التفسير الأثري الجامع - ج ٦

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-07-4
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٥٩

[٢ / ٧٥٧٧] وأخرج ابن جرير عن عكرمة : (فَصُرْهُنَ) قال : بالنبطيّة قطّعهنّ (١).

[٢ / ٧٥٧٨] وأخرج عبد بن حميد عن قتادة : (فَصُرْهُنَ) قال : هذه الكلمة بالحبشيّة. يقول : قطّعهنّ واخلط دماءهنّ وريشهنّ (٢).

[٢ / ٧٥٧٩] وأخرج عن عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحّاك : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) يقول : فشقّقهنّ. وهو بالنبطيّة صرّى ، وهو التشقيق (٣).

[٢ / ٧٥٨٠] وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب قال : ما من اللّغة شيء إلّا منها في القرآن شيء! قيل : وما فيه من الروميّة؟ قال : (فَصُرْهُنَ) يقول : قطّعهنّ (٤).

[٢ / ٧٥٨١] وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي قطّعهنّ ، وهو الصّور في كلام العرب (٥)!

موضع الطبري من القول المشهور

قال : اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء المدينة والحجاز والبصرة : فصرهنّ إليك ، بضمّ الصاد. من قول القائل : صرت هذا الأمر ، إذا ملت إليه ، أصور صورا. ويقال : إنّي إليك لأصور أي مشتاق مائل. ومنه قول الشاعر :

الله يعلم أنّا في تلفّتنا

يوم الفراق إلى أحبابنا صور

وهو جمع أصور وصوراء ، مثل أسود وسوداء وسود. ومنه قول الطرمّاح :

عفائف الأذيال أو أن يصورها

هوى ، والهوى للعاشقين صروع

يعني بقوله : أو أن يصورها هوى : يميلها.

فمعنى قوله : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) اضممهنّ إليك ووجّههنّ نحوك. كما يقال : صر وجهك إليّ أي أقبل به إليّ.

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٣٥ ؛ الطبري ٣ : ٧٨ / ٤٦٩١.

(٢) الدرّ ٢ : ٣٥.

(٣) الطبري ٣ : ٧٩ / ٤٦٩٦.

(٤) الدرّ ٢ : ٣٥.

(٥) الطبري ٣ : ٧٩ / ٤٦٩٩.

٣٤١

قال : ومن وجّه الآية إلى هذا التأويل ، كان في الكلام عنده متروك (١) ، قد ترك ذكره استغناء بدلالة الظاهر عليه. ويكون معناه حينئذ عنده : «قال : فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إليك ، ثمّ قطّعهنّ ، ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزء».

قال : وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك ـ إذا قرئ كذلك بالضمّ ـ : قطّعهنّ ، كما قال توبة بن الحمير الخفاجي :

فلمّا جذبت الحبل أطّت نسوعه

بأطراف عيدان شديد أسورها

فأدنت لي الأسباب حتّى بلغتها

بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها

يعني : يقطّعها (٢).

قال : وإذا كان ذلك (٣) تأويل الآية ، كان في الكلام تقديم وتأخير ، ويكون معناه : فخذ أربعة من الطير إليك فصرهنّ. ويكون «إليك» من صلة «خذ».

قال : وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : «فصرهنّ إليك» بالكسر ، بمعنى : قطّعهنّ.

قال : وقد زعم جماعة من نحويّي الكوفة (٤) أنّهم لا يعرفون «فصرهنّ» و «فصرهنّ» بمعنى قطّعهنّ في كلام العرب. وأنّهم لا يعرفون كسر الصاد وضمّها في ذلك إلّا بمعنى واحد ، وأنّهما جميعا لغتان بمعنى الإمالة (٥) وأنّ كسر الصاد منها لغة في هذيل وسليم. وأنشدوا لبعض بني سليم :

وفرع يصير الجيد وحف كأنّه

على الليت قنوان الكروم الدوالح

يعني بقوله : يصير : يميل. وأنّ أهل هذه اللغة يقولون : صاره وهو يصيره صيرا. وصر وجهك إليّ أي أمله ، كما تقول : صره.

قال : وزعم بعض نحويّي الكوفة (٦) أنّه لا يعرف لقوله : فصرهنّ إليك ، ولا لقراءة من قرأ «فصرهنّ» بضمّ الصاد وكسرها وجها في إرادة التقطيع ، إلّا أن يكون «فصرهنّ إليك» ـ في قراءة

__________________

(١) أي تقدير.

(٢) لكن لا شاهد له في البيت. إذ من المحتمل أن يريد : كاد ارتقائي يميل بها ويحوّرها عن استوائها.

(٣) أي تفسير صرهنّ : قطّعهنّ.

(٤) يريد منهم : الفرّاء في معاني القرآن حسبما مرّ.

(٥) كما عرفت في كلام اللحياني والفرّاء.

(٦) هو الفرّاء في معاني القرآن.

٣٤٢

الكسر ـ من المقلوب ، وذلك أن تكون لام فعله جعلت مكان عينه ، وعينه مكان لامه ، فيكون من صرى يصري صريا ، فإنّ العرب تقول : بات يصري في حوضه ، إذا استقى ثمّ قطع واستقى. ومن ذلك قول الشاعر :

صرت نظرة لو صادفت جوز دارع

غدا والعواصي من دم الجوف تنعر

صرت : قطعت نظرة. ومنه قول الآخر :

يقولون إنّ الشأم يقتل أهله

فمن لي إذا لم آته بخلود؟

تعرّب آبائي فهلّا صراهم

من الموت أن لم يذهبوا وجدودي؟

قال : وأمّا نحويّو البصرة فإنّهم قالوا : «فصرهنّ إليك» سواء معناه ، إذا قرئ بالضمّ أو بالكسر ، وهو معنى التقطيع ، واستشهدوا ببيت توبة بن الحمير ، وقد مرّ.

وببيت المعلّى بن حمّاد العبدي :

وجاءت خلعة دهس صفايا

يصور عنوقها أحوى زنيم

بمعنى : يفرّق عنوقها ويقطعها (١).

__________________

(١) وقد مرّ في كلام الزجّاج تفسير يصور في البيت بمعنى يعطف عنوقها ، راجع : لسان العرب ٤ : ٤٧٤ ؛ واعلم أنّه اختلف في روايته. فنسبه أكثرهم للمعلّى بن جمّال أو حمّال العبدي كما في اللسان (دهس وزنم) ونسبه بعضهم برواية أخرى لأوس بن حجر كما في اللسان (ظأب وظاب وصوع وعنق) وروي البيت منسوبا لأوس بن حجر هكذا :

يصوع عنوقها أحوى زنيم

له ظأب كما صخب العزيم

ورواه في اللسان (صور ودهس وزنم) كما هنا. ورواه في (خلع): «وكانت خلعة دهسا صفايا» ورواه في (زنم) مع بيت آخر :

وجاءت خلعة دهس صفايا

يصوع عنوقها أحوى زنيم

يفرّق بينها صدع رباع

له ظأب كما صخب الغريم

ويتبيّن من هذه الرواية أنّ الرواية الّتي نسبت لأوس بن حجر ملفّقة من هذين البيتين. والخلعة : خيار المال. والدهس :

جمع دهساء ، وهي من المعزى السوداء المشربة حمرة لا تغلو. وقوله : «يصوع» رواية أخرى في موضع «يصور» بمعنى يفرّق. وعنوق : جمع عناق ، وهي أنثى المعز. والأحوى : الّذي تضرب حمرته إلى السواد ، يعني تيس المعز ، ويعني أنّه كريم. والزنيم : الّذي له زنمتان في حلقه. والصدع : الفتى الشاب المدهج الخلق الصلب القويّ. ورباع : أي دخل في

٣٤٣

وببيت خنساء :

لظلّت الشمّ منها وهي تنصار

يعني بالشمّ الجبال. وقوله : تنصار أي تتصدّع وتتفرّق (١).

