التفسير الأثري الجامع - ج ٦

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-07-4
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٥٩

[٢ / ٨٠١٩] عن عثمان بن عيسى عمّن حدّثه عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ)(١) قال : «هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا ، ثمّ يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله أو معصية الله ، فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرة وقد كان المال له ، وإن كان عمل به في معصية الله قوّاه بذلك المال حتّى عمل به في معصية الله ـ عزوجل ـ».

[٢ / ٨٠٢٠] وعن سماعة عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة (٢)».

[٢ / ٨٠٢١] وعن عثمان بن عيسى عن بعض من حدّثه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ في كلام له : «ومن يبسط يده بالمعروف إذا وجده ، يخلف الله له ما أنفق في دنياه ، ويضاعف له في آخرته».

[٢ / ٨٠٢٢] وعن ابن أبي نصر ، قال : قرأت في كتاب أبي الحسن الرضا إلى ابنه أبي جعفر عليهما‌السلام : «يا أبا جعفر ، بلغني أنّ الموالي إذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير ، فإنّما ذلك من بخل منهم لئلّا ينال منك أحد خيرا. وأسألك بحقّي عليك لا يكن مدخلك ومخرجك إلّا من الباب الكبير ، فإذا ركبت فليكن معك ذهب وفضّة ثمّ لا يسألك أحد شيئا إلّا أعطيته ؛ ومن سألك من عمومتك أن تبرّه فلا تعطه أقلّ من خمسين دينارا ، والكثير إليك. ومن سألك من عمّاتك فلا تعطها أقلّ من خمسة وعشرين دينارا ، والكثير إليك ، إنّي إنّما أريد بذلك أن يرفعك الله ، فانفق ولا تخش من ذي العرش إقتارا».

[٢ / ٨٠٢٣] وعن إسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأيدي ثلاثة : سائلة ومنفقة وممسكة ، وخير الأيدي المنفقة».

[٢ / ٨٠٢٤] وعن الحسين بن أيمن عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال : «يا حسين! أنفق وأيقن بالخلف من الله ، فإنّه لم يبخل عبد ولا أمة بنفقة فيما يرضي الله ـ عزوجل ـ إلّا أنفق أضعافها فيما يسخط الله».

[٢ / ٨٠٢٥] وعن عمر بن أذينة رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أو أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ينزل الله المعونة من

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٦٢.

(٢) في بعض النسخ : سمحت نفسه بالنفقة.

٤٦١

السماء إلى العبد بقدر المؤونة ، فمن أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة».

[٢ / ٨٠٢٦] وعن صفوان بن يحيى عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : «دخل عليه مولى له ، فقال له : هل أنفقت اليوم شيئا؟ قال : لا والله ، فقال أبو الحسن : فمن أين يخلف الله علينا؟ أنفق ولو درهما واحدا».

[٢ / ٨٠٢٧] وعن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من يضمن أربعة بأربعة أبيات في الجنّة؟ أنفق ولا تخف فقرا ، وأنصف الناس من نفسك ، وأفش السّلام في العالم ، واترك المراء وإن كنت محقّا» (١).

معرفة البخل والشحّ

[٢ / ٨٠٢٨] وبإسناده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام أنّ أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ سمع رجلا يقول : إنّ الشحيح أعذر من الظالم ، فقال له : «كذبت إنّ الظالم قد يتوب ويستغفر ويردّ الظلامة على أهلها ، والشحيح إذا شحّ منع الزكاة والصدقة وصلة الرحم وقرى الضيف والنفقة في سبيل الله وأبواب البرّ ؛ وحرام على الجنّة أن يدخلها شحيح».

[٢ / ٨٠٢٩] وعن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إذا لم يكن لله في عبد حاجة ، ابتلاه بالبخل». أي وجده غير آبه بالعبودية ، فاستحقّ الطرد من ساحته.

[٢ / ٨٠٣٠] وعن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبني سلمة : «يا بني سلمة من سيّدكم؟ قالوا : يا رسول الله سيّدنا رجل فيه بخل. فقال رسول الله : وأيّ داء أدوى من البخل! ثمّ قال : بل سيّدكم الأبيض الجسد ، البراء بن معرور» (٢).

[٢ / ٨٠٣١] وعن أحمد بن سليمان ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : «البخيل من بخل بما افترض الله عليه».

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٨ ـ ٤٤.

(٢) البراء خزرجيّ وهو من الصحابة الأوّلين من الأنصار الّذين بايعوا رسول الله البيعة الأولى بالعقبة. وهو أوّل من بايع ، في قول ابن إسحاق. وأوّل من استقبل القبلة ، وأوّل من أوصى بثلث ماله ، وهو أحد النقباء.

٤٦٢

[٢ / ٨٠٣٢] وعن مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما محق الإسلام شيء محق الشحّ! ثمّ قال : إنّ لهذا الشحّ دبيبا كدبيب النمل وشعبا كشعب الشّرك ـ وفي نسخة أخرى : الشوك (١) ـ».

[٢ / ٨٠٣٣] وعن أبي جميلة عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس بالبخيل الّذي يؤدّي الزكاة المفروضة في ماله ويعطي البائنة في قومه» (٢).

[٢ / ٨٠٣٤] وعن الفضل بن أبي قرّة ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «تدري ما الشحيح؟ قلت : هو البخيل ، قال : الشحّ أشدّ من البخل ، إنّ البخيل يبخل بما في يده والشحيح يشحّ على ما في أيدي الناس وعلى ما في يديه حتّى لا يرى ممّا في أيدي الناس شيئا إلّا تمنّى أن يكون له بالحلّ والحرام ، ولا يقنع بما رزقه الله».

[٢ / ٨٠٣٥] وعن المفضّل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس البخيل من أدّى الزكاة المفروضة من ماله وأعطى البائنة في قومه ، إنّما البخيل حقّ البخيل من لم يؤدّ الزكاة المفروضة من ماله ولم يعط البائنة في قومه وهو يبذّر فيما سوى ذلك» (٣).

[٢ / ٨٠٣٦] وروى الصدوق بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ البخيل من كسب مالا من غير حلّه وأنفقه في غير حقّه» (٤).

[٢ / ٨٠٣٧] وعن زرارة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّما الشحيح من منع حقّ الله وأنفق في غير حقّ الله ـ عزوجل ـ» (٥).

