر له ، ما لم يظهر على يديه ، وسيأتي الكلام عنه.

[٢ / ٨٢٢٩] أخرج مسلم عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن همّ بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف. ومن همّ بسيّئة فلم يعملها لم تكتب ، وإن عملها كتبت» (٢).

[٢ / ٨٢٣٠] وأيضا عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «قال الله : إذا همّ عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة ، فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، وإذا همّ بسيّئة فلم يعملها لم أكتبها عليه ، فإن عملها كتبتها سيّئة واحدة».

[٢ / ٨٢٣١] وكذا عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «قال الله : إذا همّ عبدي بسيّئة فلا تكتبوها عليه ، فإن عملها فاكتبوها سيّئة ، وإذا همّ بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشرا» (٣).

[٢ / ٨٢٣٢] وكذا عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قال الله ـ عزوجل ـ إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل ، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها. وإذا تحدّث بأن يعمل سيّئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها. ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قالت الملائكة : ربّ ، ذاك عبدك يريد أن يعمل سيّئة ـ وهو أبصر به ـ فقال : ارقبوه ، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة ، إنّما تركها من جرّاي! قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا أحسن أحدكم إسلامه ، فكلّ حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وكلّ سيّئة يعملها تكتب بمثلها

__________________

(١) الجارحة ، جمعها الجوارح ، وهي الأعضاء الظاهرة. والجانحة جمعها الجوانح ، وهي الضّلوع والأعضاء الداخليّة.

(٢) مسلم ١ : ٨٢ ـ ٨٣ ، كتاب الإيمان.

(٣) مسلم ١ : ٨٢ ، كتاب الإيمان ؛ ابن كثير ١ : ٣٤٧.

٥٢٧

حتّى يلقى الله!» (١).

[٢ / ٨٢٣٣] وأيضا أخرج البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يقول الله : إذا أراد عبدي أن يعمل سيّئة فلا تكتبوها عليه حتّى يعملها ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها ، وان تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة. وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة» (٢).

[٢ / ٨٢٣٤] وأخرج البخاري ومسلم وأحمد عن العطارديّ عن ابن عبّاس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يروي عن ربّه ـ تبارك وتعالى ـ قال : «إنّ الله كتب الحسنات والسيّئات ، ثمّ بيّن ذلك. فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن همّ بسيّئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وان همّ بها فعملها كتبها الله سيّئة واحدة» (٣).

[٢ / ٨٢٣٥] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) فذلك سرّ عملك وعلانيته (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) فما من عبد مؤمن يسرّ في نفسه خيرا ليعمل به ، فإن عمل به كتبت له عشر حسنات ، وإن هو لم يقدّر له أن يعمل كتب له به حسنة من أجل أنّه مؤمن.

والله يرضي سرّ المؤمنين وعلانيتهم ، وإن كان سوءا حدّث به نفسه ، اطّلع الله عليه ، أخبره الله به يوم تبلى السرائر ، فإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتّى يعمل به ، فإن هو عمل به تجاوز الله عنه كما قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ)(٤)(٥).

[٢ / ٨٢٣٦] وأخرج سفيان وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله تجاوز لي عن أمّتي ما حدّثت به أنفسها

__________________

(١) مسلم ١ : ٨٢ ؛ ابن حبّان ٢ : ١٠٣ / ٢٧٩ ، باختلاف يسير واختصار ، إلى قوله : «فإذا فعلها فأنا أكتبها له بمثلها» ؛ ابن كثير ١ : ٣٤٧.

(٢) البخاري ٨ : ١٩٨.

(٣) البخاري ٧ : ١٨٧ ، كتاب الرقاق ، باب من همّ بحسنة أو بسيّئة ؛ مسلم ١ : ٨٣ ؛ مسند أحمد ١ : ٣١٠ ؛ كنز العمّال ٤ : ٢١٨ ـ ٢١٩ / ١٠٢٤٠ ؛ ابن كثير ١ : ٣٤٧.

(٤) الأحقاف ٤٦ : ١٦.

(٥) الدرّ ٢ : ١٣٠ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٧٣ / ٣٠٥٨ ؛ الطبري ٣ : ١٩٩ / ٥٠٨٤.

٥٢٨

ما لم تتكلّم أو تعمل به» (١).

[٢ / ٨٢٣٧] وروى أبو جعفر الصدوق بإسناده إلى حريز عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمّتي تسعة أشياء ، الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطرّوا إليه والحسد والطيرة والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة!» (٢).

