التفسير الأثري الجامع - ج ٦

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-07-4
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٥٩

[٢ / ٧٧٦٣] وأخرج الحاكم وصحّحه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اتّقوا دعوات المظلوم ، فإنّها تصعد إلى السماء كأنّها شرارة» (١).

[٢ / ٧٧٦٤] وأخرج الطبراني عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاثة تستجاب دعوتهم : الوالد والمسافر والمظلوم» (٢).

[٢ / ٧٧٦٥] وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «دعوة المظلوم مستجابة ، وإن كان فاجرا ، ففجوره على نفسه» (٣).

[٢ / ٧٧٦٦] وأخرج الطبراني والأصبهاني عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «دعوتان ليس بينهما وبين الله حجاب : دعوة المظلوم ، ودعوة المرء لأخيه بظهر الغيب» (٤).

[٢ / ٧٧٦٧] وأخرج الطبراني في الأوسط عن عليّ عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقول الله : اشتدّ غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصرا غيري» (٥).

[٢ / ٧٧٦٨] وقال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «يوم المظلوم على الظالم أشدّ من يوم الظالم على المظلوم» (٦).

[٢ / ٧٧٦٩] وقال : «يوم العدل على الظالم أشدّ من يوم الجور على المظلوم» (٧).

[٢ / ٧٧٧٠] وقال : «للظالم البادئ غدا بكفّه عضّة» (٨).

[٢ / ٧٧٧١] وقال : «ولئن أمهل الظالم ، فلن يفوت أخذه ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه» (٩).

[٢ / ٧٧٧٢] وأخرج أبو الشيخ في كتاب التوبيخ عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قال الله

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٧٦ ؛ الحاكم ١ : ٢٩ ، كتاب الإيمان ؛ كنز العمّال ٣ : ٥٠٠ / ٧٦٠١.

(٢) الدرّ ٢ : ٧٦ ؛ الكبير ١٧ : ٣٤٠ / ٩٣٩ ؛ مجمع الزوائد ١٠ : ١٥١ ؛ كنز العمّال ٢ : ١٠٠ / ٣٣٢٤.

(٣) الدرّ ٢ : ٧٦ ؛ مسند أحمد ٢ : ٣٦٧ ؛ مجمع الزوائد ١٠ : ١٥١ ، قال الهيثمي : إسناده حسن ؛ كنز العمّال ٢ : ١٠٦ / ٣٣٦٤.

(٤) الدرّ ٢ : ٧٦ ؛ الكبير ١١ : ٩٨ / ١١٢٣٢ ؛ مجمع الزوائد ١٠ : ١٥٢.

(٥) الدرّ ٢ : ٧٦ ؛ الأوسط ٢ : ٣٥٢ / ٢٢٠٧ ؛ مجمع الزوائد ٤ : ٢٠٦ ؛ كنز العمّال ٣ : ٥٠٠ / ٧٦٠٥ ؛ الفردوس بمأثور الخطاب ٥ : ٢٤٣ / ٨٠٨٠.

(٦) نهج البلاغة ٤ : ٥٣ الحكمة ٢٤١.

(٧) المصدر : ٨٠ الحكمة ٣٤١.

(٨) المصدر : ٤٣ الحكمة ١٨٦.

(٩) المصدر : ١٨٧ الحكمة ٩٧.

٤٠١

ـ تبارك وتعالى ـ : وعزّتي وجلالي لأنتقمنّ من الظالم في عاجله وآجله ، ولأنتقمنّ ممّن رأى مظلوما فقدر أن ينصره فلم يفعل!» (١).

[٢ / ٧٧٧٣] وأخرج الطبراني عن خزيمة بن ثابت ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اتّقوا دعوة المظلوم ، فإنّها تحمل على الغمام ، يقول الله : وعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين» (٢).

إخفاء الصدقة والإعلان بها

وجانب آخر من الصدقة يجدر التنبّه له ، جانب إخفائها أو الإعلان بها؟ كلا الأمرين مطلوب ، كلّ في حدّ ذاته وفي مجاله الخاصّ.

الصدقة علانية ، تبعث على شياع الخير وزيادة الشوق على البرّ.

والصدقة في خفاء ، تصون عرض المحتاج ، وآكد في الحفاظ على إخلاص العمل.

قال تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ).

ولا سيّما الصدقات المفروضة كالزكوات والكفّارات وما أشبه. حيث كانت باعثة على شياع البرّ والصلاح بين العباد. فمأ أحسنها وبها ونعمت.

[٢ / ٧٧٧٤] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عمل السرّ أفضل من العلانية. والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء به» (٣).

(وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) حيث صيانة عرض الفقير ، والحافظ على صدق العامل وإخلاصه في النيّة ، ومن ثمّ فإنّها من الحسنات الّتي تذهب بالسيّئات. (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) حيث ستجيش في قلوبكم التقوى والتحرّج عن شوائب القصد كما يبعث على الطمأنينة والإرتياح في إخلاص العمل لله. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) خبير بنيّاتكم فيحاسبكم عليها إن صادقة أو كاذبة.

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٧٦ ؛ الأوسط ١ : ١٥ / ٣٦ ؛ الكبير ١٠ : ٢٧٨ / ١٠٦٥٢ ؛ مجمع الزوائد ٧ : ٢٦٧.

(٢) الدرّ ٢ : ٧٦ ؛ الكبير ٤ : ٨٤ / ٣٧١٨ ؛ مجمع الزوائد ١٠ : ١٥٢ ؛ كنز العمّال ٣ : ٤٩٩ ـ ٥٠٠ / ٧٦٠٠.

(٣) شعب الإيمان ٥ : ٣٧٦ / ٧٠١٢.

٤٠٢

[٢ / ٧٧٧٥] روى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كلّ ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره ، وكلّ ما كان تطوّعا فإسراره أفضل من إعلانه ، ولو أنّ رجلا حمل زكاة ماله على عاتقه فقسّمها علانيّة كان ذلك حسنا جميلا!» (١).

[٢ / ٧٧٧٦] وروى بالإسناد إلى هشام بن سالم عن عمّار الساباطي قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا عمّار ، الصدقة والله في السرّ أفضل من الصدقة في العلانية. وكذلك والله العبادة في السرّ أفضل منها في العلانية!» (٢).

[٢ / ٧٧٧٧] وروى بالإسناد إلى إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) قال : «هي سوى الزكاة ، إنّ الزكاة علانية غير سرّ» (٣).

[٢ / ٧٧٧٨] وبالإسناد إلى ابن بكير عن رجل عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) قال : «يعني الزكاة المفروضة. قلت : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ)؟ قال : يعني النافلة ، إنّهم كانوا يستحبّون إظهار الفرائض وكتمان النوافل» (٤).