[٢ / ٨٠٣٨] وبإسناده عن الحارث الأعور قال : فيما سأل علي ـ صلوات الله عليه ـ ابنه الحسن عليه‌السلام أن قال له : ما الشحيح؟ فقال : «أن ترى ما في يدك شرفا وما أنفقت تلفا» (٦).

__________________

(١) الدبيب : المشي اللين والسير الخفيف. والشرك ـ محرّكة ـ : حبائل الصيد. والشوك من الشجر معروف.

(٢) البائنة : العطيّة ، سمّيت بها لأنّها أبينت من المال. وفي النهاية في حديث نحلة النعمان : «هل أبنت كلّ واحد منهم مثل الّذي أبنت هذا» أي هل أعطيتهم مثله مالا تبينه به أي تفرده ، والاسم البائنة ، يقال : طلب فلان البائنة إلى أبوية أو إلى أحدهما ولا يكون من غيرهما.

(٣) الكافي ٤ : ٤٤ ـ ٤٦.

(٤) معاني الأخبار : ٢٤٥ / ٢.

(٥) المصدر ٦ : ٢٤٦ / ٦.

(٦) المصدر ٣ : ٢٤٥ / ٣.

٤٦٣

نوادر أحاديث بشأن الصدقة

[٢ / ٨٠٣٩] وروى أبو جعفر الكليني بإسناده عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «يأتي على الناس زمان من سأل الناس عاش ، ومن سكت مات. قلت : فما أصنع إن أدركت ذلك الزمان؟ قال : تعينهم بما عندك ، فإن لم تجد فتجاهد».

[٢ / ٨٠٤٠] وعن عبد الأعلى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفضل الصدقة صدقة عن ظهر غنى».

[٢ / ٨٠٤١] وعن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفضل الصدقة صدقة تكون عن فضل الكفّ».

[٢ / ٨٠٤٢] وقال أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ)(١) : «هو الزّمن الّذي لا يستطيع أن يخرج لزمانته».

[٢ / ٨٠٤٣] وعن سعد بن طريف عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) : «بأنّ الله تعالى يعطي بالواحدة عشرة إلى مئة ألف فما زاد (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) ، قال : لا يريد العبد شيئا من الخير إلّا يسّره الله له. (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) قال : بخل بما آتاه الله ـ عزوجل ـ (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) بأنّ الله يعطي بالواحدة عشرة إلى مئة ألف فما زاد (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) : لا يريد شيئا من الشرّ إلّا يسّره له (٢)(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى)(٣) قال : أما والله ما هو تردّى في بئر ولا من جبل ولا من حائط ، ولكن تردّى في نار جهنّم».

[٢ / ٨٠٤٤] وعن زرارة عن سالم بن أبي حفصة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول : ما من شيء إلّا وقد وكّلت به من يقبضه غيري ، إلّا الصدقة فإنّي أتلقّفها بيدي تلقّفا حتّى إنّ الرجل ليتصدّق بالتمرة أو بشقّ تمرة فأربّيها له كما يربّي الرجل فلوه وفصيله فيأتي يوم القيامة وهو مثل أحد وأعظم من أحد».

[٢ / ٨٠٤٥] وعن عبد الرحمان العزرميّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «جاء رجل إلى الحسن

__________________

(١) الحج ٢٢ : ٢٨. والبائس : الّذي أصابه البؤس أي الشدّة. والفقير : المحتاج.

(٢) وهذا من الاستدراج بشأن من اتّخذ آيات الله هزوا.

(٣) الليل ٩٢ : ٥ ـ ١١.

٤٦٤

والحسين عليهما‌السلام وهما جالسان على الصفا فسألهما (١) فقالا : إنّ الصدقة لا تحلّ إلّا في دين موجع أو غرم مفظع أو فقر مدقع (٢) ففيك شيء من هذا؟ قال : نعم! فأعطياه ، وقد كان الرجل سأل عبد الله بن عمر وعبد الرحمان بن أبي بكر فأعطياه ولم يسألاه عن شيء. فرجع إليهما ، فقال لهما : ما لكما لم تسألاني عمّا سألني عنه الحسن والحسين عليهما‌السلام؟ وأخبرهما بما قالا ، فقالا : إنّهما غذيّا بالعلم غذاء».

[٢ / ٨٠٤٦] وعن مسمع عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسألوا أمّتي في مجالسها فتبخّلوها (٣)».

[٢ / ٨٠٤٧] وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ)(٤) قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر بالنخل أن يزكّى يجيء قوم بألوان من تمر ، ومن أردأ تمر يؤدّونه من زكاتهم ، تمر يقال له : الجعرور والمعافارة ، قليلة اللحى ، عظيمة النوى ، وكان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيّد! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تخرصوا هاتين التمرتين ، ولا تجيئوا منها بشيء ، وفي ذلك نزل : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) والإغماض أن تأخذ هاتين التمرتين!».

[٢ / ٨٠٤٨] وفي رواية أخرى عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) فقال : «كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهليّة ، فلمّا أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدّقوا بها ، فأبى الله ـ تبارك وتعالى ـ إلّا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا».

[٢ / ٨٠٤٩] وعن مسمع بن عبد الملك ، قال : «كنّا عند أبي عبد الله عليه‌السلام بمنى وبين أيدينا عنب نأكله ، فجاء سائل فسأله فأمر بعنقود فأعطاه ، فقال السائل : لا حاجة لي في هذا ، إن كان درهم. قال : يسع الله عليك ، فذهب ثمّ رجع فقال : ردّوا العنقود. فقال : يسع الله لك ولم يعطه شيئا ، ثمّ جاء

__________________

(١) أي طلب منهما المعونة.

(٢) قال ابن الأثير : في الحديث : «لا تحلّ المسألة إلّا لذي غرم مفظع» أي حاجة لازمة ، من غرامة مثقلة. والمدقع : الملصق بالتراب ، وجوع مدقع أي جوع شديد.

(٣) أي تنسبوها إلى البخل.

(٤) البقرة ٢ : ٢٦٧.