[٢ / ٨٢٣٨] وهكذا روى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى الإمام الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وضع عن أمّتي تسع خصال : الخطأ والنسيان وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه وما استكرهوا عليه والطيرة والوسوسة في التفكّر في الخلق والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد» (٣).

***

وروى أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني ـ هنا ـ أحاديث شريفة يسندها إلى الأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام مرفوعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمّا نصّا أو طيّا ، نذكرها كما يلى :

[٢ / ٨٢٣٩] روى بالإسناد إلى اليسع بن حمزة عن الإمام أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة ، والمذيع بالسيّئة مخذول ، والمستتر بها مغفور له» (٤).

[٢ / ٨٢٤٠] وروى بالإسناد إلى الفضل بن عثمان المرادي ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : قال

__________________

(١) الدرّ ٢ : ١٢٩ ؛ البخاري ٦ : ١٦٩ ، كتاب الطلاق ؛ مسلم ١ : ٨١ ، كتاب الإيمان ؛ أبو داوود ١ : ٤٩٢ / ٢٢٠٩ ، باب ١٥ ؛ الترمذي ٢ : ٣٢٨ / ١١٩٤ ، باب ٨ ، وقال : هذا حديث حسن صحيح ؛ النسائي ٣ : ٣٦٠ / ٥٦٢٨ ، باب ٢٣ ؛ ابن ماجة ١ : ٦٥٨ / ٢٠٤٠ ، باب ١٤ ؛ مسند أحمد ٢ : ٤٧٤ ؛ البغوي ١ : ٣٩٨ ـ ٣٩٩ / ٣٤٨ ؛ الثعلبي ٢ : ٣٠٠ ؛ ابن كثير ١ : ٣٤٧ ؛ القرطبي ٣ : ٤٢٢.

(٢) التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤ ، باب ٥٦ ؛ الخصال : ٤١٧ / ٩ ، باب التسعة ؛ البحار ٢ : ٢٨٠ / ٤٧ ؛ و ٥ : ٣٠٣ / ١٤ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٤٧٣ ؛ نور الثقلين ١ : ٣٠٢ ؛ و ٥ : ٧٢٣.

(٣) الكافي ٢ : ٤٦٣ / ٢ ؛ البحار ٢ : ٢٨٠ ؛ الصافي ١ : ٤٩٠.

(٤) الكافي ٢ : ٤٢٨ / ٢ ، باب ستر الذنوب.

٥٢٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أربع (١) من كنّ فيه لم يهلك على الله بعدهنّ إلّا هالك (٢) : يهمّ العبد بالحسنة ليعملها ، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة ، بحسن نيّته! وإن هو عملها كتب له عشرا.

ويهمّ بالسيّئة أن يعملها ، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء ، وإن هو عملها أجّل سبع ساعات. وقال صاحب الحسنات لصاحب السيّئات وهو صاحب الشمال : لا تعجل ، عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها ، فإنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)(٣). أو الاستغفار ، فإن هو قال : أستغفر الله الّذي لا إله إلّا هو ، عالم الغيب والشهادة ، العزيز الحكيم ، الغفور الرحيم ، ذو الجلال والإكرام ، وأتوب إليه ، لم يكتب عليه شيء.

وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة أو استغفار (٤) ، قال صاحب الحسنات لصاحب السيّئات : اكتب على الشقيّ المحروم» (٥).

[٢ / ٨٢٤١] وروى بالإسناد إلى جميل بن درّاج عن زرارة عن أحدهما (الباقر أو الصادق عليهما‌السلام) قال : «إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ جعل لآدم في ذرّيّته ، من همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا ، ومن همّ بسيّئة ولم يعملها لم تكتب عليه ، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيّئة» (٦).

[٢ / ٨٢٤٢] وبالإسناد إلى أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ المؤمن ليهمّ بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة ، وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات ، وإنّ المؤمن ليهمّ بالسيّئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه» (٧).

[٢ / ٨٢٤٣] وبالإسناد إلى عبد الله بن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ، قال : سألت أبي عن الملكين هل

__________________

(١) هذه الأربع عبارة عن : يهمّ بالحسنة ولم يعملها ، كتبت له حسنة. يهمّ بالحسنة وعملها ، كتبت له عشر حسنات. يهمّ بالسيّئة ولم يعملها ، لم تكتب له. يهمّ بالسيّئة وأتبعها بحسنة أو استغفار ، فإنّه مغفور له.

