التفسير الأثري الجامع - ج ٦

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-07-4
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٥٩

[٢ / ٧٥٦٨] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) يعني ساقطة على سقوفها ، وذلك أنّ بخت نصّر سبا أهل بابل! وفيهم عزير بن شرحيا وكان من علماء بني إسرائيل ، ارتحل ذات يوم على حمار أقمر ، فمرّ على قرية تدعى سابور على شاطيء دجلة بين واسط والمدائن ، وكان هذا بعد ما رفع عيسى بن مريم! فربط حماره في ظلّ شجرة ، ثمّ طاف في القرية فلم ير فيها ساكنا ، وعامّة شجرها حامل ، فأصاب من الفاكهة والعنب والتين ، ثمّ رجع إلى حماره فجلس يأكل من الفاكهة ، وعصر من العنب فشرب منه ، فجعل فضل الفاكهة في سلّة ، وفضل العصير في الزقّ ، فلمّا رأى خراب القرية وهلاك أهلها (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ) يعني أهل هذه القرية (بَعْدَ مَوْتِها) بعد هلاكهم. لم يشكّ في البعث ولكنّه أحبّ أن يريه الله كيف يبعث الموتى ، كما سأل إبراهيم ربّه (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) فلمّا تكلّم بذلك عزير ، أراد الله أن يعلّمه كيف يحييها بعد موتها (فَأَماتَهُ اللهُ) وأمات حماره (مِائَةَ عامٍ) فحيى والفاكهة والعصير موضوع عنده (ثُمَّ بَعَثَهُ) الله في آخر النهار بعد مئة عام. لم يتغيّر طعامه وشرابه ، فنودي في السماء : (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) يا عزير ميّتا؟ (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً) فالتفت فرأى الشمس فقال : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ) له (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) ميّتا ، ثمّ أخبره ليعتبر ، فقال سبحانه : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) يعني الفاكهة في السلّة (وَشَرابِكَ) يعني العصير (لَمْ يَتَسَنَّهْ) يقول : لم يتغيّر طعمه بعد مئة عام ، نظيرها في سورة محمّد :

(مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ)(١) فقال : سبحان الله! كيف لم يتغيّر طعمه؟! ونظر إلى حماره ، وقد ابيضّت عظامه وبليت وتفرّقت أوصاله ، فنودي من السماء : أيّتها العظام البالية اجتمعي فإنّ الله منزل عليك روحا ، فسعت العظام بعضها إلى بعض ، الذراع إلى العضد ، والعضد إلى المنكبين والكتف ، وسعت الساق إلى الركبتين والركبتان إلى الفخذين ، والفخذان إلى الوركين والتصق الوركان بالظهر ، ثمّ وقع الرأس على الجسد وعزير ينظر ، ثمّ ألقى على العظام العروق والعصب ، ثمّ ردّ عليه الشعر ثمّ نفخ في منخره الروح. فقام الحمار ينهق عند رأسه. فأعلم كيف يبعث أهل هذه

__________________

ـ الثعلبي ٢ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ، روى بعضه ، عن قتادة عن كعب ، وعن الحسن ومقاتل وجويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس وعبد الله بن إسماعيل السدّي عن أبيه عن مجاهد عن ابن عبّاس ؛ ابن عساكر ٤٠ : ٣٢١ ـ ٣٢٤ ، الترجمة ٤٦٩٦.

(١) محمّد ٤٧ : ١٥.

٣٢١

القبور بعد هلاكهم ، وبعث حماره بعد مئة عام ، كما لم يتغيّر طعامه وشرابه ، وبعث بعد طوال الدهر ليعتبر بذلك. فذلك قوله ـ سبحانه ـ : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) يعني لم يتغيّر طعمه ، (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) يعني عبرة لأنّه بعثه شابّا بعد مئة سنة (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) يعني عظام الحمار (كَيْفَ نُنْشِزُها) يعني نحييها. نظيرها (١)(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ)(٢) يعني يبعثون الموتى (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) يعني لعزير كيف يحيي الله الموتى ، فخرّ لله ساجدا (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يعني من البعث وغيره ، فرجع عزير إلى أهله وقد هلكوا وبيعت داره وبنيت فردّت عليه وانتسب عزير إلى أولاده فعرفوه وعرفهم وأعطي عزير العلم من بعد ما بعث بعد مئة عام (٣).

[٢ / ٧٥٦٩] وروى عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن إسماعيل بن أبان عن عمير بن عبد الله الثقفي قال : أخرج هشام بن عبد الملك أبا جعفر محمّد بن عليّ زين العابدين عليهما‌السلام من المدينة إلى الشام وكان ينزله معه ، وكان يقعد مع الناس في مجالسهم ، فبينا هو قاعد وعنده جماعة من الناس يسألونه إذ نظر إلى النصارى يدخلون في جبل هناك ، فقال : ما لهؤلاء القوم ، ألهم عيد اليوم؟ قالوا : لا ، يا ابن رسول الله ، ولكنّهم يأتون عالما لهم في هذا الجبل في كلّ سنة في هذا اليوم ، فيخرجونه ويسألونه عمّا يريدون وعمّا يكون في علمهم ، قال أبو جعفر : وله علم؟ قالوا : من أعلم الناس ، قد أدرك أصحاب الحواريّين! من أصحاب عيسى عليه‌السلام. قال : فهلمّوا أن نذهب إليه! فقالوا : ذاك إليك يا ابن رسول الله. قال : فقنّع أبو جعفر عليه‌السلام رأسه بثوبه ومضى هو وأصحابه فاختلطوا بالناس حتّى أتوا الجبل ، قال : فقعد أبو جعفر عليه‌السلام وسط النصارى هو وأصحابه ، فأخرج النصارى بساطا ثمّ وضعت الوسائد ، ثمّ دخلوا فأخرجوه ثمّ ربطوا عينيه فقلب عينيه كأنّهما عينا أفعي ، ثمّ قصد أبا جعفر عليه‌السلام فقال : أمنّا أنت أم من الأمّة المرحومة؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : من الأمّة المرحومة! فقال : أمن علمائهم أنت أم من جهّالهم؟ قال : لست من جهّالهم!

قال النصراني : أسألك أو تسألني؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : سلني! فقال : يا معشر النصارى ، رجل

__________________

(١) بناء على قراءة «ننشرها» بالراء المهملة.

(٢) الأنبياء ٢١ : ٢١.

(٣) تفسير مقاتل ١ : ٢١٦ ـ ٢١٨.