٤٦٥

سائل آخر فأخذ أبو عبد الله عليه‌السلام ثلاث حبّات عنب فناولها إيّاه ، فأخذ السائل من يده ثمّ قال : الحمد لله ربّ العالمين الّذي رزقني. فقال أبو عبد الله : مكانك ، فحشا ملء كفّيه عنبا فناولها إيّاه ، فأخذها السائل من يده ثمّ قال : الحمد لله ربّ العالمين. فقال أبو عبد الله : مكانك ، يا غلام! أيّ شيء معك من الدراهم؟ فإذا معه نحو من عشرين درهما ـ فيما حزرناه ـ فناولها إيّاه ، فأخذها ، ثمّ قال : الحمد لله هذا منك وحدك لا شريك لك ، فقال أبو عبد الله : مكانك ، فخلع قميصا كان عليه فقال : البس هذا ، فلبسه. ثمّ قال : الحمد لله الّذي كساني وسترني يا أبا عبد الله ـ أو قال : جزاك الله خيرا لم يدع لأبي عبد الله إلّا بذا ـ ثمّ انصرف فذهب ، قال : فظننّا أنّه لو لم يدع له لم يزل يعطيه ، لأنّه كلّما كان يعطيه حمد الله أعطاه».

[٢ / ٨٠٥٠] وعن حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا ضاق أحدكم فليعلم أخاه ولا يعن على نفسه».

[٢ / ٨٠٥١] وعن محمّد بن عليّ ، عن معمر رفعه قال : قال أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ في بعض خطبه : «إنّ أفضل الفعال صيانة العرض بالمال».

[٢ / ٨٠٥٢] وعن جميل بن درّاج عن زرارة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «ثلاثة إن يعلمهنّ المؤمن كانت زيادة في عمره وبقاء النعمة عليه. قلت : وما هنّ؟ قال : تطويله في ركوعه وسجوده في صلاته ، وتطويله لجلوسه على طعامه إذا أطعم على مائدته ، واصطناعه المعروف إلى أهله».

[٢ / ٨٠٥٣] وعن عثمان بن عيسى عن سماعة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام قلت : قوم عندهم فضول ، وبإخوانهم حاجة شديدة ، وليس تسعهم الزكاة ، أيسعهم أن يشبعوا ويجوع إخوانهم ، فإنّ الزمان شديد؟ فقال : «المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحرمه ، فيحقّ على المسلمين الاجتهاد فيه ، والتواصل والتعاون عليه ، والمواساة لأهل الحاجة ، والعطف منكم ، يكونون على ما أمر الله فيهم : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)(١) متراحمين» (٢).

فضل إطعام الطعام

[٢ / ٨٠٥٤] وبإسناده عن موسى بن بكر عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «من موجبات مغفرة الله ، إطعام الطعام».

__________________

(١) الفتح ٤٨ : ٢٩.

(٢) الكافي ٤ : ٤٦ ـ ٥٠.

٤٦٦

[٢ / ٨٠٥٥] وعن حمّاد بن عثمان ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «من الإيمان حسن الخلق وإطعام الطعام».

[٢ / ٨٠٥٦] وعن عبد الله بن القاسم الجعفريّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خيركم ، من أطعم الطعام وأفشى السّلام ، وصلّى والناس نيام».

[٢ / ٨٠٥٧] وعن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان عليّ عليه‌السلام يقول : «إنّا أهل بيت أمرنا أن نطعم الطعام ونؤدّي في الناس البائنة ونصلّي إذا نام الناس».

[٢ / ٨٠٥٨] وعن فيض بن المختار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المنجيات ؛ إطعام الطعام ، وإفشاء السّلام ، والصلاة بالليل والناس نيام».

[٢ / ٨٠٥٩] وعن عليّ بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ الله يحبّ إهراق الدماء (١) وإطعام الطعام».

[٢ / ٨٠٦٠] وعن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من أحبّ الأعمال إلى الله إشباع جوعة المؤمن ، أو تنفيس كربته ، أو قضاء دينه».

[٢ / ٨٠٦١] وعن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ الله يحبّ إطعام الطعام وإراقة الدماء».

[٢ / ٨٠٦٢] وعن عبد الله بن ميمون عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الرزق أسرع إلى من يطعم الطعام من السكّين في السنام».

[٢ / ٨٠٦٣] وعن عبد الله بن المغيرة عن موسى بن بكر عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من موجبات مغفرة الربّ إطعام الطعام».

[٢ / ٨٠٦٤] وعن معمّر بن خلّاد ، قال : «كان أبو الحسن الرضا عليه‌السلام إذا أكل ، أتي بصحفة (٢) فتوضع بقرب مائدته ، فيعمد إلى أطيب الطعام ممّا يؤتى به ، فيأخذ من كلّ شيء شيئا فيضع في تلك الصحفة ، ثمّ يأمر بها للمساكين ، ثمّ يتلو هذه الآية : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)(٣) ثمّ يقول : علم الله ـ عزوجل ـ أنّه ليس كلّ إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنّة» (٤).

__________________

(١) كناية عن الذبائح.

(٢) الصحفة : قصعة كبيرة منبسطة.

(٣) البلد ٩٠ : ١١.

(٤) الكافي ٤ : ٥٠ ـ ٥٢.

٤٦٧

فضل القصد في الإنفاق

[٢ / ٨٠٦٥] وبإسناده عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال عليّ بن الحسين ـ صلوات الله عليهما ـ : «لينفق الرجل بالقصد وبلغة الكفاف ، ويقدّم منه فضلا لآخرته ، فإنّ ذلك أبقى للنعمة ، وأقرب إلى المزيد من الله ـ عزوجل ـ وأنفع في العاقبة».

[٢ / ٨٠٦٦] وعن داوود الرقيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ القصد أمر يحبّه الله ـ عزوجل ـ وإنّ السرف أمر يبغضه الله ، حتّى طرحك النواة ، فإنّها تصلح للشيء ، وحتّى صبّك فضل شرابك».

[٢ / ٨٠٦٧] وعن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)(١) قال : «العفو الوسط».

[٢ / ٨٠٦٨] وعن عليّ بن محمّد رفعه ، قال : قال أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ : «القصد مثراة والسرف متواة» (٢).

[٢ / ٨٠٦٩] وعن أبي حمزة عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاث منجيات ، فذكر الثالث القصد في الغنى والفقر» (٣).

[٢ / ٨٠٧٠] وعن مدرك بن أبي الهزهاز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «ضمنت لمن اقتصد أن لا يفتقر».

[٢ / ٨٠٧١] وعن يونس بن يعقوب عن حمّاد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لو أنّ رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبل الله ، ما كان أحسن ولا وفّق ، أليس يقول الله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٤) يعني المقتصدين».

[٢ / ٨٠٧٢] وعن مروك بن عبيد عن أبيه ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا عبيد! إنّ السرف يورث الفقر ، وإنّ القصد يورث الغنى».

