التفسير الأثري الجامع - ج ٦

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-07-4
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٥٩

[٢ / ٦٧٧٩] وأخرج الشافعي وعبد الرزّاق وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن عائشة قالت : جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : إنّي كنت عند رفاعة فطلّقني فبتّ طلاقي ، فتزوّجني عبد الرحمان بن الزبير وإنّ ما معه مثل هدبة الثوب (١) ، فتبسّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك؟» (٢).

[٢ / ٦٧٨٠] وأخرج مالك والشافعي وابن سعد والبيهقي عن الزبير بن عبد الرحمان بن الزبير : أنّ رفاعة بن سموأل القرظي طلّق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثا ، فنكحها عبد الرحمان بن الزبير ، فاعترض عنها (٣) فلم يستطع أن يمسّها ففارقها ، فأراد رفاعة أن ينكحها وهو زوجها الأوّل الّذي كان طلّقها ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنهاه أن يتزوّجها وقال : «لا تحلّ لك حتّى تذوق العسيلة» (٤).

[٢ / ٦٧٨١] وأخرج البزّار والطبراني والبيهقي من طريق الزبير بن عبد الرحمان بن الزبير عن أبيه : أنّ رفاعة بن سموأل طلّق امرأته ، فأتت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله قد تزوّجني عبد الرحمان وما معه إلّا مثل هذه ، وأومأت إلى هدبة من ثوبها ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرض عن كلامها ، ثمّ قال لها : «تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ ، لا ، حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك؟» (٥)

[٢ / ٦٧٨٢] وقال طاووس في قوله تعالى : (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) : إن ظنّا أنّ كلّ واحد منهما

__________________

(١) قال ابن الأثير : أرادت متاعه وأنّه رخو مثل طرف الثوب ، لا يغني عنها شيئا.

(٢) الأمّ ٥ : ٢٦٤ ؛ المصنّف لعبد الرزّاق ٦ : ٣٤٦ ـ ٣٤٧ / ١١١٣١ ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ٣ : ٣٧٧ / ١ ، باب ١٣٥ ؛ مسند أحمد ٦ : ٣٤ ؛ البخاري ٣ : ١٤٧ ؛ مسلم ٤ : ١٥٤ ؛ الترمذي ٢ : ٢٩٣ / ١١٢٧ ، باب ٢٥ ؛ النسائي ٣ : ٣٢٣ / ٥٥٣٤ ؛ ابن ماجة ١ : ٦٢١ ـ ٦٢٢ / ١٩٣٢ ؛ البيهقي ٧ : ٣٣٣ / ١٤٧٢٩ ؛ مجمع الزوائد ٤ : ٣٤٠ ، ثمّ قال : «رواه البزّار والطبراني ورجالهما ثقات ، وقد رواه مالك في الموطّأ مرسلا وهو هنا متّصل» ؛ الثعلبي ٢ : ١٧٦ ؛ الطبري ٢ : ٦٤٦ / ٣٨٦٣ ؛ الدرّ ١ : ٦٧٨.

(٣) قال ابن الأثير : أي أصابه عارض من مرض أو غيره ، منعه عن إتيانها.

(٤) الدرّ ١ : ٦٧٨ ؛ الموطّأ ٢ : ٥٣١ / ١٧ ؛ الأمّ ٥ : ٢٦٤ ؛ الطبقات ٨ : ٤٥٧ ـ ٤٥٨ ؛ البيهقي ٧ : ٣٧٥ / ١٤٩٧٤.

(٥) الدرّ ١ : ٦٧٨ ؛ الأوسط ٨ : ٢٨١ / ٨٦٤٠ ، عن عروة بن الزبير عن عائشة ؛ البيهقي ٧ : ٣٧٥ / ١٤٩٧٣.

٤١

يحسن عشرة صاحبه (١).

[٢ / ٦٧٨٣] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى : (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) يقول : إن ظنّا أنّ نكاحهما على غير دلسة (٢).

الدّلسة والدّلس : الظلمة ، ويكنّى عن الخديعة. ومنه التدليس : إخفاء عيب السلعة. والمراد به هنا : أن يكون نكاح المحلّل لا عن رغبة فيها ، بل للتوافق مع الزوج الأوّل على الأجر. وقد شبّه بالتّيس المستعار (٣) وهو الذكر من المعز يستعار لضرب الفحل في مقابلة الأجر لصاحبه ، وليس عن رغبة ذاتيّة من الفحل.

[٢ / ٦٧٨٤] وأخرج البيهقي عن سليمان بن يسار : أنّ عثمان بن عفّان رفع إليه رجل تزوّج امرأة ليحلّلها لزوجها ، ففرّق بينهما وقال : لا ترجع إليه إلّا نكاح رغبة غير دلسة (٤).

[٢ / ٦٧٨٥] وأخرج عبد الرزّاق عن ابن عبّاس : إنّ رجلا سأله فقال : إنّ عمّي طلّق امرأته ثلاثا؟ قال : إنّ عمّك عصى الله فأندمه ، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا. قال : كيف ترى في رجل يحلّها له؟ قال : من يخادع الله يخدعه! (٥)

[٢ / ٦٧٨٦] وأخرج ابن ماجة والحاكم وصحّحه والبيهقي عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا أخبركم بالتّيس المستعار؟ قالوا : بلى يا رسول الله من هو؟ قال : هو المحلّل ، لعن الله المحلّل والمحلّل له» (٦).

[٢ / ٦٧٨٧] وأخرج أحمد والترمذي وصحّحه والنسائي والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال :

__________________

(١) القرطبي ٣ : ١٥٣.

(٢) الدرّ ١ : ٦٨١ ؛ الطبري ٢ : ٦٤٩ / ٣٨٧٣ ، رواه بطريقين ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٢٣ / ٢٢٣٥ ؛ الثعلبي ٢ : ١٧٧ ؛ البغوي ١ : ٣٠٩ ؛ ابن كثير ١ : ٢٨٨.

(٣) كما في حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآتي.

(٤) الدرّ ١ : ٦٨٠ ؛ ابن كثير ١ : ٢٨٧ ، إلى قوله : «وقال : لا ترجع إليه ...» وزاد : «وكذا روي عن عليّ وابن عبّاس وغير واحد من الصحابة» ؛ البيهقي ٧ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩ / ١٣٩٧١ ؛ كنز العمّال ٩ : ٧٠٣ / ٢٨٠٥٠.

(٥) الدرّ ١ : ٦٨٠ ؛ المصنّف ٦ : ٢٦٦ / ١٠٧٧٩.

(٦) الدرّ ١ : ٦٨٠ ؛ ابن ماجة ١ : ٦٢٣ / ١٩٣٦ ؛ الحاكم ٢ : ١٩٨ ـ ١٩٩ ؛ البيهقي ٧ : ٢٠٨ ؛ كنز العمّال ٩ : ٧٠٦ / ٢٨٠٦٦ ؛ ابن كثير ١ : ٢٨٧ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٢٨١ ؛ الثعلبي ٢ : ١٧٧.

