التفسير الأثري الجامع - ج ٦

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-07-4
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٥٩

ذلك فأزداد يقينا. فعاتبه الله ـ عزوجل ـ فقال : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) بإحياء الموتى؟ (قالَ بَلى) يا ربّ علمت وآمنت ولكن ليس الخبر كالمعاينة! فذلك قوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي يسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة (١)!

[٢ / ٧٦٤٤] وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال : أخذ ديكا وطاووسا وغرابا وحماما ، فقطع رؤوسهنّ وقوائمهنّ وأجنحتهنّ ، ثمّ أتى الجبل فوضع عليه لحما ودما وريشا ، ثمّ فرّقه على أربعة أجبال ، ثمّ نودي : أيّتها العظام المتمزّقة واللحوم المتفرّقة والعروق المتقطّعة ، اجتمعن ، يردّ الله فيكنّ أرواحكنّ! فوثب العظم إلى العظم ، وطارت الريشة إلى الريشة ، وجرى الدم إلى الدم ، حتّى رجع إلى كلّ طائر دمه ولحمه وريشه ، ثمّ أوحى الله إلى إبراهيم : إنّك سألتني كيف أحيي الموتى ، وإنّي خلقت الأرض وجعلت فيها أربعة أرواح : الشمال والصبا والجنوب والدبور ، حتّى إذا كان يوم القيامة نفخ نافخ في الصور ، فيجتمع من في الأرض من القتلى والموتى كما اجتمعت أربعة أطيار من أربعة جبال ، ثمّ قرأ : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ)(٢)(٣).

[٢ / ٧٦٤٥] وقال ابن جرير الطبري : ذكرنا عن ابن زيد آنفا (٤) من أنّ إبراهيم لمّا رأى الحوت الّذي بعضه في البرّ وبعضه في البحر ، قد تعاوره دوابّ البرّ ودوابّ البحر وطير الهواء ، ألقى الشيطان في نفسه (٥) فقال : متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى ، ليعاين ذلك عيانا ، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الّذي ألقى فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك. فقال له ربّه : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) يقول : أو لم تصدّق يا إبراهيم بأنّي على ذلك قادر؟ قال : بلى يا ربّ ، لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئنّ قلبي ، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الّذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت (٦).

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ٢٥١ ؛ البغوي ١ : ٣٥٦ ـ ٣٥٧ ؛ التبيان ٢ : ٣٢٦ ؛ مجمع البيان ٢ : ١٧٧ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٢٧ ، بمعناه عن الحسن وقتادة وعطاء والضحّاك وابن جريج ؛ الوسيط ١ : ٣٧٤ ، بمعناه ونسبه إلى المفسّرين.

(٢) لقمان ٣١ : ٢٨.

(٣) الدرّ ٢ : ٣٥ ـ ٣٦.

(٤) الطبري ٣ : ٦٨ / ٣٦٦٤.

(٥) حاش لله ، ليس للشيطان سلطان على عباد الله المخلّصين.

(٦) الطبري ٣ : ٧١ / ٤٦٧٢.

٣٦١

حدّثني بذلك يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد (١).

قلت : حديث غريب! كيف يستحوذ إبليس الطريد على أخلص عباد الله المكرمين؟!

[٢ / ٧٦٤٦] وهكذا أغرب فيما أخرجه عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء بن أبي رباح ، عن قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس؟! فقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ... فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) ليريه (٢).

[٢ / ٧٦٤٧] وقال مقاتل بن سليمان : قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) وذلك أنّه رأى جيفة حمار على شاطئ البحر تتوزّعه دوابّ البرّ والبحر والطير ، فنظر إليها ساعة ، ثمّ قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) يا إبراهيم! يعني قال : أو لم تصدّق بأنّي أحيي الموتى يا إبراهيم؟ (قالَ بَلى) صدّقت (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ليسكن قلبي بأنّك أريتني الّذي أردت (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) قال : خذ ديكا وبطّة وغرابا وحمامة فاذبحهنّ ، يقول : قطّعهنّ ثمّ خالف بين مفاصلهنّ وأجنحتهنّ (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بلغة النبط ، صرهنّ : قطّعهنّ ، واخلط ريشهنّ ودماءهنّ ثمّ خالف بين الأعضاء والأجنحة ، واجعل مقدّم الطير مؤخّر طير آخر ، ثمّ فرّقهنّ على أربعة أجبال (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) فيها تقدير : فدعاهنّ ، فتواصلت الأعضاء والأجنحة ، فأجابته جميعا ليس معهنّ رؤوسهنّ ثمّ وضع رؤوسهنّ على أجسادهنّ ففقفقت (٣) البطّة ، وصوّت الديك ، ونعق الغراب ، وقرقرت الحمامة (٤) يقول : خذهنّ فصرهنّ وادعهنّ يسعين على أرجلهنّ عند غروب الشمس! (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). فقال عند ذلك : أعلم أنّ الله عزيز في ملكه ، حكيم ، يعني حكم البعث ، يقول كما بعث هذه الأطيار الأربعة من هذه الجبال الأربعة فكذلك يبعث الله الناس من أرباع الأرض كلّها ونواحيها. وكان هذا بالشام وكان أمر الطير قبل أن

__________________

(١) المصدر : ٨١ / ٤٧٠٧.

(٢) الطبري ٣ : ٧٠ / ٤٦٧٠ ؛ القرطبي ٣ : ٢٩٨ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٠٨ / ٢٦٩٠.

(٣) الفقفقة : نباح الكلب عند الفرق. وفي التهذيب : حكاية عواءات الكلاب. فقد شبّهت بطبطة البطّة بنباح الكلب ، كأنّها تحاكي عواءات الكلاب.

(٤) أي هديرها.

٣٦٢

يكون له ولد ، وقبل أن تنزل عليه الصحف ، وهو ابن خمس وسبعين سنة (١).