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢١٩.

(٢) المثراة والمتواة ـ كلاهما بفتح الميم ـ اسما مكان من الثراء ، بمعنى الغنى. والتّوى ، بمعنى ضياع المال وتلفه ، وإن قرئا بكسر الميم فهما اسما آلة ، أي القصد سبب وموجب للمزيد من الثروة. والسرف موجب لضياع المال وتلفه.

(٣) يعني في كلّ بحسبه ، فإنّ القصد يختلف باختلاف مراتب الغنى والفقر.

(٤) البقرة ٢ : ١٩٥.

٤٦٨

[٢ / ٨٠٧٣] وعن موسى بن بكر ، قال : قال أبو الحسن عليه‌السلام : «ما عال امرؤ في اقتصاد». أي ما افتقر من أخذ القصد في معيشته.

[٢ / ٨٠٧٤] وعن إسحاق بن عبد العزيز عن بعض أصحابه أنّه قال لأبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّا نكون في طريق مكّة ، فنريد الإحرام فنطلي ولا تكون معنا نخالة نتدلّك بها من النورة ، فنتدلّك بالدقيق وقد دخلني من ذلك ما الله أعلم به! فقال : أمخافة الإسراف؟ قلت : نعم ، فقال : ليس فيما أصلح البدن إسراف ، إنّي ربّما أمرت بالنقي (١) فيلتّ بالزيت فأتدلّك به ، إنّما الإسراف فيما أفسد المال وأضرّ بالبدن ، قلت : فما الإقتار؟ قال : أكل الخبز والملح وأنت تقدر على غيره ، قلت : فما القصد؟ قال : الخبز واللحم واللبن والخلّ والسمن ، مرّة هذا ومرّة هذا».

[٢ / ٨٠٧٥] وعن مروك بن عبيد عن رفاعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا جاد الله عليكم فجودوا ، وإذا أمسك عنكم فأمسكوا ، ولا تجاودوا الله فهو الأجود» (٢).

[٢ / ٨٠٧٦] وعن محمّد بن عليّ الصيرفيّ عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من اقتصد في معيشته رزقه الله ، ومن بذّر حرمه الله».

[٢ / ٨٠٧٧] وعن موسى بن بكر ، قال : سمعت أبا الحسن موسى عليه‌السلام يقول : «الرفق نصف العيش ، وما عال امرؤ في اقتصاده» (٣).

كراهيّة السرف والتقتير

[٢ / ٨٠٧٨] وبإسناده عن عبد الملك بن عمرو الأحوال ، قال : «تلا أبو عبد الله عليه‌السلام هذه الآية : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)(٤) قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الّذي ذكره الله في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أخرى فأرخى كفّه كلّها ، ثمّ قال :

__________________

(١) النقي ـ بكسر النون ـ : المخ من العظام. والنقيّ ـ بفتح النون وتشديد الياء ـ : الدقيق المنخول ، ولعلّ هذا المعنى أشبه. وقوله «فيلتّ» أي يخلط.

(٢) يعني لا تتكلّفوا الجود على الله ، فإنّه أعلم بكم وبما يصلحكم ، فمنعه عنكم جود منه فوق جودكم.

(٣) الكافي ٤ : ٥٢ ـ ٥٤.

(٤) الفرقان ٢٥ : ٦٧. والإقتار : التضييق. والقوام ـ بفتح القاف ـ : حالة وسطى.

٤٦٩

هذا الإسراف ، ثمّ قبض قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها ، وقال : هذا القوام».

[٢ / ٨٠٧٩] وعن عبد الله بن أبان ، قال : سألت أبا الحسن الأوّل عليه‌السلام عن النفقة على العيال؟ فقال : «ما بين المكروهين : الإسراف والإقتار».

[٢ / ٨٠٨٠] وعن ابن أبي يعفور ويوسف بن عمارة ، قالا : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ مع الإسراف قلّة البركة».

[٢ / ٨٠٨١] وعن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ربّ فقير هو أسرف من الغنيّ ، إنّ الغنيّ ينفق ممّا أوتي ، والفقير ينفق من غير ما أوتي».

[٢ / ٨٠٨٢] وعن هشام بن المثنّى ، قال : «سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله ـ عزوجل ـ : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(١) فقال : كان فلان الأنصاريّ ـ سمّاه ـ وكان له حرث ، وكان إذا أخذ يتصدّق به ويبقى هو وعياله بغير شيء ، فجعل الله ـ عزوجل ـ ذلك سرفا».

[٢ / ٨٠٨٣] وعن موسى بن بكر عن عجلان ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فجاء سائل ، فقام إلى مكتل (٢) فيه تمر فملأ يده فناوله ، ثم جاء آخر فسأله فقام فأخذ بيده فناوله ، ثمّ جاء ثالث فسأله فقام فأخذ بيده فناوله ، ثمّ جاء رابع فسأله فقام فأخذ بيده فناوله ، ثمّ جاء خامس فقال : الله رازقنا وإيّاك! ثمّ قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئا إلّا أعطاه ، فأرسلت إليه امرأة ابنا لها ، فقالت : انطلق إليه فاسأله ، فإن قال لك : ليس عندنا شيء فقل : اعطني قميصك. قال : فأخذ النبيّ قميصه فرمى به إلى الولد. وفي نسخة أخرى فأعطاه فأدّبه الله ـ تبارك وتعالى ـ على القصد فقال : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)(٣)».

[٢ / ٨٠٨٤] وعن محمّد بن سنان عن أبي الحسن عليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)(٤) قال : القوام هو المعروف. (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)(٥) على قدر عياله ومؤونتهم الّتي هي صلاح له ولهم

__________________

(١) الأنعام ٦ : ١٤١.

(٢) المكتل : زنبيل من خوص.

(٣) الإسراء ١٧ : ٢٩.

(٤) الفرقان ٢٥ : ٦٧.

(٥) البقرة ٢ : ٢٣٦.

٤٧٠

و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(١).

[٢ / ٨٠٨٥] وعن سليمان بن صالح ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أدنى ما يجيء من حدّ الإسراف؟ فقال : «إبذالك ثوب صونك ، وإهراقك فضل إنائك ، وأكلك التمر ورميك النوى ، ها هنا وها هنا!» (٢).

فضل سقي الماء

[٢ / ٨٠٨٦] وبإسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ : «أوّل ما يبدأ به في الآخرة صدقة الماء ـ يعني في الأجر ـ».