٤٢

لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحلّل والمحلّل له (١). وكذا عن عليّ عليه‌السلام.

[٢ / ٦٧٨٨] وأخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن المحلّل والمحلّل له» (٢).

[٢ / ٦٧٨٩] وأخرج ابن ماجة عن ابن عبّاس قال : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحلّل والمحلّل له» (٣).

[٢ / ٦٧٩٠] وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله المحلّل والمحلّل له» (٤).

***

[٢ / ٦٧٩١] وروى أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني بالإسناد إلى أبي عليّ الأشعري عن محمّد بن سالم ، وعليّ بن إبراهيم عن أبيه ، جميعا عن أحمد بن النضر ومحمّد بن يحيى ، عن محمّد بن أبي القاسم عن الحسين بن أبي قتادة ، جميعا عن عمرو بن شمر ، عن جابر الجعفي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعرض الخيل ، فمرّ بقبر أبي أحيحة (٥). فقال أبو بكر : لعن الله

__________________

(١) الدرّ ١ : ٦٨٠ ؛ مسند أحمد ١ : ٨٣ و ٤٤٨ ؛ الترمذي ٢ : ٢٩٤ / ١١٢٨ و ١١٢٩ ؛ النسائي ٣ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦ / ٥٥٣٦ ؛ البيهقي ٧ : ٢٠٧ ـ ٢٠٨ ؛ أبو داوود ١ : ٤٦١ / ٢٠٧٦ ؛ ابن ماجة ١ : ٦٢٢ / ١٩٣٥ ؛ كنز العمّال ٩ : ٦٥٧ / ٢٧٨٤٨ ؛ القرطبي ٣ : ١٤٩ ؛ ابن كثير ١ : ٢٨٦. بلفظ : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحلّل والمحلّل له وآكل الربا وموكله ، رواه أحمد ، والترمذي والنسائي». وزاد : «ثمّ قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح : قال : والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة ، منهم عمر وعثمان وابن عمر وهو قول الفقهاء من التابعين ، ويروى ذلك عن عليّ وابن مسعود وابن عبّاس».

(٢) الدرّ ١ : ٦٨٠ ؛ الترمذي ٢ : ٢٩٤ / ١١٢٨ ، وعن عدّة من الصحابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ البغوي ١ : ٣٠٩ / ٢٦٦.

(٣) الدرّ ١ : ٦٨٠ ؛ ابن ماجة ١ : ٦٢٢ / ١٩٣٤ ؛ ابن كثير ١ : ٢٨٧ ؛ كنز العمّال ٩ : ٧٠٥ / ٢٨٠٦٢.

(٤) الدرّ ١ : ٦٨٠ ؛ مسند أحمد ٢ : ٣٢٣ ؛ المصنّف ٣ : ٣٩٢ / ١٣ ؛ البيهقي ٧ : ٢٠٨ / ١٣٩٦٤ ؛ كنز العمّال ٤ : ١٩٥ / ١٠١٢٧ ؛ ابن كثير ١ : ٢٨٧.

(٥) هو سعيد بن العاص بن أميّة بن عبد شمس. كان من أشدّ الناس عداء للإسلام : ذكر الكلبي ـ في كتاب الأصنام : ٢٣ ـ أنّه مرض مرضه الّذي مات فيه ، فدخل عليه أبو لهب يعوده فوجده يبكي. فقال : ما يبكيك يا أبا أحيحة؟ أمن الموت تبكي ولا بدّ منه! قال : لا ، ولكنّي أخاف أن لا تعبد العزّى بعدي! قال أبو لهب : والله ما عبدت حياتك لأجلك ، ولا تترك عبادتها

٤٣

صاحب هذا القبر ، فو الله إن كان ليصدّ عن سبيل الله ويكذّب رسول الله ، فقال خالد ابنه (١) : بل لعن الله أبا قحافة ، فو الله ما كان يقري الضيف ولا يقاتل العدوّ ، فلعن الله أهونهما على العشيرة فقدا.

ولمّا سمع رسول الله شجار ما بينهما ، ألقى خطام راحلته على غاربها (٢) ثمّ قال : «إذا أنتم تناولتم المشركين فعمّوا ولا تخصّوا (٣) فيغضب ولده.

ثمّ وقف فعرضت عليه الخيل ، فمرّ به فرس فقال عيينة بن حصن (٤) : إنّ من أمر هذا الفرس كيت وكيت! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذرنا ، فأنا أعلم بالخيل منك! فقال عيينه : وأنا أعلم بالرجال منك! فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى ظهر الدم في وجهه ، فقال له : فأيّ الرجال أفضل؟ قال عيينة : رجال يكونون بنجد ، يضعون سيوفهم على عواتقهم ورماحهم على كواثب خيلهم (٥) ، ثمّ يضربون بها قدما قدما (٦).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كذبت ، بل رجال أهل اليمن أفضل ، الإيمان يمانيّ والحكمة يمانيّة ، ولو لا الهجرة لكنت امرءا من أهل اليمن.

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الجفاء والقسوة في الفدّادين أصحاب الوبر (٧) ثمّ جعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعدّد قبائل عربيّة

__________________

ـ بعدك لموتك! فقال أبو أحيحة : الآن علمت أنّ لي خليفة. وأعجبه شدّة نصبه في عبادتها! راجع : هامش السيرة لابن هشام ١ : ٨٦. ويبدو أنّ استعراض الخيل حينذاك كان بعد الفتح بخارج مكّة ، حيث قبر أبي أحيحة بها.

(١) أي ابن أبي أحيحة وهو خالد بن سعيد بن العاص بن أميّة ؛ كان من السابقين الأوّلين ، قيل : كان رابعا أو خامسا ، لرؤيا رآه فلمّا أصبح أتى النبيّ وأسلم على يديه. فبلغ ذلك أباه فعاتبه ومنعه القوت ومنع إخوته من الكلام معه. فتغيّب خالد حتّى خرج بعد ذلك إلى الحبشة ، واستعمله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صدقات مذحج ، واستشهد يوم أجنادين سنة ١٣. (الإصابة ١ : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ / ٢١٦٧. والاستيعاب بهامش الإصابة ١ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠).

(٢) الخطام : حبل يجعل في عنق البعير ويثنى في خطمه وهو مقدّم أنفه. والغارب : الكاهل وهو أعلى الظهر. أو ما بين السنام والعنق في البعير.

(٣) أي اذكروهم بصيغة عامّة ولا تخصّوا أحدا منهم بالذكر.

(٤) كان اسمه حذيفة فلقّب عيينة لأنّه كان أصابته شجّة فجحظت عيناه. كان من المؤلّفة ولم يصحّ له رواية وكان فيه جفاء سكّان البوادي وله ردّة وأوبة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جفاء عارم. وقضاياه في ذلك معروفة. الإصابة ٣ : ٥٤ ـ ٥٥ / ٦١٥١.

(٥) الكاثبة من الفرس : أعلا ظهره.

(٦) يقصد قومه أعراب نجد ، يصفهم بالنجدة والشجاعة.