(٢) أي لم يهلكه شيء بعدها سوى الهالك الأفضع ، وهو ما إذا همّ بمعصية وارتكبها وأصرّ عليها ولم يتب منها حتّى الموت. وهذا هو الوجه الخامس بعد الوجوه الأربعة.

(٣) هود ١١ : ١١٥.

(٤) وهذا خامس الوجوه ، وهو موجب للهلاك.

(٥) الكافي ٢ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠ / ٤ ، باب من يهمّ بالحسنة أو السيّئة.

(٦) المصدر : ٤٢٨ / ١.

(٧) المصدر : ٤٢٨ ـ ٤٢٩ / ٢.

٥٣٠

يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله أو الحسنة؟ فقال : ريح الكنيف وريح الطيب سواء؟ قلت : لا ، قال : «إنّ العبد إذا همّ بحسنة خرج نفسه طيّب الريح ، فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال : قم (١) فإنّه قد همّ بالحسنة فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، فأثبتها له وإذا همّ بالسيّئة خرج نفسه منتن الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين : قف (٢) فإنّه قد همّ بالسيّئة ، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، فأثبتها عليه» (٣).

اعتراض وجواب

ولعلّ معترضا يقول : لو جعلنا من النيّة هي الأساس ، وأنّها هي الّتي تشكّل حقيقة العمل ، ويكون بها الثواب والعقاب ، لكان ذلك متنافيا مع ما ورد مستفيضا بأنّ الهمّ على العمل لا يؤاخذ عليه.

وأيضا فمن المتسالم عليه ، أنّ المثوبات والعقوبات إنّما هي على الأعمال ، ولا طاعة ولا معصية إلّا بالعمل.

كما يتنافى مع ما ورد من أنّ أفضل الأعمال أحمزها أي أشقّها وأصعبها مؤونة. ولا شكّ أنّ العمل أشقّ من النيّة ، فكيف تكون النيّة أبلغ من العمل ، وأنّ نيّة المؤمن خير من عمله ، ونيّة الفاجر شرّ من عمله؟!

وقد ذكروا للإجابة على هذا السؤال وجوها :

قال أبو حامد الغزالي ـ في بيان السرّ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نيّة المؤمن خير من عمله» ـ :

إعلم أنّه قد يظنّ أنّ سبب هذا الترجيح أنّ النيّة سرّ لا يطّلع عليه إلّا الله تعالى ، والعمل ظاهر. ولعمل السرّ فضل ، وهذا صحيح ، ولكن ليس هو المراد ؛ لأنّه لو نوى أن يذكر الله بقلبه أو يتفكّر في مصالح المسلمين ، فيقتضي عموم الحديث أن تكون نيّة التفكّر خيرا من التفكّر.

وقد يظنّ أنّ سبب الترجيح أنّ النيّة تدوم إلى آخر العمل ، والأعمال لا تدوم. وهو ضعيف ، لأنّ ذلك يرجع معناه إلى أنّ العمل الكثير خير من القليل ، بل ليس كذلك ، فإنّ نيّة أعمال الصلاة قد لا

__________________

(١) أي ليس هنا شأنك.

(٢) أي توقّف ولا تكتب عليه حتّى يتبيّن أنّه يعمل بها أو لا يعمل.

(٣) الكافي ٢ : ٤٢٩ / ٣.

٥٣١

تدوم إلّا في لحظات معدودة ، والأعمال تدوم ، والعموم يقتضي أن تكون نيّته خير من عمله.

وقد يقال : إنّ معناه أنّ النيّة بمجرّدها خير من العمل بمجرّده دون النيّة. وهو كذلك ، ولكنّه بعيد أن يكون هو المراد ، إذ العمل بلا نيّة أو على الغفلة ، لا خير فيه أصلا ، والنيّة بمجرّدها خير ، وظاهر الترجيح في المشتركين أن يكونا مشتركين في أصل الخير.

قال : بل المعنى أنّ كلّ طاعة تنتظم بنيّة وعمل ، وكلّ منهما من جملة الخيرات ، إلّا أنّ النيّة من الطاعتين خير من العمل ، لأنّ أثر النيّة في المقصود ـ وهو اكتمال النفس وابتهاجها برضوان الله ـ أكثر من أثر العمل ، لأنّ صلاح القلب هو المقصود الأصل من التكليف ، والأعضاء آلات موصلة إلى ذلك المقصود ، والغرض من حركات الجوارح أن يعتاد القلب لإرادة الخير وتأكيد الميل إليه ، ليتفرّغ عن شهوات الدنيا ، ويقبل على الذكر والفكر ، فبالضرورة تكون خيرا بالإضافة إلى الغرض.