[٢ / ٧٧٧٩] وروى القاضي نعمان المغربي عن جعفر بن محمّد عليه‌السلام ، أنّه قال : «ما كان من الصدقة والصلاة والصوم وأعمال البرّ كلّها تطوّعا ، فأفضلها ما كان سرّا ، وما كان من ذلك واجبا مفروضا ، فأفضله أن يعلن به» (٥).

[٢ / ٧٧٨٠] وروى ابن أبي جمهور بالإسناد إلى ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ صدقة السرّ في التطوّع ، تفضل علانيتها بسبعين ضعفا ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بخمسة

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٨٩ ؛ الكافي ٣ : ٥٠١ / ١٦ ، كتاب الزكاة ، باب فرض الزكاة ؛ مجمع البيان ٢ : ١٩٨ ؛ التبيان ٢ : ٣٥١ ؛ الصافي ١ : ٤٧٢ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٤٤٧ ؛ التهذيب ٤ : ١٠٤ / ٢٩٧ ـ ٣١ ، باب ٢٩ (الزيادات في الزكاة) ؛ البحار ٦٩ : ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

(٢) نور الثقلين ١ : ٢٨٩ ؛ الكافي ٤ : ٨ / ٢ ؛ الفقيه ٢ : ٦٧ / ١٧٣٦ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٤٤٧ ـ ٤٤٨.

(٣) نور الثقلين ١ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ؛ الكافي ٣ : ٥٠٢ / ١٧ ؛ التهذيب ٤ : ١٠٤ / ٢٩٨ ـ ٣٢ ، باب ٢٩ ؛ البرهان ١ : ٥٦٥ / ٣ ؛ الصافي ١ : ٤٧٢ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٤٤٧.

(٤) نور الثقلين ١ : ٢٨٩ ؛ الكافي ٤ : ٦٠ / ١ ؛ البرهان ١ : ٥٦٤ / ١ ؛ الصافي ١ : ٤٧٢ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٤٤٧.

(٥) مستدرك الوسائل ٧ : ١٣٣ ؛ دعائم الإسلام ١ : ٢٤١ ؛ البحار ٩٣ : ٢٤ / ٥٦.

٤٠٣

وعشرين ضعفا» (١).

قال المحقّق الأردبيلي : المشهور بين الأصحاب أنّ الإظهار في الفريضة أولى ، لا سيّما في المال الظاهر ، ولمن هو محلّ التهمة لرفع تهمة عدم الدفع ، وبعده عن الرياء ، ولأن يتبعه الناس في ذلك. والإخفاء في غيرها ليسلم من الرياء. والمرويّ عن ابن عبّاس أنّ صدقة التطوّع إخفاؤها أفضل ، وأمّا المفروضة فلا يدخلها الرياء ، ويلحقها تهمة المنع بإخفائها ، فإظهارها أفضل (٢).

[٢ / ٧٧٨١] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) قال : جعل الله صدقة السرّ في التطوّع تفضل على علانيتها سبعين ضعفا ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بخمسة وعشرين ضعفا ، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلّها (٣).

[٢ / ٧٧٨٢] وقال أبو عليّ الطبرسي : إنّ صدقة التطوّع إخفاؤها أفضل ، لأنّه يكون أبعد من الرياء. وأمّا المفروض فلا يدخله الرياء ويلحقه تهمة المنع بإخفائها ، فإظهارها أفضل. عن ابن عبّاس وسفيان الثوري واختاره الجبّائي (٤).

[٢ / ٧٧٨٣] وأخرج الطبراني عن معاوية بن حيدة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ» (٥).

[٢ / ٧٧٨٤] وأخرج الطيالسي وأحمد والبزّار والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن أبي ذرّ قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا أدلّك على كنز من كنوز الجنّة؟ قلت : بلى يا رسول الله! قال :

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٧ : ١٣٣ ؛ عوالي اللئالي ٢ : ٧٢ / ١٨٩.

(٢) زبدة البيان : ١٩٢.

(٣) الدرّ ٢ : ٧٧ ؛ الطبري ٣ : ١٢٧ ـ ١٢٨ / ٤٨٤٩ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٧٤ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٣٦ / ٢٨٤٧ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٨١.

(٤) مجمع البيان ٢ : ١٩٨ ؛ التبيان ٢ : ٣٥١.

(٥) الدرّ ٢ : ٧٩ ؛ الكبير ١٩ : ٤٢١ / ١٠١٨ ، في رواية الأصبغ عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ مجمع الزوائد ٣ : ١١٥ ، قال الهيثمي : «رواه الطبراني في الكبير والأوسط وذكر معاوية بن حيدة في السند. قال : والحديث أطول من هذا. ويأتي بطوله في البرّ ، إن شاء الله» ؛ الثعلبي ٢ : ٢٧٣ ، بلفظ : «في الحديث : صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وتدفع سبعين بابا من البلاء» ؛ أبو الفتوح ٤ : ٧٨ ، بنحو ما رواه الثعلبي ؛ ابن كثير ١ : ٣٣٠.

٤٠٤

«لا حول ولا قوّة إلّا بالله» فإنّها كنز من كنوز الجنّة. قلت : فالصلاة يا رسول الله؟ قال : خير موضوع ، فمن شاء أقلّ ومن شاء أكثر. قلت : فالصوم يا رسول الله؟ قال : قرض مجزئ. قلت : فالصدقة يا رسول الله؟ قال : أضعاف مضاعفة وعند الله مزيد. قلت : فأيّها أفضل؟ قال : جهد من مقل وسرّ إلى فقير!» (١).

[٢ / ٧٧٨٥] وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وصدقة السرّ تطفئ غضب الربّ ، وصلة الرحم تزيد في العمر» (٢).

[٢ / ٧٧٨٦] وأخرج الطبراني في الأوسط عن أمّ سلمة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، والصدقة خفيا تطفئ غضب الربّ ، وصلة الرحم تزيد في العمر ، وكلّ معروف صدقة ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة ، وأوّل من يدخل الجنّة أهل المعروف» (٣).

[٢ / ٧٧٨٧] وأخرج ابن ماجة عن جابر بن عبد الله الأنصاري ـ رضوان الله عليه ـ قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «يا أيّها الناس ، توبوا إلى الله قبل أن تموتوا ، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا ، وصلوا الّذي بينكم وبين ربّكم بكثرة ذكركم له ، وكثرة الصدقة في السرّ والعلانية ، ترزقوا وتنصروا وتجبروا» (٤).

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٧٨ ؛ مسند الطيالسي : ٦٥ ؛ مسند أحمد ٥ : ١٧٨ و ١٧٩ و ٢٦٥ ؛ مسند البزّار ٩ : ٤٢٦ ـ ٤٢٧ / ٤٠٣٤ ؛ الكبير ٨ : ٢٢٨ / ٧٨٩١ ؛ الأوسط ٥ : ٧٧ ـ ٧٨ / ٤٧٢١ ؛ الشعب ٣ : ٢٩١ ـ ٢٩٢ / ٣٥٧٦ ؛ كنز العمّال ١ : ٤٨٥ ـ ٤٨٦ / ٢١٢٦ ؛ مجمع الزوائد ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠ و ٣ : ١١٦ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٣٥ ـ ٥٣٦ ، باختصار.