[٢ / ٨٠٨٧] وعن مسمع ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أفضل الصدقة إبراد كبد حرّى».

[٨٠٨٨ / ١] وعن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء ، كان كمن أعتق رقبة ، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء ، كان كمن أحيا نفسا ، ومن أحيا نفسا فكأنّما أحيا الناس جميعا».

[٢ / ٨٠٨٩] وعن عليّ بن حديد عن مرازم عن مصادف ، قال : «كنت مع أبي عبد الله عليه‌السلام بين مكّة والمدينة ، فمررنا على رجل في أصل شجرة وقد ألقى بنفسه ، فقال : مل بنا إلى هذا الرجل ، فإنّي أخاف أن يكون قد أصابه عطش ، فملنا فإذا رجل من الفراسين (٣) طويل الشعر ، فسأله أعطشان أنت؟ قال : نعم. فقال لي : انزل يا مصادف فاسقه ، فنزلت وسقيته ، ثمّ ركبت وسرنا ، فقلت : هذا نصرانيّ فتتصدّق على نصرانيّ؟ فقال : نعم ، إذا كانوا في مثل هذا الحال».

[٢ / ٨٠٩٠] وعن يحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن جدّه عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : علّمني عملا أدخل به الجنّة. فقال : أطعم الطعام وأفش السّلام. فقال : لا أطيق ذلك. قال : فهل لك إبل؟ قال : نعم. قال : فانظر بعيرا واسق عليه أهل بيت لا يشربون الماء

__________________

(١) الطلاق ٦٥ : ٧.

(٢) الكافي ٤ : ٥٤ ـ ٥٦.

(٣) الفراسين ـ كدنانير ـ جمع لفرسان ، الّذي هو جمع لفارس. فيكون جمع الجمع. ويظهر من الخبر أنّ الفراسين اسم لقبيلة متنصّرة.

٤٧١

إلّا غبّا (١) فلعلّه لا ينفق بعيرك (٢) ولا ينخرق سقاؤك ، حتّى تجب لك الجنّة». أي ربما وجبت لك الجنّة قبل أن يهلك بعيرك وتتمزّق قربتك.

[٢ / ٨٠٩١] وعن ضريس بن عبد الملك عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ الله يحبّ إبراد الكبد الحرّى ، ومن سقى كبدا حرّى ، من بهيمة أو غيرها ، أظلّه الله يوم لا ظلّ إلّا ظلّه» (٣).

***

وهناك أحاديث غرر بشأن السؤال عن ظهر غنى ، وهي كثيرة نذكر منها :

[٢ / ٨٠٩٢] ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من سأل وهو غنيّ عن المسألة ، يحشر يوم القيامة وهي خموش في وجهه» (٤).

قال ابن الأثير : في الحديث : «من سأل وهو غنيّ جاءت مسألته يوم القيامة خموشا في وجهه» أي خدوشا. يقال : خمشت المرأة وجهها تخمشه خمشا وخموشا (٥).

[٢ / ٨٠٩٣] وأخرج أحمد والبزّار والطبراني عن ثوبان عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من سأل مسألة وهو عنها غنيّ كانت شينا في وجهه يوم القيامة» (٦).

[٢ / ٨٠٩٤] وأخرج الطبراني عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو يعلم صاحب المسألة ما له فيها ، لم يسأل» (٧).

[٢ / ٨٠٩٥] وأخرج أحمد والترمذي وصحّحه وابن ماجة عن أبي كبشة الأنماري ، أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ثلاث أقسم عليهنّ وأحدّثكم حديثا فاحفظوه : ما نقص مال عبد من

__________________

(١) أي حينا دون حين.

(٢) أي لا يهلك.

(٣) الكافي ٤ : ٥٧ ـ ٥٨.

(٤) الدرّ ٢ : ٩٢ ـ ٩٣ ؛ الأوسط ٥ : ٣٣٢ / ٥٤٦٧ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ٩٦ ، قال الهيثمي : ورجاله موثّقون.

(٥) النهاية ٢ : ٧٩ ـ ٨٠.

(٦) الدرّ ٢ : ٩٢ ؛ مسند أحمد ٥ : ٢٨١ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ٩٦ ، قال الهيثمي : رواه أحمد والبزّار والطبراني في الكبير ورجال أحمد رجال الصحيح ؛ كنز العمّال ٦ : ٥٠٤ / ١٦٧٣٣.

(٧) الدرّ ٢ : ٩٢ ؛ الكبير ١٢ : ٨٥ / ١٢٦١٦ ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ٣ : ٩٨ / ٢ ، باب ١٢١ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ٩٣.

٤٧٢

صدقة ، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلّازاده الله بها عزّا ، ولا فتح عبد باب مسألة إلّا فتح الله عليه باب فقر. وأحدّثكم حديثا فاحفظوه : إنّما الدنيا لأربعة : عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتّقي فيه ربّه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقّا ، فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النيّة يقول : لو أنّ لي مالا لعملت بعمل فلان! فهو بنيّته ، فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم ، ولا يتّقي فيه ربّه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم فيه لله حقّا ، فهذا بأخبث المنازل. وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول : لو أنّ لي مالا لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيّته فوزرهما سواء» (١).

[٢ / ٨٠٩٦] وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم وابن ماجة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سأل الناس تكثّرا فإنّما يسأل جمرا ، فليستقلّ أو ليستكثر» (٢).

[٢ / ٨٠٩٧] وأخرج البزّار والطبراني والبيهقي عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك» (٣).

قال ابن الأثير : في الحديث : «إنّه كان يشوص فاه بالسواك» أي يدلك أسنانه وينقّيها. وقيل : هو أن يستاك من سفل إلى علو. وأصل الشوص : الغسل. ومنه الحديث : «استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك» أي بغسالته. وقيل : بما يتفتّت منه عند التّسوّك (٤).

[٢ / ٨٠٩٨] وأخرج ابن حبّان عن أبي ذرّ قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا ذرّ! أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت : نعم يا رسول الله! قال : أفترى قلّة المال هو الفقر؟ قلت : نعم يا رسول الله! قال : إنّما

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٩٢ ؛ مسند أحمد ٤ : ٢٣١ ؛ الترمذي ٣ : ٣٨٥ / ٢٤٢٧ ، باب ١٣ ؛ ابن ماجة ٢ : ١٤١٣ / ٤٢٢٨ ، باب ٢٦ ؛ كنز العمّال ٣ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧ / ٦١٨٩ ؛ القرطبي ٤ : ٢١٥ ، ذيل الآية ١٣٥ من سورة آل عمران ؛ القرطبي ٥ : ١٦٤ ، ذيل الآية ٣٢ من سورة النساء.