[٢ / ٧٦٤٨] وقال ابن جريج والسدّي : لمّا قال إبراهيم ما قال عند رؤيته الدابّة الّتي تفرّقت الطير والسباع عنها ، حين دنا منها ، وسأل ربّه ما سأل ، قال : فخذ أربعة من الطير ثمّ اخلط بين دمائهنّ وريشهنّ ولحومهنّ ، ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزء حيث رأيت الطير والسباع ذهبت. قال ابن جريج : فجزّأهنّ سبعة أجزاء. ووضعها على سبعة أجبل وأمسك رؤوسهنّ ، ثمّ دعاهنّ فقال : تعالين بإذن الله! فجعلت كلّ قطرة من دم طائر تطير إلى القطرة الأخرى ، وكلّ ريشة تطير إلى الريشة الأخرى ، وكلّ عظم يطير إلى العظم الآخر ، وكلّ بضعة لحم تطير إلى الأخرى ، وإبراهيم ينظر! حتّى لقيت كلّ جثّة بعضها بعضا في السماء بغير رأس! ثمّ أقبلن إلى رؤوسهنّ سعيا ، فكلّما جاء طائر مال برأسه فإن كان رأسه دنا منه ، وإن لم يكن تأخّر حتّى التقى كلّ طائر برأسه ، فذلك قوله تعالى : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً)(٢).

قوله تعالى : (عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

[٢ / ٧٦٤٩] أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس ، في قوله : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يقول : مقتدر على ما يشاء ، ومحكم لما أراد (٣).

[٢ / ٧٦٥٠] وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قال : عزيز في بطشه ، حكيم في أمره (٤)!

[٢ / ٧٦٥١] وعن الربيع : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) في نقمته (حَكِيمٌ) في أمره (٥).

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٢) الثعلبي ٢ : ٢٥٦ ؛ البغوي ١ : ٣٥٩ ؛ الطبري ٣ : ٨٢ / ٤٧٠٨.

(٣) ابن ابي حاتم ٢ : ٥١٣ ـ ٥١٤ / ٢٧٢١.

(٤) الطبري ٣ : ٨٤ / ٤٧١٢.

(٥) الطبري ٣ : ٨٤ / ٤٧١٣. وقد سبق مثله عن الربيع في ٢ : ٤٤٥ / ذيل الآية : ٢١٠ ، و ٦١٧ / ذيل الآية : ٣٧ ، وغير ذلك.

٣٦٣

قال تعالى :

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ

٣٦٤

يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))

فإذا كانت التجارب الثلاث الماضية دروسا حول إنشاء قواعد التصوّر الإيماني وإيضاح هذا التصوّر وتعميق جذوره في نواح شتّى ، وكان محطّا في خطّ السورة الطويلة الّتي تعالج إعداد الجماعة المسلمة للنهوض بتكاليف دورها في قيادة البشريّة ، فمنذ الآن ـ ونحن نقترب إلى نهاية السورة ـ يتعرّض السياق لإقامة قواعد النظام الاقتصادي الاجتماعي الّذي يريد الإسلام أن يقوم عليها المجتمع المسلم ، وأن تنظّم بها حياة الجماعة المسلمة.

إنّه نظام التكافل والتعاون والتراحم والتعاطف ، الممثّل في الزكاة المفروضة ، والصدقات المندوب إليها ، وسائر ما تتمثّل فيه روح هذا التعاطف والتكافل الجماعي. وليس النظام الربوي الاستثماري الّذي كان حاكما على الجاهليّة الأولى ، ولا تزال سائدة على الأوضاع الاجتماعيّة الراهنة في أكثر المجتمعات المختلعة عن معالم الإنسانيّة الكريمة.

ومن ثمّ يتحدّث عن آداب الإنفاق في سبيل الله ، وشرائط إخلاصه المتناسب مع كرامة الإنسان وعواطفه النبيلة. ويمقت كارثة الربا وآثارها السيّئة المهدّدة لسلامة الاقتصاد العامّ.

وهكذا يقرّر أحكام الدين والتجارة في الدروس الآتية في السورة. وهي تكوّن في مجموعها جانبا أساسيّا من نظام الاقتصاد الإسلامي العادل ، والحياة الاجتماعيّة السليمة الّتي تقوم عليه.

وبين هذه الدروس الثلاثة الآتية ، صلة وثيقة ، فهي ذات موضوع واحد متشعّب الأطراف ، موضوع النظام الاقتصادي الإسلامي القويم.

وفي هذا الدرس نجد الحديث عن وظيفة البذل والإنفاق ودستور الصدقة والتكافل ، ويرسم السياق في تفصيل وإسهاب ؛ يرسم هذا الدستور مظلّلا بظلال أليفة رفيقة تبثّ روح العطف والحنان والتوادّ والتراحم. وترفع بالإنسانيّة إلى مستوى كريم ، المعطي فيه والآخذ على سواء.

والآن نواجه النصّ القرآني في هذا الدرس :

٣٦٥

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

وهذا الدستور لا يبدأ بالفرض والتكليف ، إنّما يبدأ بالحضّ والتأليف. ويستعرض صورة بهيجة من عمل كانت غايته رضى الله ـ سبحانه ـ آخذة في التصاعد إلى قمم الكمال.

إنّه يعرض صورة من صور الحياة النابضة النامية المعطية الواهبة : صورة الزرع! هبة الأرض أو هبة الله! الزرع الّذي يعطي أضعاف ما يأخذ ، ويهب غلّاته مضاعفة بالقياس إلى بذوره. يعرض هذه الصورة الموحية مثلا للّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل ، في كلّ سنبلة مئة حبّة ، فذاك بسبعمائة ، لكنّه من هبة الأرض المحدودة ، والمثال قاصر عن إفادة مدى الأثر الّذي يخلفه الإنفاق في طاعة الله. ومن ثمّ عقّبه بقوله : (وَاللهُ واسِعٌ) سعة لا نهائيّة (عَلِيمٌ) بما بذره الباذر الباذل في سبيل رضاه.

فالله ـ تعالى ـ واسع لا يضيق عطاؤه ولا يكفّ ولا ينضب. عليم بالنوايا ، ويثيب عليها ، ولا تخفى عليه خافية.

***

ولكن أيّ إنفاق هذا الّذي ينمو ويربو؟ وأيّ عطاء هذا الّذي يضاعفه الله في الدنيا والآخرة لمن يشاء؟

إنّه الإنفاق الّذي يرفع المشاعر الإنسانيّة ولا يشوبها ، الإنفاق الّذي لا يخدش شعورا ولا يحطّ كرامة ، الإنفاق الّذي ينبعث عن سماحة ونقاء ، ويتّجه إلى الله وحده ابتغاء رضاه.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

والمنّ عنصر كريه لئيم ، وشعور خسيس هابط. فالنفس البشريّة لا تمنّ بما سمحت إلّا إذا أعطت رغبة في الاستعلاء الكاذب ، أو رغبة في إذلال الآخذ ، أو رغبة في إلفات أنظار الناس. فالتوجّه إذن للناس لا لله بالعطاء. الأمر الّذي لا تجيش في قلب طيّب ، ولا يخطر كذلك في قلب مؤمن نزيه.