(٢) الدرّ ٢ : ٧٩ ؛ الكبير ٨ : ٢٦١ / ٨٠١٤ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ١١٥ ، قال الهيثمي : إسناده حسن ؛ كنز العمّال ٦ : ٣٤٤ / ١٥٩٧٣.

(٣) الدرّ ٢ : ٧٩ ؛ الأوسط ٦ : ١٦٣ / ٦٠٨٦ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ١١٥ ؛ كنز العمّال ٦ : ٣٤٣ / ١٥٩٦٦ و ٣٥٣ / ١٦٠٢٦ ، عن أبي سعيد ؛ الشعب ٣ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥ / ٣٤٤٢ ، عن أبي سعيد الخدري ؛ ابن أبي الدنيا في كتاب قضاء الحوائج : ٢٢ ، عن أبي سعيد الخدري.

(٤) الدرّ ٢ : ٨٠ ؛ ابن ماجة ١ : ٣٤٣ / ١٠٨١ ، باب ٧٨ (فرض الجمعة). قوله : وتجبروا من جبر الكسر ، أي يصلح حالكم ؛ البيهقي ٣ : ١٧١ ؛ كنز العمّال ٧ : ٧٢١ / ٢١٠٩٢ ؛ القرطبي ١٨ : ١١٩ ، ذيل الآية ١١ من سورة الجمعة.

٤٠٥

[٢ / ٧٧٨٨] وأخرج الطبراني عن كثير بن مرّة عن عقبة بن عامر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «المسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصدقة ، والجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة» (١).

[٢ / ٧٧٨٩] وروي عن معدّ بن سويد الكلبي يرفعه : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن الجهر بالقراءة والإخفاء بها؟ فقال : «هي بمنزلة الصدقة (فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)» (٢).

وقفة فاحصة عند قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ)

نعم لا بدّ أن نقف هنا ، وندقّق النظر حول هذه الآية الكريمة. إنّنا نواجه أمرين خطيرين ، واجههما القرآن طول توجيهه إلى الإنفاق ، وتنوّع أساليبه في الترغيب والترهيب بصدده.

أوّلا : ما لاحظه الإسلام في طبيعة النفس البشريّة من حبّ الذات والتقديم بالنفس على مصالح الآخرين ، الأمر الّذي يبعثه على الشحّ بالمال ، ودون بذله من غير حصيلة تعود إليه في عاجل أو آجل قريب.

وهذا ما يستدعي تحرّكا مستمرّا واستجاشة دائبة تعمل في توجيهه إلى مكارم الإنسانيّة العليا وترفّعها عن الابتذال إلى مستوى نهم الحرص والشحّ بالمال ، دون الإنفاق به في صالح العامّة ، والّذي هو سبيل الله ، وابتغاء مرضاته في العاجل والمآل.

وثانيا : مواجهة القرآن تلك البيئة العربيّة الّتي اشتهرت بالكرم والسخاء. ولكنّه سخاء يقصد به الذكر والصيت وثناء الناس وتناقل أخباره في المضارب والخيام. فكان من العسير أن يوجّههم الإسلام إلى غير ذلك المسير ويعرّفهم المنهج الصحيح في الصدقة والإنفاق العامّ. متجرّدين عن خيلاء الجاهليّة ، متّجهين إلى الله وحده دون الناس. فكان الأمر في حاجة إلى تربية طويلة وجهد كثير ، والهتاف المستمرّ بالتسامي والتعالي عن مهابط الخيلاء ، وقد كان ولا يزال (٣).

__________________

(١) الكبير ١٧ : ٣٣٤ / ٩٢٣ ؛ أبو يعلى ٣ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩ / ١٧٣٧ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٧٤ / ١٩٤ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٨١ ؛ مسند أحمد ٤ : ٢٠١ ، وفيه : والمجهر بالقرآن كالمجهر بالصدقة.

(٢) الثعلبي ٢ : ٢٧٤ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٨٠.

(٣) راجع : في ظلال القرآن ١ : ٤٦٠ ـ ٤٦١. (اقتباس).

٤٠٦

وبعد فمن الجدير أن يتعرّض القرآن ـ هنا ـ لبيان جملة حقائق كبيرة ، ذات أثر عميق في إقامة التصوّر الإسلامي على قواعده الرصينة ، وفي استقامة السلوك الإسلامي على طريقته النقيّة الزاهية : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).

نعم كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكابد الأمرّين في مواجهته صناديد قريش وحميّتهم العمياء عن طريقة آبائهم في التيه والضلال : (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١).

وفي سورة الزخرف بعد ما يستنكر عليهم جملة من عادات جاهليّة جافية ، ما أنزل الله لها من سلطان ولا أقرّها برهان ، بعد ذلك جاء يؤنّبهم بموضع جهلهم وافتراءاتهم الظالمة :

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ. بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ. وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)

ودليلا على عنادهم هذا الفاضح ولجاجهم هذا العارم ، يقارعهم بقارعة البرهان القامع : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) أي تلحظون الفارق الكبير بين سفاسف الآباء ، وهذه الحقائق الناصعة. فما كان جوابهم إلّا أن (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) وهذه غاية المعاندة واللجاج. ومن ثمّ تحتّم عليهم العذاب : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(٢).

وهذا عرض موجز لما كان يكابده الأنبياء ، ولا سيّما نبيّ الإسلام ، تجاه أهل الشقاء والشقاق.

ومن ثمّ وافته تلكم التسلّيات العديدة ، لغرض الحطّ من همّه الشديد تجاه لجاج قومه ، وكاد يتفجّر به لو لا أن تداركته عنايات ربّه المتواصلة. (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(٣).

وأمثالها من آيات جاءت تسلّي خاطر النبيّ ، فلا تذهب نفسه عليهم حسرات. كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) المائدة ٥ : ١٠٤.

(٢) الزخرف ٤٣ : ٢٠ ـ ٢٥.

(٣) الكهف : ١٨ : ٦.

٤٠٧

يخشى أن يكون قد توانا في تبليغ رسالة الله وقصّر في الأداء. فجاءت الآية لتطمئنّه على وفائه في الأداء واستيفاء التبليغ ، غير أنّ الموفى إليهم قلوبهم صلد لا حياة فيها ولا إحساس (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)(١). أو كما قالوا لنبيّهم عن خبث ولؤم : (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ)(٢).

ومن ثمّ جاء ـ خطابا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)(٣). أي لا عليك أن لم يؤمنوا ، لأنّك قد ذكّرت وبلّغت وأوفيت ، أمّا التأثير فشأنهم هم ، ومدى استحقاقهم لعناية الله لهم ، وقد حرموها.