وببيت أبي ذؤيب :

فانصرن من فزع وسدّ فروجه

غبر ضوار وافيان وأجدع (٢)

قال أبو جعفر : فلقول القائل : صرت الشيء معنيان : أملته وقطّعته. وحكوا سماعا : صرنا به الحكم أي فصلنا به الحكم.

قال : وهذا القول الّذي ذكرناه عن البصريّين أولى بالصواب.

قال : لإجماع جميع أهل التأويل على تفسير الآية ـ سواء قرئت بضمّ الصاد أو كسرها ـ بأحد المعنيين : الإمالة أو التقطيع ، وهو أوضح دليل على صحّة قول البصريّين وخطأ قول الكوفيّين وخطأ تأويلاتهم ، وإنكارهم أن يكون معنى صرهنّ : قطّعهنّ وأنّه غير معروف في كلام العرب.

ثمّ جعل يسرد أحاديث السلف بشأن تفسير الآية بالتقطيع :

[٢ / ٧٥٨٢] أخرج عن أبي كدينة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : (فَصُرْهُنَ) قال : هي نبطيّة ، فشقّقهنّ (٣). وفي لفظ ابن أبي حاتم : «هي بالنبطيّة : صرّبه ، يعني قطّعهنّ» (٤).

[٢ / ٧٥٨٣] وأخرج عن شعبة عن أبي حمزة عنه أيضا ، قال في هذه الآية : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ

__________________

ـ السنة الرابعة. ظأب التيس : صوته وجلبته وصياحه وصخبه ، وهو أشدّ ما يكون منه عند السفاد. والغريم : الّذي له الدين على المدين ، ويقال للمدين غريم. انظر : هامش تفسير الطبري ، ذيل الآية (٣ : ٧٦).

(١) استشهد ابن منظور بهذا البيت لمعنى الإمالة. قال : صار الشيء صورا وأصاره فأنصار : أماله فمال. ثمّ ذكر البيت شاهدا لهذا المعنى (لسان العرب ٤ : ٤٧٤).

(٢) قوله : فانصرن من فزع ، كذا في الأصول وفيه الشاهد. إلّا أنّ الّذي في الديوان وفي غير موضع من كتب اللغة : فانصاع ، وعليه فلا شاهد في البيت. وهو في وصف ثور وحشيّ طردته ثلاثة من كلاب الصيد موصوفة بأنّها غبر ضوار.

(٣) الطبري ٣ : ٧٨ / ٤٦٨٦. والنبط أو الأنباط : قبائل عربيّة بائدة كانت تجاور البيزنطيين ، وتداخلت لغتهم مع لغة الإفرنج. وقد أبيدوا قبل الميلاد بقرن.

(٤) ابن أبي حاتم ٢ : ٥١٢ / ٢٧١١.

٣٤٤

فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) قال : إنّما هو مثل. قال : قطّعهنّ ثمّ اجعلهنّ في أرباع الدنيا (١) ، ربعا ها هنا وربعا ها هنا. ثمّ ادعهنّ يأتينك سعيا.

[٢ / ٧٥٨٤] وعن عليّ بن أبي طلحة عنه : (فَصُرْهُنَ) قال : قطّعهنّ.

[٢ / ٧٥٨٥] وعن أبي مالك ـ في الآية ـ قال : قطّعهنّ.

[٢ / ٧٥٨٦] وعن جعفر عن سعيد ، قال : جناح ذه عند رأس ذه ، ورأس ذه عند جناح ذه.

[٢ / ٧٥٨٧] وعن عكرمة : بالنبطيّة : قطّعهنّ (٢).

[٢ / ٧٥٨٨] وعن مجاهد ، قال : قطّعهنّ.

[٢ / ٧٥٨٩] وعن سعيد عن مجاهد ـ أيضا ـ : انتفهنّ بريشهنّ ودمائهنّ ولحومهنّ تمزيقا.

[٢ / ٧٥٩٠] وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) : انتف ريشهنّ ولحومهنّ تمزيقا ، ثمّ اخلط لحومهنّ بريشهنّ.

[٢ / ٧٥٩١] وعن سعيد عن قتادة : أمر نبيّ الله أن يأخذ أربعة من الطير ، فيذبحهنّ ثمّ يخلط بين لحومهنّ وريشهنّ ودمائهنّ.

[٢ / ٧٥٩٢] وعنه أيضا ، قال : فمزّقهنّ. قال : أمر أن يخلط الدماء بالدماء ، والريش بالريش ، ثمّ يجعل على كلّ جبل منهنّ جزء.

[٢ / ٧٥٩٣] وعن الضحّاك : فشقّقهنّ. وهو بالنبطيّة : صرّى ، وهو التشقيق.

[٢ / ٧٥٩٤] وهكذا عن السدّي : يقول : قطّعهنّ.

[٢ / ٧٥٩٥] وعن الربيع : قطّعهنّ إليك ومزّقهنّ تمزيقا.

[٢ / ٧٥٩٦] وعن ابن إسحاق : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي قطّعهنّ ، وهو الصّور في كلام العرب (٣).

قال أبو جعفر ـ بعد ذكر الأقوال ـ : ففيما ذكرنا من أقوال من روينا قوله في تأويل الآية وأنّه بمعنى : فقطّعهنّ إليك ، دلالة واضحة على صحّة ما قلنا في ذلك ، وفساد قول من خالفنا فيه.

__________________

(١) أي في جهاتها الأربع.

(٢) الطبري ٣ : ٧٨ / ٤٦٩١.

(٣) لم يعهد من كلام العرب : صور ، بمعنى التقطيع ، وإنّما هو بمعنى الميل والعوج. ولعلّه من النبطيّة كما عن الضحّاك ، الطبري ٣ : ٧٩ / ٤٦٩٦.

٣٤٥

قال : وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء قرأ القارئ ذلك بضمّ الصاد أو كسرها ـ وكانت اللغتان معروفتين بمعنى واحد (١) ـ غير أنّ الأمر وإن كان كذلك ، فإنّ أحبّهما إليّ أن أقرأ به : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بضمّ الصاد ، لأنّها أعلى اللغتين وأشهرهما وأكثرها في أحياء العرب (٢).

نظرة العلّامة الطباطبائي

وهكذا أكّد سيّدنا العلّامة الطباطبائي ، على أنّ معنى «صرهنّ» : قطّعهنّ. قال : وتعديته بإلى لمكان تضمينه معنى الإمالة ، كما في قوله تعالى : (الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ)(٣) ، حيث ضمّن معنى الإفضاء (٤).

قال : وقرائن الكلام تدلّ على إرادة معنى القطع. وتعديته بإلى تدلّ على تضمين معنى الإمالة. فالمعنى : قطّعهنّ مميلا إليك. أو أملهنّ إليك قاطعا إيّاهنّ (٥).