(٢) الدرّ ٢ : ٩٣ ؛ المصنّف ٣ : ٩٩ / ٦ ، باب ١٢١ ؛ مسلم ٣ : ٩٦ ، كتاب الزكاة ، وفيه : «من سأل الناس أموالهم» ؛ ابن ماجة ١ : ٥٨٩ / ١٨٣٨ ، باب ٢٦ ؛ مسند أحمد ٢ : ٢٣١ ؛ كنز العمّال ٦ : ٥٠٣ / ١٦٧٢٨ ؛ القرطبي ٣ : ٣٤٦.

(٣) الدرّ ٢ : ٩٥ ؛ مختصر زوائد مسند البزّار ١ : ٣٨١ ـ ٣٨٢ / ٦٢٤ ؛ الكبير ١١ : ٣٥١ / ١٢٢٥٧ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٢٧٤ / ٣٥٢٧ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ٩٣ ـ ٩٤ ، قال الهيثمي : رواه البزّار والطبراني في الكبير ورجاله ثقات ؛ كنز العمّال ٣ : ٤٠٣ / ٧١٥٦.

(٤) النهاية ٢ : ٥٠٩.

٤٧٣

الغنى غنى القلب ، والفقر فقر القلب» (١).

[٢ / ٨٠٩٩] وأخرج البخاري ومسلم وابن ماجة والترمذي وأحمد عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكنّ الغنى غنى النفس» (٢). والعرض : المتاع.

[٢ / ٨١٠٠] وأخرج البيهقي في الزهد عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «القناعة كنز لا يفنى» (٣).

[٢ / ٨١٠١] وأخرج أحمد والطبراني وأبو داوود والنسائي عن أبي سعيد الخدري : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من استغنى أغناه الله ، ومن استعفّ أعفّه الله ومن استكفى كفاه الله ، ومن سأل وله قيمة أو قيّة فقد ألحف» (٤)(٥).

قال ابن الأثير : كانت الأوقيّة قديما عبارة عن أربعين درهما. وهي في غير الحديث نصف سوس الرطل. قال : وربما يجيء في الحديث وقيّة ، وليست بالعالية (٦).

[٢ / ٨١٠٢] وأخرج البزّار عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله يحبّ الغنيّ الحليم المتعفّف ، ويبغض البذيّ الفاجر السائل الملحّ» (٧).

[٢ / ٨١٠٣] وأخرج أبو جعفر الصدوق عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٩٦ ؛ صحيح ابن حبّان ٢ : ٤٦٠ ـ ٤٦١ / ٦٨٥ ؛ الحاكم ٤ : ٣٢٧ ، كتاب الرقاق ؛ كنز العمّال ٣ : ٧٢٧ / ٨٥٩١.

(٢) الدرّ ٢ : ٩٦ ؛ البخاري ٧ : ١٧٨ ، كتاب الرقاق ، باب الغنى غنى النفس ؛ مسلم ٣ : ١٠٠ ، كتاب الزكاة ؛ ابن ماجة ٢ : ١٣٨٦ / ٤١٣٧ ، باب ٩ ؛ الترمذي ٤ : ١٥ / ٢٤٧٩ ، باب ٢٨ ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ؛ مسند أحمد ٢ : ٢٤٣ ؛ كنز العمّال ٣ : ٤٠٤ / ٧١٥٩ ، عن أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة.

(٣) الدرّ ٢ : ٩٦ ؛ كتاب الزهد الكبير ٢ : ٨٨ / ١٠٤.

(٤) الإلحاف : المبالغة في المسألة. يقال : ألحف في المسألة إذا ألحّ فيها ولزمها.

(٥) الدرّ ٢ : ٩٧ ؛ مسند أحمد ٣ : ٩ ؛ الأوسط ٣ : ١٨٦ / ٢٨٧٥ ؛ أبو داوود ١ : ٣٦٧ / ١٦٢٨ ، باب ٢٤ ، بخلاف في اللفظ ؛ النسائي ٢ : ٥٢ ـ ٥٣ / ٢٣٧٦ ، باب ٩٠ ؛ ابن كثير ١ : ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ؛ القرطبي ٣ : ٣٤٤.

(٦) النهاية ١ : ٨٠.

(٧) الدرّ ٢ : ٩٥ ؛ مختصر زوائد مسند البزّار ٢ : ٢١٨ ـ ٢١٩ / ١٧٣٥ ؛ مجمع الزوائد ٨ : ٧٦.

٤٧٤

«إنّ الله ـ عزوجل ـ يبغض الفاحش البذيّ السائل الملحف» (١).

[٢ / ٨١٠٤] وأخرج أبو جعفر الكليني عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله يبغض الفاحش البذيّ والسائل الملحف» (٢).

[٢ / ٨١٠٥] وأخرج الحسين بن سعيد الأهوازي عن جابر الجعفي عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله يحبّ الحيي الحليم الغنيّ المتعفّف. ألا وإنّ الله يبغض الفاحش البذيّ السائل الملحف» (٣).

[٢ / ٨١٠٦] وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : ذكر لنا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : «إنّ الله يحبّ الحليم الحيي الغنيّ المتعفّف ، ويبغض الفاحش البذيّ السائل الملحف» (٤).

[٢ / ٨١٠٧] وأخرج أبو إسحاق الثعلبي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله ـ عزوجل ـ يحبّ أن يرى أثر النعمة على عبده ، ويكره البؤس والتباؤس ، ويحبّ الحليم المتعفّف من عباده ، ويبغض الفاحش البذيّ السائل الملحف» (٥).

__________________

(١) الخصال : ٢٦٦ / ١٤٧ ، باب الأربعة ؛ البحار ٧٦ : ١١١ / ٣ ، باب ٨٣.

(٢) الكافي ٢ : ٣٢٥ / ١١ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب البذاء.

(٣) كتاب الزهد : ١٠ / ٢٠ ، باب ١ ؛ البحار ٧٦ : ١١٢ ـ ١١٣ / ١٣ ، باب ٨٣.

(٤) الدرّ ٢ : ٩١ ؛ الطبري ٣ : ١٣٧ / ٤٨٧٩.