٣٢٢

من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : سلني! إنّ هذا لعالم بالمسائل؟ ثمّ قال : يا عبد الله ، أخبرني عن ساعة ما هي من الليل ولا من النهار أيّ ساعة هي؟ قال أبو جعفر عليه‌السلام : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. قال النصراني : فإذا لم يكن من ساعات الليل ولا من ساعات النهار ، فمن أيّ الساعات هي؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : من ساعات الجنّة وفيها تفيق مرضى! فقال النصراني : أصبت. فأسألك أو تسألني؟ قال أبو جعفر عليه‌السلام : سلني ، فقال : يا معشر النصارى إنّ هذا لمليء بالمسائل ، والله لأسألنّه مسألة يرتطم فيها ، فقال له : سل ، قال : أخبرني عن رجل دنا من امرأته فحملت منه باثنين حملتهما جميعا في ساعة واحدة ، وولدتهما في ساعة واحدة ، وماتا في ساعة واحدة ، ودفنا في ساعة واحدة في قبر واحد ، فعاش أحدهما خمسين ومأة سنة ، وعاش الآخر خمسين سنة ، من هما؟ قال أبو جعفر عليه‌السلام : هما عزير وعزرة ، كان حمل أمّهما على ما وصفت ، ووضعتهما على ما وصفت ، وعاش عزير وعزرة خمسين سنة ، ثمّ أمات الله عزيرا ثمّ أحياه فعاش عزرة مع عزير ثلاثين سنة ، ثمّ أمات الله عزيرا مأة سنة ، وبقي عزرة حيّا ثمّ بعث الله عزيرا فعاش مع عزرة عشرين سنة ...

قال النصراني : يا معشر النصارى ما رأيت أحدا قطّ أعلم من هذا الرجل لا تسألوني عن حرف وهذا بالشام ، ردّوني فردّوه إلى كهفه ورجع النصارى مع أبي جعفر صلوات الله عليه (١).

[٢ / ٧٥٧٠] وروى عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن هارون بن خارجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لمّا عملت بنو إسرائيل بالمعاصي وعتوا عن أمر ربّهم أراد الله أن يسلّط عليهم من يذلّهم ويقتلهم. فأوحى الله إلى إرميا : يا إرميا ، ما بلد انتجبته من بين البلدان وغرست فيه من كرايم الشجر ، فأخلف فأنبت خرنوبا؟! فأخبر إرميا أخيار بني إسرائيل ، فقالوا : راجع ربّك ليخبرنا ما معنى هذا المثل؟ فصام إرميا سبعا ، فأوحى الله إليه : يا إرميا أمّا البلد فبيت المقدس ، وأمّا ما أنبت فيها فبنو إسرائيل الّذين أسكنتهم فيه ، فعملوا بالمعاصي وغيّروا ديني وبدّلوا نعمتي كفرا. فبي حلفت لأمتحننّهم بفتنة يظلّ الحكيم فيها حيرانا ، ولأسلّطنّ عليهم شرّ عبادي ولادة ، وشرّهم طعاما ، فليتسلّطنّ عليهم بالجبرية فيقتل مقاتليهم ويسبي حريمهم ويخرّب ديارهم الّذي يعتزّون

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٧٠ ـ ٢٧١ ؛ القمي ١ : ٩٨ ـ ٩٩ ، (ذيل آيات ١٥ إلى ١٧ من سورة آل عمران) ؛ الكافي ٨ : ١٢٢ ـ ١٢٣ / ٩٤ ؛ البحار ١٠ : ١٤٩ ـ ١٥١ / ١ ، و ٤٦ : ٣١٣ ـ ٣١٥ / ٢.

٣٢٣

به ، ويلقى حجرهم الّذي يفتخرون به على الناس في المزابل مأة سنة ، فأخبر إرميا أخيار بني إسرائيل ، فقالوا له : راجع ربّك ما ذنب الفقراء والمساكين والضعفاء؟ فصام إرميا سبعا ثمّ أكل أكلة فلم يوح إليه شيء ثمّ صام سبعا فأوحى الله إليه : يا إرميا لتكفّنّ عن هذا أو لأردّنّ وجهك إلى قفاك! قال : ثمّ أوحى الله إليه قل لهم : لأنّكم رأيتم المنكر فلم تنكروه! فقال إرميا : ربّ أعلمني من هو حتّى آتيه وآخذ لنفسي وأهل بيتي منه أمانا ، قال : إيت موضع كذا وكذا فانظر إلى غلام أشدّهم زمانة ، وأخبثهم ولادة ، وأضعفهم جسما ، وشرّهم غذاء فهو ذاك ، فأتى إرميا ذلك البلد فإذا هو بغلام في خان زمن ملقى على مزبلة وسط الخان ، وإذا له أمّ تزني بالكسر وتفتّ الكسر في القصعة ، وتحلب عليه خنزيرة لها. ثمّ تدنيه من ذلك الغلام فيأكله. فقال إرميا : إن كان في الدنيا الّذي وصفه الله فهو هذا! فدنا منه فقال له : ما اسمك؟ فقال : بخت نصّر. فعرف أنّه هو ، فعالجه حتّى برأ ثمّ قال له ، أتعرفني؟ قال : لا ، أنت رجل صالح ، قال : أنا إرميا نبيّ بني إسرائيل أخبرني الله أنّه سيسلّطك على بني إسرائيل فتقتل رجالهم وتفعل بهم وتفعل! قال : فتاه (١) في نفسه في ذلك الوقت!

ثمّ قال إرميا : اكتب لي كتابا بأمان منك ، فكتب له كتابا. وكان يخرج إلى الجبل ويحتطب ويدخل المدينة ويبيعه. فدعا إلى حرب بني إسرائيل فأجابوه وكان مسكنهم في بيت المقدس ، وأقبل بخت نصّر فيمن أجابه نحو بيت المقدس وقد اجتمع إليه بشر كثير ، فلمّا بلغ إرميا إقباله نحو بيت المقدس استقبله على حمار له ومعه الأمان الّذي كتبه له بخت نصّر ، فلم يصل إليه إرميا من كثرة جنوده وأصحابه فصيّر الأمان على خشبة ورفعها ، فقال : من أنت؟ فقال : أنا إرميا النبيّ الّذي بشّرتك بأنّك سيسلّطك الله على بني إسرائيل ، وهذا أمانك لي ، قال : أمّا أنت فقد أمنتك ، وأمّا أهل بيتك فإنّي أرمي من ها هنا إلى بيت المقدس ، فإن وصلت رميتي إلى بيت المقدس فلا أمان لهم عندي ، وإن لم تصل فهم آمنون ، وانتزع قوسه ورمى نحو بيت المقدس فحملت الريح النشّابة حتّى علقتها في بيت المقدس! فقال : لا أمان لهم عندي. فلمّا وافى ، نظر إلى جبل من تراب وسط المدينة ، وإذا دم يغلي وسطه ، كلّما ألقي إليه التراب خرج وهو يغلي. فقال : ما هذا؟ فقالوا : هذا دم نبيّ كان لله فقتله ملوك بني إسرائيل ودمه يغلي ، وكلّما ألقينا عليه التراب خرج يغلي! فقال بخت

__________________

(١) أي أخذته الكبرياء وتاه في هواجسه.