(٧) الفدّادون : أصحاب المواشي والجمال ، الرحّل. لأنّهم في سياقتهم للمواشي والأحشام تعلو أصواتهم هياجا بها ، وفدّ

٤٤

قاسية جافية ، ولعن ملوكهم الأربعة ، وأخيرا لعن «المحلّل والمحلّل له» ومن يوالي غير مواليه (أي ينتسب غير نسبه) ومن ادّعى نسبا لا يعرف ، والمتشبّهين من الرجال بالنساء والمتشبّهات من النساء بالرجال. (ولعلّه كان شائعا آنذاك لدى أبناء الجاهليّة).

ولعن من أحدث في الإسلام أو آوى محدثا ، (الأمر الّذي وقع إثر وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه.

ولعن من لعن أبويه. قيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهل يلعن أحد أبويه؟ فقال : نعم ؛ يلعن آباء الناس وأمّهاتهم ، فيلعنون أبويه ...» إلى آخر الحديث (١).

قال العلّامة المجلسيّ ـ في الشرح ـ نقلا عن ابن الأثير : ومعنى لعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحلّل والمحلّل له ، هو أن يطلّق ثلاثا فيتزوّجها آخر على شريطة أن يطلّقها بعد. وعن الطيبي ـ في شرح المشكاة : وإنّما لعن ، لأنّه هتك مروّة وقلّة حميّة وخسّة نفس. وهو بالنسبة إلى المحلّل له ظاهر. وأمّا المحلّل فإنّه كالتيس يعير نفسه بالوطئ لغرض يعود إلى الغير.

قال المجلسيّ : مع الاشتراط ذهب أكثر الفقهاء من سائر المذاهب إلى بطلان النكاح (نكاح المحلّل). وأوّلوا التحليل إلى قصده ؛ قال : ولا يبعد القول بالبطلان على أصول أصحابنا أيضا.

قال : ويمكن أن يؤوّل الخبر إلى وجهين آخرين : أحدهما أن يكون إشارة إلى تحليل القتال في الأشهر الحرم ، للنسيء ـ كما هو معروف ـ وقال الزمخشري : كان جنادة بن عوف الكنانيّ مطاعا في الجاهليّة ، وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلا صوته : إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرّم فأحلّوه ، ثمّ يقوم في القابل فيقول : إنّ آلهتكم قد حرّمت عليكم المحرّم فحرّموه. قال : وثاني الوجهين : أن يكون المراد مطلق تحليل ما حرّم الله (٢).

قلت : ولعلّ هذين الوجهين أولى من الوجه المعروف ، وذلك نظرا لموقعيّة كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينذاك في ملأ من المسلمين ومن واكبهم من قريش والمؤلّفة ، إذ لا مناسبة لإرادة محلّل النكاح؟!

__________________

ـ الرجل : اشتدّ وغلظ صوته. وأصحاب الوبر هم : الرحّل الّذين يعيشون تحت الخيام وهي من الوبر وهو من الإبل كالصوف للغنم. وهذا كناية وتشنيع بعيينة بن حصن ، حيث مفاخره بقومه أصحاب البادية.

(١) الكافي ٨ : ٦٩ ـ ٧٢ ، ضمن ٢٧.

(٢) البحار ٢٢ : ١٣٦ ـ ١٣٩ / ١٢٠.

٤٥

قال تعالى :

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢))

وهنا يأتي دور توجيه الأزواج ، توجيههم إلى المعروف واليسر والحسنى ، بعد الطلاق كما هو الأمر قبل الطلاق ؛ إنّ المعروف والجميل والحسنى يجب أن تسود جوّ هذه الحياة ، سواء اتّصلت حبالها أو انفصمت عراها ، ولا يجوز أن تكون نيّة الإيذاء والإعنات عنصرا من عناصرها ، ولا يحقّق هذا المستوى الرفيع من السماحة في حالة الانفصال بالخصوص إلّا إذا ترفّعت النفوس عن الإحن والضغن ، الأمر الّذي يحقّقه عنصر الإيمان بالله والعقيدة بيوم الجزاء.

قال تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) والمقصود من بلوغ الأجل هنا هو قرب انتهاء العدّة الّتي قرّرها في آية سابقة ، فإذا قرب الأجل فإمّا رجعة عن نيّة صادقة إمساكا بمعروف. وإمّا تركها ، حتّى ينقضي الأجل فتبين وتختار لنفسها ما شاءت ، وهذا هو التسريح بإحسان. بلا إيذاء ولا طلب فداء ، وبدون عضل ، وهو المضايقة والممانعة ، بأنحاء الدسائس الخبيثة. وقد كانت شائعة في العصر الجاهليّ ، وربّما تلبّس بها بعض المسلمين في عصرهم الأوّل ، وقد مرّ بعض الحديث عنه.

ومن ثمّ قال : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) أي الرجعة لغرض الإضرار وعن قصد سوء. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) إذ عاكس حظّه وناقض فطرته ، ظلم نفسه بإيرادها مورد المعصية والجموح بها عن طريق الطاعة ، فضلا عن العدوان بالآخرين.

٤٦

وآيات الله الّتي بيّنها في العشرة والفراق ، لائحة مستقيمة جادّة ، تهدف إلى تنظيم هذه الحياة وإقامتها على الجدّ والصدق ، فإذا هو استغلّها بصدد إلحاق الأذى بالمرأة والإضرار بها ، متلاعبا بالرخص الّتي جعلها الله منتفسا وصمام أمن ، واستخدم حقّ الرجعة الّذي جعله الله فرصة لاستعادة الحياة الزوجيّة وإصلاحها ، وها هو استخدمها في إمساك المرأة لايذائها وإشقائها ، وإذا فعل شيئا من ذلك فقد اتّخذ آيات الله هزوا وذلك كالّذي نراه اليوم في مجتمعنا من يدّعي الإسلام ، ويستخدم الرخص الفقهيّة وسيلة للتحايل والإيذاء والإفساد.

قال تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فإنّها جادّة واضحة المفاد لا تحتمل التباسا ولا تقبل مداهنة أو مداعبة ، وهذا تهديد بالمستخفّ بالدين ، عقّبه بتذكير نعم الله على عباده في هديهم إلى سبل الرشاد في الحياة : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ) هي شرائع الله (وَالْحِكْمَةِ) هي بصائر في الدين (يَعِظُكُمْ بِهِ) ويرشدكم إلى الصراط المستقيم.

وعليه (وَاتَّقُوا اللهَ) حافظوا على أنفسكم في رعاية الله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) من خبايا أسراركم ومن مصالحكم عمّا يفسد عليكم الحياة.

وهنا ستجيش شعور الخوف والحذر ، بعد شعور الحياء والشكر لنعم الله ، ليرعووا وينصاعوا لصراحة الحقّ اليقين.

قوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً)

[٢ / ٦٧٩٢] أخرج عبد الرزّاق عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من طلّق وهو لاعب فطلاقه جائز ، ومن أعتق وهو لاعب فعتاقه جائز ، ومن أنكح وهو لاعب فنكاحه جائز» (١).