***

والآية ـ في مفتتحها ـ جاءت لهذا الغرض ، فلا تذهب نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسرات عليهم على أن لم يؤمنوا بهذا الحديث ، على وضوحه وجلاء بيانه.

فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم ويعطف عليهم. فليرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدى وتوفيقهم إليه بمعرفته حيث يشاء ، حيث تواجدت شرائطه واستعدّوا للقبول والاستسلام. (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

فلتفسح لهم صدرك ، ولتفض عليهم سماحتك ، ولتبذل لهم الخير والعون ما احتاجوا إليه منك ورغبوا فيك ، وأمرهم إلى الله. ولا عتبى عليك.

وبعد تقرير هذا الأصل أي السماحة في الدين والرفق بحال المدعوّين ومداراتهم في الهداية والتوجيه الدينيّ ، عطف الكلام عن واقع الإنفاق في سبيله تعالى ، وإنّه عائدة تعود إليهم بعوائدها في نهاية المطاف : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) تعود منافعها ، ولكن على شريطة أن يكون إنفاقا لوجه الله ، الأمر الّذي هو من شأن المؤمن الصادق الإيمان : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) أي هذا شأن المؤمن وخصّيصته ، فإنّه بذاته يجعل مساعيه في الحياة ، كلّها في سبيل مرضاته تعالى. ومن ثمّ (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) في توفية الجزاء.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٨٨.

(٢) هود ١١ : ٩١.

(٣) الغاشية ٨٨ : ٢٢.

٤٠٨

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) قيل : نزلت بشأن الإنفاق على غير أهل الملّة ، حينما تحرّج المسلمون من التصدّق على غير المسلمين ، رجاء أن يرغبوا في الإسلام.

[٢ / ٧٧٩٠] أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال : كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير ، وكانوا يتّقون أن يتصدّقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا ، فنزلت : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ...) الآية (١).

[٢ / ٧٧٩١] وأخرج عن الربيع قال : كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين الرّجل من المشركين قرابة وهو محتاج لا يتصدّق عليه ، يقول : ليس من أهل ديني ، فنزلت : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ...)(٢).

[٢ / ٧٧٩٢] وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني في قوله : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) قال : إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله (٣). أي دينه وطريقته.

[٢ / ٧٧٩٣] وأخرج أبو إسحاق الثعلبي عن الكلبي ، قال : كان ناس من المسلمين كانت لهم رضّاع (٤) في اليهود وكانوا ينفقون عليهم قبل أن يسلموا. فلمّا أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم وأرادوهم أن يسلموا ، فاستأمروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت هذه الآية ، فأعطوهم بعد نزولها (٥).

[٢ / ٧٧٩٤] وأخرج عنه أيضا قال : اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمرة القضاء ، وكانت معه في تلك العمرة أسماء بنت أبي بكر ، فجاءتها أمّها قتيلة وجدّتها تسألانها وهما مشركتان ، فقالت : لا أعطيكما شيئا

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٨٧ ؛ الطبري ٣ : ١٣٠ ـ ١٣١ ، بعد رقم ٤٨٥٥ ؛ القرطبي ٣ : ٣٣٧.

(٢) الدرّ ٢ : ٨٧ ؛ الطبري ٣ : ١٣١ / ٤٨٥٧.

(٣) الدرّ ٢ : ٨٨ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٣٩ / ٢٨٦٠ ؛ ابن كثير ١ : ٣٣١.

(٤) الرّضّاع : جمع الراضع ، وهو الّذي يسأل الناس استرحاما ليستدرّ منهم بالإنفاق عليه ، فكأنّه يرضعهم ، والمقصود من الرّضّاع في قول الكلبي هم قرابات وأصهار للأنصار كانوا من اليهود ، وكانوا معتازين ، وكان الأنصار ينفقون عليهم قبل ظهور الإسلام في المدينة ، فلمّا أن ظهر الإسلام أمسكوا بغية أن يسلموا ويدخلوا في حظيرة الإسلام.

(٥) الثعلبي ٢ : ٢٧٤ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٨١.

٤٠٩

حتّى أستأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّكما لستما على ديني ، فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول هذه الآية أن تتصدّق عليهما فأعطتهما ووصلتهما (١).

[٢ / ٧٧٩٥] وقال مقاتل بن سليمان : نزلت في أسماء بنت أبي بكر سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن صلة جدّها أبي قحافة وعن صلة امرأته وهما كافران ، فكأنّه شقّ عليه صلتهما ، فنزلت : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ...) يعني أبا قحافة (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إلى دينه الإسلام (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) يعني المال (فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) يعني المال (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) يعني توفّر لكم أعمالكم (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) فيها (٢).

قوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً)

ثمّ يخصّ بالذكر مصرفا من مصارف الصدقة ، ولعلّه الأهمّ يومذاك ، وكذا في تصاريف الزمان ، (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

نعم كانت الصدقة والإنفاق في سبيل الله (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وهم يومذاك جماعة من المهاجرين تركوا ورائهم أموالهم وأهليهم وحصرهم الفقر والإعواز. (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) كسبا أو تجارة. حيث إعوازهم رأس المال ، بعد هجرتهم في سبيل الله. (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) والإلحاف في السؤال الإلحاح المزعج ، فهم لتعفّفهم لا يسألون الناس إلّا أحرج بهم الموقف ، وكان سؤالهم حينذاك سؤالا بلطف ومن غير إحراج.

ومن ثمّ ومن جهة تعفّفهم عن كثرة المسألة ، يحسبهم الجاهل بحالهم أغنياء ، فلا يعرفون في ظاهر حالهم الوقور ، وإنّما تعرفهم ـ أنت يا رسول الله ومن على شاكلتك ـ بسيماهم الكئود.

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ٢٧٤ ؛ مجمع البيان ٢ : ١٩٩ ، بخلاف في اللفظ ، وفيه : «فاستأذنته في ذلك» بدل قوله : «فاستأمرته في ذلك» ؛ أبو الفتوح ٤ : ٨١ ؛ الوسيط ١ : ٣٨٧ ، نسبه إلى المفسّرين ؛ القرطبي ٣ : ٣٣٧.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ٢٢٤.

٤١٠

[٢ / ٧٧٩٦] قال الربيع : تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة (١).

[٢ / ٧٧٩٧] وعن ابن زيد : من رثاثة ثيابهم (٢).

[٢ / ٧٧٩٨] وعن ابن مسعود : إنّ الله يحبّ العفيف المتعفّف ، ويبغض الفاحش البذيء ، السائل الملحف ، الّذي إن أعطي كثيرا أفرط في المدح ، وإن أعطي قليلا أفرط في الذمّ.

[٢ / ٧٧٩٩] وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يفتح أحد باب مسألة إلّا فتح الله عليه باب فقر ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يستعفف يعفّه الله. لأن يأخذ أحدكم حبلا يحتطب فيبيعه بمدّ من تمر ، خير له من أن يسأل الناس» (٣).