ولكن لا موضع لتضمين ما يفيد معنى التقطيع ، معنى الإمالة ، الّذي هو السعي وراء الميل والعطف والرغبة. بأن تأنس الطيور به وتميل إليه ، الأمر الّذي لا يمكن تضمينه في مفهوم التقطيع والتمزيق ، حيث التباين الفاحش.

وأمّا الرفث ، فهو كلّ فعل أو لفظ يقبح العلن به.

قال الزجّاج : هو «كلمة جامعة لكلّ ما يريد الرجل من المرأة» (٦).

أي كلّ لفظة تتبادل بين الرجل والمرأة ، عند مغازلتها حالة التقبيل والمضاجعة ممّا يقع بينهما سرّا وفي خفاء عن مرأى الآخرين ومسمعهم. فناسب تعديته بإلى ، لأنّه من السرّ الّذي يفضى إليها محضا.

إذن فلا موضع لقوله ـ رحمه‌الله ـ : «قطّعهنّ مميلا إليك ...» ؛ لأنّ القطع فصل ، والإمالة وصل ، وهما متنافيان!

__________________

(١) يريد معنى التشقيق والتمزيق.

(٢) الطبري ٣ : ٧٨ ـ ٨٠. وأحياء العرب : هم البطون والقبائل.

(٣) البقرة ٢ : ١٨٧.

(٤) الميزان ٢ : ٣٩١.

(٥) المصدر : ٣٩٦.

(٦) راجع : المجمع ٢ : ٢٨٠ ؛ واللسان ٢ : ١٥٣.

٣٤٦

والعمدة : أنّه لم يثبت ـ عن مستند وثيق ـ مجيء «صار يصور أو صار يصير» بمعنى التقطيع والتمزيق. سوى ما ورد في روايات ضعاف الأسناد ومضطربة المفاد!

وهكذا قوله ـ رحمه‌الله ـ أخيرا : وقوله تعالى : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) أي اذبحهنّ وبدّد أجزاءهنّ واخلطها ، ثمّ فرّقها على الجبال الموجودة هناك ، لتتباعد الأجزاء وهي متميّزة (١).

فقوله : اذبحهنّ وبدّد أجزاءهنّ واخلطها ، لا شاهد عليه في لفظ النصّ (تعبير القرآن) ولا حجّية فيما سواه إذا لم تتوافق مع صريح اللفظ. وليس مجرّد الاحتمال ممّا يجدي في هذا المجال ، أعني تبيين مراد الله من كلامه العزيز الوجيز.

***

وإليك ما ورد عن السلف في تفسير الآية :

أوّلا ما ورد بشأن نزولها :

قال أبو عليّ الطبرسي : اختلف في سبب سؤال إبراهيم هذا ، على وجوه :

[٢ / ٧٥٩٧] أحدها ـ ما قاله الحسن والضحّاك وقتادة ، وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه رأى جيفة تمزّقها السباع ، فيأكل منها سباع البرّ وسباع الهواء ودوابّ البحر ، فسأل الله إبراهيم ، فقال : يا ربّ ، قد علمت أنّك تجمعها من بطون السباع والطير والدوابّ ، فأرني كيف تحييها ، لأعاين ذلك.

[٢ / ٧٥٩٨] ثانيها ـ ما روي عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير والسدّي : أنّ الملك بشّر إبراهيم عليه‌السلام بأنّ الله قد اتّخذه خليلا ، وأنّه يجيب دعوته ، ويحيي الموتى بدعائه. فسأل الله تعالى أن يفعل الله ذلك ليطمئنّ قلبه بأنّه قد أجاب دعوته واتّخذه خليلا.

[٢ / ٧٥٩٩] ثالثها ـ أنّ سبب السؤال منازعة نمرود إيّاه في الإحياء ؛ إذ قال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) وأطلق محبوسا وقتل إنسانا ، فقال إبراهيم : ليس هذا بإحياء ، وقال : يا ربّ : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) ليعلم نمرود ذلك. وروي أنّ نمرود توعّده بالقتل إن لم يحي الله الميّت ، بحيث يشاهده.

فلذلك قال : ليطمئنّ قلبي ، أي بأن لا يقتلني الجبّار. عن محمّد بن إسحاق بن يسار.

__________________

(١) الميزان ٢ : ٣٩٨.

٣٤٧

[٢ / ٧٦٠٠] رابعها ـ أنّه أحبّ أن يعلم ذلك علم عيان ، بعد أن كان عالما به من جهة الاستدلال والبرهان ، لتزول الخواطر ووساوس الشيطان!

قال الطبرسيّ : وهذا ـ الوجه الرابع ـ أقوى الوجوه (١).

[٢ / ٧٦٠١] وروى البرقي بالإسناد إلى صفوان بن يحيى ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن قول الله لإبراهيم : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أكان في قلبه شكّ؟ قال : «لا ، كان على يقين ولكنّه أراد من الله الزيادة في يقينه» (٢).

[٢ / ٧٦٠٢] وروى العيّاشي عن عليّ بن أسباط أنّ أبا الحسن الرضا عليه‌السلام سئل عن قول الله : (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أكان في قلبه شكّ؟ قال : «لا ، ولكنّه أراد من الله الزيادة في يقينه» (٣).

[٢ / ٧٦٠٣] وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب ، عن مجاهد وإبراهيم : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال : لأزداد إيمانا إلى إيماني (٤)!

[٢ / ٧٦٠٤] وأخرج ابن جرير عن الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : قال معمر : وقال قتادة : ليزداد يقينا (٥).

[٢ / ٧٦٠٥] وعن قتادة : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال : وأراد نبيّ الله إبراهيم ليزداد يقينا إلى يقينه (٦).

[٢ / ٧٦٠٦] وعن سعيد بن جبير : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال : ليزداد يقيني (٧).

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٣٧٢.

(٢) نور الثقلين ١ : ٢٧٥ ؛ المحاسن ١ : ٢٤٧ / ٢٤٩ ، باب ٢٩ ؛ البحار ٦٧ : ١٧٦ ـ ١٧٧ / ٣٤ ، باب ٥٢ ؛ البرهان ١ : ٥٥١ / ٦ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٤٢٨.

(٣) نور الثقلين ١ : ٢٧٨ ؛ العيّاشي ١ : ١٦٣ / ٤٧٣ ؛ البحار ١٢ : ٧٣ / ٢١ ، باب ٣ ؛ البرهان ١ : ٥٥٢ / ١٠ ؛ الصافي ١ : ٤٥٨.

(٤) الدرّ ٢ : ٣٤ ؛ سنن سعيد ٣ : ٩٧١ / ٤٤١ ؛ الطبري ٣ : ٧٢ / ٤٦٧٨ ؛ الشعب ١ : ٧٨ ـ ٧٩ / ٦١ وعن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥١٠ / ٢٦٩٨ ، عن سعيد بن جبير ، بلفظ : قال : ليزداد إيمانا إلى إيماني ؛ الوسيط ١ : ٣٧٥ ، عن سعيد بن جبير.

(٥) الطبري ٣ : ٧١ ، بعد رقم ٤٦٧٦ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٦٨ / ٣٣٣ ، وفيه «لأزداد» بدل قوله «ليزداد».

(٦) الطبري ٣ : ٧١ / ٤٦٧٦.

(٧) المصدر / ٤٦٧٤.

٣٤٨

[٢ / ٧٦٠٧] وعنه قال : ليوفق. وفي رواية ابن أبي حاتم : ليوقن (١).