[٢ / ٦٧٩٣] وأخرج أبو داوود والترمذي وحسّنه وابن ماجة والحاكم وصحّحه والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ : النكاح والطلاق والرجعة» (٢).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٦٨٤ ؛ المصنّف ٦ : ١٣٤ ـ ١٣٥ / ١٠٢٤٩.

(٢) الدرّ ١ : ٦٨٣ ـ ٦٨٤ ؛ أبو داوود ١ : ٤٨٨ / ٢١٩٤ ، باب ٩ ؛ الترمذي ٢ : ٣٢٨ / ١١٩٥ ، باب ٩ ، قال الترمذي : «هذا ـ حديث حسن غريب» ؛ ابن ماجة ١ : ٦٥٨ / ٢٠٣٩ ، باب ١٣ ؛ الحاكم ٢ : ١٩٨ ، كتاب الطلاق ؛ البيهقي ٧ : ٣٤١ ؛ كنز العمّال ٩ : ٦٤٣ / ٢٧٧٨٥ ؛ القرطبي ٣ : ١٥٧ و ٨ : ١٩٧ ـ ١٩٨ ، ذيل الآية ٦٥ من سورة التوبة ؛ البغوي ١ : ٣١٠ ـ ٣١١ / ٢٦٧ ؛ ابن كثير ١ : ٢٨٩.

٤٧

[٢ / ٦٧٩٤] وقال ابن إسحاق : وفي الخبر : خمس جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ : الطلاق والعتاق والنكاح والرجعة والنذر (١).

[٢ / ٦٧٩٥] وأخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس قال : طلّق رجل امرأته وهو يلعب لا يريد الطلاق ، فأنزل الله : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فألزمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطلاق (٢).

[٢ / ٦٧٩٦] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال : كان الرجل على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول للرجل زوّجتك ابنتي ، ثمّ يقول : كنت لاعبا. ويقول : قد أعتقت. ويقول : كنت لاعبا. فأنزل الله : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاث من قالهنّ لاعبا أو غير لاعب فهنّ جائزات عليه : الطلاق ، والعتاق ، والنكاح» (٣).

***

ومشكلة أخرى عالجها القرآن ، هي أنّهم قد كانوا يتحمّسون لو تزوّجت المرأة رجلا تختاره ، لتبقى خليّة بلا زواج ، أو تعود إلى زوجها الأوّل.

قال تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) فلا تضايقوا عليهنّ (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) أزواجا يخترنهم (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ. ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي كان له ورع وتقوى من الله.

وتاكيدا على ذلك قال : (ذلِكُمْ) أي الأخذ بعظته تعالى (أَزْكى لَكُمْ) : أنمى لرشد عقولكم (وَأَطْهَرُ) لنفوسكم من الدرن والأدناس. (وَاللهُ) هو الّذي (يَعْلَمُ) بما يصلحكم وما يفسدكم (وَأَنْتُمْ) لو لا عنايته تعالى كنتم (لا تَعْلَمُونَ) من ذلك شيئا.

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ١٧٨.

(٢) الدرّ ١ : ٦٨٣ ؛ ابن كثير ١ : ٢٨٨.

(٣) الدرّ ١ : ٦٨٣ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٢٥ / ٢٢٤٨ ؛ ابن كثير ١ : ٢٨٩.

٤٨

[٢ / ٦٧٩٧] قال مقاتل بن سليمان : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) تطليقة واحدة (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) يقول : انقضت عدّتهنّ ، نزلت في أبي البدّاح بن عاصم بن عديّ الأنصاري (١) من بني العجلان وهم حيّ من قضاعة ، وفي امرأته جمل بنت يسار المزني بانت منه بتطليقة ، فأراد مراجعتها ، فمنعها أخوها معقل ، وقال : لئن فعلت لا أكلّمك أبدا. أنكحتك وأكرمتك وآثرتك على قومي فطلّقتها وأجحفت بها والله لا أزوّجكها أبدا. فقال الله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) يعني فلا تمنعوهنّ أن يراجعن أزواجهنّ (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) يعني بمهر جديد ونكاح جديد (ذلِكَ) الّذي ذكر من النهي ألّا يمنعها من الزوج ذلك (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعني يصدّق بالله بأنّه واحد لا شريك له ، ويصدّق بالبعث الّذي فيه جزاء الأعمال ، فليفعل ما أمره الله من المراجعة (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ) يعني خير لكم من الفرقة (وَأَطْهَرُ) لقلوبكم من الريبة (وَاللهُ يَعْلَمُ) حبّ كلّ واحد منهما لصاحبه (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك منهما. فلمّا نزلت هذه الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا معقل ، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تمنع أختك فلانا» يعني أبا البدّاح. قال : فإنّي أنا أؤمن بالله واليوم الآخر وأشهدك أنّي قد أنكحته (٢).

[٢ / ٦٧٩٨] وأخرج ابن المنذر عن الضحّاك قال : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال : الله يعلم من حبّ كلّ واحد منهما لصاحبه ما لا تعلم أنت أيّها الوليّ! (٣).

[٢ / ٦٧٩٩] وأخرج وكيع والبخاري وعبد بن حميد وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم والبيهقي من طرق عن معقل بن يسار قال : كانت لي أخت فأتاني ابن عمّ لي فأنكحتها إيّاه ، فكانت عنده ما كانت ثمّ طلّقها تطليقة لم يراجعها حتّى انقضت العدّة ، فهواها وهوته ثمّ خطبها مع الخطّاب ، فقلت له : يالكع أكرمتك بها وزوّجتكها فطلّقتها ثمّ جئت تخطبها ، والله لا ترجع إليك أبدا ، وكان رجلا لا بأس به ، وكانت المرأة

__________________

(١) جاء في الإصابة ٤ : ٢٤ : حليف الأنصار. وأبو البدّاح ، قيل اسمه عديّ وكنيته أبو عمرو وأبو البدّاح لقب ؛ تقريب التهذيب ٢ : ٣٩٤.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٩٧.

(٣) الدرّ ١ : ٦٨٦ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٢٧ / ٢٢٦٠. بلفظ : يعلم وجد كلّ واحد بصاحبه ، ما لا تعلمون.

٤٩

تريد أن ترجع إليه ، فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها ، فأنزل الله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) قال : ففيّ نزلت هذه الآية. فكفّرت عن يميني وأنكحتها إيّاه. وفي لفظ : فلمّا سمعها معقل قال : سمعا لربّي وطاعة ، ثمّ دعاه فقال : أزوّجك وأكرمك! (١)

[٢ / ٦٨٠٠] وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عبّاس قال : نزلت هذه الآية في الرجل يطلّق امرأته طلقة أو طلقتين ، فتقضي عدّتها ثمّ يبدو له تزوّجها وأن يراجعها ، وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك ، فنهى الله أن يمنعوها (٢).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٦٨٥ ؛ البخاري ٥ : ١٦٠ ؛ أبو داوود ١ : ٤٦٣ / ٢٠٨٧ ، باب ٢١ باختصار ؛ الترمذي ٤ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٤٠٦٥ وقال : «هذا حديث حسن صحيح» ؛ النسائي ٦ : ٣٠٢ / ١١٠٤١ ؛ الطبري ٢ : ٦٥٧ / ٣٨٩١ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٢٦ ـ ٤٢٧ / ٢٢٥٤ ؛ الحاكم ٢ : ٢٨٠ ؛ البيهقي ٧ : ١٠٤ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٤٩ / ٢٨٦ ، عن الحسن وقتادة ؛ الثعلبي ٢ : ١٧٨ ـ ١٧٩ ؛ البغوي ١ : ٣١١ ـ ٣١٢ / ٢٦٨ ؛ القرطبي ٣ : ١٥٨ ؛ ابن كثير ١ : ٢٨٩ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٢٨٤.