(٥) الثعلبي ٢ : ٢٧٨ / ٢٠٠ ؛ مجمع البيان ٢ : ٢٠٣ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٩١ ؛ كنز العمّال ٦ : ٦٤٣ / ١٧١٩٢.

٤٧٥

قال تعالى :

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١))

وهذا هو الوجه المقابل للصدقة والإنفاق في سبيله تعالى ، فإن كان ذاك الوجه من التصرّف المالي ، بحسن سمته وجليل فائدته ، وجها لائحا صالحا ، فهذا الوجه من التصرّف هو الوجه الكالح الطالح ، وهو الربا. الصدقة عطاء وسماحة ، وطهارة وزكاة ، وتعاون وتكافل. والربا شحّ وقذارة ودنس وأثرة فرديّة مقيتة.

ولهذا عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيّب السمح الطاهر الجميل الودود.

عرضه عرضا منفّرا ، يكشف عمّا في عمليّة الربا من قبح وشناعة ، ومن جفاف في القلب وشرّ في السلوك وفساد في الأرض وهلاك للعباد.

نعم نظم الإسلام أهمّ أصول الحفاظ على مال الأمّة ، على نظام عادل ، لا الثريّ يستأثر بثراه الوفير ، ولا المعتاز يجتاح تحت نير العوز والافتقار.

٤٧٦

وقد جاءت هذه الأصول في هذا المقطع من الآيات ، فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول ، وهو تأسيس منبع ماليّ للأمّة به قوام أمرها ؛ يؤخذ من الأثرياء أخذا عدلا ، ويوزّع على الفقراء توزيعا عادلا. سواء أكان من المفروض على الأغنياء كالزكاة أو تطوّعا كالصدقة والقرض الحسن وما شابه. فأطنب في الحثّ عليه والترغيب في ثوابه ، بعد ذلك عطف الكلام إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم ، وهي المعاملة بالربا ، ربا الجاهليّة كانت تتضاعف أضعافا مضاعفة ، كان يتقاضى الدائن من المدين مالا زائدا على قدر الدين لأجل التأجيل ، فإذا حلّ الأجل زاد في الربا. وهكذا ، وربما بلغ بالمدين ما أسقطه عن الوجود سوى كونه ألعوبة في يد دائنه لإشباع نهمه ولا يشبع.

وهكذا كان يتلاعب المرابون بمقدّرات الأمّة وأكثرهم معتازون. ولا يدري المسكين أنّه بذاته ألعوبة في يد إبليس يتلاعب به في هواجس خبيثة سافلة إلى حدّ بعيد. (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ...).

(يَأْكُلُونَ) يبتلعون ابتلاع نهم حريص. وهذا استعارة وتمثيل لمن أخذ الشيء بحرص بالغ.

ومن ثمّ فهو متخبّط مختلط في أموره يضرب هنا وهناك ، لا يلوى على شيء.

وهكذا المعتاد على أخذ الربا متشوّش البال ومضطرب الحال ، كالّذي خلط عقله وساوس الشيطان ، فلا يكاد يستقرّ على أمر يسكن إليه أو ملجأ يركن لديه وهذا هو تصوير لحالتهم الفضيعة الفجيعة عليهم عند ما يحاولون القيام بأيّ أمر من أمورهم في الحياة ، كتائة لا يدري ما يريد ولا يشعر فيما يفعل ، ويخبط خبط عشواء.

[٢ / ٨١٠٨] قال قتادة : التخبّط هو التخبّل الّذي يتخبّله الشيطان من الجنون (١).

تخبّط المرائي في هذه النشأة قبل النشأة الأخرى

نعم تلك حالتهم الفضيعة في هذه الحياة ، فكيف بهم وعند البعث من القبور! لكن مضت معظم التفاسير على أنّ المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة ، هو القيام يوم البعث (٢). حتّى أنّه جاء في قراءة منسوبة إلى عبد الله بن مسعود : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ) [يوم القيامة](إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٤١ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٧٣ / ٣٥٢.

(٢) راجع : البيضاوي ١ : ٢٦٧ ، والمجمع ٢ : ٣٨٩.

٤٧٧

يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ)(١). وهي قراءة تفسيريّة طبعا.

[٢ / ٨١٠٩] وهكذا روي عن سعيد بن جبير ، قال : يعني لا يقومون يوم القيامة (٢).

[٢ / ٨١١٠] وعنه عن ابن عبّاس ، قال : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق (٣).

[٢ / ٨١١١] وعن قتادة : إنّ آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا (٤).

[٢ / ٨١١٢] وأخرج الطبراني عن عوف بن مالك ـ بسند ضعيف ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبّط ، وقرأ الآية» (٥).

ولكن هذه الصورة الفضيعة للمرابي ـ فيما نرى ـ واقعة بذاتها في حياة البشريّة في هذه الأرض أيضا ، حيث تدوخ المرابي مختلف الهواجس المزدحمة ، من غير أن يعلم المخرج منها بحال.

ثمّ إنّها تتّفق مع ما يتعقّبها من الإنذار بحرب من الله ورسوله. ونحن نرى أنّ هذه الحرب واقعة وقائمة الآن ومسلّطة على البشريّة الضالّة الّتي تتخبّط كالممسوس في عقابيل (٦) النظام الربوي (٧).

[٢ / ٨١١٣] قال القاضي عبد الحقّ ابن عطيّة : قال ابن عبّاس ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحّاك والسدّي وابن زيد : معنى قوله : (لا يَقُومُونَ) من قبورهم في البعث يوم القيامة. قال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنقه. وقالوا كلّهم : يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جميع المحشر.

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٤١ / ٤٨٩٠ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٤٤ / ٢٨٨٧ ؛ القرطبي ٣ : ٣٥٤ ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ٥ : ٢٣٥ / ١٢ باب ٢٥٥ ؛ فضائل القرآن لأبي عبيد : ١٦٧ / ٢١ ـ ٥٠ ؛ ابن كثير ١ : ٣٣٤ ؛ الدرّ ٢ : ١٠٤.

(٢) ابن أبي حاتم ٢ : ٥٤٤ / ٢٨٨٨.

(٣) المصدر / ٢٨٨٩. وزاد : وروي عن عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدّيّ والربيع بن أنس ومقاتل بن حيّان نحو ذلك. وكذا أخرج الطبري ٣ : ١٤١ ، عن ابن عبّاس.

(٤) الوسيط ١ : ٣٩٤.