٣٢٤

نصّر : لأقتلنّ بني إسرائيل أبدا حتّى يسكن هذا الدم وكان ذلك الدم دم يحيى بن زكريا عليه‌السلام ، وكان في زمانه ملك جبّار يزني بنساء بني إسرائيل ، وكان يمرّ بيحيى بن زكريا ، فقال له يحيى : اتّق الله أيّها الملك ، لا يحلّ لك هذا! فقالت له امرأة من اللّواتي كان يزني بهنّ حين سكر : أيّها الملك اقتل يحيى! فأمر أن يؤتى برأسه ، فأتي برأس يحيى عليه‌السلام في طشت ، وكان الرأس يكلّمه ويقول له : يا هذا اتّق الله ولا يحلّ لك هذا. ثمّ غلى الدم في الطشت حتّى فاض إلى الأرض ، فخرج يغلي ولا يسكن ، وكان بين قتل يحيى وخروج بخت نصّر مئة سنة ، فلم يزل بخت نصّر يقتلهم وكان يدخل قرية قرية فيقتل الرجال والنساء والصبيان وكلّ حيوان ، والدم يغلي ولا يسكن ، حتّى أفنى من بقي منهم ، ثمّ قال : هل بقي أحد في هذه البلاد؟ قالوا : عجوز في موضع كذا وكذا ، فبعث إليها فضرب عنقها على الدم فسكن ، وكانت آخر من بقي.

ثمّ أتى بابل فبنى بها مدينة ، وأقام وحفر بئرا فألقى فيها دانيال وألقى معه لبوة (١) فجعلت اللّبوة تأكل طين البئر ويشرب دانيال لبنها ، فلبث بذلك زمانا فأوحى الله إلى النبيّ الّذي كان ببيت المقدس أن اذهب بهذا الطعام والشراب إلى دانيال واقرأه منّي السّلام ، قال : وأين هو يا ربّ؟ قال : في بئر بابل في موضع كذا وكذا. قال : فأتاه فاطّلع في البئر ، فقال : يا دانيال ، قال : لبّيك ، صوت غريب ، قال : إنّ ربّك يقرئك السّلام وقد بعث إليك بالطعام والشراب ، فدلّاه إليه ، فقال دانيال : الحمد لله الّذي لا ينسى من ذكره ، الحمد لله الّذي لا يخيب من دعاه ، الحمد لله الّذي من توكّل عليه كفاه ، الحمد لله الّذي من وثق به لم يكله إلى غيره ، الحمد لله الّذي يجزي بالإحسان إحسانا ، الحمد لله الّذي يجزي بالصبر نجاة ، الحمد لله الّذي يكشف ضرّنا عند كربتنا ، الحمد لله الّذي هو ثقتنا حين تنقطع الحيل منّا ، الحمد لله الّذي هو رجاؤنا حين ساء ظنّنا بأعمالنا.

قال : فأري بخت نصّر في نومه كأنّ رأسه من حديد ورجليه من نحاس وصدره من ذهب ، قال : فدعا المنجّمين ، فقال لهم : ما رأيت؟ فقالوا ما ندري ، ولكن قصّ علينا ما رأيت ، فقال لهم : وأنا أجري عليكم الأرزاق منذ كذا وكذا ولا تدرون ما رأيت في المنام؟ فأمر بهم فقتلوا! فقال له بعض من كان عنده : إن كان عند أحد شيء فعند صاحب الجبّ ، فإنّ اللّبوة لم تعرّض له ، وهي تأكل الطين

__________________

(١) اللّبوة : أنثى الأسد.

٣٢٥

وترضعه ، فبعث إلى دانيال ، فقال : ما رأيت في المنام؟ فقال : رأيت كأنّ رأسك من كذا ، ورجلك من كذا ، وصدرك من كذا! قال : هكذا رأيت ، فما ذاك؟ قال : قد ذهب ملكك وأنت مقتول في ثلاثة أيّام ، يقتلك رجل من ولد فارس! فقال : إنّ عليّ لسبع مدائن ، على باب كل مدينة حرس ، وما رضيت بذلك حتّى وضعت بطّة من نحاس على باب كلّ مدينة ، لا يدخل غريب إلّا صاحت عليه حتّى يؤخذ! فقال له : إنّ الأمر كما قلت لك! قال : فبثّ الخيل وقال : لا تلقون أحدا من الخلق إلّا قتلتموه كائنا من كان. وكان دانيال جالسا عنده ، وقال : لا تفارقني هذه الثلاثة الأيّام ، فإن مضت قتلتك. فلمّا كان في اليوم الثالث ممسيا أخذه الغمّ ، فخرج فتلقّاه غلام كان يخدم ابنا له ، من أهل فارس ، وهو لا يعلم أنّه من أهل فارس ، فدفع إليه سيفه ، وقال له : يا غلام لا تلقى أحدا من الخلق إلّا وقتلته ، وإن لقيتني أنا فاقتلني ، فأخذ الغلام سيفه فضرب به بخت نصرّ ضربة فقتله.

وخرج إرميا على حماره ومعه تين قد تزوّده وشيء من عصير فنظر إلى سباع البرّ وسباع البحر وسباع الجوّ تأكل تلك الجيف (١) ، ففكّر في نفسه ساعة ثمّ قال : أنّى يحيي الله وقد أكلتها السباع؟ فأماته الله مكانه مأة عام ثمّ بعثه أي أحياه ، فلمّا رحم الله بني إسرائيل وأهلك بخت نّصر ، ردّ بني إسرائيل إلى الدنيا. وكان عزير لمّا سلّط الله بخت نّصر على بني إسرائيل ، هرب ودخل في عين وغاب فيها ، وبقي إرميا ميّتا مأة سنة ، ثمّ أحياه الله ، فأوّل ما أحيى منه عينيه في مثل غرقئ البيض ، فنظر فأوحى الله إليه : (كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً) ثمّ نظر إلى الشمس قد ارتفعت ، فقال : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فقال الله : (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي لم يتغيّر (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) فجعل ينظر إلى العظام البالية المنفطرة تجتمع إليه ، وإلى اللّحم الّذي قد أكلته السباع يتألّف إلى العظام من هنا وهنا ، ويلتزق بها حتّى قام وقام حماره ، فقال : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)». (٢)

__________________

(١) ولعلّ في العبارة سقطا : وأنّه رأى جيفا كثرة مطروحة هنا وهناك ، ونظر إلى السباع تزدحم على تلك الجيف. والجيف كانت من بني إسرائيل قتلهم بخت نصرّ ـ على ما زعمه واضع الحديث ـ.

(٢) نور الثقلين ١ : ٢٧١ ـ ٢٧٥ ؛ القميّ ١ : ٨٦ ـ ٩١ ؛ البحار ١٤ : ٣٥٦ ـ ٣٦٠ / ١ ، باب ٢٥ ؛ البرهان ١ : ٥٤٣ ـ ٥٤٦ / ١ ؛ الصافي ١ : ٤٥٠ ـ ٤٥٤ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٤٢١ ـ ٤٢٦.

٣٢٦

تلك جلّ نسائج القوم ، نسجتها قرائح غائرة ، خلطت الغثّ بالسمين ، وخبطت خبط عشواء ، ففيها التناقض والتهافت ، والنكارة الفاضحة ، في أكثر فقراتها. الأمر الّذي يأبى صدورها من ذي لبّ حكيم ، فضلا عن أمثال ذلكم الأعلام النبلاء ، وحاشاهم أن يتفوّهوا بمثل تلكم الخبطات!!