[٢ / ٧٨٠٠] وفي الحديث أيضا : «إنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده. ويكره البؤس والتباؤس. ويحبّ الحليم المتعفّف من عباده ، ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف» (٤).

وهؤلاء الفقراء الكرام الّذين يكتمون الحاجة ، كأنّما يغطّون عوارا. فلن يكون إعطاؤهم إلّا سرّا وفي تلطّف لا يخدش إباءهم ولا يجرح كرامتهم. ومن ثمّ كان التعقيب موحيا بإخفاء الصدقة وإسرارها ، مطمئنّا لأصحابها على علم الله بها وجزائه عليها. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ). فالله وحده يعلم السرّ ، ولا يضيع عنده الخير.

***

[٢ / ٧٨٠١] وقال أبو علي الطبرسي : قيل : معناه أنّهم لا يسألون الناس أصلا. وليس معناه أنّهم يسألون من غير إلحاف ، عن ابن عبّاس (٥).

قال : وهو قول الفرّاء (٦) والزجّاج (٧) وأكثر أرباب المعاني.

__________________

(١) ابن أبي حاتم ٢ : ٥٤١ / ٢٨٧٤ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٧٧ ، عن الربيع والسدّي ؛ الطبري ٣ : ١٣٥ / ٤٨٧٤.

(٢) الطبري ٣ : ١٣٦ / ٤٨٧٥ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٧٧.

(٣) رواهما الرازي في التفسير ٧ : ٨١. وسنذكرهما.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٣٨٧.

(٥) المصدر : ٢٠٣.

(٦) قال الفرّاء : لا يسألون الناس إلحافا ولا غير إلحاف ، ومثله قولك : قلّما رأيت مثل هذا الرجل ، ولعلّك لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه. (معاني القرآن للفرّاء ١ : ١٨١).

(٧) قال الزجّاج : روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من سأل وله أربعون درهما ، فقد ألحف». ومعنى «ألحف» : اشتمل

٤١١

قال : وفي الآية ما يدلّ عليه ، وهو قوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) في المسألة! ولو كانوا يسألون لم يكن يحسبهم الجاهل أغنياء ، لأنّ السؤال في الظاهر يدلّ على الفقر ، وكذا قوله : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) ؛ ولو سألوا لعرفوا بالسؤال.

قالوا : وإنّما هو كقولك : ما رأيت مثله ، وأنت لم ترد أنّ له مثلا ما رأيته ، وإنّما تريد أنّه ليس له مثل فيرى. فمعناه : لم يكن سؤال فيكون إلحاح. كقول الأعشى :

لا يغمز الساق من أين ومن نصب

ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر

أي ليس بساقه أين ولا نصب ـ وهو التعب والإعياء ـ فيغمزها من أجلهما. والشّرسوف : رأس الأضلاع ، والصّفر : داء للبطن ، أي ليس له صفر ليعضّ على أضلاعه وجعا.

ومثله قول النابغة :

يحفّه جانبا نيق ويتبعه

مثل الزّجاجة لم تكحل من الرمد (١)

أي ليس بها رمد فيكتحل له (٢).

وقال أبو جعفر الطبري : فإن قال قائل : أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غير إلحاف؟ قيل : غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئا على وجه الصدقة إلحافا وغير إلحاف! وذلك أنّ الله وصفهم بأنّهم كانوا أهل تعفّف ، وأنّهم إنّما كانوا يعرفون بسيماهم ، فلو كانت المسألة من شأنهم لم تكن صفتهم التعفّف ، ولعرفوا بذلك قبل دلالة السيماء.

قال : فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فما وجه قوله : (يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) وهم لا يسألون إطلاقا؟

__________________

ـ بالمسألة ، وهو مستغن عنها. واللّحاف من هذا اشتقاقه ، لأنّه يشمل الإنسان في التغطية. والمعنى : أنّه ليس منهم سؤال فيكون منهم إلحاف. كما قال امرؤ القيس :

على لاحب لا يهتدى بمناره

إذا سافه العود الديافيّ جرجرا

المعنى : ليس به منار فيهتدى بها. وكذلك ليس من هؤلاء سؤال فيقع فيه إلحاف. (معاني القرآن للزجّاج ١ : ٣٥٧).

واللاحب : الطريق الواضح اللائح. لا منار فيه ولا علم هناك ليهتدى به ، أي لا حاجة به بعد وضوح الطريق ذاته.

(١) الضمير يعود إلى سرب الحمام. والنيق : أرفع موضع من الجبل. يعني : يطير سرب الحمام بين قمم الجبال ، وتتبعها ـ أي تنظر إليها ـ عين مثل الزجاجة ، يصف فتاة كان تعدّ سرب الحمام حين طيرانها.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٢٠٣ ، و ١ : ٤٧٨.

٤١٢

قيل له : وجه ذلك أنّه تعالى لمّا وصفهم بالتعفّف وأنّهم ليسوا أهل مسألة بحال بقوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ). وأنّهم إنّما يعرفون بالسيماء ، زاد عباده إبانة لأمرهم وحسن الثناء عليهم ، بنفي الشّره والضراعة الّتي تكون في الملحّين ، عنهم (١).

وقال الزمخشري : الإلحاف : الإلحاح ، وهو اللزوم وأن لا يفارق إلّا بشيء يعطاه. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله يحبّ الحيي الحليم المتعفّف ، ويبغض البذيّ السائل الملحف» (٢). قال : ومعناه : أنّهم إن سألوا سألوا بتلطّف ولم يلحّوا.

وقيل : هو نفي للسؤال والإلحاف جميعا ، كقوله : على لاحب لا يهتدى بمناره (٣).

يريد : نفي المنار والاهتداء به.

قال الفخر الرازي : هذه الآية من المشكلات. وأخذ في تأويلها :

أوّلا : ما قاله الزمخشري : إنّ المعنى : أنّهم إن سألوا سألوا بتلطّف ولم يلحّوا. قال الرازي : وهو ضعيف! لأنّه ينافي وصفهم بالتعفّف عن السؤال.

وثانيا : ما خطر بباله : أن ليس المقصود أنّهم لا يلحفون في السؤال. إذ قد علم من قوله تعالى : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أنّهم لا يسألون قطّ. فإذا لم يسألوا قطّ ، فإنّهم لا يلحفون في المسألة.

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٣٦.

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة ٦ : ٩١ / ٦.