وقد ثبت عند علماء النفس بأنّ المنّ في الإحسان قد يسبّب ردّ فعل طبيعي في النفس

٣٦٦

البشريّة ، وهو العداء في يوم من الأيّام ، إذ الآخذ يحسّ بامتهان وحقارة في نفسه تجاه المعطي. ويظلّ هذا الشعور يحزّ في نفسه ويزيد في ألمه كلّما شعر أنّ صاحب الفضل عليه يريد إذلاله والامتهان بشأنه ، وهذا شيئا فشيئا يتحوّل إلى عداء مضمر قد ينبثق ويثور أواره في يوم من الأيّام.

ومن ثمّ فإنّ المنفق ماله في سبيل رضى الله ومن غير منّ ولا أذى في أذى في كرامة أحد من الناس ، فإنّه آمن من أن يعود وبالا عليه ، لا في دنيا ولا في عقبى. (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) محفوظ لا يضيع ، (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من فقر ولا من حقد ولا من غبن ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما أنفقوا في الدنيا ، ولا على مصيرهم في الآخرة.

***

[٢ / ٧٦٥٢] روى أبو جعفر البرقي بالإسناد إلى ابن محبوب عن عمر بن يزيد ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله له عمله بكلّ حسنة سبعمائة ضعف ، فذلك قول الله : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ). فأحسنوا أعمالكم الّتي تعملونها لثواب الله. قلت : وما الإحسان؟ قال : إذا صلّيت فأحسن ركوعك وسجودك ، وإذا صمت فتوقّ كلّ ما فيه فساد صومك ، وإذا حججت فتوقّ كلّ ما يحرم عليك في حجّتك وعمرتك ، قال : وكلّ عمل تعمله فليكن نقيّا من الدنس» (١).

[٢ / ٧٦٥٣] وقال عليه‌السلام : («وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) لمن أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله» (٢).

[٢ / ٧٦٥٤] وأخرج ابن ماجة وابن أبي حاتم عن عمران بن حصين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكلّ درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك ، فله بكلّ درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم ، ثمّ تلا هذه الآية : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ)» (٣).

__________________

(١) المحاسن ١ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ / ٢٨٣ ، باب ٣٠ (الإخلاص في العمل) ؛ ثواب الأعمال : ١٦٨ ؛ العيّاشي ١ : ١٦٦ ـ ١٦٧ / ٤٧٩ و ٤٨٢ ؛ البحار ٦٥ : ٢٤ و ٦٨ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨ ، و ٧١ : ٤١٢ ؛ الأمالي للطوسي : ٢٢٣ ـ ٢٢٤ / ٣٨٨ ـ ٣٨ ، المجلس ٨ ؛ البرهان ١ : ٥٥٥ / ٢ ؛ نور الثقلين ١ : ١٨١ و ١٨٣.

(٢) القمّي ١ : ٩٢. وسيأتي تمام الحديث.

(٣) الدرّ ٢ : ٣٧ ؛ ابن ماجة ٢ : ٩٢٢ / ٢٧٦١ ، باب ٤ ، في رواية خليل بن عبد الله عن الحسن عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ـ وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعمران بن الحصين ، كلّهم يحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥١٥ / ٢٧٣٠ ، في رواية خليل بن عبد الله عن الحسن عن عمران بن حصين ؛ ابن كثير ١ : ٣٢٥ ، قال : هذا حديث غريب.

٣٦٧

[٢ / ٧٦٥٥] وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) قال : واسع أن يزيد من سعته ، عالم بمن يزيده (١).

***

وتوكيدا للمعنى الّذي سلف من حكمة الإنفاق والبذل ، توكيدا لأنّ الغرض هو تهذيب النفوس وترضية القلوب ، وربط الواهب والآخذ برباط الحبّ في الله. يقول تعالى : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ).

فيقرّر أنّ الصدقة الّتي يتبعها أذى لا ضرورة لها ، وأولى منها كلمة طيّبة وشعور سمح. كلمة طيّبة تضمد جراح القلوب ، وتنعمها بالرضى والبشاشة.

(وَمَغْفِرَةٌ) : إعفاء للسائل بلين وردّ جميل ، خير من صدقة يتبعها أذى.

[٢ / ٧٦٥٦] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتّى يفرغ منها ، ثمّ ردّوا عليه بوقار ولين ؛ إمّا بذل يسير أو ردّ جميل» (٢).

[٢ / ٧٦٥٧] وروى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن محمّد بن سنان عن إسحاق بن عمّار عن الوصّافي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «كان فيما ناجى الله ـ عزوجل ـ به موسى عليه‌السلام قال : يا موسى أكرم السائل ببذل يسير أو بردّ جميل ؛ لأنّه قد يأتيك من ليس بإنس ولا جانّ ، ملائكة من ملائكة الرحمان يبلونك فيما خوّلتك ويسألونك عمّا نوّلتك ، فانظر كيف أنت صانع ، يا ابن عمران!» (٣).

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٣٧ ؛ الطبري ٣ : ٨٧ / ٤٧١٩ ؛ التبيان ٢ : ٣٣٣ ؛ مجمع البيان ٢ : ١٨٠ ، بلفظ : «قيل : واسع الرحمة لا يضيق عن المضاعفة عَلِيمٌ بما يستحقّ الزيادة ، عن ابن زيد».

(٢) مجمع البيان ٢ : ٣٧٥ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٦١ ؛ نور الثقلين ١ : ٢٨٣ ؛ القرطبي ٣ : ٣١٠.

(٣) الكافي ٤ : ١٥ / ٣ ، أبواب الصدقة ، باب كراهيّة ردّ السائل ؛ الفقيه ٢ : ٦٨ / ١٧٤٤ ، باب فضل الصدقة ؛ البحار ٥٦ : ١٩٠ / ٤٣ ، باب ٢٣ ؛ نور الثقلين ٥ : ٥٩٧ ـ ٥٩٨ / ٢٧ ، سورة الضحى ٩٣ : ١٠.

٣٦٨

ولأنّ الصدقة ـ في واقعها ـ ليست تفضّلا من المانح على الآخذ ، إنّما هي قرض لله. عقّب على هذا بقوله : (وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) غنيّ عن الصدقة المؤذية ، حليم عن فرطاتكم في جنب الله ، فلم تراعوا حريمه حقّ رعايته ، ولكنّ الله غفور رحيم.