التجربة الثالثة

وهكذا يمضي السياق إلى عرض التجربة الثالثة : تجربة إبراهيم ، الّتي قام بها أبو الأنبياء وأقربهم إلى أصحاب هذا القرآن : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

إنّه التشوّف إلى ملابسة سرّ الصنعة الإلهيّة ، إنّه تشوّف لا يتعلّق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره ، وليس طلبا للبرهان أو تقوية لليقين والإيمان ، إنّما هو أمر آخر ، له مذاق آخر ، إنّه تشوّق روحي إلى ملابسة السرّ الإلهي ، في أثناء وقوعه العملي ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق يمسّ صميم ذاته ، فليس العلم الحاصل بالبرهان كاليقين الحاصل بمشاهدة عيان ، الأمر الّذي يبتهج إليه النفس ويتروّح له الصدر ويطمئنّ إليه القلب.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) سؤال عن الكيفيّة بعد الإذعان القاطع بضرورة إحيائه تعالى للأموات للبعث والنشور.

(قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ). لقد كان إبراهيم ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل ، واطمئنان التذوّق للسرّ المحجّب وهو يجلّي ويتكشّف ، ولقد كان الله يعلم إيمان عبده وخليله. ولكنّه سؤال الكشف والبيان ، والتعريف بهذا الشوق وإعلانه ، والتلطّف من السيّد الكريم الودود الرحيم ، مع عبده الأوّاه الحليم المنيب!

فمعنى قوله : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) : أو لم يكف في يقينك صريح الوحي وجلاء البرهان؟!

(قالَ بَلى) أي فيه الكفاية والكمال لحصول اليقين وصدق الإيمان ، (وَلكِنْ) تاقت نفسي للخبر والوقوف على كيفيّة هذا السرّ (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بالعيان بعد خبر الوحي ووضوح البرهان.

٣٢٧

فقوله : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) معناه : لينبت ويتحقّق علمي وينتقل من العلم النظري البرهاني ، إلى العلم الضروريّ الوجداني ، وينتقل من معالجة الفكر والنظر إلى بساطة الضرورة وبداهة الوجدان ، بيقين المشاهدة وانكشاف المعلوم انكشافا لا يحتاج إلى معاودة الاستدلال ودفع الشّبه عن العقل ، وعنده يطمئنّ القلب ويسكن البال عن أيّ احتمال.

وقال أهل العرفان والتصوّف : المراد من الموتى ـ هنا ـ القلوب المحجوبة عن أنوار التجلّي والمكاشفات. والإحياء عبارة عن إشراقات وأنوار ملكوتيّة تفاض على القلوب الواعية المستعدّة.

فقول إبراهيم : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) طلب لذلك التجلّي والمكاشفات الإشراقيّة ، فيحصل بها الاطمئنان وسكون البال.

وقد قال أهل الاستدلال : العلم الاستدلالي ممّا تتطرّق إليه الشبهات ، فطلب علما ضروريّا يستقرّ معه القلب استقرارا لا يخالجه شيء من الشكوك والأوهام (١).

***

ولقد استجاب الله لهذا الشوق والتطلّع في قلب إبراهيم ، ومنحه التجربة الذاتيّة المباشرة :

(قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). أمّا وكيف وقعت هذه التجربة ، وكيف تحقّقت هذه الاستجابة؟ فقد اختلفت الأنظار فيه :

قال المشهور : لقد أمره الله أن يختار أربعة من الطير ، فيقرّبهنّ منه ويميلهنّ إليه ، بحيث تأنس به ، وحتّى يتأكّد هو من شياتهنّ (٢) ومميّزاتهنّ الّتي لا يخطئ معها معرفتهنّ. وأن يذبحهنّ ويمزّق أشلائهنّ ويفرّق أجزائهنّ على الجبال المحيطة به ، ثمّ يدعوهنّ ، فتتجمّع أجزاؤهنّ مرّة أخرى ، وترتدّ إليهنّ الحياة ، ويعدن إليه ساعيات.

وهكذا فعل إبراهيم وتحقّقت التجربة بمشهد منه ومرآه ، ورأى السرّ الإلهي يقع بين يديه. وهو السرّ الّذي يقع في كلّ لحظة ، ولا يرى الناس إلّا آثاره بعد تمامه ؛ إنّه سرّ هبة الحياة ، الحياة الّتي جاءت أوّل مرّة بعد أن لم تكن ، والّتي تنشأ مرّات لا حصر لها في كلّ حيّ جديد.

__________________

(١) التفسير الكبير ٧ : ٣٩.

(٢) الشية : كلّ لون يخالف معظم لون الشيء.

٣٢٨

رأى إبراهيم هذا السرّ يقع بين يديه طيور فارقتها الحياة وتفرّقت أشلاؤها في أماكن متباعدة ، فتدبّ فيها الحياة مرّة أخرى ، وتعود إليه سعيا! (١)

***

وخالفهم أبو مسلم المفسّر الشهير ، فقال : ليس في الكلام ما يدلّ على أنّه فعل ذلك ، وما كلّ أمر ، يقصد به الامتثال ؛ فإنّ من الخبر ما يأتي بصيغة الأمر ، لا سيّما إذا أريد زيادة البيان ، كما إذا سألك سائل كيف يصنع الحبر؟ ـ مثلا ـ فتقول : خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا ، يكن حبرا! تريد أن تعلّمه كيفيّة صنعه ، ولا تريد تكليفه صنع الحبر بالفعل.

قال : وفي القرآن كثير من الأمر الّذي يراد به الخبر ، والكلام ها هنا مثل لإحياء الموتى (٢). ومعناه : خذ أربعة من الطير ، فضمّها إليك وآنسها بك حتّى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك ، فإنّ الطيور من أشدّ الحيوان استعدادا لذلك. ثمّ اجعل كلّ واحد منها على مرتفع حولك ، ثمّ ادعهنّ ، فإنّهنّ يسرعن إليك ، لا يمنعها تفرّق أمكنتها وبعدها منك. كذلك أمر ربّك إذا أراد إحياء الموتى وحشرها يوم المعاد ، فإنّه يكفي أن يدعوهم للحضور لديه ، دعوة تكوين : «كونوا أحياء» ، فيكونون أحياء ويسرعون إليه حضورا لديه. كما كان شأن الخلق في بدء الأمر. إذ قال للسماوات والأرض : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)(٣).

قال محمّد عبده : هذا ما نجلّي به تفسير أبي مسلم ، وقد أورده الرازي مختصرا ؛ قال :

والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ، وأنكر ـ يعني أبا مسلم ـ أن يكون المراد قطع أعضائها ولحومها وريشها ودماءها ، وخلط بعضها مع بعض ـ كما يراه المفسّرون ـ وقال : إنّ إبراهيم عليه‌السلام لمّا طلب أن يريه كيف يحيي الموتى؟ أراه الله تعالى مثالا قرّب به الأمر عليه. والمراد من قوله : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) الإمالة والتمرين على الإجابة بسبب الأنس به. أي عوّد الطيور على الإجابة ، بحيث إذا دعوتها لم تلبث أن أجابتك وأتتك بسرعة ، فإذا

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٤٤٢.

(٢) سيأتي عن ابن عبّاس قوله : إنّما هو مثل ، وكذا عن تلميذه مجاهد.

(٣) فصّلت ٤١ : ١١.