[٢ / ٧٦٠٨] وعن الضحّاك : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يقول : ليزداد يقينا (٢). وهكذا عن الربيع.

[٢ / ٧٦٠٩] وروى ابن أبي حاتم عن الضحّاك ، قال : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) : لترى عيني (٣)!

[٢ / ٧٦١٠] وقال الحسن : كان إبراهيم موقنا بأنّ الله ـ عزوجل ـ يحيي الموتى ، ولكن لا يكون الخبر عند ابن آدم كالمعاينة (٤)!

[٢ / ٧٦١١] وعن عبّاد بن منصور ، قال : سألت الحسن عن قوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)؟ قال : أي : ليعرف قلبي ويستيقن (٥).

[٢ / ٧٦١٢] وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قوله : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) قال : أو لم توقن بأنّي خليلك؟ (٦).

[٢ / ٧٦١٣] وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن سعيد بن جبير في قوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال : بالخلّة (٧).

[٢ / ٧٦١٤] وقال عبد الرزّاق : قال معمر : وقال الكلبي : ليطمئنّ قلبي أن قد استجيب لي (٨)!

[٢ / ٧٦١٥] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عبّاس في قوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يقول : أعلم أنّك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك (٩)!

__________________

(١) الطبري ٣ : ٧١ / ٤٦٧٣ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٠٩ / ٢٦٩٧.

(٢) الطبري ٣ : ٧١ / ٤٦٧٥.

(٣) ابن أبي حاتم ٢ : ٥١٠ / ٢٧٠١.

(٤) الوسيط ١ : ٣٧٥.

(٥) ابن أبي حاتم ٢ : ٥١٠ / ٢٧٠٢.

(٦) الطبري ٣ : ٧٢ / ٤٦٨٠ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٠٨ ـ ٥٠٩ / ٢٦٩٢ ، وفيه : أو لم تؤمن أنّي خليلك؟

(٧) الدرّ ٢ : ٣٤ ؛ سنن سعيد ٣ : ٩٧٢ / ٤٤٢ ؛ الطبري ٣ : ٦٩ / ٤٦٦٧ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥١٠ / ٢٦٩٩ ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٦٨٩ ، باب إعادة الخلق ؛ القرطبي ٣ : ٣٠٠ ، عن السدّي وابن جبير ، بلفظ : قال السدّي وابن جبير أيضا : أو لم تؤمن بأنّك خليلي؟ قال : بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة.

(٨) عبد الرزّاق ١ : ٣٦٨ / ٣٣٤.

(٩) الدرّ ٢ : ٣٤ ؛ الطبري ٣ : ٧٢ / ٤٦٧٩ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٠٩ / ٢٦٩٦ ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٦٨٨ ـ ٦٨٩ ، باب إعادة الخلق ؛ ابن عساكر ٦ : ٢٢٩ ، الترجمة ٣٥١ (إبراهيم بن آزر).

٣٤٩

ما هي الطيور الأربعة؟

[٢ / ٧٦١٦] روى أبو جعفر الصدوق بالإسناد إلى صالح بن سهل (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّ إبراهيم عليه‌السلام أخذ الهدهد والصّرد والطاووس والغراب.

[٢ / ٧٦١٧] قال : وروي أنّ إبراهيم أمر أن يذبح أربعة من الطير : طاووسا ونسرا وديكا وبطّا. ثمّ أخذ في تأويلها (٢).

[٢ / ٧٦١٨] وعن ابن عبّاس ، قال : الغرنوق ـ وهو الكركي ـ والطاووس والديك والحمامة (٣).

[٢ / ٧٦١٩] وعنه أيضا : أنّه أخذ وزّا ورألا ـ وهو فرخ النعام ـ وديكا وطاووسا (٤).

[٢ / ٧٦٢٠] وأيضا عنه : أخذ طاووسا ونسرا وغرابا وديكا (٥).

[٢ / ٧٦٢١] وعن مجاهد ، قال : الأربعة من الطير : الديك والطاووس والغراب والحمام (٦). وهكذا روي عن ابن جريج (٧).

[٢ / ٧٦٢٢] وكذلك عن ابن زيد ، قال : مخالفة أجناسها وألوانها (٨).

[٢ / ٧٦٢٣] وعن عطاء الخراساني : أوحى الله إلى إبراهيم أن خذ بطّة خضراء وغرابا أسود وحمامة بيضاء وديكا أحمر (٩).

[٢ / ٧٦٢٤] وروى أبو النضر محمّد بن مسعود العيّاشي بأسانيد كلّها مقطوعة عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام بشأن الطيور الأربعة ، تارة : إنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك (١٠). وأخرى : إنّها الديك والحمامة والطاووس والغراب (١١). وثالثة : إنّها الطاووس والحمامة والديك والهدهد (١٢).

__________________

(١) وسيأتي الكلام فيه وأنّه غال كذّاب واضع للحديث. (رجال ابن الغضائري : ٦٩).

(٢) الخصال ١ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ، باب الأربعة.

(٣) ابن أبي حاتم ٢ : ٥١١ / ٢٧٠٥ ؛ ابن كثير ١ : ٣٢٣.

(٤) ابن أبي حاتم ٢ : ٥١٠ ـ ٥١١ / ٢٧٠٤ ؛ ابن كثير ١ : ٣٢٣.

(٥) الثعلبي ٢ : ٢٥٣ ؛ البغوي ١ : ٣٥٨.

(٦) ابن أبي حاتم ٢ : ٥١٠ ؛ الطبري ٣ : ٧٣ / ٤٦٨٣.

(٧) الثعلبي ٢ : ٢٥٣ ؛ الطبري ٣ : ٧٣ / ٤٦٨٤.

(٨) الثعلبي ٢ : ٢٥٣ ؛ الطبري ٣ : ٧٣ / ٤٦٨٥.

(٩) الثعلبي ٢ : ٢٥٤ ؛ البغوي ١ : ٣٥٨.

(١٠) العيّاشي ١ : ١٦٢ ـ ١٦٣ / ٤٧٢.

(١١) المصدر : ١٦٢ / ٤٧١.

(١٢) المصدر : ١٦٤ / ٤٧٦.

٣٥٠

ورابعة : إنّها الهدهد والصّرد والطاووس والغراب (١) ... وفي تفاصيل تتضارب مع بعضها البعض ، حسبما يأتي.

ما ورد في تفسير الآية وتأويلها

[٢ / ٧٦٢٥] روى أبو جعفر الصدوق بالإسناد إلى صالح بن سهل (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) قال : «أخذ الهدهد والصّرد والطاووس والغراب ، فذبحهنّ وعزل رؤوسهنّ ، ثمّ نحز أبدانهنّ في المنحاز (٣) بريشهنّ ولحومهنّ وعظامهنّ حتّى اختلطت ، ثمّ جزّأهنّ عشرة أجزاء على عشرة أجبل ، ثمّ وضع عنده حبّا وماء ، ثمّ جعل مناقيرهنّ بين أصابعه ، ثمّ قال : آتين سعيا بإذن الله عزوجل فتطاير بعضها إلى بعض ، اللحوم والأرياش والعظام ، حتى استوت الأبدان كما كانت وجاء كلّ بدن حتّى التزق برقبته الّتي فيها رأسه والمنقار. فخلّى إبراهيم عن مناقيرهنّ ، فوقعن وشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحبّ. ثمّ قلن : يا نبيّ الله ، أحييتنا أحياك الله! فقال إبراهيم : بل الله يحيي ويميت.