قوله : (وَمَغْفِرَةٌ) يراد بها التجاوز عن الإساءة ، فيما إذا تجاسر السائل أو ألحّ في سؤاله أو جفى بحقّ المسؤول ، كأن يقول : أعطني حقّ الله الّذي منحك ، أو امنحني حقّي الّذي فرضه الله في أموالك ، ونحو ذلك من التعابير الّتي قد يثير غضب المتصدّق فيقابله بالجفاء والردّ ، وقد قال تعالى : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(١) مهما جفاك في السؤال والإلحاح.

فإن لم يكن لديه ما يقضي به حاجة السائل المحتاج وكان قد ألحّ عليه ، فليكن ردّه برفق ، ويرفقه بالاستغفار له قائلا : ليس عندي ما أسدّ به فقرتك ، فاذهب يرحمك الله ويغفر لك.

[٢ / ٧٦٥٨] وأخرج ابن المنذر عن الضحّاك في قوله : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) الآية. قال : ردّ جميل ؛ يقول : يرحمك الله يرزقك الله ، ولا ينتهره ولا يغلظ له القول (٢).

[٢ / ٧٦٥٩] وعن بشر بن الحرث قال : رأيت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في المنام فقلت : يا أمير المؤمنين ، تقول شيئا لعلّ الله ينفعني به! فقال : «ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء رغبة في ثواب الله ، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بموعود الله ـ عزوجل ـ». فقلت : يا أمير المؤمنين زدني ، فولّى وهو يقول :

قد كنت ميتا فصرت حيّا

وعن قليل تصير ميتا

فاضرب بدار الفناء بيتا

وابن بدار البقاء بيتا (٣)

***

هذا ، وبعد استعراض مشهد الحياة النامية الواهبة مثلا للّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، دون أن يتبعوا ما أنفقوا منّا ولا أذى ، وبعد التلويح بأنّ الله غنيّ عن ذلك النوع المؤذي من الصدقة وأنّه تعالى هو الواهب الرازق ، ولا يعجل بالغضب.

__________________

(١) الضحى ٩٣ : ١٠.

(٢) الدرّ ٢ : ٤٣.

(٣) الثعلبي ٢ : ٢٦١ ؛ تاريخ بغداد ٩ : ٤٣٢ ؛ القرطبي ٣ : ٣١٠.

٣٦٩

نعم ، وعند ما يصل التأثّر الوجداني غايته بهذا وذاك ، يتوجّه بالخطاب إلى الّذين آمنوا أن لا يبطلوا صدقاتهم بالمنّ والأذى ، ويرسم لهم مشهدا عجيبا في منظرين عجيبين يتّسقان مع المشهد الأوّل ـ مشهد الزرع والنماء ـ ويصوّران كلّا من طبيعة الإنفاق الخالص لله ، وطبيعة الإنفاق المشوب بالمنّ والأذى ، على طريقة التصوير الفنّي في القرآن ؛ الّتي تعرض المعنى صورة ، والأثر حركة والحالة مشهدا شاخصا للخيال (١) يقول تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا).

فمثل إنفاق المرائي في حظّه ممّا أنفق ، كمثل حجر صلب أملس ، عليه غشاء من غبار ، لا ثقل له ولا وزن ، فأصابه مطر هاطل من السماء بشدّة ، فأزال ما عليها من أثر الغبار إزالة بالغة.

والوابل : المطر الغزير الهاطل بشدّة ، وهطول المطر : نزوله متتابعا عظيم القطر. وإنّما سمّي وابلا ، لأنّه في الأكثر يعود وبالا للزرّاع. قال الراغب : الوابل ، المطر الثقيل القطار. قال : ولمراعاة الثقل قيل للأمر الّذي يخاف ضرره : وبال.

والصفوان : الحجارة الملساء الصافية من النشوزات ، فلا يثبت عليها عالق ، إذا كانت بمعرض هبوب الرياح العاصفة أو الأمطار الغزيرة الهاطلة.

والحجر الصّلد : هو الّذي لا ينبت. ومنه قيل : رأس صلد ، لا ينبت شعرا. وناقة صلود ومصلاد : قليلة اللّبن. وفرس صلود : لا يعرق. وصلد الزند : لم يخرج ناره. قاله الراغب.

[٢ / ٧٦٦٠] أخرج الطستي في مسائله عن ابن عبّاس ، أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله : (صَفْوانٍ) قال : الحجر الأملس! قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت قول أوس بن حجر :

على ظهر صفوان كأنّ متونه

عللن بدهن يزلق المتنزّلا

قال : فأخبرني عن قوله : (صَلْداً). قال : أملس. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت قول أبي طالب :

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٤٥١.

٣٧٠

وإنّي لقرم وابن قرم لهاشم

لآباء صدق مجدهم معقل صلد (١)

لكنّ تفسير الصلد بالملاسة يحتاج إلى قيد بالصلابة والجدب. فليس كلّ أملس صلدا. وأكثر ما يستعمل في الحجر وفي الأرض الصلداء الغليظة الصلبة (٢).

[٢ / ٧٦٦١] وهكذا أخرج ابن جرير عن الضحّاك ، قال : (فَتَرَكَهُ صَلْداً) : فتركه جردا (٣).

والأرض الجرداء : لا نبات فيها. ومنه الجراد : دويبّة تجرّد الأرض من النبات.

[٢ / ٧٦٦٢] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس ، قال : (فَتَرَكَهُ صَلْداً) : يابسا خاسئا لا ينبت شيئا (٤).

[٢ / ٧٦٦٣] وعن قتادة ، قال : (فَتَرَكَهُ صَلْداً) : نقيّا ليس عليه شيء (٥).

[٢ / ٧٦٦٤] وقال عليّ بن إبراهيم : ثمّ ضرب الله فيه مثلا ، فقال : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ). قال : من كثر امتنانه وأذاه لمن يتصدّق عليه بطلت صدقته كما يبطل التراب الّذي يكون على صفوان ، والصفوان : الصخرة الكبيرة الّتي تكون في مفازة فيجيء المطر فيغسل التراب عنها ويذهب به ، فضرب الله هذا المثل لمن اصطنع معروفا ثمّ أتبعه بالمنّ والأذى (٦).

[٢ / ٧٦٦٥] وقال الصادق عليه‌السلام : «ما من شيء أحبّ إليّ من رجل سلفت منّي إليه يد أتبعتها أختها وأحسنت بها له ، لأنّي رأيت منع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل!» (٧).