(٢) الدرّ ١ : ٦٨٥ ؛ الطبري ٢ : ٦٥٩ / ٣٩٠٠ ؛ ابن كثير ١ : ٢٨٩. وزاد : «وكذا قال مسروق وإبراهيم النخعي والزهريّ والضحّاك» ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٢٥ / ٢٢٤٥.

٥٠

قال تعالى :

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣))

وهنا يأتي دور بيان أهمّ أحكام تعود إلى الزوجين بعد الفراق. وهي مسألة رضاع الأطفال وما يتعلّق بالزوجين من حقوق وواجبات.

أمّا الوالدة فلها حقّ إرضاع ولدها لفترة حولين ، إذا أرادت الكمال. وحينئذ فعلى الوالد الإنفاق عليها مدّة الرضاع ، ولكن على قدر وسعه. فلا الوالدة تتضرّر بحرمانها عن إرضاع ولدها ، ولا الوالد يتضرّر بتكليف الإنفاق فوق المستطاع حسب المتعارف.

فلا ينبغي أن يتّخذ أحد الوالدين من الطفل سببا لمضارّة الآخر ، فلا يستغلّ الأب عواطف الأمّ وحنانها ولهفتها على طفلها ، ليهدّدها فيه أو تقبل رضاعه بلا مقابل. ولا تستغلّ هي عطف الأب على ولده وحبّه له لتثقل كاهله بمطاليب هي فوق مستطاعه أو فوق المتعارف المعهود.

وهذا التكليف يشمل الوارث الراشد إذا فقد الأب.

إذن فإن أرادا الزوجان فصال الولد قبل تمام الحولين عن تراض منهما ، وبعد تشاور مع ذوي الرأي من أهلهما ، فلا جناح عليهما في ذلك.

كما أنّه لو أردتم استرضاع أولادكم من نساء أجنبيّات ، فلا جناح إذا قمتم بواجب الأجر. وعلى كلّ حال ، فإنّ المسلم المتعهّد ، ينبغي أن يراعي تقوى الله في جميع شؤونه. وليعلم أنّ الله بصير بما يعملون ؛ ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء.

٥١

[٢ / ٦٨٠١] أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) قال : هو الرجل يطلّق امرأته وله منها ولد فهي أحقّ بولدها من غيرها فهنّ يرضعن أولادهنّ (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) يعني يكمل الرضاعة (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) يعني الأب الّذي له الولد (رِزْقُهُنَ) يعني رزق الأمّ (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) يقول : لا يكلّف الله نفسا في نفقة المراضع إلّا ما أطاقت (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) يقول : لا يحمل الرجل امرأته على أن يضارّها فينزع ولدها منها وهي لا تريد ذلك (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) يعني الرجل يقول : لا يحملنّ المرأة إذا طلّقها زوجها أن تضارّه فتلقي إليه ولده مضارّة له (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) يعني الأبوين أن يفصلا الولد عن اللبن دون الحولين (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) يقول : اتّفقا على ذلك (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يعني لا حرج على الإنسان أن يسترضع لولده ظئرا ويسلّم لها أجرها (إِذا سَلَّمْتُمْ) لأمر الله يعني في أجر المراضع (ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) يقول : ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها (وَاتَّقُوا اللهَ) يعني لا تعصوه. ثمّ حذّرهم فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي بما ذكر عليم (١).

[٢ / ٦٨٠٢] وقال مقاتل بن سليمان : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) يعني إذا طلّقن (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) يعني يكمل الرضاعة ، وليس الحولان بالفريضة ، فمن شاء أرضع فوق الحولين ومن شاء قصّر عنهما. ثمّ قال : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) إذا طلّق امرأته وله ولد رضيع ترضعه أمّه فعلى الأب رزق الأمّ والكسوة (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) يعني إلّا ما أطاقت من النفقة والكسوة. ثمّ قال سبحانه : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) يقول : لا يجمل بالرجل إذا طلّق امرأته أن يضارّها فينزع منها ولدها وهي لا تريد ذلك فيقطعه عن أمّه فيضارّها بذلك بعد أن ترضى بعطيّة الأب من النفقة والكسوة. ثمّ ذكر الأمّ فقال : (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) يعني لا يجمل بالمرأة أن تضارّ زوجها وتلقي إليه ولدها. ثمّ قال في اليتيم : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) يقول : وعلى من يرث اليتيم إذا مات الأب مثل ما على الأب من النفقة والكسوة لو كان حيّا فلا يضارّ الوارث الأمّ. وهي بمنزلة الأب إذا لم يكن لليتيم مال (٢).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٦٨٧ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٢٨ ـ ٤٣٦.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٩٧ ـ ١٩٨.

٥٢

[٢ / ٦٨٠٣] وروى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا طلّق الرجل امرأته وهي حبلى أنفق عليها حتّى تضع حملها ، وإذا وضعته أعطاها أجرها ولا يضارّها إلّا أن يجد من هو أرخص أجرا منها ، فإن هي رضيت بذلك الأجر فهي أحقّ بابنها حتّى تفطمه» (١).

[٢ / ٦٨٠٤] وأخرج أبو داوود في ناسخه عن زيد بن أسلم في قوله : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) قال : إنّها المرأة تطلّق أو يموت عنها زوجها (٢).

[٢ / ٦٨٠٥] وأخرج أبو داوود في ناسخه وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) يقول : ليس لها أن تلقي ولدها عليه ولا يجد من يرضعه ، وليس له أن يضارّها فينزع منها ولدها وتحبّ أن ترضعه. (وَعَلَى الْوارِثِ) قال : هو وليّ الميّت (٣).

[٢ / ٦٨٠٦] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع في قوله : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) يعني المطلّقات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين ، ثمّ أنزل الرخصة والتخفيف بعد ذلك ، فقال : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ)(٤).

[٢ / ٦٨٠٧] وأخرج ابن جرير عن الحسن : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) قال : ذلك إذا طلّقها ، فليس له أن يضارّها ، فينتزع الولد منها إذا رضيت منه بمثل ما يرضى به غيرها ، وليس لها أن تضارّه فتكلّفه ما لا يطيق إذا كان إنسانا مسكينا فتقذف إليه ولده (٥).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٥ / ٢ و ١٠٣ / ٢ ، كتاب الطلاق ، باب نفقة الحبلى المطلّقة ؛ التهذيب ٨ : ١٠٦ ـ ١٠٧ / ٣٦٠ ـ ٩ ، كتاب الطلاق ، باب الحكم في أولاد المطلّقات من الرضاع.