قال عليه‌السلام : فهذا تفسير الظاهر ، وأمّا تفسيره في الباطن : خذ أربعة ممّن يحتمل الكلام ، فاستودعهم علمك ، ثمّ ابعثهم في أطراف الأرضين حججا لك على الناس ، وإذا أردت أن يأتوك دعوتهم بالاسم الأكبر ، يأتونك سعيا بإذن الله».

قال الصدوق : الّذي عندي في ذلك أنّه عليه‌السلام أمر بالأمرين جميعا (٤).

قال : وروي أنّ الطيور الّتي أمر بأخذها : الطاووس والنسر والديك والبطّ.

__________________

(١) المصدر : ١٦٥ / ٤٧٨.

(٢) هو صالح بن سهل الهمداني كوفيّ الأصل. قال ابن الغضائري : صالح بن سهل الهمداني ، كوفيّ ، غال ، كذّاب ، وضّاع للحديث. روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام. لا خير فيه ولا في سائر ما رواه. (كتاب الرجال لابن الغضائري : ٦٩ / ٦٩ ـ ١). (معجم رجال الحديث ١٠ : ٧٧ / ٥٨٢٧).

(٣) النحز : الدقّ. والمنحاز : الهاون.

(٤) أي إنّ إبراهيم عليه‌السلام أصبح مأمورا بالظاهر والباطن جميعا.

٣٥١

قال : وسمعت محمّد بن عبد الله بن محمّد بن طيفور (١) يقول في قول إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ...) : إنّ الله ـ عزوجل ـ أمر إبراهيم أن يزور عبدا من عباده الصالحين ، فزاره. فلمّا كلّمه قال : إنّ لله ـ تبارك وتعالى ـ في الدنيا عبدا يقال له إبراهيم ، اتّخذه خليلا! قال إبراهيم : وما علامة ذلك العبد؟ قال : يحيى له الموتى! فوقع لإبراهيم أنّه هو (٢). فسأل الله أن يحيي له الموتى! (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يعني على الخلّة.

ويقال : إنّه أراد أن يكون له في ذلك معجزة ، كما كانت للرسل ، وإنّ إبراهيم سأل ربّه أن يحيي له الموتى ، فأمره الله ـ عزوجل ـ أن يميت لأجله الحيّ سواء بسواء. وهو أنّه لمّا أمره بذبح ابنه إسماعيل ، أمره أن يذبح أربعة من الطير : طاووسا ونسرا وديكا وبطّا.

فالطاووس ، يريد به زينة الدنيا. والنسر ، يريد به الأمل الطويل. والبطّ ، يريد به الحرص. والديك يريد به الشهوة.

يقول الله ـ عزوجل ـ : إن أحببت أن يحيى قلبك ويطمئنّ معي ، فاخرج عن هذه الأشياء الأربعة ، فإنّه إذا كانت هذه الأشياء في قلب ، فإنّه لا يطمئنّ معي.

قال الصدوق : وسألت ابن طيفور : كيف قال : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) مع علمه تعالى بسرّه وحاله؟! فقال : إنّه لمّا قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) كان ظاهر هذه يوهم أنّه لم يكن يتيقّن ، فقرّره الله بسؤاله عنه ، إسقاطا للتهمة عنه ، وتنزيها له من الشكّ (٣).

[٢ / ٧٦٢٦] وأيضا روى الصدوق بالإسناد إلى عليّ بن محمّد بن الجهم (٤) ـ في حديث طويل ـ عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام أنّ مأمون العبّاسي سأله عن قول إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ

__________________

(١) مجهول.

(٢) أي أنّ ذلك العبد هو إبراهيم نفسه.

(٣) الخصال ١ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ / ١٤٦ ؛ البحار ١٢ : ٦٢ ـ ٦٣ / ٧ و ٩. جاء في هامش البحار ـ هنا ـ : هذا تأويل للآية ذكره ابن طيفور من عند نفسه ، لم يصحّحه خبر ولا رواية. ولعلّه تأويل لانتخاب تلك الطيور الأربعة! وراجع كتابيه : العيون ١ : ١٧٤ و ١٧٦ / ١ باب ١٥ ، والتوحيد : ١٣٢ / ١٤ باب ٩ ، والبحار ١١ : ٧٩ ـ ٨٠ / ٨ باب ٤ ، والعيّاشي ١ : ١٦٢ و ١٦٥ ـ ١٦٦ / ٤٧١ و ٤٧٨ والبرهان ١ : ٥٥٠ / ٢ ، ونور الثقلين ١ : ٢٧٥ ـ ٢٧٨.

(٤) شهد أبو جعفر الصدوق بشأنه : أنّه كان شديد العداء لآل البيت. قال بعد أن نقل عنه الحديث بطوله : هذا الحديث غريب من طريق عليّ بن محمّد بن الجهم ، مع نصبه وبغضه لأهل البيت عليهم‌السلام. (العيون ١ : ١٦٢).

٣٥٢

تُحْيِ الْمَوْتى ...) فقال عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى كان أوحى إلى إبراهيم أنّي متّخذ من عبادي خليلا ، إن سألني إحياء الموتى أجبته! فوقع في نفس إبراهيم أنّه هو ذلك الخليل ، فقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) على الخلّة! (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

فأخذ إبراهيم عليه‌السلام نسرا وطاووسا وبطّا وديكا ، فقطّعهنّ وخلطهنّ ، ثمّ جعل على كلّ جبل من الجبال الّتي حوله ، وكانت عشرة ، منهنّ جزء ، وجعل مناقيرهنّ بين أصابعه ، ثمّ دعاهنّ بأسمائهنّ ، ووضع عنده حبّا وماء ، فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض ، حتّى استوت الأبدان ، وجاء كلّ بدن حتّى انضمّ إلى رقبته ورأسه ، فخلّى إبراهيم عن مناقيرهنّ ، فطرن ، ثمّ وقعن فشربن من ذلك الماء ، والتقطن من ذلك الحبّ ، وقلن : يا نبيّ الله أحييتنا أحياك الله! فقال إبراهيم : بل الله يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير» (١).

قلت : وممّا يثير الريب أن يكون مثل ابن الجهم ـ شاخصة العداء لآل البيت ـ راويا لمثل هذا الخبر الغريب ، ونسبته إلى علم من أعلام هذا البيت الرفيع! أو لا يكون هناك عمد إلى تشويه سمعة ألمع إمام من أئمّة المسلمين ، وليدرج ضمن سائر المحدّثين المكثرين من أهل الحشو؟! وحاشاه!

الأمر الّذي جعلنا نتريّث في الخبر ونسبته إلى مثل هذا الإمام الهمام وقد قال تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٢).

وناهيك أن تلحظ ما سجّلناه بشأن الكذّابين على الأئمّة ، تشويها لسمعتهم المجيدة.

[٢ / ٧٦٢٧] كما قال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : «إنّا أهل بيت صادقون ، لا نخلو من كذّاب يكذب علينا ، فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس» (٣).