[٢ / ٧٦٦٦] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) يقول : يمنّ بها فإنّ ذلك أذى لصاحبها. وكلّ صدقة يمنّ بها صاحبها على المعطى فإنّ المنّ

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٤٥.

(٢) راجع مسائل ابن الأزرق رقم ١٧٤ (الإعجاز البياني ـ بنت الشاطي : ٤٨٣).

(٣) الطبري ٣ : ٩٥ / ٤٧٤٥.

(٤) ابن أبي حاتم ٢ : ٥١٨ / ٢٧٤٩.

(٥) عبد الرزّاق ١ : ٣٦٩ / ٢٣٧ ؛ الطبري ٣ : ٩٥ / ٤٧٤٦.

(٦) القميّ ١ : ٩١ ـ ٩٢ ؛ نور الثقلين ١ : ٢٨٤ / ١١٧ ؛ البرهان ١ : ٥٥٨ / ٢ ؛ البحار ٢ : ١٨٥.

(٧) القمّي ١ : ٩١ ـ ٩٢ ؛ نور الثقلين ١ : ٢٨٤ / ١١٧ ؛ البرهان ١ : ٥٥٨ / ٢ ؛ البحار ٢ : ١٨٥.

٣٧١

يبطلها. فضرب الله ـ عزوجل ـ مثل لذلك : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ) يقول : ولا يصدّق بأنّه واحد لا شريك له (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يقول : ولا يصدّق بالبعث الّذي فيه جزاء الأعمال ، أنّه كائن. فمثله يعني مثل الّذي يمنّ بصدقته كمثل مشرك أنفق ماله في غير إيمان ، فأبطل شركه الصدقة ، ما أبطل المنّ والأذى صدقة المؤمن. ثمّ أخبر عمّن منّ بها على صاحبه فلم يعط عليها أجرا ولا ثوابا ، ثمّ ضرب الله ـ عزوجل ـ لهما مثلا فقال في مثله : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ) يعني الصفا (عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ) يعني المطر الشديد (فَتَرَكَهُ صَلْداً) يقول : ترك المطر الصفا صلدا نقيّا أجرد ليس عليه تراب ، فكذلك المشرك الّذي ينفق في غير إيمان ، وينفق رئاء الناس ، وكذلك صدقة المؤمن إذا منّ بها. وذلك قوله ـ سبحانه ـ : (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) يقول : لا يقدرون على ثواب شيء ممّا أنفقوا يوم القيامة ، وذلك قوله ـ عزوجل ـ : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى) ثواب (شَيْءٍ)(١) يوم القيامة كما لم يبق على الصفا شيء من التراب حين أصابه المطر الشديد (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٢).

وعليه ، فيكون مثل إنفاق المرائي مثل ذلك الغشاء الرقيق من الغبار يعلو حجرا أملس لفترة جدّ قصيرة ، ويزول من فوره على أثر هبوب ريح عاصفة أو هطول مطر غزير. (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)(٣).

قوله تعالى : (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أي لا يستحصلون من آثار أعمالهم الحسنة ـ في ظاهرها ـ شيئا يعود عليهم بمنافع. إذ لا حصاد إذا كان الزارع قد أفسد زرعه. وكذلك المرائي قد أحبط عمله.

نعم من كان رائده الشيطان فإنّه سيهديهم إلى سراب يحسبه الظمآن ماء.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) ، وهذا قد كفر بأنعم لله وأعرض عن ذكره ومن ثمّ خذله الله وتركه ونفسه ، فكان طعمة للطاغوت (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ)(٤).

__________________

(١) إبراهيم ١٤ : ١٨.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ٢٢٠ ـ ٢٢١.

(٣) الفرقان ٢٥ : ٢٣.

(٤) البقرة ٢ : ٢٥٧.

٣٧٢

والآن فلنشاهد المنظر الآخر ، المقابل لمنظر قلب المرائي العاثر ، فها هو قلب عامر بالإيمان ، نديّ ببشاشة ، ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله ، وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير ، نابعة من الإيمان ، عميقة الجذور في الضمير.

وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء ، يمثّله صفوان عليه غشاء من التراب ، فالقلب المؤمن تمثّله جنّة ، جنّة خصبة عميقة التربة في مقابل.

قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

هذا هو المنظر الآخر المقابل للمنظر الأوّل ـ كان منظر قلب مراء عاثر ـ وها هو قلب مؤمن عامر بالإيمان ، نديّ ببشاشة ، ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله ، حيث الخير كلّه في رضاه تعالى.

وكذلك ينفق ماله لتثبيت نفسه ، ليكون على ثقة من دينه وترسيخ إيمانه بالله تعالى. فلا يعمل لغير رضاه تعالى ، ويجهد بكلّ عزمه في سبيل بثّ الخير وفي صالح المجتمع العام.

فمثله كمثل جنّة خصبة عميقة التربة ـ في مقابل حفنة التراب على الصفوان ـ جنّة تقوم على ربوة : أرض ذات صلاحيّة للزرع والنماء. في مقابل حجر صلد أجرد.

وهذه الأرض الطيّبة يزيد في خصبها ونماء زرعها ، هطول الأمطار عليها بغزارة ، من غير خوف الفساد ، حيث ثبات جذور الزرع والنبات ، الأمر الّذي جعل المنظر متناسق الأشكال ، فإذا جاء الوابل ، لم يذهب بالتربة الخصبة هنا ، كما ذهب بغشاء التراب هناك ، بل أحياها وأخصبها وأنماها.

ومن ثمّ عند ما أصابها وابل ، آتت أكلها ـ ثمرها ـ ضعفين. أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن المعوز ، فيزكو ويزداد صلة بالله. ويزكو ماله كذلك ويضاعف الله ما يشاء. وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بمثل هذا الإنفاق ـ الخالص لوجه الله ـ وتصلح وتنمو.

وحتّى (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ) مطر غزير ثقيل القطار ، (فَطَلٌ) الطلّ : ضعيف المطر ورذاذه. الأمر الّذي يفي بتبليل الأرض الخصبة ويكفي في إنمائها. حيث القابليّة المؤاتية تتجاوب مع أقلّ الإمكانيّات.

وهكذا تزكو الصدقات وتنمو بركاتها ، مهما تواجدت شرائطها متوفّرة أو مقصورة.