٣٢٩

عوّدتهنّ على ذلك ، فاجعل على كلّ جبل طيرا وفرّقهن في أماكن متباعدة ، ثمّ ادعهنّ يأتينك سعيا ، وعلى فور من سماع صوتك.

وهكذا تتسرّع الموتى من مضاجعهم سعيا للحضور في ساحة الحشر ، بمجرّد أن جاءهم النداء : كونوا حضورا.

وذلك أنّ الإنسان في جبلّته الرغبة الملحّة إلى العودة إلى حيث المبدأ ، (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) ، (١) والجميع منه وإليه (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)(٢).

فكما أنّ الطير إذا أنس بشيء أو شخص ، انجذب إليه انجذابا ، لمجرّد أن أحسّ به ، وهكذا الإنسان في صميم ذاته منجذب إلى ربّه الكريم انجذابا لا يلويه عن التسرّع إليه والحضور لديه ، أيّ رغبة أخرى. وهذا هو معنى كدحه إلى ربّه كدحا حثيثا لا يثنيه عن عزمه شيء ، حتّى يلاقي ربّه يوم اللقاء.

***

[٢ / ٧٥٧١] وقد أخرج ابن جرير بإسناده إلى شعبة عن أبي حمزة عن ابن عبّاس ـ في الآية ـ قال : إنّما هو مثل (٣). وسيأتي تمام الحديث.

[٢ / ٧٥٧٢] وكذا أخرج عن ابن جريح وابن أبي نجيح جميعا عن مجاهد ، قال : إنّما هو مثل ضربه الله لإبراهيم : قال : قال مجاهد : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) ثمّ بدّدهن أجزاء على كلّ جبل ثمّ ادعهنّ : تعالين بإذن الله! فكذلك يحيي الله الموتى ؛ مثل ضربه الله لإبراهيم عليه‌السلام (٤).

[٢ / ٧٥٧٣] وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ثمّ اجعلهنّ أجزاء على كلّ جبل ، ثمّ ادعهنّ يأتينك سعيا ، كذلك يحيي الله الموتى ؛ هو مثل ضربه الله لإبراهيم عليه‌السلام (٥).

[٢ / ٧٥٧٤] وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله : (يَأْتِينَكَ سَعْياً) قال : ذبحهنّ ثمّ قطّعهنّ ثمّ خلط بين لحومهنّ وريشهنّ ثمّ قسّمهنّ عل أربعة أجزاء ، فجعل على كلّ جبل منهنّ جزء ، فجعل العظم

__________________

(١) الانشقاق ٨٤ : ٦.

(٢) البقرة ٢ : ١٥٦.

(٣) الطبري ٣ : ٧٨ / ٤٦٨٧.

(٤) المصدر : ٨٢ / ٤٧١٠.

(٥) المصدر.

٣٣٠

يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة ، والبضعة إلى البضعة ، وذلك بعين خليل الله إبراهيم ، ثمّ دعاهنّ فأتينه سعيا ، يقول : شدّا على أرجلهنّ. وهذا مثل أراه الله إبراهيم ، يقول : كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة ، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها (١).

وفي هذا الحديث بعض الخلط ، حيث خلط بين فرض الحادثة ـ لتكون مثلا ضربه الله لإبراهيم كيف يتصوّر حشر الأموات يوم النشور ـ وبين تحقّقها عينا ، ممّا لا شاهد عليه من القرآن.

***

واحتجّ أبو مسلم ـ على وجاهة رأيه ـ بوجوه :

أوّلا : المشهور في اللغة في قوله : (فَصُرْهُنَ) أملهنّ ، وأما التقطيع والذبح ، فليس في الآية ما يدلّ عليه ، ومن ثمّ كان إدراجه في الآية إلحاقا لزيادة بالآية لم يدلّ الدليل عليها ، وإنّه لا يجوز.

وقد عمد بعضهم إلى ترجمة (فَصُرْهُنَ) إلى «قطّعهنّ» (٢). ولم يأت ذلك في اللغة على ما سنبيّن.

ثانيا : لو كان المراد بصرهنّ : قطّعهنّ ، لم يصحّ تعديته بإلى : «صرهنّ إليك». فإنّ هذا المعنى لا يناسبه التعدّي بإلى. لا يقال : قطّعهنّ إليك ، ولا معنى لذلك .. وإنّما يتعدّى بهذا الحرف إذا كان «صرهنّ» بمعنى «أملهنّ».

وزعموا أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، وأنّ التقدير : فخذ إليك أربعة من الطير فصرهنّ!

لكن التزام التقديم والتأخير من غير دليل ، التزام لخلاف الظاهر من غير ضرورة.

ثالثا : الضمير في قوله : (ثُمَّ ادْعُهُنَ) عائد إلى الطيور بأعيانها ، لا بأجزائها ، وإذا كانت الأجزاء متفرّقة متباعدة بعضها عن البعض ، وكان الموضوع على كلّ جبل بعض تلك الأجزاء ، يلزم أن يكون الضمير عائدا إلى تلك الأجزاء ، لا إلى أعيان الطيور ، وهو خلاف الظاهر.

وأيضا ، الضمير في قوله : (يَأْتِينَكَ سَعْياً) عائد إلى أعيان الطيور ، لا إلى أجزائها.

أمّا على قول المشهور ـ إذا سعى بعض الأجزاء إلى البعض ـ كان الضمير في (يَأْتِينَكَ) عائدا إلى الأجزاء ، وكان يجب أن يكون صوغ الكلام هكذا : «يأتين بعضهنّ بعضا».

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٣٥ ؛ الطبري ٣ : ٨١ / ٤٧٠٥.

(٢) نسب ذلك إلى ابن عبّاس وسعيد بن جبير والحسن. مجمع البيان ٢ : ١٧٨.

٣٣١

واحتجّ المشهور على قولهم ، بالإجماع وعدم مزيّة لإبراهيم لو كان مجرّد تأليفه للطيور حتّى يأنسن به ويأتينه بالدعاء. كما ليس في فرض أبي مسلم إحياء لأموات ، فلم يكن هناك استجابة لسؤال إبراهيم. وأخيرا فإنّ صريح التعبير هو جعل الأجزاء على الجبال ، لا الطيور بأعيانها.

وأجاب أبو مسلم عن هذا الأخير ، أنّ التعبير بالأجزاء ، كان باعتبار العدد (أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) أي بعضا من الأربعة (١).

قال الأستاذ عبده : إنّ فهم المفسّرين القدامى لا يصلح حجّة لفهم الآخرين ، حيث سبيل الفهم سبيل العقل لا النقل والتقليد.

قال : وما فهمه أبو مسلم هو المتبادر من عبارة الآية الكريمة. وأمّا ما قاله المفسّرون فهو مأخوذ من روايات حكّموها على الآية ، من غير أن تكون للآية دلالة على ذلك؟!

وأمّا قولهم : إنّ ما ذكره أبو مسلم غير مختصّ بإبراهيم ، فلا مزيّة له فيه ، فهو مردود بأنّ هذا المثال إنّما هو لكيفيّة إحياء الموتى وسرعة إجابتهم عند النداء يوم اللقاء ، وليس فيه إراءة معلومات عن سرّ الحياة وكيفيّة تحقّقها التكويني بالذات.