[٢ / ٧٦٢٨] وقال الإمام أبو الحسن الرضا عليه‌السلام مخاطبا لإبراهيم بن أبي محمود ـ في حديث طويل ـ : «يا ابن محمود ، إنّ مخالفينا وضعوا أخبارا في فضائلنا ، وجعلوها على ثلاثة أقسام ،

__________________

(١) العيون ١ : ١٥٧ باب ١٥ / ١. وهكذا رواه بنفس الطريق في كتاب التوحيد : ١٣٢ / ١٤ ، باب ٩ (القدرة) ؛ الاحتجاج ٢ : ٢١٥ ـ ٢١٨ ، رواه مرسلا ؛ البحار ١١ : ٧٩ ـ ٨٠ باب ٤ ، عن العيون والاحتجاج.

(٢) الحجرات ٤٩ : ٦.

(٣) رجال الكشّي ٢ : ٥٩٣.

٣٥٣

أحدها : الغلوّ. والثاني : التقصير في أمرنا. وثالثها : التصريح بمثالب أعدائنا ...» (١)

وغير ذلك ممّا يطول ، أوردناه في مقدّمة كتابنا هذا فراجع (٢).

[٢ / ٧٦٢٩] وروى عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي أيّوب الخزّاز عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ إبراهيم عليه‌السلام نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكله سباع البرّ وسباع البحر ، ثمّ تحمل السباع بعضها على بعض ، فيأكل بعضها بعضا ، فتعجّب إبراهيم فقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى). فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب. فقال الله ـ عزوجل ـ : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي قطّعهنّ ، ثمّ اخلط لحمهنّ وفرّقهنّ على عشرة جبال ، ثمّ خذ مناقيرهنّ وادعهنّ يأتينك سعيا. ففعل إبراهيم ذلك وفرّقهنّ على عشرة جبال ، ثمّ دعاهنّ فقال : أجبنني بإذن الله تعالى ، فكانت تتجمّع ويتألّف لحم كلّ واحد وعظمه إلى رأسه ، وطارت إلى إبراهيم. فعند ذلك قال إبراهيم : (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٣)!

غير أنّ الكتاب غير معتمد ، إذ لم تثبت نسبته إلى عليّ بن إبراهيم نفسه ، وإنّما هو من صنع بعض تلاميذه ، وهو غير معروف (٤).

[٢ / ٧٦٣٠] ونظير هذا الحديث جاء في ملحق الكافي الشريف (الروضة) (٥) برواية محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، وعليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي أيّوب الخزّاز عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : «لمّا رأى إبراهيم عليه‌السلام ملكوت السماوات والأرض ، التفت فرأى رجلا يزني فدعا عليه فمات ، ثمّ رأى آخر فدعا عليه فمات ، حتّى رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا ، فأوحى الله ـ عزّ ذكره ـ إليه : يا إبراهيم إنّ دعوتك مجابة فلا تدع على عبادي! فإنّي لو شئت لم أخلقهم ، إنّي خلقت خلقي على ثلاثة أصناف ؛ عبدا يعبدني لا يشرك بي شيئا فأثيبه ،

__________________

(١) العيون ١ : ٢٧٢.

(٢) مقدّمة التفسير ١ : ١٤٢ ـ ١٥١.

(٣) القمّي ١ : ٩١ ؛ البحار ٧ : ٣٦ / ٤ ، باب ٣ ؛ البرهان ١ : ٥٥٠ ـ ٥٥١ / ٣.

(٤) راجع ما كتبناه بهذا الشأن في كتابنا «التمهيد ٨ : ١٩٧ ـ ١٩٨».

(٥) وهل ينعم هذا الملحق بما أنعم به الأصل من قوّة واعتبار؟ فيه كلام لبعض الأجلّاء. (راجع : رياض العلماء ٢ : ٢٦١. خاتمة المستدرك ٣ : ٥٣٦).

٣٥٤

وعبدا يعبد غيري فلن يفوتني ، وعبدا عبد غيري فأخرج من صلبه من يعبدني. ثمّ التفت فرأى جيفة على ساحل البحر نصفها في الماء ونصفها في البرّ ، تجيء سباع البحر فتأكل ما في الماء ، ثمّ ترجع فيشدّ بعضها على بعض ، فيأكل بعضها بعضا ، وتجيء سباع البرّ فتأكل منها فيشدّ بعضها على بعض ، فيأكل بعضها بعضا! فعند ذلك تعجّب إبراهيم ممّا رأى وقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) قال : كيف تخرج ما تناسل الّتي أكل بعضها بعضا؟ (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يعني حتّى أرى هذا كما رأيت الأشياء كلّها (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) فقطّعهنّ واخلطهنّ كما اختلطت هذه الجيفة في السباع الّتي أكل بعضها بعضا! (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) فلمّا دعاهنّ أجبنه ، وكانت الجبال عشرة» (١).

ولأبي النضر محمّد بن مسعود العيّاشي هنا روايات متضاربة ومقطوعة الأسناد ، نذكر منها :

[٢ / ٧٦٣١] روى بإسناد مقطوع عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لمّا أري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، التفت فرأى رجلا يزني ، فدعا عليه فمات. ثمّ رأى آخر فدعا عليه فمات ، حتّى رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا ، فأوحى الله إليه : أن يا إبراهيم إنّ دعوتك مجابة ، فلا تدع على عبادي ، فإنّي لو شئت لم أخلقهم ؛ إنّي خلقت خلقي على ثلاثة أصناف : عبدا يعبدني لا يشرك بي شيئا فأثيبه. وعبدا يعبد غيري فلن يفوتني ، وعبدا يعبد غيري فأخرج من صلبه من يعبدني ، ثمّ التفت فرأى جيفة على ساحل البحر بعضها في الماء وبعضها في البرّ ، تجيء سباع البحر فتأكل ما في الماء ، ثمّ ترجع فيشدّ بعضها على بعض ويأكل بعضها بعضا. وتجيء سباع البرّ فتأكل منها ، فيشدّ بعضها على بعض ، فيأكل بعضها بعضا ويفسد بعضها عن بعض ، فعند ذلك تعجّب إبراهيم ممّا رأى ، وقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) كيف تخرج ما تناسخ (٢) ، هذه أمم أكل بعضها بعضا! (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يعني حتّى أرى هذا كما رأيت الأشياء كلّها! (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) وتقطّعهنّ وتخلّطهنّ كما اختلطت هذه الجيفة في هذه السباع الّتي

__________________

(١) الكافي ٨ (الروضة) : ٣٠٥ / ٤٧٣.

(٢) وفي نسخة الكافي : كيف تخرج ما تناسل؟

٣٥٥

أكلت بعضها بعضا (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً). فلمّا دعاهنّ أجبنه! وكانت الجبال عشرة» (١).

[٢ / ٧٦٣٢] وأيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «وكانت الجبال عشرة وكانت الطيور الديك والحمامة والطاووس والغراب. فقال : فخذ أربعة من الطير فقطّعهنّ بلحمهنّ وعظامهنّ وريشهنّ ثمّ امسك رؤوسهن ثمّ فرّقهنّ على عشرة جبال على كلّ جبل منهنّ جزءا ، فجعل ما كان في هذا الجبل يذهب إلى هذا الجبل بريشه ولحمه ودمه ، ثمّ يأتيه حتّى يضع رأسه في عنقه حتّى فرغ من أربعتهنّ» (٢).