(٢) الدرّ ١ : ٦٨٨.

(٣) الدرّ ١ : ٦٨٩ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٣٢ / ٢٢٨٦ ، في تفسير قوله : وَعَلَى الْوارِثِ ، قال : «هو وليّ الميّت».

(٤) الطبري ٢ : ٦٦٩ / ٣٩٢٢ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٢٩ / ٢٢٦٩ ؛ مجمع البيان ٢ : ١١٣.

(٥) الطبري ٢ : ٦٧٥ / ٣٩٣١ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٣٢ / ٢٢٨٥ ، بمعناه مفصّلا. وجاء في الرقم ٢٢٨٠ بلفظ : «ليس لوالدة أن تضارّ بولدها فتفطمه قبل التمام ، ورضاعه حولان كاملان ، كما قال الله تعالى ، ولا أن تضارّ فتأبى أن ترضعه إضرارا لوالده ، حتّى يسترضع لولده وهي أشفق على ولدها وأحسن له غذاء». قلت : وهذا تفسير آخر للآية يعني : الإضرار بالولد ، وسيأتي الكلام عنه.

٥٣

[٢ / ٦٨٠٨] وأخرج عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) قال : إن أرادت أمّه أن تقصّر عن حولين كان عليها حقّا أن تبلغه لا أن تزيد عليه إلّا أن يشاء (١).

[٢ / ٦٨٠٩] وأخرج عن ابن شهاب : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ) قال : الوالدات أحقّ برضاع أولادهنّ ما قبلن رضاعهنّ بما يعطى غيرهنّ من الأجر. وليس لوالدة أن تضارّ بولدها فتأبى رضاعه مضارّة ، وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها. وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته إضرارا لها ، وهي تقبل من الأجر ما يعطى غيرها ؛ (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) مثل الّذي على الوالد في ذلك (٢).

[٢ / ٦٨١٠] وأخرج وكيع وسفيان وعبد الرزّاق وآدم وعبد بن حميد وأبو داوود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) قال : المطلّقات (حَوْلَيْنِ) قال : سنتين (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) يقول : لا تأبى أن ترضعه ضرارا لتشقّ على أبيه (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) يقول : ولا يضارّ الوالد بولده فيمنع أمّه أن ترضعه ليحزنها بذلك (وَعَلَى الْوارِثِ) قال : يعني الولي من كان (مِثْلُ ذلِكَ) قال : النفقة بالمعروف وكفله ورضاعه إن لم يكن للمولود مال ، وأن لا تضارّ أمّه (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) قال : غير مسبّبين في ظلم أنفسهما ولا إلى صبيّهما (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) قال : خيفة الضيعة على الصبيّ (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) قال : حساب ما أرضع به الصبيّ (٣).

[٢ / ٦٨١١] وقال مقاتل بن سليمان : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) يقول : واتّفقا (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) يعني لا حرج ما لم يضارّ أحدهما صاحبه أن يفصلا الولد قبل الحولين والأمّ أحقّ بولدها من المرضع إذا رضيت من النفقة والكسوة بما يرضى به غيرها ، فإن لم ترض الأمّ بما يرضى

__________________

(١) الطبري ٢ : ٦٦٧ / ٣٩١٢ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٢٩ / ٢٢٧٠ ، وفيه : «... كان عليها أن تبلغه لا تزيد عنها إلّا أن تشاء» ؛ المصنّف لعبد الرزّاق ٧ : ٥٧ / ١٢١٧٣.

(٢) الطبري ٢ : ٦٨٤ / ٣٩٧٠ و ٣٩٣٤ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٢٨ / ٢٢٦٣.

(٣) الدرّ ١ : ٦٨٧ ؛ المصنّف لعبد الرزّاق ٧ : ٥٨ ؛ الطبري ٢ / ٦٦٥ ـ ٦٨٩ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٢٨ ـ ٤٣٥ ؛ البيهقي ٧ : ٤٧٨.

٥٤

به غيرها من النفقة (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يقول ـ عزوجل ـ فلا جناح على الوالد أن يسترضع لولده ، ويسلم للظئر أجرها ، ولا كسوة لها ، ولا رزق ، وإنّما هو أجرها (١).

[٢ / ٦٨١٢] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) قال : الفطام. وهكذا عن الضحّاك والسدّي ومجاهد وقتادة وغيرهم (٢).

[٢ / ٦٨١٣] وروى العيّاشي بالإسناد إلى الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المطلّقة ينفق عليها حتّى تضع حملها وهي أحقّ بولدها أن ترضعه ممّا تقبله امرأة أخرى ، إنّ الله يقول : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) إنّه نهى أن يضارّ بالصبيّ أو يضارّ بأمّه في رضاعه ، وليس لها أن تأخذ في رضاعه فوق حولين كاملين ، فإن أراد الفصال قبل ذلك عن تراض منهما كان حسنا ، والفصال هو الفطام» (٣).

[٢ / ٦٨١٤] وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق عطاء الخراساني عن ابن عبّاس : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) قال : نفقته حتّى يفطم ، إن كان أبوه لم يترك له مالا (٤).

[٢ / ٦٨١٥] وقال الضحّاك : إن مات أبو الصبيّ وللصبيّ مال أخذ رضاعه من المال ، وإن لم يكن له مال أخذ من العصبة ، فإن لم يكن للعصبة مال أجرت عليه أمّه (٥).

[٢ / ٦٨١٦] وأخرج وكيع عن عبد الله بن مغفل قال : رضاع الصبيّ من نصيبه (٦).

[٢ / ٦٨١٧] وقال ابن بابويه الصدوق : وقضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل توفّي وترك صبيّا واسترضع له ، أنّ أجر رضاع الصبيّ ممّا يرث من أبيه وأمّه (٧).

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١٩٨.

(٢) الدرّ ١ : ٦٩٠ ؛ الطبري ٢ : ٦٨٦ ـ ٦٨٧ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٣٤.

(٣) العيّاشي ١ : ١٤٠ / ٣٨٦ ؛ البحار ١٠١ : ١٣٣ / ٣ ، باب ٧ ؛ البرهان ١ : ٤٩٨ / ١٤.

(٤) الدرّ ١ : ٦٩٠ ؛ الطبري ٢ : ٦٨٣ / ٣٩٦٥.

(٥) الطبري ٢ : ٦٨٠ / ٣٩٤٨ ؛ القرطبي ٣ : ١٦٨ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٢٩٢. وفيه : «إن لم يكن له مال أخذ من وليّه» ؛ الثعلبي ٢ : ١٨٣.

(٦) الدرّ ١ : ٦٩٠ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٣٠ / ٢٢٧٢ ، بلفظ : «نفقة الصبيّ من نصيبه» ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ٤ : ١٦٥ / ١ ، باب ٢٢٦.