قال تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ)(١). والتقوى صفة القلب.

[٢ / ٨٢٤٤] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد» (٢). أراد بها القلب (٣).

وقال المحقّق الفيض الكاشاني : إنّ المؤمن إنّما ينوي أن يوقع عباداته على أحسن وجه ، لكنّه عند ما يشتغل بها قد لا يتيسّر له ذلك فيأتي بما تيسّر له. فالّذي نواه كان خيرا من الّذي عمله ، والله تعالى إنّما يجازيه حسبما نوى.

وأيضا فإنّ المؤمن ينوي ـ حسب إيمانه بالله ـ أن يأتي بالطاعات ويجتنب السيّئات أبدا. لكنّه قد لا يوفّق لذلك كما نوى ، فنيّته خير من عمله.

قال : وإلى هذا المعنى أشار الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام :

[٢ / ٨٢٤٥] فيما رواه أبو جعفر الصدوق بالإسناد إلى الحسن بن الحسين الأنصاري عن بعض رجاله عنه عليه‌السلام كان يقول : «نيّة المؤمن أفضل من عمله ، وذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه. ونيّة الكافر شرّ من عمله ، وذلك لأنّ الكافر ينوي الشرّ ويأمل من الشرّ ما لا يدركه» (٤).

__________________

(١) الحجّ ٢٢ : ٣٧.

(٢) ابن ماجة ٢ : ١٣١٩ / ٣٩٨٤ ؛ مسلم ٥ : ٥١.

(٣) إحياء العلوم ٤ : ٣٥٥ ـ ٣٥٧ ، باختصار واختزال. وراجع : المحجّة البيضاء للفيض الكاشاني ٨ : ١٠٩ ـ ١١٣. ومصابيح الأنوار للسيّد عبد الله شبّر ٢ : ٥٧ / ٢٣.

(٤) علل الشرائع ٢ : ٥٢٤ / ٢ ، باب ٣٠١ ؛ البحار ٦٧ : ٢٠٦ / ١٩.

٥٣٢

[٢ / ٨٢٤٦] وروى بالإسناد إلى زيد الشحّام ، سأل الإمام الصادق عليه‌السلام عن هذا الحديث ؛ قال : سمعتك تقول : «نيّة المؤمن خير من عمله»! فكيف تكون النيّة خيرا من العمل؟ قال عليه‌السلام : «لأنّ العمل ربما كان رياء المخلوقين ، والنيّة خالصة لربّ العالمين ، فيعطي الله ـ عزوجل ـ على النيّة ما لا يعطي على العمل».

قال عليه‌السلام : «إنّ العبد لينوي من نهاره أن يصلّي بالليل فتغلبه عينه فينام ، فيثبت الله له صلاته ويكتب نفسه تسبيحه ، ويجعل نومه عليه صدقة» (١)(٢).

[٢ / ٨٢٤٧] وأيضا روى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى هشام بن سالم عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ العبد المؤمن الفقير ليقول : يا ربّ ارزقني حتّى أفعل كذا وكذا من البرّ ووجوه الخير ، فإذا علم الله ـ عزوجل ـ ذلك منه بصدق نيّة ، كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله ، إنّ الله واسع كريم» (٣).

قال الشيخ البهائي : هذا الحديث يمكن أن يجعل تفسيرا لقولهم عليهم‌السلام «نيّة المؤمن خير من عمله» ؛ فإنّ المؤمن ينوي كثيرا من هذه النيّات فيثاب عليها ، ولا يتيسّر له العمل إلّا قليلا. (٤)

وللشريف المرتضى هنا توجيه لا يخلو من بعد ، حيث نفى أن يكون «خير» أفعل تفضيل ، وفسّر الحديث بأنّ نيّة المؤمن في ذاتها خير ، وهي من عمله. أي تحسب عمل خير له (٥).

والصحيح من معنى الحديث هو ما قدّمنا الكلام فيه ، وأنّ للنيّة موضعها الأرقى في ارتقاء النفس وتصاعده في مدارج الكمال ، كما أنّ لها الدور الأوفى في بثّ الخير والصلاح في الحياة العامّة ، ولها الدوام والثبات والشمول ، ممّا لا يحظى به العمل مهما كان جليلا.

هل كانت الآية منسوخة؟

هل كانت آية المحاسبة على نوايا النفس منسوخة؟

ربما قيل بأنّها منسوخة ، نسختها آخر آية من سورة البقرة : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ٥٢٤ / ١ ، باب ٣٠١ ؛ البحار ٦٧ : ٢٠٦ / ١٨.