(٣) البيت لامرء القيس ، وقبله :

وإنّي زعيم إن رجعت مملّكا

بسير ترى منه الفرانق أزورا

على لاحب لا يهتدى بمناره

إذا سافه العود النباطيّ جرجرا

والزعيم : الكفيل. والفرانق : رائد القوم الّذي يدلّهم على الطريق. والأزور : الحائد عن الطريق. واللّاحب : الطريق اللّائح. والمنار : أعلام الطريق يهتدى بها. وسافه : شمّ. والعود : الجمل المسنّ. والنباطيّ : نسبة إلى النّبط. وهم قوم يحلّون البطاح يستنبطون منها الماء. والجرجرة : صوت يردّده الجمل إذا تعب وأخذه العيّ في المسير. يقول : إذا ملّكوني كنت متكفّلا لهم السير في طريق لائح ، لا حاجة فيه إلى الاهتداء بمعالم وأدلّاء. قال الشيخ محمّد عليان : وهذا نوع من البديع يسمّونه نفي الشيء بإيجابه. ويفسّرونه بأن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء وباطنه نفيه ، بأن ينفي ما هو من سببه ومن لوازمه. وفي البيت نفي الاهتداء بالمنار ، والمقصود : نفي المنار. كما ذكره السيوطي في شرح عقود الجمان. (هامش الكشّاف ١ : ٣١٨ ـ ٣١٩).

٤١٣

بل المقصود التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا! مثاله : ما إذا حضر عندك رجلان ، أحدهما عاقل وقور ثابت ، والآخر طائش مهذار سفيه ، فإذا أردت أن تمدح أحدهما وتعرّض بذمّ الآخر ، قلت : فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام ، لا يخوض في التّرّهات ولا يسرح في السّفاهات.

ولم يكن غرضك من قولك : «لا يخوض في التّرّهات والسّفاهات» وصفه بذلك ، لأنّ ما تقدّم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك ، بل غرضك التنبيه على مذمّة الثاني الّذي يأخذ في ترّهات الكلام.

وكذا ها هنا قوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) بعد قوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) ، الغرض منه التعريض بمن يسأل الناس ويلحف في مسألته ، لتبيّن الفرق البائن بين الجنسين ، ليستحقّ أحدهما المدح والآخر الذمّ (١).

[٢ / ٧٨٠٢] أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس المسكين بالطوّاف الّذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الّذي يتعفّف ولا يجد ما يغنيه ، ويستحي أن يسأل الناس ، ولا يفطن له فيتصدّق عليه» (٢).

[٢ / ٧٨٠٣] وأخرج ابن جرير عن أبي سعيد الخدري ، قال : أعوزنا مرّة ، فقيل لي : لو أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألته! فانطلقت إليه معتفيا (٣) ، فكان أوّل ما واجهني به : «من استعفّ أعفّه الله ، ومن استغنى أغناه الله ، ومن سألنا لم ندّخر عنه شيئا نجده». قال : فراجعت نفسي وقلت : ألا أستعفّ فيعفّني الله! فرجعت فما سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا بعد ذلك من أمر حاجة حتّى مالت علينا الدنيا ، فغرقتنا إلّا من عصم الله (٤).

__________________

(١) التفسير الكبير ٧ : ٨١.

(٢) الدرّ ٢ : ٩١ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٤١ / ٢٨٧٥ ؛ ابن كثير ١ : ٣٣٢ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٧٨ / ١٩٩ ؛ البغوي ١ : ٣٧٨ / ٣٢١ ؛ مسند أحمد ١ : ٣٨٤ و ٤٤٦ و ٢ : ٥٠٥ ـ ٥٠٦ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ٩٢ ، باب في المسكين ، قال الهيثمي : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ؛ البخاري ٥ : ١٦٤ ، كتاب التفسير ، عن أبي هريرة ؛ مسلم ٣ : ٩٥ ـ ٩٦ كتاب الزكاة ، عن أبي هريرة ؛ أبو داوود ١ : ٣٦٨ / ١٦٣١ باب ٢٤ ، عن أبي هريرة ؛ النسائي ٦ : ٣٠٦ / ١١٠٥٣ ، كتاب التفسير عن أبي هريرة ؛ القرطبي ٣ : ٣٤٢.

(٣) اعتفى فلانا : أتاه يطلب معروفه.

(٤) الطبري ٣ : ١٣٦ ـ ١٣٧ / ٤٨٧٦ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٧٨ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٩٢ ؛ أبو يعلى ٢ : ٤٥٥ ـ ٤٥٦ / ٢٩٣ ـ ١٢٦٧.

٤١٤

[٢ / ٧٨٠٤] وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سأل وله قيمة أو قيّة فهو ملحف». قال ابن أبي حاتم : والأوقيّة أربعون درهما (١).

[٢ / ٧٨٠٥] وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سأل وله ما يغنيه ، جاءت مسألته يوم القيامة خذوشا أو كدوحا في وجهه. قالوا : يا رسول الله ، وما غناه؟ قال : خمسون درهما أو حسابها من الذهب» (٢).

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً ...)

وأخيرا يختم دستور الصدقة ـ في هذا الدرس ـ بنصّ عامّ يشمل كلّ طرائق الإنفاق ، وكلّ أوقات الإنفاق ؛ وبحكم عامّ يشمل كلّ إنفاق كان لوجه الله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.)

فالصدقة في جميع أطوارها وأنحائها ، عائدة مضمونة عند الله ، لا تضيع ولا يخيب صاحبها ، حيث أنفقها في سبيل مرضاته تعالى. والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

إنّه التناسق في ختام الدستور القويم ، يوحي بذلك الشمول والتعميم. والمراد بالليل والنهار جميع الأوقات ، كما أنّ المراد بالسرّ والعلن جميع الأحوال والأطوار. والآية بصيغتها العامّة وصف عن الّذين يبادرون إلى فعل الخيرات ما تاحت لهم الفرص ، في أيّ وقت كان وعلى أيّة حالة كانت. ولا يتعلّلون في قضاء حوائج المحتاجين مهما أمكنتهم الظروف ، ولا يتسوّفون ، الأمر الّذي لا يتنافى وشأن نزول الآية ، حيث أنفق عليّ عليه‌السلام في سبيله تعالى جميع ما كان يملكه من دراهمه الأربعة ، ليلا ونهارا ، سرّا وجهارا. مستوعبا جميع الأزمان ومختلف الأحوال. وإليك تفصيل الكلام عنه :

__________________

(١) ابن أبي حاتم ٢ : ٥٤٢ / ٢٨٧٧ ؛ صحيح ابن خزيمة ٤ : ١٠٠ ؛ ابن كثير ١ : ٣٣٣.

(٢) الطبري ٢ : ٧٨٠ / ٤٣٣٥ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٧٩ ؛ البغوي ١ : ٣٧٩ ـ ٣٨٠ / ٣٢٤ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٩٣ ؛ مسند أحمد ١ : ٣٨٨ ؛ ابن ماجة ١ : ٥٨٩ / ١٨٤٠ ، باب ٢٦ ؛ مجمع البيان ٢ : ٢٠٣ ؛ ابن كثير ١ : ٣٣٣.