(٧) نور الثقلين ١ : ٢٢٨ / ٨٨٩ ؛ الفقيه ٣ : ٤٨٠ / ٤٦٨٥ ، كتاب النكاح ، باب أحكام الأولاد ؛ الصافي ١ : ٤٠٩ ؛ الكافي ٦ : ٤١ / ٥ ؛ التهذيب ٧ : ٤٤٧ / ١٧٩٢ ـ ٥٦ و ٨ : ١٠٦ / ٣٥٩ ـ ٨ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣٥٥.

٥٥

وقفة عند آية المضارّة

قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)

فسّرت بوجهين : لا يضارّ أحد الوالدين بسبب ولدهما ، لا الأمّ بالتضايق عليها باستلاب الولد منها ولا الأب بتكليفه الإنفاق فوق المستطاع.

وهذا هو الشائع بين المفسّرين ورجّحناه لدلائل نذكرها.

والوجه الثاني : لا يضرّان بالولد ، لا الأمّ بترك إرضاعه ، ولا الأب بالإمساك عن الإنفاق أو باستلابه من الأمّ.

فالباء على الأوّل سببيّة ، وكلمة «يضارّ» بالبناء للمفعول أي لا يضارر أحد الوالدين بسبب الولد ، فلا يجعل الولد ذريعة للإضرار بأحدهما.

وعلى الثاني فالباء صلة ، و «يضارّ» بالبناء للفاعل أي لا تضارر الأمّ ولدها بالامتناع من الإرضاع ، ولا الأب بأن لا ينفق أو يستلبه من أمّه.

غير أنّ لفظة «يضارّ» ـ إذا أريد بها البناء للفاعل ، تتعدّى إلى المفعول به بذاتها من غير حاجة إلى تعديتها بالباء ، قال تعالى : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ)(١).

وقوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ)(٢). أي لا يضارر كاتب ولا شهيد. وهكذا هنا ، كان الأنسب هو فرض (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ ...) أنّه بالبناء للمفعول ، ولا موجب لفرضه مبنيّا للفاعل ، ليستدعي جعل الباء زائدة (٣).

على أنّ مناسبة السياق أيضا تقتضي البناء للمفعول لتكون الباء سببيّة. ذلك أنّه تعالى فرض أوّلا على الوالدات إرضاع أولادهنّ حولين كاملين. وعقّبه بتكليف المولود له القيام برزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف ـ لأنّ مفروض الكلام هي حالة فراق الزوجين ـ فلا يكون إرضاعها للولد بلا مقابل ، وإلّا كان تكليفها بالإرضاع شاقّا وحرجا عليها ؛ كما أنّه ليس لها مطالبة الأب بأكثر من القدر المعروف. وإلّا كان تكليفا شاقّا عليه.

__________________

(١) الطلاق ٦٥ : ٦.

(٢) البقرة ٢ : ٢٨٢.

(٣) كما صرّح بزيادتها صاحب المجمع ٢ : ١١٤.

٥٦

ومن ثمّ جاء التعقيب بقوله : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها). فكأنّ هذا التعليل بيان للمناسبة القائمة بين مناحي التشريعات الإسلامية كافّة ، فلا تكلّف المرأة تكليفا بلا مقابل ، ولا الرجل بما يشقّ عليه. وهذه هي الموازنة القائمة بين مختلف أحكام الشريعة (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ)(١). (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢).

فكان قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) إثر ذلك تفريعا على ذلك الأصل العامّ ، وكانت صغرى لتلك الكلّية الكبرى ، فجاء الكلام مبرهنا بدليل الحكمة وشريعة العقل الغرّاء.

[٢ / ٦٨١٨] ويؤيّده ما ورد في حديث محمّد بن الفضيل عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا طلّق الرجل المرأة وهي حبلى أنفق عليها حتّى تضع حملها ، وإذا وضعته أعطاها أجرها ولا يضارّها ، إلّا أن يجد من هو أرخص أجرا منها ، فإن هي رضيت بذلك الأجر ، فهي أحقّ بابنها حتّى تفطمه» (٣).

قوله عليه‌السلام : ولا يضارّها ، إشارة إلى الآية الكريمة.

وفي رواية أخرى جاء التصريح بذلك :

[٢ / ٦٨١٩] روى الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الحبلى المطلّقة ينفق عليها حتّى تضع حملها ، وهي أحقّ بولدها حتّى ترضعه بما تقبله امرأة أخرى ، إن الله يقول : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)» (٤).

كلام عن حقّ الحضانة

هناك إلى جنب حقّ الرضاعة ، الّذي هو للأمّ طول الحولين ، حقّ آخر هو حقّ الحضانة : كفالة الطفل حتّى يبلغ أشدّه ، فهل هو للأب خاصّة أم مشترك بينهما أم فيه تفصيل؟

اختلفت أنظار الفقهاء في ذلك :

قال الشيخ ـ في الخلاف ـ : إذا بانت المرأة من الرجل ولها منه ولد ، فإن كان طفلا لا يميّز فهي

__________________

(١) غافر ٤٠ : ٣١.

(٢) الحجّ ٢٢ : ٧٨.

(٣) الوسائل ٢١ : ٤٧١ / ٢ ، باب ٨١ (أحكام الأولاد).

(٤) الوسائل ٢١ : ٤٧٢ / ٥.

٥٧

أحقّ به ، بلا خلاف. وإن كان طفلا يميّز ـ وهو ما إذا بلغ سبع سنين أو ثماني سنين فما فوقها إلى حدّ البلوغ ـ فإن كان ذكرا فالأب أحقّ به ، وإن كانت أنثى فالأمّ أحقّ بها ما لم تتزوّج ، فإن تزوّجت فالأب أحقّ بها.

قال : ووافقنا أبو حنيفة وأصحابه في الجارية. وقال في الغلام : الأمّ أحقّ به حتّى يبلغ حدّا يأكل ويشرب ويلبس بنفسه ، فيكون أبوه أحقّ به. وقال الشافعي : يخيّر بين أبويه ، فإذا اختار أحدهما يسلّم إليه.

وقال مالك : إن كانت جارية فالأمّ أحقّ بها حتّى تبلغ وتتزوّج ، وإن كان غلاما فالأمّ أحقّ به حتّى يبلغ (١).

وقال ابن حزم ـ في المحلّى ـ : قال أبو حنيفة : الأمّ أحقّ بالابن والابنة الصغيرين ، ففي الجارية حتّى تحيض وفي الغلام حتّى يأكل وحده ويشرب وحده ويلبس ثيابه وحده. قال : وبعد ذلك تجب الحضانة للأب.

وقال مالك : الأمّ أحقّ بحضانة الولد ، فإن كان ذكرا حتّى يبلغ الحلم ، والجارية حتّى تتزوّج. قال : إن تزوّجت الأمّ سقط حقّها في الحضانة.

وقال الشافعي : الأمّ أحقّ بالابن والابنة ما لم تتزوّج. فإذا بلغ الصغير سبع سنين وهو يعقل ، خيّر بين أبيه وأمّه ، فحيث اختار جعل. فإن تزوّجت الأمّ خرجت عن الحضانة.