(٢) المحجّة البيضاء ٨ : ١١٠.

(٣) الكافي ٢ : ٨٥ / ٣ ، باب النيّة.

(٤) البحار ٦٧ : ٢٠٠.

(٥) الأمالي ٢ : ٣١٥ ـ ٣١٨.

٥٣٣

لكن الهواجس وخواطر النفس ليست ممّا في الوسع ، فلا يصحّ التكليف بها حتّى يأتيها النسخ ، وأمّا الإرادة والعزم ، فهو داخل في الوسع ، والآية لا ترفعه.

توضيحه : أنّ النسخ إنّما يكون بين متنافيين ، ولا تنافي بين آية المحاسبة وآية رفع التكليف فيما لا يسع ، إذ لو أريد من آية المحاسبة ، المحاسبة على النوايا الإراديّة ، فهذه داخلة في الوسع ، ولا يرفعها آية الرفع ، لأنّها إنّما تنفي التكليف بما ليس في الوسع. وفي الحديث القدسيّ : «وذلك حكمي في جميع الأمم : أن لا أكلّف خلقا فوق طاقتهم» (١).

ولو أريد منها النوايا غير الإراديّة ، فهي بذواتها غير صالحة للتكليف ، فلا تكليف بها ذاتا ، وما لا تكليف بها ذاتا ، لا يصحّ وقوعها موردا للنسخ والرفع.

والصحيح أنّ آية المحاسبة إنّما وردت بشأن النوايا الإراديّة ، والّتي هي مبادىء نفسيّة للإقدام والعمل ، فلا تنافيها آية نفي التكليف عمّا لا وسع فيه.

على أنّ لحن الآية (آية نفي التكليف بما لا يطاق) هي نفي التكليف أساسا وذاتا ، حيث لا تكليف بما هو خارج عن الوسع ، لا رفعه بعد إمكان التكليف به ، وما لا يمكن التكليف فيه ، لا يصلح موردا للنسخ. إذن فلا تنافي بين الآيتين ، فلا نسخ.

ومن ثمّ أنكر جماعة وقوع النسخ هنا ، إذ لا تنافي.

[٢ / ٨٢٤٨] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس والضحّاك والحسن في الآية ، قال : هي محكمة لم ينسخها شيء ، يعرّفه الله يوم القيامة أنّك أخفيت في صدرك كذا وكذا ، ولا يؤاخذه (٢)!

وأخيرا رجّح الطبري القول بعدم النسخ.

قال القاضي أبو محمّد ابن عطيّة : وهذا هو الصواب ، وذلك أنّ قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) معناه : ممّا في وسعكم وتحت كسبكم ، وذلك استصحاب المعتقد والفكر فيه ، فلمّا كان اللفظ [بإطلاقه] ممّا يمكن أن تدخل فيه الخواطر ، أشفق الصحابة حينذاك ، فيبيّن الله لهم ما أراد بالآية وخصّصها ، ونصّ على حكمه أنّه : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

__________________

(١) فيما سيأتي من كتاب الاحتجاج ١ : ٣٣٠.

(٢) الطبري ٣ : ٢٠٠ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٧٤ ؛ أبو الفتوح ٤ : ١٤٦ ـ ١٤٧ ؛ نواسخ القرآن لابن الجوزي : ١٠١ ؛ القرطبي ٣ : ٤٢٢ ؛ ابن كثير ١ : ٣٤٨.

٥٣٤

والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع ، بل هو أمر غالب ، وليست ممّا يكسب ولا يكتسب ، وكان في هذا البيان فرح الصحابة وكشف كربهم (١).

وهكذا ذكر ابن عاشور : أنّ إطلاق النسخ على هذا اصطلاح للمتقدّمين ، والمراد : البيان والتخصيص (٢).

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسيّ : يجوز أن تكون الآية الثانية بيّنت الأولى وأزالت توهّم من صرف ذلك إلى غير وجهه ، فلم يضبط الرواية فيه وظنّ أنّ ما يخطر للنفس أو تحدّث نفسه به ممّا لا يتعلّق بتكليفه ، أنّ الله يؤاخذه به ، والأمر بخلاف ذلك ، وإنّما المراد بالآية ما يتناوله الأمر والنهي ، من الاعتقادات والإرادات (٣) وغير ذلك ممّا هو مستور عنّا ، فأمّا ما لا يدخل في التكليف (٤) فخارج عنه ، لدلالة العقل.