[٢ / ٧٦٣٣] وعن معروف بن خرّبوذ قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : «إنّ الله لمّا أوحى إلى إبراهيم عليه‌السلام أن خذ أربعة من الطير ، عمد إبراهيم فأخذ النعامة والطاووس والوزّة (٣) والديك ، فنتف ريشهنّ بعد الذبح ثمّ جعلهنّ في مهراسة (٤) فهرسهنّ ثمّ فرّقهنّ على جبال الأردن ، وكانت يومئذ عشرة أجبال ، فوضع على كلّ جبل منهنّ جزءا. ثمّ دعاهنّ بأسمائهنّ فأقبلن إليه سعيا ، يعني مسرعات. فقال إبراهيم عند ذلك : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»)(٥).

[٢ / ٧٦٣٤] وعن عليّ بن أسباط أن أبا الحسن الرضا عليه‌السلام سئل عن قول الله : (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أكان في قلبه شكّ؟ قال : «لا ولكنّه أراد من الله الزيادة في يقينه ، قال : والجزء واحد من العشرة» (٦).

[٢ / ٧٦٣٥] وعن عبد الصمد بن بشير قال : جمع لأبي جعفر المنصور القضاة ، فقال لهم : رجل أوصى بجزء من ماله فكم الجزء؟ فلم يعلموا كم الجزء ، واشتكوا إليه (٧) فيه ، فأبرد بريدا إلى صاحب المدينة أن يسأل جعفر بن محمّد عليه‌السلام : رجل أوصى بجزء من ماله فكم الجزء؟ فقد أشكل ذلك على

__________________

(١) العيّاشي ١ : ١٦١ / ٤٧٠. وصحّحناه على نسخة الكافي ٨ : ٣٠٥ / ٤٧٣ ؛ البحار ١٢ : ٦١ / ٦ باب ٣ ؛ العلل ٢ : ٥٨٥ ـ ٥٨٦ / ٣١ ، باب ٣٨٥.

(٢) العيّاشي ١ : ١٦٢ / ٤٧١.

(٣) الوزّة : البطّ.

(٤) المهراس : الهاون.

(٥) البقرة ٢ : ٢٥٩. راجع : العيّاشي ١ : ١٦٣ / ٤٧٣.

(٦) المصدر : ٤٧٣.

(٧) أي أبدوا له تألّمهم من عدم المعرفة.

٣٥٦

القضاة ، فلم يعلموا كم الجزء؟ فإن هو أخبرك به ، وإلّا فاجعله على البريد ووجّهه إليّ. فأتى صاحب المدينة أبا عبد الله عليه‌السلام فقال له : إنّ أبا جعفر بعث إليّ أن أسألك عن رجل أوصى بجزء من ماله وسأل من قبله من القضاة فلم يخبروه ما هو ، وقد كتب إليّ إن فسّرت ذلك له وإلّا حملتك على البريد إليه ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «هذا في كتاب الله بيّن ، إنّ الله يقول : لمّا قال إبراهيم : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) إلى قوله : (عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) فكانت الطير أربعة والجبال عشرة ، يخرج الرجل من كلّ عشرة أجزاء جزءا واحدا. وإنّ إبراهيم دعا بمهراس فدقّ فيه الطيور جميعا ، وحبس الرؤوس عنده ، ثمّ إنّه دعا بالّذي أمر به فجعل ينظر إلى الريش كيف يخرج ، وإلى العروق عرقا عرقا حتّى تمّ جناحه مستويا فأهوى نحو إبراهيم فمال إبراهيم ببعض الرؤوس فاستقبله به فلم يكن الرأس الّذي استقبله به لذلك البدن حتّى انتقل إليه غيره ، فكان موافقا للرأس فتمّت العدّة وتمّت الأبدان» (١).

[٢ / ٧٦٣٦] وعن عبد الرحمان بن سيّابة قال : إنّ امرأة أوصت إليّ وقالت لي : ثلثي تقضي به دين ابن أخي ، وجزء منه لفلانة. فسألت عن ذلك ابن أبي ليلى ؛ فقال : ما أرى لها شيئا ، وما أدري ما الجزء! فسألت أبا عبد الله عليه‌السلام وأخبرته كيف قالت المرأة وما قال ابن أبي ليلى ؛ فقال : «لها عشر الثلث إنّ الله أمر إبراهيم عليه‌السلام فقال : (اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) وكانت الجبال يومئذ عشرة وهو العشر من الشيء» (٢).

[٢ / ٧٦٣٧] وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل أوصى بجزء من ماله فقال : «جزء من عشرة ، كانت الجبال عشرة وكان الطير الطاووس والحمامة والديك والهدهد ، فأمره الله أن يقطّعهنّ ويخلّطهنّ وأن يضع على كلّ جبل منهنّ جزءا وأن يأخذ رأس كلّ طير منها بيده ، قال : فكان إذا أخذ رأس الطير منها بيده تطاير إليه ما كان منه حتّى يعود كما كان» (٣).

[٢ / ٧٦٣٨] وعن صالح بن سهل الهمداني عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) فقال : «أخذ الهدهد والصرد والطاووس والغراب

__________________

(١) العيّاشي ١ : ١٦٣ / ٤٧٤.

(٢) المصدر / ٤٧٥.

(٣) المصدر / ٤٧٦.

٣٥٧

فذبحهنّ وعزل رؤوسهنّ ثمّ نحز أبدانهنّ بالمنحاز بريشهنّ ولحومهنّ وعظامهنّ حتّى اختلط ، ثمّ جزّاهنّ عشرة أجزاء على عشرة جبال ، ثمّ وضع عنده حبّا وماء ، ثمّ جعل مناقيرهنّ بين أصابعه ، ثمّ قال : إيتيني سعيا بإذن الله! فتطايرت بعضهنّ إلى بعض اللحوم والريش والعظام حتّى استوت بالأبدان كما كانت ، وجاء كلّ بدن حتّى التزق برقبته الّتي فيها المنقار!

فخلّى إبراهيم عن مناقيرها فوقعن وشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحبّ ، ثمّ قلن : يا نبيّ الله أحييتنا أحياك الله. فقال : بل الله يحيي ويميت.

قال : فهذا تفسيره في الظاهر ، وأمّا تفسيره في باطن القرآن فقال : خذ أربعة ممّن يحتمل الكلام (١) فاستودعهم علمك ، ثمّ ابعثهم في أطراف الأرض حججا لك على الناس ، فإذا أردت أن يأتوك دعوتهم بالاسم الأكبر يأتونك سعيا بإذن الله» (٢).

[٢ / ٧٦٣٩] وعن محمّد بن إسماعيل عن عبد الله بن عبد الله قال : جاءني أبو جعفر بن سليمان الخراساني وقال : نزل بي رجل من خراسان من الحجّاج فتذاكرنا الحديث ، فقال : مات لنا أخ بمرو ، وأوصى إليّ بمئة ألف درهم ، وأمرني أن أعطي أبا حنيفة منها جزءا ، ولم أعرف الجزء كم هو ممّا ترك؟ فلمّا قدمت الكوفة أتيت أبا حنيفة فسألته عن الجزء فقال لي : الربع ، فأبى قلبي ذلك ، فقلت : لا أفعل حتّى أحجّ وأستقصي المسألة. فلمّا رأيت أهل الكوفة قد أجمعوا على الربع ، قلت لأبي حنيفة : لا سوءة (٣) بذلك ، لك أوصى بها يا أبا حنيفة ، ولكن أحجّ وأستقصي المسألة! فقال أبو حنيفة : وأنا أريد الحجّ!