ثمّ أخذ في التفصيل والتذييل ، وأخيرا قال : إنّما أوردنا هذه الأقوال ليوقف على تخاذلها وتناقضها وفسادها وأنّها استحسانات لا معنى لها ، وليظهر كذب من ادّعى الإجماع في شيء من ذلك! (٢)

قال أبو عبد الله القرطبي : في هذه الآية دليل لمالك على أنّ الحضانة للأمّ ، فهي للغلام إلى البلوغ ، وفي الجارية إلى النكاح ، وذلك حقّ لها ، قال : وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي : إذا بلغ الولد ثماني سنين وهو سنّ التميز ، خيّر بين أبويه ، فإنّه في تلك الحالة تتحرّك همّته لتعلّم القرآن

__________________

(١) الخلاف ٥ : ١٣١ ـ ١٣٢ م : ٣٦.

(٢) المحلّى ١٠ : ٣٢٩ ـ ٣٣١.

٥٨

والأدب ووظائف العبادات ، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية.

[٢ / ٦٨٢٠] وروى النسائي وغيره عن أبي هريرة : أنّ امرأة جاءت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا قاعد عنده ، فقالت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّ زوجي يريد أن يذهب بابني ، وقد سقاني من بئر أبي عنبة (١) ، وقد نفعي! فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «استهما عليه» (٢). فقال زوجها : من يحاقّني (٣) في ولدي! فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للغلام : «هذا أبوك وهذه أمّك ، فخذ بيد أيّهما شئت» فأخذ بيد أمّه فانطلقت به. (٤) قال : دليلنا :

[٢ / ٦٨٢١] ما رواه أبو داوود عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو : أنّ امرأة جاءت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، إنّ ابني هذا كان له بطني وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء ، وإنّ أباه طلّقني وأراد أن ينتزعه منّي! فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت أحقّ به ما لم تنكحي» (٥).

قال ابن المنذر (٦) : أجمع كلّ من يحفظ عنه من أهل العلم على أنّ الزوجين إذا افترقا ولها ولد أنّ الأمّ أحقّ به ما لم تنكح. وكذا قال أبو عمر (٧) : لا أعلم خلافا بين السلف من العلماء في المرأة المطلّقة إذا لم تتزوّج أنّها أحقّ بولدها من أبيه ما دام طفلا صغيرا لا يميّز شيئا إذا كان عندها في حرز وكفاية ولم يثبت فيها فسق ولا تبرّج.

ثمّ اختلفوا بعد ذلك في تخييره إذا ميّز وعقل بين أبيه وأمّه وفيمن هو أولى به ؛ قال ابن المنذر :

__________________

(١) بئر أبي عنبة بئر قرب المدينة ، عرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه حين سار إلى بدر.

(٢) أي اقترعا.

(٣) يقال : حقّه أي غلبه. وحقّ الأمر أي أثبته. وحاقّه في الأمر : خاصمه ورافعه وادّعى أنّه أولى به الحقّ منه.

(٤) النسائي ٣ : ٣٨١ ـ ٣٨٢ / ٥٦٩٠ ؛ الحاكم ٤ : ٩٧ ؛ البيهقي ٨ : ٣ وسيأتي الكلام فيه.

(٥) أبو داوود ١ : ٥٠٨ ـ ٥٠٩ / ٢٢٧٦ ، باب من أحقّ بالولد.

(٦) أبو القاسم الحسن بن الحسن بن عليّ بن المنذر البغدادي ، الإمام القاضي العلّامة. كان مكثرا من السماع ، حسن العلم بالفرائض. ولّي قضاء ميّا فارقين سنين ثمّ ردّ إلى بغداد فكان يحدّث بها حتّى مات وله ثمانون سنة توفّي سنة ٤١١. سير أعلام النبلاء ١٧ : ٣٣٨ / ٢٠٦.

(٧) هو يوسف بن مرحب أبو عمر من أهل أشونة ، سمع العتبي وغيره وكان عالما بالفتيا حافظا للمسائل والرأي على مذهب مالك. الوافي بالوفيات للصفدي ٢٩ : ١٥٨ / ١٧٠.

٥٩

وثبت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى في ابنة حمزة للخالة من غير تخيير :

[٢ / ٦٨٢٢] روى أبو داوود ، عن عليّ عليه‌السلام قال : خرج زيد بن حارثة إلى مكّة فقدم بابنة حمزة ، فقال جعفر : أنا آخذها أنا أحقّ بها ؛ ابنة عمّي وخالتها عندي والخالة أمّ. فقال عليّ : أنا أحقّ بها ؛ ابنة عمّي وعند ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي أحقّ بها. فقال زيد : أنا أحقّ بها ؛ أنا خرجت إليها وسافرت وقدمت بها. فخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكر حديثا قال : «وأمّا الجارية فأقضي بها لجعفر ؛ تكون مع خالتها وإنّما الخالة أمّ!» (١)

وجاء ـ في الفقه على المذاهب الأربعة ـ أنّ المذاهب اتّفقت على أنّ الحضانة حقّ الأمّ ثمّ أمّ الأمّ وهكذا. ثمّ اختلفوا في مدّتها ، فالحنفيّة اعتبروها بشأن الذكر سبعا أو تسع سنين. وفي الأنثى تسع سنين أو إلى أن تحيض.

والمالكيّة : في الذكر إلى أن يبلغ الحلم. والأنثى حتّى تتزوّج.

والشافعيّة : إلى أن يبلغ الولد سنّ التميز ويختار أن يكون مع أمّه أو أبيه.

والحنابلة : إلى سبع سنين. ثمّ يختار إن كان ذكرا. أمّا الأنثى فتقع في كفالة الأب بعد سبع سنين (٢).

***

قال العلّامة الحليّ : إذا بانت المرأة من الزوج ، كانت أحقّ بالحضانة في الذكر مدّة الحولين ، وفي الأنثى مدّة سبع سنين. قال : وهو رأي الشيخ في النهاية (٣).

وقال المفيد : الأمّ أحقّ بالولد الذكر مدّة الحولين ، وبالأنثى مدّة تسع سنين (٤).

وقال الصدوق : إذا طلّق الرجل امرأته وبينهما ولد ، فالمرأة أحقّ بالولد ما لم تتزوّج (٥).

وقال ابن الجنيد : الأمّ أحقّ بالصبيّ إلى سبع سنين وأمّا البنت فالأمّ أولى بها ما لم تتزوّج الأمّ (٦).

__________________

(١) أبو داوود ١ : ٥٠٩ / ٢٢٧٨. راجع : القرطبي ٣ : ١٦٥.

(٢) راجع : الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمان الجزيري ٤ : ٥٩٤ ـ ٦٠٠.

(٣) النهاية ٣ : ٥٠٣ ـ ٥٠٤.

(٤) المقنعة : ٥٣١.

(٥) الفقيه ٣ : ٤٣٥ / ٤٥٠٢.

(٦) فتاوى ابن الجنيد : ٢٦٣ ، فصل ٧ ، في لواحق النكاح.

٦٠