[٢ / ٨٢٤٩] قال : ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تجوّز لهذه الأمّة عن نسيانها وما حدّثت به أنفسها» (٥).

ويشهد لهذا التأويل ، الحديث التالي :

[٢ / ٨٢٥٠] أخرج ابن جرير وابن منذر من طريق الزّهريّ عن ابن عبّاس قال : لمّا نزلت : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ ..) ضجّ المؤمنون منها ضجّة وقالوا : يا رسول الله : هذا نتوب من عمل اليد والرجل واللسان كيف نتوب من الوسوسة؟ كيف نمتنع منها؟ فجاء جبريل بهذه الآية : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إنّكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة (٦).

[٢ / ٨٢٥١] وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة ، قال : لمّا نزلت : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) اشتدّ ذلك على القوم ، فقالوا : يا رسول الله إنّا لمؤاخذون بما نحدّث به أنفسنا؟ هلكنا! فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)

__________________

(١) المحرّر الوجيز ١ : ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

(٢) التحرير والتنوير ٢ : ٥٩٧.

(٣) ممّا تكون اختياريّة وإن كانت قلبيّة مستورة عن غيره سوى الله.

(٤) من الخواطر والهواجس غير الإراديّة.

(٥) التبيان ٢ : ٣٨٢ ، وهكذا أبو عليّ الطبرسيّ في مجمع البيان ٢ : ٢٢٦.

(٦) الدرّ ٢ : ١٣٣٣ ـ ١٣٤ ؛ الطبري ٣ : ٢٠٩ / ٥٠٩٩ ؛ الثعلبي ٢ : ٣٠٦.

٥٣٥

الآية (١).

وهكذا أخرج عن سعيد بن جبير قريبا منه (٢).

[٢ / ٨٢٥٢] وأخرج عن ابن زيد ، قال : لمّا نزلت هذه الآية : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) إلى آخر الآية ، اشتدّت على المسلمين ، وشقّت مشقّة شديدة ، فقالوا : يا رسول الله لو وقع في أنفسنا شيء لم نعمل به وأخذنا الله به؟ قال : فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل : سمعنا وعصينا ، قالوا : بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله! قال : فنزل القرآن يفرّجها عنهم : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) إلى قوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) قال : فصيّره إلى الأعمال ، وترك ما يقع في القلوب (٣).

[٢ / ٨٢٥٣] وأخرج سفيان والبخاريّ ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما وسوست به صدورها ، ما لم تعمل أو تتكلّم به» (٤).

[٢ / ٨٢٥٤] وأخرج أحمد ومسلم وأبو داوود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة ، قال : «لمّا نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ جثوا على الرّكب فقالوا : يا رسول الله ، كلّفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فلمّا اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله في

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٩٣ / ٥٠٦٥.

(٢) المصدر : ١٩٦ / ٥٠٧٢.

(٣) الطبري ٣ : ١٩٨ / ٥٠٨٠ ؛ الثعلبي ٢ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ؛ القرطبي ٣ : ٤٢٨.

(٤) الدرّ ٢ : ١٣٤ ؛ البخاري ٣ : ١١٩ ، كتاب العتق ؛ مسلم ١ : ٨١ ـ ٨٢ ، كتاب الإيمان ؛ أبو داوود ١ : ٤٩٢ / ٢٢٠٩ ، باب ١٥ ، بلفظ : «إنّ الله تجاوز لأمّتي عمّا لم تتكلّم به أو تعمل به وبما حدّثت به أنفسها» ؛ الترمذي ٢ : ٣٢٨ / ١١٩٤ ، باب ٨ ؛ النسائي ٣ : ٣٦٠ / ٥٦٢٦ ـ ٥٦٢٨ ؛ ابن ماجة ١ : ٦٥٨ / ٢٠٤٠ ، باب ١٤ ؛ كنز العمّال ١٢ : ١٥٥ ـ ١٥٨ / ٣٤٤٥٧ ـ ٣٤٤٦٨ ؛ البغوي ١ : ٣٩٨ ـ ٣٩٩ / ٣٤٨.

٥٣٦

أثرها : (آمَنَ الرَّسُولُ ...) الآية ، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلى آخرها» (١).

قلت : والحديث بظاهره مشكل ، إلّا أن يؤّل ، كما سبق في كلام ابن عطيّة وغيره.