وإنّما هو إراءة لظاهرة الحياة ، ولجانب سرعة تكوين ما أراد الله تكوينه. (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٢).

قوله : إنّما أمره أي شأنه تعالى في الخلق والتكوين. ففور إرادته تعالى لتكوين شيء ، فهو يكون.

فهذا من إراءة مظاهر قدرته تعالى ، ممّا لا يخصّ إبراهيم ولا غيره من الأولياء المقرّبين ، بل ويعمّ سائر الخلائق أجمعين.

وهذا كما في الإجابة على سؤال موسى عليه‌السلام : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي)(٣).

فهذه الحجّة على عدم إمكان رؤية الله بالبصر ، قائمة لكلّ البشر ، ولا يخصّ موسى بالذات.

__________________

(١) التفسير الكبير ٧ : ٤١ ـ ٤٢.

(٢) يس ٣٦ : ٨٢.

(٣) الأعراف ٧ : ١٤٣.

٣٣٢

وهكذا حجاج إبراهيم مع الّذي آتاه الله الملك ، فيما سبق. وسائر حججه الّتي أتمّها الله عليه وكانت رمز فخار لإبراهيم (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ)(١) ممّا لا يخصّ فهمها إبراهيم ، وإنّما هي هدايته تعالى لإبراهيم في الإحجاج بها للناس ، لإخراجهم من الظلمات إلى النور.

فالجميع مشتركون في فهمها ، وكانت مواقف إبراهيم منها موقف معلّم مرشد خبير ومؤيّد بنصر الله.

وعليه فمثال الطيور هنا ، مثل لكلّ من رام معرفة موضع قدرته تعالى في الخلق والتكوين. وليس لغاية العلم بسرّ الحياة أو معرفة كنه الوجود!!

قال : وجملة القول : أنّ تفسير أبي مسلم للآية هو المتبادر الّذي يدلّ عليه نظم الآية ، وهو الّذي يجلّي الحقيقة في المسألة ، فإنّ كيفيّة الإحياء هي عين كيفيّة التكوين في الابتداء ، وإنّما تكون بتعلّق إرادته تعالى بالشيء ، المعبّر عن ذلك بكلمة التكوين (كن). فلا يمكن أن يصل البشر إلى كيفيّة له ، إلّا إذا أمكن الوقوف على كنه إرادته تعالى وكيفيّة تعلّقها بالأشياء ، الأمر الّذي ليس بوسع البشر.

وإنّما للإنسان أن يدرك صفاته تعالى وكيفيّة فعاله في الخلق والتدبير ، بالتدبّر في مظاهر الكون وفي ظاهرة التحوّل والتحويل في الخلق والإيجاد. أمّا كنه صفاته وحقيقة فعاله ، فلا.

قال : هذا ما أفاده قول أبي مسلم رحمه‌الله.

قال : وممّا يؤيّده في النظم المحكم ، قوله تعالى : (ثُمَّ اجْعَلْ ؛) فإنّه يدلّ التراخي الّذي يقتضيه إمالة الطيور وتأنيسها ، بناء على أنّ لفظ «صرهنّ» يدلّ على التأنيس. ولو لا أنّ هذا هو المراد ، لقال : فخذ أربعة من الطير فقطّعهنّ واجعل على كلّ جبل منهنّ جزء ، ولم يذكر لفظ الإمالة إليه ويعطف «جعلها على الجبال» بثمّ!

ويدلّ عليه أيضا ختم الآية باسم العزيز الحكيم ، دون اسم القدير. والعزيز هو الغالب الّذي لا ينال.

__________________

(١) الأنعام ٦ : ٨٣.

٣٣٣

قال : وما صرف جمهور المتقدّمين عن هذا المعنى ، على وضوحه إلّا الرواية بأنّه جاء بأربعة طيور من جنس كذا وكذا ، وقطّعها وفرّقها على جبال الدنيا ، ثمّ دعاها ، فطار كلّ جزء إلى مناسبه حتّى كانت طيورا تسرع إليه. فأرادوا تطبيق الآية على هذا ولو بالتكلّف!

وأمّا المتأخرون فهمّهم أن يكون في الكلام خصائص للأنبياء من الخوارق الكونيّة ، وإن كان المقام مقام العلم والبيان والإخراج من الظلمات إلى النور ، وهذا هو أكبر الآيات.

نعم ، إنّ لكلّ أهل زمن غرام في شيء من الأشياء ، يتحكّم في عقولهم وأفهامهم! والواجب على من يريد فهم كتاب الله تعالى أن يتجرّد من التأثّر بكلّ ما هو خارج عنه ، فإنّه الحاكم على كلّ شيء ، ولا يحكم عليه شيء.

قال : ولله درّ أبي مسلم ، ما أدقّ فهمه وأشدّ استقلاله فيه! (١).

وقفة عند قوله تعالى : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ)

اختلف أهل التفسير في معنى (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) ، فالمشهور عن القدامى أنّه بمعنى «فقطّعهنّ» ، ويكون في الكلام تقديم وتأخير ، أي خذ إليك أربعة من الطير فصرهنّ لتكون «إلى» متعلّقة بخذ!

غير أنّ هذا المعنى للفظة «صار يصور» غريب عن متفاهم أهل اللغة ولم يذكر أحد أنّ اللفظة جاءت بهذا المعنى وإنّما هو شيء أحدثه أهل التفسير ، من غير ما شاهد عليه من لغة العرب.

ومن ثمّ لجأوا إلى نسبة الكلمة إلى لغات أخرى وأنّها أعجميّة ؛ فتارة : أنّها نبطيّة (٢). وأخرى : أنّها روميّة (٣). وثالثة : أنّها حبشيّة (٤) وأمثال ذلك ؛ حسبما يأتي.

وسوف نناقش هذا الرأي بأنّ التصريف الثلاثي في الكلمة (٥) دليل على أصالتها في العربيّة ،

__________________

(١) تفسير المنار ٣ : ٥٥ ـ ٥٨.

(٢) الطبري ٣ : ٧٨ ، عن عكرمة. والنبط قبائل عربيّة بائدة كانت تسكن جنوب فلسطين إلى جوار البيزنطيين ، فامتزجت لغتهم بلغة الأجانب. قضى عليهم الإمبراطور ترايانس ١٠٦ ق. م.

(٣) الدرّ ٢ : ٣٥ ، عن وهب.

(٤) المصدر ، عن قتادة.

(٥) بأن تتصرّف في حالة كونها ثلاثيّة البناء : صار يصور صورا ، الأمر الّذي يخصّ العربيّات المحض.

٣٣٤

حيث لا تصريف ثلاثيا في المعرّبات.

على أنّه لا ضرورة تدعو إلى نسبة الكلمة إلى العجمة ، بعد إمكان حملها على العربيّة ، وتعارف استعمالها في اللغة فيما تعاهدوه من المعاني!

وهكذا حاول الفرّاء توجيه تفسير الكلمة بمعنى التقطيع ـ على قراءة الكسر ـ بأنّه من القلب بتبادل موضع كلّ من لام الفعل وعينه. ليكون صار يصير مقلوبا عن صرى يصري بمعنى قطع.