فلمّا أتينا مكّة وكنّا في الطواف فإذا نحن برجل شيخ قاعد قد فرغ من طوافه وهو يدعو ويسبّح ، إذ التفت أبو حنيفة فلمّا رآه قال : إن أردت أن تسأل غاية الناس فسل هذا ، فلا أحد بعده! قلت : ومن هذا؟ قال : جعفر بن محمّد عليه‌السلام ، فلمّا قعدت واستمكنت إذ استدار أبو حنيفة خلف ظهر جعفر بن محمّد عليه‌السلام فقعد قريبا منّي فسلّم عليه وعظّمه وجاء غير واحد مزدلفين مسلّمين عليه وقعدوا ، فلّما رأيت ذلك من تعظيمهم له اشتدّ ظهري فغمزني أبو حنيفة أن تكلّم! فقلت : جعلت

__________________

(١) من الرجال الّذين يحتملون العلم ويستطيعون حمل عبء العلم على كاهلهم.

(٢) العيّاشي ١ : ١٦٥ / ٤٧٨.

(٣) وفي نسخة : لا سترة. وفي أخرى : لا تسبق. ولعلّه الأظهر.

٣٥٨

فداك ، إنّي رجل من أهل خراسان وإنّ رجلا مات وأوصى إليّ بمئة ألف درهم وأمرني أن أعطي منها جزءا وسمّى لي الرجل ، فكم الجزء جعلت فداك؟ فقال جعفر بن محمّد عليه‌السلام : «يا أبا حنيفة لك أوصى ، قل فيها»! فقال : الربع ، فقال لابن أبي ليلى : «قل فيها» فقال : الربع ، فقال جعفر عليه‌السلام : «ومن أين قلتم الربع؟» قالوا : لقول الله : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) فقال أبو عبد الله عليه‌السلام لهم : ـ وأنا أسمع ـ : قد علمت الطير أربعة فكم كانت الجبال؟ إنّما الأجزاء للجبال ليس للطير». فقالوا : ظننّا أنّها أربعة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ولكنّ الجبال عشرة» (١).

***

وبعد ، فإليك ما ورد بهذا الشأن منسوبا إلى غيرهم :

[٢ / ٧٦٤٠] قال أبو إسحاق الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبي يقول : سمعت أبا الحسن الأقطع ، وكان حكيما ، يقول : صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لكلّ آية ظهر وبطن ، ولكلّ حرف حدّ ومطّلع (٢). وظاهر الآية ما ذكره أهل التفسير ، وبطنها : أنّ إبراهيم عليه‌السلام أمر بذبح أربعة أشياء في نفسه بسكّين الأياس ، كما ذبح في الظاهر الأربعة الأطيار بسكّين الحديد. فالنسر مثل لطول العمر والأجل ، والطاووس زينة الدنيا وبهجتها ، والغراب الحرص ، والديك الشهوة»! (٣)

[٢ / ٧٦٤١] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والثعلبي واللفظ له عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير والسدّي ، قالوا : لمّا اتّخذ الله تعالى إبراهيم خليلا ، سأل ملك الموت ربّه أن يأذن له فيبشّر إبراهيم بذلك ، فأذن له. فأتى إبراهيم ولم يكن في الدار فدخل داره. وكان إبراهيم عليه‌السلام أغير الناس ، إذا خرج أغلق بابه. فلمّا جاء وجد في داره رجلا فثار عليه ليأخذه وقال له : من أذن لك أن تدخل داري؟ قال الملك : أذن لي ربّ هذه الدار. فقال إبراهيم : صدقت ، وعرف أنّه ملك. فقال : من أنت؟ قال : أنا ملك الموت ، جئت أبشّرك بأنّ الله تعالى قد اتّخذك خليلا. فحمد الله ـ عزوجل ـ ، قال : فما علامة ذلك؟ قال : أن يجيب الله دعاءك ويحيي الموتى بسؤالك. فحينئذ قال إبراهيم : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ

__________________

(١) العيّاشي ١ : ١٦٤ / ٤٧٧.

(٢) كنز العمّال ٢ : ٥٣.

(٣) الثعلبي ٢ : ٢٥٧ / ١٨٩.

٣٥٩

تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أنّك اتّخذتني خليلا وتجيبني إذا دعوتك (١).

[٢ / ٧٦٤٢] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عبّاس قال : إنّ إبراهيم مرّ برجل ميّت ، زعموا أنّه حبشيّ ، على ساحل البحر ، فرأى دوابّ البحر تخرج فتأكل منه ، وسباع الأرض تأتيه فتأكل منه ، والطير تقع عليه فتأكل منه! فقال إبراهيم عند ذلك : ربّ هذه دوابّ البحر تأكل من هذا ، وسباع الأرض والطير ، ثمّ تميت هذه فتبلى ثمّ تحييها ، فأرني كيف تحيي الموتى؟ قال : أو لم تؤمن يا إبراهيم أنّي أحيي الموتى؟ قال : بلى يا ربّ ولكن ليطمئنّ قلبي! يقول : لأرى من آياتك وأعلم أنّك قد أجبتني! فقال الله : خذ أربعة من الطير ، فصنع ما صنع ، والطير الّذي أخذه : وزّ ورأل وديك وطاووس ، وأخذ نصفين مختلفين ثمّ أتى أربعة أجبل ، فجعل على كلّ جبل نصفين مختلفين ، وهو قوله : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) ثمّ تنحّى ورؤوسهما تحت قدميه ، فدعا باسم الله الأعظم ، فرجع كلّ نصف إلى نصفه وكلّ ريش إلى طائره ، ثمّ أقبلت تطير بغير رؤوس إلى قدمه تريد رؤوسها بأعناقها ، فرفع قدمه فوضع كلّ طائر منها عنقه في رأسه فعادت كما كانت (٢).

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن نحوه.

[٢ / ٧٦٤٣] وأخرج أبو إسحاق الثعلبي عن الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والضحّاك وابن جريج : كان سبب ذلك السؤال ، أنّ إبراهيم أتى على دابّة ميّتة ، قال ابن جريج : كانت جيفة حمار بساحل البحر ، قال عطاء : بحيرة الطبريّة ، قالوا : فرآها وقد توزّعتها دوابّ البرّ والبحر ، وكان إذا مدّ البحر جاءت الحيتان ودوابّ البحر فأكلت منها ، فما وقع منها يصير في الماء ، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت منها ، فما وقع منها يصير ترابا ، فإذا ذهبت السباع جاءت الطيور فأكلن منها فما سقط قطعته الريح في الهواء. فلمّا رأى ذلك إبراهيم عليه‌السلام تعجّب منها وقال : يا ربّ قد علمت لتجمعنّها من بطون هذه السباع وحواصل الطيور وأجواف دوابّ البرّ ، فأرني كيف تحييها لأعاين

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٣٣ ـ ٣٤ ؛ الطبري ٣ : ٦٨ ـ ٦٩ / ٤٦٦٦ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٥٢ ، واللفظ له ؛ البغوي ١ : ٣٥٧ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٠٧ ـ ٥٠٨ / ٢٦٨٩ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٢٨ ـ ٢٩ ؛ مجمع البيان ٢ : ١٧٧.

(٢) الدرّ ٢ : ٣٢ ـ ٣٣ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٠٧ ـ ٥١٤ ؛ العظمة ٢ : ٦١٩ / ذيل ٢٣٩ ـ ٥٠ ، باب ٩ ؛ الطبري ٣ : ٦٧ / ٤٦٦١.

٣٦٠