[٢ / ٨٢٥٥] وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عن محمّد بن كعب القرظي ، قال : «ما بعث الله من نبيّ ولا أرسل من رسول أنزل عليهم الكتاب ، إلّا أنزل عليه هذه الآية : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكانت الأمم تأبى على أنبيائها ورسلها ، ويقولون : نؤاخذ بما نحدّث به أنفسنا ولم تعمله جوارحنا؟! فيكفرون ويضلّون! فلمّا نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشتدّ على المسلمين ما اشتدّ على الأمم قبلهم ، فقالوا : يا رسول الله أنؤاخذ بما نحدّث به أنفسنا ولم تعمله جوارحنا؟ قال : نعم ، فاسمعوا وأطيعوا واطلبوا إلى ربّكم ، فذلك قوله : (آمَنَ الرَّسُولُ ...) الآية ، فوضع الله عنهم حديث النفس إلّا ما عملت الجوارح : (لَها ما كَسَبَتْ) من خير (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) من شرّ (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) قال : فوضع عنهم الخطأ والنسيان (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً ...) الآية. قال : فلم يكلّفوا ما لم يطيقوا ، ولم يحمل عليهم الإصر الّذي جعل على الأمم قبلهم ، وعفا عنهم وغفر لهم ونصرهم!» (٢).

قلت : هذا حديث غريب ومستنكر جدّا. إذ قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) حكمة إلهيّة شاملة ولا تخصّ أمّة دون أخرى (٣). وكان محمّد بن كعب القرظي من القصّاصين يقصّ على الناس عن كتب السلف وأساطيرهم وكان رأسا في الإسرائيليّات (٤). فلعلّ البلاء منه.

__________________

(١) الدرّ ٢ : ١٢٧ ؛ مسند أحمد ٢ : ٤١٢ وفيه : «فلمّا أقرّ بها القوم» بدل : «فلمّا اقترأها القوم» ؛ مسلم ١ : ٨٠ ـ ٨١ ، كتاب الإيمان ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٧٣ ـ ٥٧٤ / ٣٠٦٠ و ٣٠٦١ ؛ الثعلبي ٣ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ ، ثمّ قال : هذا قول ابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وابن عبّاس برواية سعيد بن جبير وعطاء ومن التابعين وأتباعهم محمّد بن سيرين ومحمّد بن كعب وموسى بن عبيدة وقتادة والكلبي وشيبة ؛ البغوي ١ : ٣٩٨ / ٣٤٦ ؛ أبو الفتوح ٤ : ١٤٥ ؛ القرطبي ٣ : ٤٢٧ ؛ ابن كثير ١ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(٢) الدرّ ٢ : ١٢٩.

(٣) روى الإمام موسى بن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قال الله ـ عزوجل ـ : «ذلك حكمي في جميع الأمم : أن لا أكلّف خلقا فوق طاقتهم» ، (الاحتجاج ١ : ٣٣٠).

(٤) راجع : التمهيد ١٠ : ١١١ / ٧.

٥٣٧

ختامه مسك

قال تعالى :

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

هذا ختام السورة الكبيرة ، الكبيرة بحجمها التعبيري ، إذ هي أطول سور القرآن. والكبيرة بموضوعاتها الّتي تضمّ قطاعا ضخما رحيبا من قواعد التصوّر الإيماني ، وصفة الجماعة المسلمة ، ومنهجها ، وتكاليفها ، وموقفها في الأرض ، ودورها في الوجود ، ومزاولتها في مختلف أنحاء الحياة في الأخذ والردّ ، والتفاعل مع معطيات كلّ من الفطرة والطبيعة والعقل والشريعة ، وهكذا مزالق خطاه ، ممثّلة في تاريخ البشرية وقصصها الواقعيّ إلى آخر ما سبق تفصيله في أثناء استعراض نصوصها الطويلة.

هذا ختام السورة الكبيرة ، في آيتين اثنتين ، ولكنّهما تمثّلان بذاتهما تلخيصا وافيا لأعظم قطاعات السورة ، يصلح ختاما لها ، ختاما متناسقا مع موضوعاتها وأجوائها وأهدافها.

لقد تبدأ السورة بالتصوّر الإيماني الّذي يرسمه الإسلام : إيمانا بالغيب وإيمانا بما أنزل على الرسل جميعا ، وها هي تختم السورة بقوله : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ).

هذا في حال كونهم قائلين : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) في كونهم جميعا مرسلين من عند الله ، حاملين رسالة الله إلى الناس ، ليهدوهم سواء السبيل.

قال الزجّاج : ختم السورة بذكر تعظيمه وذكر تصديق نبيّه والمؤمنين بجميع ذلك فقال : (آمَنَ

٥٣٨

الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي صدّق الرسول بجميع هذه الأشياء الّتي جرى ذكرها ، وكذلك المؤمنون.