وكما قال سيّد قطب : بحقّ إنّه مشهد كامل ، لمنظرين متقابلين متناسقي الجزئيّات ، مشهد

٣٧٣

معروض بطريقة معجزة التناسق والأداء ، الممثّل بمناظره الشاخصة لكلّ خالجة في القلب وكلّ خاطرة ، المصوّر للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات ، الموحي للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب (١).

ولمّا كان المشهد مجالا للبصر والبصيرة معا ، ومردّ الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما خفي وظهر ، جاء التعقيب لمسة للقلوب.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) : بصير بما يجري على أيدي الناس ، بصير بما يدور في القلوب. إنّه عليم خبير ، عالم الغيب والشهادة ، لا يعزب عن علمه شيء.

قوله تعالى : (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ)

[٢ / ٧٦٦٧] أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الشعبي : (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) قال : تصديقا ويقينا (٢).

[٢ / ٧٦٦٨] وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : لا يريدون سمعة ولا رياء (٣).

[٢ / ٧٦٦٩] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن قال : كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبّت ، فإن كان لله أمضى ، وإن خالطه شكّ أمسك (٤).

[٢ / ٧٦٧٠] وقال ابن كيسان : إخلاصا وتوطينا لأنفسهم على طاعة الله عزوجل في نفقاتهم (٥).

[٢ / ٧٦٧١] وقال أبو عليّ الطبرسيّ : (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، بقوّة اليقين والبصيرة في الدين ، عن

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٤٥٣.

(٢) الدرّ ٢ : ٤٦ ؛ الطبري ٣ : ٩٦ / ٤٧٤٧ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥١٩ ـ ٥٢٠ / ٢٧٥٦ و ٢٧٥٥ ، عن الشعبي بلفظ : «يقينا من أنفسهم» ؛ الثعلبي ٢ : ٢٦٣ بلفظ : «تصديقا من أنفسهم» ، عن الشعبي والكلبي والضحّاك ؛ مجمع البيان ٢ : ١٨٧ ، عن سعيد بن جبير والسدّي والشعبي ، بلفظ : «بقوّة اليقين والبصيرة في الدين» ؛ التبيان ٢ : ٣٣٨ ، بلفظ الطبرسي ، عن ابن زيد والسدّي وأبي صالح والشعبي ؛ أبو الفتوح ٤ : ٥٨ ، بنحو ما رواه الثعلبي ؛ القرطبي ٣ : ٣١٤ ، عن ابن عبّاس.

(٣) الدرّ ٢ : ٤٥ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥١٩ / ٢٧٥٤.

(٤) الدرّ ٢ : ٤٦ ؛ الطبري ٣ : ٩٧ / ٤٧٥٢ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٦٤ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٥٨.

(٥) الثعلبي ٢ : ٢٦٤ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٥٨.

٣٧٤

سعيد بن جبير والسدّي والشعبي. وقيل : معناه : أنّهم يتثبّتون أين يضعون صدقاتهم ، عن الحسن ومجاهد. وقيل : معناه : توطينا لنفوسهم على الثبوت على طاعة الله ، عن أبي عليّ الجبّائي.

واعترض على الحسن ومجاهد بأنّه لم يقل : وتثبّتا. قال الطبرسي : وليس هذا بشيء ، لأنّهم إذا ثبّتوا أنفسهم فقد تثبّتوا (١).

[٢ / ٧٦٧٢] وقال مقاتل بن سليمان : ثمّ ذكر نفقة المؤمن الّذي يريد بنفقته وجه الله ـ عزوجل ـ ولا يمنّ بها فقال ـ سبحانه ـ : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) يعني وتصديقا من قلوبهم ، فهذا مثل نفقة المؤمن الّتي يريد بها وجه الله ولا يمنّ بها. (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) يعني بستان في مكان مرتفع مستو تجري من تحتها الأنهار (أَصابَها) يعني أصاب الجنّة (وابِلٌ) يعني المطر الكثير الشديد (فَآتَتْ أُكُلَها) يقول : أضعفت ثمرتها في الحمل (ضِعْفَيْنِ) فكذلك الّذي ينفق ماله لله من غير منّ يضاعف له نفقته إن كثرت أو قلّت ، كما أنّ المطر إذا اشتدّ أو قلّ أضعف ثمرة الجنّة حين أصابها وابل (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) أي أصابها طشّ من المطر وهو الرذاذ مثل الندى (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) يعني بما تنفقون (بَصِيرٌ)(٢).

[٢ / ٧٦٧٣] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن ، يقول : ليس لخيره خلف كما ليس لخير هذه الجنّة خلف على أيّ حال كان ، إن أصابها وابل وإن أصابها طلّ (٣)!

قوله تعالى : (بِرَبْوَةٍ)

[٢ / ٧٦٧٤] أخرج ابن جرير عن مجاهد قال : الربوة ، الأرض المستوية المرتفعة (٤).

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ١٨٧ ؛ التبيان ٢ : ٣٣٨.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ٢٢١.

(٣) الدرّ ٢ : ٤٦ ـ ٤٧ ؛ الطبري ٣ : ١٠٢ / ٤٧٦٧ ، بلفظ : «هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن ، يقول : ليس لخيره خلف ، كما ليس لخير هذه الجنّة خلف على أيّ حال ، إمّا وابل ، وإمّا طلّ» ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٢٢ / ٢٧٦٩ ، بخلاف ؛ الوسيط ١ : ٣٧٩ ؛ معاني القرآن للنّحاس ١ : ٢٩٣.

(٤) الدرّ ٢ : ٤٦ ؛ الطبري ٣ : ١٠٠ بعد الرقم : ٤٧٥٤ ؛ التبيان ٢ : ٣٣٩ ، عن ابن عبّاس والضحّاك والحسن ومجاهد والسدّي والربيع ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٧٠ / ٣٤٠ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٢٠ / ٢٧٥٩.

٣٧٥

أي لا تغمرها المياه الفاسدة النازّة من الأرض (نزيز) لا تصلح للريّ ، بل تفسد الزرع إذا أصابته.

[٢ / ٧٦٧٥] وهكذا روى عن الحسن ، قال : هي الأرض المستوية الّتي تعلو فوق المياه. وفي رواية : لا تعلو فوقها المياه ، أي الضارة بالزرع (١).

قوله تعالى : (فَطَلٌ)

[٢ / ٧٦٧٦] أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحّاك قال : الطلّ ، الرذاذ من المطر ، يعني اللين منه (٢).

[٢ / ٧٦٧٧] وقال القرطبي : «والطلّ» : المطر الضعيف المستدق من القطر الخفيف ، قاله ابن عبّاس وغيره ، وهو مشهور اللغة (٣).