٤١٥

نزول الآية بشأن علي عليه‌السلام

هذه الآية بصيغتها العامّة شاملة لكلّ من بادر إلى الإنفاق في سبيل الله ما أتيحت له الفرص ، في أيّ وقت كان وعلى أيّ وجه صار ، فإنّ خير الخير ما كان عاجله. وقد كان الإمام أمير المؤمنين ـ عليه صلوات المصلّين ـ أوّل من بادر إلى التصدّق بكلّ ما كان يملكه من دراهم معدودة ، أنفقها في سبيله تعالى ليلا ونهارا ، سرّا وجهارا ، فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما حملك على هذه البادرة السخيّة الطيّبة؟ قال : رغبة في رضوانه تعالى واستيجاب مثوبته. فعند ذلك بشّره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنزول الآية بشأنه.

[٢ / ٧٨٠٦] أخرج الحافظ الكبير عبيد الله بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني الحذّاء الحنفي النيسابوري ، عن أبي نصر محمّد بن عبد الواحد ، عن أبي سعيد محمّد بن الفضل ، عن محمّد بن جعفر القاضي ، عن أبي إبراهيم بن أبي صالح ، عن يوسف بن بلال ، عن محمّد بن مروان السدّي الصغير ، عن محمّد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح باذام مولى أمّ هانئ عن ابن عبّاس ، في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب. لم يكن عنده سوى أربعة دراهم ، فتصدّق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا وبدرهم سرّا وبدرهم علانية. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما حملك على هذا؟ قال : حملني عليها رجاء أن استوجب على الله ما وعدني. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا ، ذلك لك». فنزلت الآية (١).

ورواه من طريق أبي عبد الله الشيرازي بالإسناد إلى أيّوب بن سليمان عن محمّد بن مروان عن ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عبّاس.

ورواه عن أبي الحسن الفارسي بالقراءة عليه في تفسيره ، عن طريق أبي الطيّب الذّهلي بالإسناد إلى يوسف بن بلال عن السدّي عن ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عبّاس.

ورواه بالإسناد إلى عبد الرزّاق عن عبد الوهّاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عبّاس.

وبالإسناد إلى أبي عقيل محمّد بن حاتم بن حاجب الملقّب بشاه عن عبد الرزّاق وأخيه عبد الوهّاب قالا : حدّثنا ابن مجاهد عن أبيه عن ابن عبّاس.

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ : ١٠٩.

٤١٦

وبالإسناد إلى عفّان بن مسلم عن وهيب عن أيّوب عن مجاهد عن ابن عبّاس.

وبالإسناد إلى الأعمش عن أبي صالح عن ابن عبّاس.

وبالإسناد إلى حبّان بن عليّ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس.

هذه عدّة أسانيد اعتمدها الحاكم الحسكاني في طريقه إلى حديث ابن عبّاس ، وأنّ الآية نزلت بشأن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

[٢ / ٧٨٠٧] وأخرج فرات بن إبراهيم عن جعفر بن محمّد الفزاريّ عن عبّاد عن نصر بن مزاحم عن محمّد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس ، قال : نزلت الآية في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وكانت له أربعة دراهم ، فتصدّق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرّا وبدرهم علانية ، فنزلت الآية فيه.

وعن الحسين بن الحكم عن الحسن بن الحسين عن حبّان بن عليّ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس ، مثله.

[٢ / ٧٨٠٨] وعن أحمد بن عيسى بن هارون العجلي عن محمّد بن عليّ العطّار عن عمرو بن عبد الغفّار عن عليّ بن عابس الأزرق عن ليث عن مجاهد ، قال : نزلت في عليّ عليه‌السلام وذكر مثله.

[٢ / ٧٨٠٩] وعن جعفر بن محمّد بن مروان عن أبيه عن إبراهيم بن هراسة عن مسعر بن كدام عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمان السلمي ، قال : إنّي لأحفظ لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أربع مناقب ، فذكر منها هذه الآية وأنّها نزلت بشأنه عليه‌السلام حين تصدّق بدراهمه.

وعن عبد الله بن محمّد بن هاشم الدوري عن عليّ بن الحسن القرشي ، عن عبد الرحمان الشامي عن جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس. وذكر مثله (٢).

فقد أخرج الحديث بخمسة طرق ، من غير طريق عبد الوهّاب بن مجاهد.

[٢ / ٧٨١٠] وأخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم الطبراني وابن عساكر من طريق عبد الوهّاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عبّاس في قوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ

__________________

(١) المصدر : ١٠٩ ـ ١١٥.

(٢) راجع : تفسير فرات : ٧٠ ـ ٧٣ / ٤٢ و ٤٣ و ٤٤ و ٤٥ و ٤٦ ، وتفسير أمجدي : ٢٥٨ ـ ٢٦٠ ، والوسائل ٩ : ٣٩٤ / ٧.

٤١٧

أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كانت له أربعة دراهم ، فأنفق بالليل درهما ، وبالنهار درهما ، وسرّا درهما ، وعلانية درهما (١).

[٢ / ٧٨١١] وهكذا روى موفّق بن أحمد الخوارزمي بإسناده عن عبد الوهّاب بن مجاهد عن أبيه ، قال : كان لعليّ عليه‌السلام أربعة دراهم فأنفق واحدا ليلا وواحدا نهارا وواحدا سرّا وواحدا علانية ، فنزل قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٢).

[٢ / ٧٨١٢] وأخرج الحافظ الخطيب أبو الحسن عليّ بن محمّد الواسطي الشافعي الشهير بابن المغازلي (ت : ٤٨٣) بالإسناد إلى مجاهد عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) قال : هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كان له أربعة دراهم ، فأنفق درهما سرّا ودرهما علانية ودرهما بالليل ودرهما بالنهار (٣).

وأخرجه الگنجي الشافعي ـ أيضا ـ في كفاية الطالب بشأن مناقب آل أبي طالب (٤).

[٢ / ٧٨١٣] وأخرج الواحدي بإسنادة إلى مجاهد ، قال : كان لعليّ عليه‌السلام أربعة دراهم ، فأنفق درهما بالليل ودرهما بالنهار ودرهما سرّا ودرهما علانية ، فنزلت الآية (٥).