(٥) الكبير ١٨ : ٦٠ / ١١٠ ؛ كنز العمّال ١٦ : ٢٤ / ٤٣٦٧٠ ؛ مجمع الزوائد ٤ : ١١٩ ، قال الهيثمي : فيه الحسين بن عبد الأوّل وهو ضعيف.

(٦) العقابيل : الآثار السيّئة الّتي تخلفها العلّة والعداوة والعشق. قال ابن الأثير : العقابيل ، بقايا المرض ونحوه.

(٧) ولسيّد قطب هنا بحث عريض عن الآثار السيئة الّتي تخلفها الأنظمة الربوية سواء في جاهليتها الأولى أو الحاضرة ، فراجع. (في ظلال القرآن ١ : ٤٧٥ ـ ٤٨٠).

٤٧٨

قال : ويقوّي هذا التأويل المجمع عليه ، أنّ في قراءة عبد الله بن مسعود : «لا يقومون» يوم القيامة «إلّا كما يقوم ...».

قال : وأمّا ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا ، بقيام المجنون [يدوخ في تصرّفاته] ؛ لأنّ الطمع والحرص الشديد يستفزّه (١) حتّى تضطرب أعضاؤه.

وهذا كما تقول لمسرع في مشيه ، مخلّط في هيئة حركاته ، إمّا من فزع أو نحوه : قد جنّ. وقد شبّه الأعشى ناقته في نشاطها ، بالجنون ؛ قال :

وتصبح من غبّ السّرى وكأنّما

ألمّ بها من طائف الجنّ أولق (٢)

قال : لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسّرين يضعّف هذا التأويل (٣).

قال الشيخ محمّد عبده : ما قاله ابن عطيّة أوّلا حسب الاستظهار من اللفظ ، هو المتبادر إلى جميع الأفهام. وأمّا ما ذهب إليه الجمهور فمستنده روايات ضعاف ، ولو لاها لما قال أحد بغير المتبادر الّذي استظهره ابن عطيّة من ألفاظ الآية.

قال : ولقد كان الوضّاعون يختلقون الروايات ، يتحرّون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن ، فيضعون له رواية يفسّرونه بها ، وقلّما يصحّ في التفسير شيء ، كما قال الإمام أحمد.

قال : وأمّا ما استظهره ابن عطيّة فهو الظاهر في نفسه ، فإنّ أولئك الّذين فتنهم المال واستعبدهم حتّى ضريت (٤) نفوسهم بجمعه وجعلوه مقصودا لذاته وتركوا ـ لأجل الكسب به ـ جميع موارد الكسب الطبيعي ، إنّ أولئك تخرج نفوسهم عن حدّ الاعتدال الّذي عليه أكثر الناس ، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلّبهم في أعمالهم ، كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة والمغرمين بالقمار ، يزيد فيهم النشاط [الهائج] والانهماك في أعمالهم ، حتّى تكون خفّة تعقّبها حركات غير منتظمة.

قال : وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبّط الممسوس ؛ حيث يضطرب ويخبط خبط عشواء.

قال : وبهذا يمكن الجمع بين هذا المعنى وما قاله الجمهور ؛ ذلك بأنّه إذا كان ما شنّع به على

__________________

(١) استفزّه : استخفّه واستدعاه ، جعله يضطرب. أزعجه ، أخرجه عن حدّ الاعتدال.

(٢) الأولق : الجنون أو مسّ منه. والطائف : الطارق ليلا وفي ظلام. أي مسّه طائف الجنّ.

(٣) المحرّر الوجيز ١ : ٣٧٢.

(٤) أي أولعت نفوسهم بذلك.

٤٧٩

المرابين من خروج حركاتهم عن النظام المألوف ، هو أثر اضطراب في نفوسهم وتغيّر أخلاقهم ، كان لا بدّ أن يبعثوا عليه ، فإنّ المرء يبعث على ما مات عليه ، لأنّه يموت على ما عاش عليه. وهناك تبدو صفات النفس الخسيسة في أقبح مظاهرها ، كما تتجلّى صفات النفس الزكيّة في أبهى مجاليها (١). الأمر الّذي عبّروا عنه بتجسّم الأعمال والصفات.

هل للجنّ أن يمسّ الإنسان في ذات نفسه؟

تلك كانت مزعومة العرب : أنّ المصروع الّذي يعبّر عنه بالممسوس ، إنّما يتخبّطه الشيطان ، أي إنّه يصرع بمسّ الشيطان له. وقد كان معروفا عند العرب وجاريا في كلامهم مجرى المثل. كما تقدّم في قول الأعشى ، يصف ناقته في نشاطها الهائج (٢).

قال البيضاوي في التشبيه الوارد في الآية : «وهو وارد على ما يزعمون أنّ الشيطان يخبط الإنسان فيصرع ، والخبط : ضرب على غير اتّساق ، كخبط العشواء. قال : وقوله : (مِنَ الْمَسِ) أي الجنون. وهذا أيضا من زعماتهم أنّ الجنّيّ يمسّه فيختلط عقله ، ولذلك قيل : جنّ الرجل» (٣).

وبعد فهل كان كلامه تعالى ـ هنا ـ مجاراة مع العرب وتوافقا معهم فيما زعموه؟

لكنّا نبّهنا ـ مسبقا عند الكلام عن الشبهات حول القرآن وردودها (٤) ـ أنّ مثل هذا التعبير مجاراة في الاستعمال محضا ، وأنّ المراد من المساس في الآية هو مسّ وساوسه الخبيثة المغرية ، الّتي هي عبارة عن استحواذه على عقليّة أهل المطامع ، ليتيه بهم الدرب ويجعلهم في السعي وراء مطامعهم يتخبّطون خبط عشواء ، وفي غياهب من تيه الضلال. وهذا يعني : استيلاء الشيطان على مشاعرهم ، فعموا وصمّوا (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ). (٥)(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٦).

يقول تعالى ـ بشأن من حاول اقتراف خطيئة عفوا وليس من دأبه ، بل من وساوس شيطانيّة خبيثة طارئة ، فيتذكّر ويؤوب إلى رشده ـ : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ

__________________

(١) المنار ٣ : ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) تقدّم عند نقل كلام ابن عطيّة.

(٣) البيضاوي ١ : ٢٦٧.

(٤) التمهيد ٧ : ٢١١ ـ ٢١٢.

(٥) الأنعام ٦ : ٧١.

(٦) المجادلة ٥٨ : ١٩.

٤٨٠