قال : ومعنى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أي لا نفعل كما فعل أهل الكتاب قبلنا ، الّذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض (١).

وقد تقدّم الكلام على نظيره عند قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(٢).

قوله : (وَمَلائِكَتِهِ).

والإيمان بملائكة الله طرف من الإيمان بالغيب (٣) ، الّذي تحدّثنا عن قيمته في حياة الإنسان ، ويخرج به من نطاق الحواسّ المضروب على الحيوان ، ويطلقه يتلقّى المعرفة ممّا وراء هذا النطاق الحيواني ، كما يجعله يستهدف الانطلاق إلى تلك الحياة الخالدة الّتي تخرق هذا النطاق المحدود ، (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٤).

(وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا ...). والسمع كناية عن الرضا والقبول لكلّ ما جاءهم من عند الله.

والطاعة : الامتثال لكلّ ما أمرهم الله به ، من غير تبعيض ولا تفريق. نعم ، الإيمان الصادق : ما وقر في القلب وصدّقه العمل. كما وأنّ مع السمع والطاعة قد يأتي الشعور بالتقصير والعجز عن توفية آلاء الله حقّ شكرها ، وفرائض الله حقّ أدائها.

فحان وقت الالتجاء إلى رحمة الله ، لتتدارك تقصيرهم وعجزهم ، بسماحته تعالى : (غُفْرانَكَ رَبَّنا).

والكلمة الحاسمة لمنتهى الإيمان بالله والشعور بالتقصير لديه ، هو الاعتراف بأنّا لله وأنّا إليه راجعون ، وأنّه تعالى هو المالك لأزمّة الأمور ، يوم الدين : (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) ، ربّنا ، إليك الرجعى وإليك المنتهى ، فلا ملجأ إلّا إليك ولا مطمع إلّا فيك ، وأنت أنت الغفور الرحيم.

نعم ، إنّها الوحدة الكبرى ، طابع العقيدة الإسلاميّة الفضلى ترسمها هذه الآية القصيرة : الإيمان بالله وملائكته والإيمان بجميع كتبه ورسله ، بلا تفريق بين الرسل ، والسمع والطاعة ، والإنابة إلى الله

__________________

(١) معاني القرآن وإعرابه للزجّاج : ١ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩.

(٢) البقرة ٢ : ١٣٦.

(٣) في مطلع السورة.

(٤) العنكبوت ٢٩ : ٦٤.

٥٣٩

واليقين بيوم الحساب.

هذه العقيدة اللّائقة بأن تكون ختام العقائد وآخر الرسالات.

***

ثمّ إنّ هذه العقيدة ، في الوقت الّذي ترفع بالإنسان عن البهيميّة وتجعله ذا مسؤوليّة ، وتفرض عليه تكاليف متناسقة مع طاقاته بلا مشقّة ولا إعنات ، ومتناسبة مع حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق يمثّل الفطرة الّتي فطر الإنسان عليها ، كما وتحمّل الإنسان تبعة اختياره للطريق الّذي يختار : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ). وهكذا يتحكّم العدل في التكليف ، وفي تحمّل تبعة الاختيار في السلوك. (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)(١).

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى)(٢).

***

نعم ، تلك ظاهرة دينيّة يلمسها كلّ من تعمّق في أصول الديانات وأن لا تكليف فوق الطاقات ، وأنّ الجميع مسؤولون عن سلوكهم فيما يختارونه من طريق.

وكأنّ المؤمنين وعوا هذه الحقيقة وأدركوها حقّ إدراك ، فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خائف واجف : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) نسيانا وخطأ عن قصور أحيانا ، الأمر الّذي قد يستوجب المؤاخذة عليه.

لكنّ الإنسان إنسان قد تعتريه غفوة وغفلة ، فيستوجب عفوا ومغفرة.

(رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) تكليفا شاقّا ، عقوبة على ما قد يفرط منّا غفوة ، (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) على أثر شقاقهم وتفريطهم في جنب الله.

وهذا يعني : أن يعصمهم الله من اقتراف ما يستوجب الشقاء ، فلا يتفرّطوا فيما تفرّطوا فيه.

(رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من العقوبات والبلايا والفتن والمحن غير المستطاعة (٣).

__________________

(١) الشمس ٩١ : ٧ ـ ١٠.

(٢) النجم ٥٣ : ٣٩ ـ ٤١.

(٣) المنار ٣ : ١٥١.

٥٤٠