[٢ / ٧٨١٤] وأخرج محبّ الدين الطبري عن ابن عبّاس ، قال : نزلت في عليّ عليه‌السلام حين أنفق

__________________

(١) الدرّ ٢ : ١٠٠ ـ ١٠١ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٧١ / ٣٤٤ ؛ الطبري ٥ : ٣٣ ، على الرغم من نقل السيوطي هذا الحديث من تفسير الطبري ، فإنّه قد أسقط من جميع طبعاته ـ وقد تتبّعنا سبع طبعات ـ سوى طبعة (مركز هجر للبحوث والدراسات) فأثبتناه منه ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٤٣ / ٢٨٨٣ ؛ الكبير ١١ : ٨٠ / ١١١٦٤ ؛ ابن عساكر ٤٢ : ٣٥٨ ؛ مجمع الزوائد ٦ : ٣٢٤ ؛ ابن كثير ١ : ٣٣٣ ، بلفظ ابن أبي حاتم ، ثمّ قال : وكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الوهّاب بن مجاهد وهو ضعيف ، لكن رواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عبّاس أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. قلت : وللحديث طرق ربما بلغت التواتر ، أو الاستفاضة ، كما عرفت ؛ القرطبي ٣ : ٣٤٧ ؛ البغوي ١ : ٣٨٠ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٧٩ ؛ مجمع البيان ٢ : ٢٠٤ ؛ وزاد : وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأبي جعفر عليه‌السلام ؛ التبيان ٢ : ٣٥٧ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٩٤ ؛ الوسيط ١ : ٣٩١ ـ ٣٩٢ ، رواه بطريقين عن ابن عبّاس في رواية الكلبي وفي رواية مجاهد عنه ؛ وعبد الوهّاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عبّاس.

(٢) المناقب للخوارزمي : ٢٨١ / ٢٧٥ ، الفصل ١٧.

(٣) مناقب ابن المغازلي : ٢٨٠.

(٤) كفاية الطالب : ٢٣٢.

(٥) أسباب النزول : ٦٤.

٤١٨

دراهمه الأربعة في الليل والنهار ، سرّا وعلانية. قال محبّ الدين : وتابع ابن عبّاس مجاهد وابن السائب ومقاتل (١).

[٢ / ٧٨١٥] وأخرج ابن الأثير بطريقين (٢) عن مجاهد عن ابن عبّاس قال : نزلت في عليّ عليه‌السلام حين أنفق دراهمه الأربعة في سبيل الله ، ليلا ونهارا ، سرّا وعلانية (٣).

[٢ / ٧٨١٦] وقال مقاتل بن سليمان : نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. لم يملك غير أربعة دراهم ، فتصدّق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرّا وبدرهم جهارا. فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما حملك على ذلك؟ قال : حملني أن استوجب من الله الّذي وعدني. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الآن لك ذلك» ، قال : فأنزل الله ـ عزوجل ـ فيه : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً)(٤).

قوله : «حملني أن استوجب من الله الّذي وعدني» يعني : ما وعد الله المنفقين في سبيل الله ، إنفاقا في جميع الأحوال. وليس قوله هذا ناظرا إلى الآية نفسها. فلا ينافي نزولها بشأنه بعد ما أنفق دراهمه الأربعة.

[٢ / ٧٨١٧] قال ابن حجر الهيثمي : وأخرج الواقدي عن ابن عبّاس ، قال : كان مع عليّ عليه‌السلام أربعة دراهم ، لا يملك غيرها. فتصدّق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرّا وبدرهم علانية ، فنزل فيه :

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٥).

***

قلت : وممّا يؤكّد على نزول الآية بشأنه عليه‌السلام هي صيغة الجمع المضاف في قوله تعالى : (يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) الظاهر في الاستيعاب والشمول ، إذ كان عليه‌السلام لا يملك سوى أربعة دراهم ، فأنفقها جميعا في

__________________

(١) الرياض النضرة ٢ : ٢٠٦ ؛ فضائل الخمسة ١ : ٢٧٥.

(٢) عن طريق أبي محمّد عبد الله بن سويدة التكريتي بالإسناد إلى ابن مجاهد عنه عن ابن عبّاس. وعن طريق عفّان بن مسلم عن وهيب عن أيّوب عن مجاهد عن ابن عبّاس.

(٣) أسد الغابة ٤ : ٢٥.

(٤) تفسير مقاتل ١ : ٢٢٥.

(٥) الصواعق المحرقة : ٧٨. وذكره الشبلنجي في نور الأبصار : ٧٠. وهكذا الهيثمي في مجمع الزوائد ٦ : ٣٢٤. قال : ورواه الطبراني.

٤١٩

سبيله تعالى وفي مختلف الأحوال.

وغمز بعضهم في إسناد الحديث ، بسبب عبد الوهّاب بن مجاهد (١).

لكن عرفت من ابن الأثير ، روايته بطريقين. وكذا الواحدي في الوسيط.

هذا فضلا عن استفاضة الحديث بل تواتره نقلا وتحديثا في كتب التفسير والحديث (٢).

وقد تقدّم إخراج الحاكم الحسكاني (٣) وفرات بن إبراهيم (٤) الحديث بعدّة طرق من غير طريق ابن مجاهد فتدبّر جيّدا.

[٢ / ٧٨١٨] وأخرج ابن شهر آشوب عن ابن عبّاس ، والسدّي ، ومجاهد ، والكلبي ، وأبي صالح ، والواحدي ، والطوسي ، والثعلبي ، والطبرسي ، والماوردي ، والقشيري ، والثمالي ، والنقّاش ، والفتّال ، وعبيد الله بن الحسين ، وعليّ بن حرب الطائي في تفاسيرهم ، أنّه كان عند عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أربعة دراهم فضّة ، فتصدّق بواحد ليلا وبواحد نهارا وبواحد سرّا وبواحد علانية ، فنزل : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) ، فسمّى كلّ درهم مالا وبشّره بالقبول. رواه النطنزي (٥) في الخصائص (٦).

[٢ / ٧٨١٩] وروى أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المشتهر بالمفيد ، من كتاب «ابن دأب» (٧) في فضل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وفيه سبعون منقبة له ، ليس لأحد فيها نصيب. وأخرجه بإسناده إليه ، قال ـ عند تعداده لفضائل الإمام عليه‌السلام الخاصّة به ـ : ثمّ الرغبة بالقربة إلى الله

__________________

(١) ابن كثير في التفسير ١ : ٣٣٣. والهيثمي في المجمع ٦ : ٣٢٤.

(٢) فضائل الخمسة للفيروزآبادي ١ : ٢٧٤ ـ ٢٧٦.

(٣) شواهد التنزيل ١ : ١٠٩.

(٤) تفسير فرات : ٧٠ ـ ٧٣.

(٥) والنطنزيّ ، نسبة إلى نطنز : بليدة بنواحي أصبهان. هو أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم بن أحمد ، الأديب البارع من أهل أصبهان ، صاحب التصانيف. توفّي : ٤٩٧. (الأنساب للسمعاني ٥ : ٥٠٥).

(٦) المناقب ١ : ٣٤٥ ؛ البحار ٤١ : ٢٥ ؛ البرهان ١ : ٥٦٧ / ٨.

(٧) هو أبو الوليد عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب. كان فاضلا أديبا عالما بأشعار العرب وأخبارها ، وجامعا للغرر من أحاديث الكرام. كان معاصرا لموسى الهادي العبّاسي ، منادما له. وكان يكرمه ويقدّمه على أقرانه. وله مع موسى الهادي أخبار وطرائف حسان. ذكره المسعودي في المروج. والقمّي في الكنى والألقاب.

٤٢٠