ولا شكّ أنّه تكلّف بعيد ، لا موجب له ولا ضرورة تدعو إليه.

على أنّ القراءة بالكسر ، قراءة شاذّة خلاف المشهور المتعاهد ، حسبما يأتي.

وإليك الآن نظرات أهل اللغة ، وأنّهم متّفقون على تفسير الكلمة بالإمالة والعطف بالوجه.

كلام أهل اللغة في تفسير «صرهنّ»

يقال : صور : مال. فهو أصور أي مائل والصّور : الميل والعوج. وصاره يصوره : أماله. يقال : صار عنقه أو وجهه إليّ : أماله وأقبل به عليّ.

وصرت الغصن لأجتني ثمره : أملته وعطفت به.

قال الخليل بن أحمد (ت : ١٧٥) : الصّور : الميل. يقال : فلان يصور عنقه إلى كذا : أي مال بعنقه ووجهه نحوه. والنعت : أصور. قال الشاعر :

فقلت لها غضّي فإنّي إلى الّتي

تريدين أن أصبو لها ، غير أصور

وعصفور صوّار : وهو الّذي يجيب الداعي (١).

وقال الفرّاء (ت : ٢٠٧) : وقوله : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) ضمّ الصّاد العامّة. وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يكسرون الصاد. وهما لغتان. فأمّا الضمّ فكثير ، وأمّا الكسر ففي هذيل وسليم. وأنشدني الكسائي عن بعض بني سليم :

__________________

(١) العين ٧ : ١٤٩ ، (ص ، و ، ر).

٣٣٥

وفرع يصير الجيد ، وحف كأنّه

على اللّيت قنوان الكروم الدوالح (١).

قال : ويفسّر معناه : قطّعهنّ ، ويقال : وجّههنّ. قال : ولم نجد قطّعهنّ معروفة من هذين الوجهين (٢).

قال : ولكنّي أرى ـ والله أعلم ـ أنّها إن كانت من ذلك (٣) أنّها من صريت تصري [معتل اللام من صرى يصري مثل رمى يرمي] قدّمت ياءها [أي حصل فيها القلب الصّرفي] كما قالوا : عثت وعثيت (٤).

قال الشاعر :

صرت نظرة لو صادفت جوز دارع

غدا والعواصي من دم الجوف تنعر (٥)

والعرب تقول : بات يصري في حوضه ، إذا استقى ثمّ قطع واستقى.

قال الفرّاء : فلعلّه من ذلك (٦). وقال الشاعر :

يقولون إنّ الشّأم يقتل أهله

فمن لي إن لم آته بخلود؟

تعرّب آبائي فهلّا صراهم

من الموت أن لم يذهبوا وجدودي! (٧)

وقال أبو إسحاق الزجّاج (ت : ٣١١) : قال أهل اللغة : معنى «صرهنّ» أملهنّ واجمعهنّ إليك.

قال ذلك أكثرهم. وقال بعضهم : صرهنّ : اقطعهنّ.

__________________

(١) يريد بالفرع : الشعر التامّ. والوحف ـ مجرورا وصف فرع ـ : الأسود. واللّيت : صفحة العنق. ويريد بقنوان الكروم : عناقيد العنب. وأصل ذلك كباسة النخل. والدوالح : المثقلات بحملها.

(٢) أي سواء قرء بالضمّ من صار يصور ، أو بالكسر من صار يصير.

(٣) أي بمعنى قطّعهنّ ، كما فسّره المشهور.

(٤) يريد أنّه يقال : عثى أي أفسد. وذلك لغة أهل الحجاز. وعاث بمعناها ، وهي لغة تميم. وكأنّه يرى الأولى أصل الثانية كصرى وصار!

(٥) صرت نظرة أي قطعت نظرة أي فعلت ذلك. والجوز : وسط الشيء. والدارع : لا بس الدرع. والعواصي جمع العاصي وهو العرق. يقال : نعر العرق : فار منه الدم.

(٦) أي لعلّ من فسّر «صرهنّ» إلى «قطّعهنّ» أراد حصول قلب في الكلمة ، من «صرى يصري» معتلّ اللام ، إلى «صار يصير» معتلّ العين!

(٧) معاني القرآن ١ : ١٧٤.

٣٣٦

قال : فأمّا نظير «صرهنّ أملهنّ واجمعهنّ» فقول الشاعر (١) :

وجاءت خلعة دهس صفايا

يصور عنوقها أحوى زنيم

والمعنى أنّ هذه الغنم يعطف عنوقها هذا الكبش الأحوى (٢).

قلت : ظاهر كلامه : أنّ تفسير «صرهنّ» بمعنى «أملهنّ» هو المعوّل عند أهل اللّغة والمعتمد عند أكثرهم. وأمّا تفسيره بمعنى «قطّعهنّ» فهو قول البعض ولا شاهد له. ولذلك جاء بالشاهد لدعم رأي الأكثر.

ومن ثمّ قال ابن منظور : وكلّهم فسّروا «فصرهنّ» : أملهنّ. ثمّ قال : وفسّر بمعنى «قطّعهنّ» ، على قراءة الكسر. أي جاء تفسيره بالتقطيع عن بعضهم على هذه القراءة. قال : ومن قرأ : «فصرهنّ إليك» بالكسر ، ففيه قولان ، أحدهما : أنّه بمعنى صرهنّ. يقال : صاره يصوره ويصيره ، إذا أماله. لغتان ، أي بمعنى واحد ، كما ذكره اللحياني (٣). والقول الآخر : إنّه بمعنى قطّعهنّ. قال : فيستدعي تقديما وتأخيرا في الكلام ، كما ذكره الجوهري (٤)(٥).

قال ابن دريد (ت : ٣٢١) : والصّور ، مصدر صرته أصوره صورا ، إذا عطفته. قال الشاعر :

وما تقبل الأحياء من حبّ خندف

ولكنّ أطراق الرماح تصورها

قال : وقد قرئ (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي ضمّهنّ إليك.

__________________

(١) هو المعلّى بن جمال العبدي ، وجاء بعده :

يفرّق بينها صدع رباع

له ظأب كما صخب الغريم

والخلعة ـ بضمّ الخاء وكسرها ـ : خيار المال وأريد به هنا خيار الغنم. والغنم ، جمع لا مفرد له من لفظه وواحده الشاة.

والدّهس ، جمع الأدهس : ما كان لونه الدّهسة وهي السواد إذا أشرب بالحمرة. والصفيّة ، جمعها صفايا : الشاة الغزيرة اللبن. وأحوى ـ وأريد به التيس ـ الضارب لونه من الحمرة إلى السواد. والزّنمة : قطع أذن البعير أو الشاة ، دليلا على أنّه من كرام الإبل أو الشاة. والصّدع : الفتيّ القويّ. والظأب : صياح التيس. والرّباع : حسن الحال قويّ شديد. والصّخب : شدّة الصوت واختلاطه. والغريم ـ هنا ـ الدائن المطالب. يعلو صوته بالمطالبة.

(٢) معاني القرآن ، للزجّاج ١ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(٣) راجع : المحكم لابن سيده ٨ : ٣٧١.