[٢ / ٧٦٧٨] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة : (فَطَلٌ) قال : طشّ. وكذا روى عن الربيع (٤).

والطشّ والطشيش : المطر الضعيف. يقال : طشّت السماء ؛ أتت بالطشيش.

[٢ / ٧٦٧٩] وعن جويبر سئل عن الطلّ قال : الركّ من المطر. فقيل له : وما الركّ؟ قال : المطر اللّيّن (٥).

يقال : ركّ يركّ : ضعف ورقّ. والرّكّ والرّكّ : المطر الضعيف.

وفسّر أيضا بالندى : ما يسقط على أوراق الأشجار ليلا من طراوة حاصلة من البخار المتكاثف.

[٢ / ٧٦٨٠] أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس : (فَطَلٌ) قال ندى. وهكذا عن قتادة ، قال : الطلّ :

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٠٠ / ٤٧٦٠ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٧٠ / ٣٤٠.

(٢) الدرّ ٢ : ٤٦ ؛ الطبري ٣ : ١٠١ / ٤٧٦٤ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٢١ / ٢٧٦٧ ، عن مقاتل ؛ التبيان ٢ : ٣٣٩ ، عن الحسن والضحّاك والربيع وقتادة ؛ ابن كثير ١ : ٣٢٦.

(٣) القرطبي ٣ : ٣١٧.

(٤) الدرّ ٢ : ٤٦ ؛ الطبري ٣ : ١٠١ / ٤٧٦٣ و ٤٧٦٥ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٢١ / ٢٧٦٦ ، عن الربيع.

(٥) ابن أبي حاتم ٢ : ٥٢١ / ٢٧٦٨.

٣٧٦

الندى. وكذلك السدّي ، قال : أمّا الطلّ فالندى (١).

***

وهناك مشهد آخر يمثّل مغبّة كفران النعم ، وسوء عاقبة من لا يجعل الله نصب عينيه ويغفل التكلان عليه في أموره كلّها ، الكبار منها والصغار. فهذا لا يضمن له الفلاح ، ما دام على غفلته وعماه.

وهكذا تنمحق آثار الصدقة ـ من المرائي المعجب بنفسه ـ محقا ، في وقت لا يملك صاحبها قوّة ولا عونا ، ولا يستطيع لذلك المحق ردّا.

وهذا المشهد تمثيل لهذه النهاية البائسة ، في صورة موحية عنيفة الإيحاء. كلّ ما فيها عاصف بعد أمن ورخاء.

يقول تعالى ـ في صورة استفهام استنكار تحذير ـ : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).

نعم ، إنّ هذه الصدقة ـ الّتي يصحبها منّ وأذى ، والّتي لا يعود لصاحبها بعائدة ، ويخيب آماله فيها في نهاية المطاف ـ هذه الصدقة في أصلها وفي آثارها تمثّل في عالم المحسوسات :

(جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) والجنّة : حديقة ذات شجر ملتفّ. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، تجري خلالها وتحت أظلّة أشجارها. (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) من كلّ أنواع الثمار.

إنّها روضة بهيجة ، ظليلة وارفة مخصبة مثمرة.

وكذلك الصدقة في طبيعتها وفي آثارها ، كذلك هي في حياة المعطي وفي حياة الآخذ ، وفي حياة الجماعة المسلمة ، هي ذات روح وظلّ وارف ، وذات خير وبركة يعمّ نفعها الجميع.

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٤٦ ؛ الطبري ٣ : ١٠١ / ٤٧٦١ و ٤٧٦٢ ؛ القرطبي ٣ : ٣١٧ ، عن مجاهد ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٢١ / ٢٧٦٦ ، عن مجاهد ، وزاد : وروي عن عكرمة وقتادة وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيّان والضحّاك والسدّي والربيع بن أنس نحو ذلك ؛ البخاري ٥ : ١٦٢ ، غير منسوب ، بلفظ : «الطلّ» الندى ، وهذا مثل عمل المؤمن ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٧٠ / ٣٤١ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٦٥ ؛ البغوي ١ : ٣٦٣.

٣٧٧

فمن ذا الّذي يودّ أن تكون له هذه الجنّة ـ أو هذه الحسنة ـ ثمّ يرسل عليه شواظا من نار المنّ والأذى ، ليمحقها محقا ، كما يمحق الجنّة الإعصار فيه نار ... ومتى؟

في أشدّ ساعاته عجزا عن إنقاذها ، وحاجة إلى ظلّها ونعمائها! (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) التطاعن في السنّ. (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) صغار قصّر ، يعجزون عن مساعدته على الإنقاذ. (فَأَصابَها إِعْصارٌ) زوبعة ، وهي ريح شديدة تقلع الشجر والنبات. (فِيهِ نارٌ) حرارة شديدة. وهي المسمّاة عندهم بريح السموم. (فَاحْتَرَقَتْ) الجنّة بكاملتها ، وانقلبت تلّ رماد. وهذه غاية اليأس بعد الأمل.

وبعد ، فمن ذا الّذي يودّ هذا؟! ومن ذا الّذي يفكّر في مثل هذا المصير ، ثمّ لا يتّقيه؟!

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) دلائله الواضحات (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) في اتّخاذ السبيل ؛ إمّا راشدا مرضيّا ، يعيش في سعادة وهناء ، أو خائبا تائها في حسراته آيسا من الحياة.

قوله تعالى : (فَأَصابَها إِعْصارٌ)

[٢ / ٧٦٨١] أخرج الطستي في مسائله عن ابن عبّاس ، أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى : (إِعْصارٌ) قال : الريح الشديدة. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم أما سمعت قول الشاعر :

فله في آثارهنّ خوار

وحفيف ، كأنّه إعصار (١)

[٢ / ٧٦٨٢] وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه من طرق ، عن ابن عبّاس في قوله : (إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ) قال : ريح فيها سموم شديدة (٢).

وهكذا روي عن قتادة (٣).

[٢ / ٧٦٨٣] ومن الغريب ما روي عن الضحّاك : فسّر الإعصار بريح فيها برد (٤).

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٤٩. والحفيف : صوت يخرج من الحيّة أو الشجرة.

(٢) الدرّ ٢ : ٤٩ ؛ أبو يعلى ٥ : ٧٣ / ٢٦٦٦ ، بلفظ : «قال : الإعصار الريح الشديد» ؛ الطبري ٣ : ١٠٩ / ٤٧٨٢ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٢٤ / ٢٧٨١ ، وزاد : وروي عن السدّي ومجاهد والربيع بن أنس نحو ذلك ؛ الحاكم ٢ : ٢٨٣ ، كتاب التفسير ؛ القرطبي ٣ : ٣١٩ ؛ مجمع الزوائد ٦ : ٣٢٣ ، كتاب التفسير.

(٣) الطبري ٣ : ١١٠ / ٤٧٨٧ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٧٠ / ٣٤٢.

(٤) الطبري ٣ : ١١٠ / ٤٧٩١.

٣٧٨

وهكذا كان الحسن يقول في قوله تعالى : (إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) : فيها صرّ وبرد (١).

[٢ / ٧٦٨٤] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) : هذا مثل ضربه ـ عزوجل ـ لعمل الكافر : جنّة (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) يعني عجزة لا حيلة لهم (فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ) يعني ريح فيها نار ، يعني فيها سموم حارّة (فَاحْتَرَقَتْ) يقول : مثل الكافر كمثل شيخ كبير له بستان فيه من كلّ الثمرات ، وله ذرّيّة أولاد صغار ، يعني عجزة لا حيلة لهم ، فمعيشته ومعيشة ذرّيّته من بستانه ، فأرسل الله على بستانه السموم الحارّة فأحرقت بستانه ، فلم يكن له قوّة من كبره أن يدفع عن جنّته ، ولم تستطع ذرّيّته الصغار أن يدفعوا عن جنّتهم الّتي كانت معيشتهم منها حين احترقت ، ولم يكن للشيخ قوّة أن يغرس مثل جنّته ولم يكن عند ذرّيّته خير فيعودون به على أبيهم عند ما كان أحوج إلى خير يصيبه ، ولا يجد خيرا ، ولا يدفع عن نفسه عذابا كما لم يدفع الشيخ الكبير ولا ذرّيّته عن جنّتهم شيئا حين احترقت ، ولا يردّ الكافر إلى الدنيا فيعتب ، كما لا يرجع الشيخ الكبير شابّا فيغرس جنّة مثل جنّته ، ولم يقدّم لنفسه خيرا ، فيعود عليه في الآخرة ، وهو أحوج ما يكون إليه ، كما لم يكن عند ولده شيئا فيعودون به على أبيهم ، ويحرم الخير في الآخرة عند شدّة حاجته إليه ، كما حرم جنّته عند ما كان أحوج ما يكون إليها عند كبر سنّه وضعف ذرّيّته. (كَذلِكَ) يعني هكذا (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) يعني يبيّن الله أمره (لَعَلَّكُمْ) يقول لكي : (تَتَفَكَّرُونَ) في أمثال الله ـ عزوجل ـ فتعتبروا (٢).

[٢ / ٧٦٨٥] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : ضرب الله مثلا حسنا ـ وكلّ أمثاله حسن ـ قال : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) يقول : صنعه في شبيبته فأصابه الكبر ، وولده وذرّيّته ضعفاء عند آخر عمره ، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه فلم يكن عنده قوّة أن يغرس مثله ، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه ، فكذلك الكافر يوم القيامة إذا ورد على الله ليس له خير فيستعتب ، كما ليس لهذا قوّة

__________________

(١) الطبري ٣ : ١١٠ / ٤٧٩٠ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٢٤ / ٢٧٨٠ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٧١ / ٣٤٣ ؛ القرطبي ٣ : ٣١٩.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٣٧٩

فيغرس مثل بستانه ، ولا يجد خيرا قدّم لنفسه يعود عليه ، كما لم يغن عن هذا ولده وحرم أجره عند أفقر ما كان إليه ، كما حرم هذا جنّته عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذرّيّته.

قال : وهو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فيما أوتيا في الدنيا ، كيف نجى المؤمن في الآخرة وذخر له من الكرامة والنعيم ، وخزن عنه المال في الدنيا ، وبسط للكافر في الدنيا من المال ما هو منقطع ، وخزن له من الشرّ ما ليس بمفارقه أبدا ويخلد فيها مهانا ، من أجل أنّه فخر على صاحبه ووثق بما عنده ولم يستيقن أنّه ملاق ربّه (١).

[٢ / ٧٦٨٦] وأخرج ابن جرير عن عبد الملك ، عن عطاء ، قال : سأل عمر الناس عن هذه الآية فما وجد أحدا يشفيه ، حتّى قال ابن عبّاس وهو خلفه : يا أمير المؤمنين إنّي أجد في نفسي منها شيئا ، قال : فتلفّت إليه ، فقال : تحوّل ها هنا ، لم تحقّر نفسك! قال : هذا مثل ضربه الله ـ عزوجل ـ فقال : أيودّ أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة ، حتّى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره واقترب أجله ، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء ، فأفسده كلّه فحرّقه أحوج ما كان إليه (٢).

وهذا الخبر أخرجوه بطرق فيها بعض زيادة ونقص :

[٢ / ٧٦٨٧] أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عبّاس قال : قال عمر بن الخطّاب : قرأت الليلة آية أسهرتني : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) فقرأها كلّها فقال : ما عنى بها؟ فقال بعض القوم : الله أعلم! فقال : إنّي أعلم أنّ الله أعلم ، ولكن إنّما سألت إن كان عند أحد منكم علم وسمع فيها شيئا أن يخبر بما سمع؟ فسكتوا. فرآني وأنا أهمس. قال : قل يا ابن أخي ولا تحقّر نفسك. قلت : عنى بها العمل. قال : وما عنى بهذا العمل؟ قلت : شيء ألقي في روعي فقلته. فتركني وأقبل وهو يفسّرها (٣) ، ثمّ التفت إليّ وقال : صدقت يا ابن أخي ، عنى بها العمل ، ابن آدم أفقر ما يكون إلى جنّته إذا كبرت سنّه وكثر عياله ، وابن آدم أفقر ما يكون إلى عمله يوم القيامة ، صدقت يا ابن أخي (٤).

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٠٧ / ٤٧٧٨ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٢٣ ـ ٥٢٤ / ٢٧٧٨ ؛ الدرّ ٢ : ٤٨ ؛ ابن كثير ١ : ٣٢٧.

(٢) الطبري ٣ : ١٠٥ / ٤٧٧٢.

(٣) ولعلّ الصحيح : وهو يستفسرهم.

(٤) الدرّ ٢ : ٤٧ ؛ كنز العمّال ٢ : ٣٥٦ / ٤٢٢٨.

٣٨٠