(٤) الصحاح ٢ : ٧١٧.

(٥) لسان العرب ٤ : ٤٧٤.

٣٣٧

قال : ومن قرأ «فصرهنّ إليك» أي قطّعهنّ ، من صاره يصيره إذا قطعه (١).

وقال ـ أيضا ـ : صاره يصوره ـ وفي نسخة : يصيره ـ صورا. و «صرهنّ إليك» : أجمعهنّ (٢).

وقال الجوهري : صاره يصوره ويصيره أي أماله. وقرئ قوله تعالى : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بضمّ الصاد وكسرها. قال الأخفش : يعني : وجّههنّ. يقال : صر إليّ ، وصر وجهك إلىّ ، أي أقبل عليّ.

وصرت الشيء أيضا : قطّعته وفصّلته. قال رؤبة يخاطب الحكم بن صخر وأباه صخر بن عثمان ـ في رجز ـ :

أبلغ أبا صخر بيانا معلما

صخر بن عثمان بن عمرو وابن ما

صرنا به الحكم وأعيا الحكما

قال : فمن قال هذا جعل في الآية تقديما وتأخيرا ، كأنّه قال : خذ إليك أربعة من الطير فصرهنّ (٣).

وقال الأزهري (ت : ٣٧٠) : قال اللّيث : الصّور : الميل. والرجل يصور عنقه إلى الشيء ، إذا مال نحوه بعنقه. والنعت : أصور.

وقال ـ في صير ـ : والصائر : الملوّي أعناق الرجال (٤).

قال ابن فارس (ت : ٣٩٥) : صور ـ الصاد والواو والراء ـ كلمات كثيرة متباينة الأصول وخارجة عن القياس. قال : وممّا ينقاس منه قولهم : صور : يصور ، إذا مال. وصرت الشيء أصوره وأصرته ، إذا أملته إليك.

وذكر عن الخليل قولهم : عصفور صوّار ، وهو الّذي إذا دعى أجاب. قال : وهذا لا أحسبه عربيّا. ويمكن إن صحّ أن يكون من الباب الّذي ذكرناه أوّلا ؛ لأنّه يميل إلى داعيه (٥).

وقال ابن سيده (ت : ٤٥٨) : صار الشيء صورا ، وأصاره فانصار : أماله فمال. قالت الخنساء :

فلو يلاقي الّذي لاقيته حضن

لظلّت الشّمّ منها وهي تنصار

__________________

(١) جمهرة اللغة ٢ : ٣٦٠.

(٢) المصدر ٣ : ٢٤٩.

(٣) الصحاح ٢ : ٧١٧.

(٤) تهذيب اللغة ١٢ : ١٥٩ و ١٦٢.

(٥) معجم مقاييس اللغة ٣ : ٣١٩ ـ ٣٢٠.

٣٣٨

قال : وخصّ بعضهم به إمالة العنق.

قال : وصور صورا : مال. قال الشاعر :

الله يعلم أنّا في تلفّتنا

يوم الفراق إلى أحبابنا صور (١)

وصار وجهه يصوره : أقبل به.

قال : وفي التنزيل : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) ـ على قراءة عليّ وابن عبّاس وأكثر الناس ـ أي وجّههنّ. وهكذا على قراءة «فصرهنّ» ، لأنّ صرت وصرت لغتان.

قال اللحياني : قال بعضهم : معنى صرهنّ : وجّههنّ ، ومعنى صرهنّ : قطّعهنّ وشقّقهنّ! والمعروف أنّهما لغتان بمعنى واحد (٢).

وقال الزمخشري (ت : ٥٢٨) : في عنقه صور : ميل وعوج (٣). ومنه حديث مجاهد : أنّه نهى عن أن تصور شجرة مثمرة. أي تميلها ، لأنّها تصفرّ بذلك ويقلّ ثمرها. وكذا قول ابن عمر : إنّي لأدني الحائض ومابي إليها صورة. قال الزمخشري : هي المرّة من الصّور وهو العطف. أي مابي شهوة تصورني إليها (٤).

[٢ / ٧٥٧٥] قال الثعلبي : وعن ابن عبّاس فيه روايتان : «فصرّهنّ» (مفتوحة الصّاد ، مشدّدة الراء مكسورة) من التصرية وهي الجمع ، ومنه المصرّاة (٥).

والثانية : «فصرّهنّ» (بضمّ الصاد وفتح الراء وتشديدها) من الصّرّة وهي في معنى الجمع والشدّ أيضا (٦).

__________________

(١) صور جمع أصور ، نحو حمر وأحمر. أي راغبون مائلون.

(٢) المحكم لابن سيده ٨ : ٣٧٠ ـ ٣٧١.

(٣) أساس البلاغة ٢ : ٣١.

(٤) الفائق في اللغة ٢ : ٣٢١.

(٥) صرّى الشّاة تصرية : لم يحلبها حتّى يمتلئ ضرعها لبنا. والمصرّاة : الشاة أو الناقة المحفّلة : أي الّتي ترك حلبها أيّاما ليجتمع اللبن في ضرعها.

(٦) الثعلبي ٢ : ٢٥٦ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٣٦.

٣٣٩

وبعد ، فإذ قد عرفت اتّفاق أهل اللغة (١) على تفسير (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي أملهنّ إليك بحيث يأنسن بك ، وأن لا وجه معروفا (٢) لتفسيره بالذبح والتقطيع. كما لا شاهد في تعبير القرآن على ذبح الطيور وتقطيع أشلائهنّ.

ومن ثمّ لجأ أصحاب هذا القول إلى فرض الكلمة أعجميّة : نبطيّة أو روميّة أو حبشيّة (٣). في حين أنّ الكلمة إذا كانت أعجميّة لا متنعت من تصريفها في الثلاثي المجرّد.

وهكذا حاول الفرّاء توجيه هذا المعنى بفرض القلب في الكلمة ، من غير ما ضرورة تدعو إلى ذلك.

وعليه ، فإذ لا أصل لهذه اللفظة بمعنى التقطيع والتشقيق ، ولا ضرورة تدعو إلى فرض القلب فيها ، أو كونها أعجميّة ، وكلا الفرضين خلاف الأصل. فلم يبق ما يبرّر هذا التفسير ، رغم كونه مشهوريّا ، وربّ مشهور لا أصل له.

وهل اللفظة أعجميّة معرّبة؟

وإليك ما ورد بشأن الكلمة وأنّها أعجميّة معرّبة.

قال ابن عاشور : هو لفظ عربيّ على الأصحّ. وقيل : معرّب : فعن عكرمة : إنّه نبطيّ. وعن قتادة : إنّه حبشيّ. وعن وهب : إنّه روميّ (٤).

[٢ / ٧٥٧٦] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : (فَصُرْهُنَ) قال : هي بالنبطيّة شقّقهنّ (٥).

__________________

(١) مرّ في كلام ابن منظور : (وكلّهم فسّروا فَصُرْهُنّ) : أملهنّ. (لسان العرب ٤ : ٤٧٤).

(٢) مرّ في كلام ابن سيده : (فَصُرْهُنَّ) أي وجّههنّ. وهكذا على قراءة «فصرهنّ» ؛ لأنّ صرت وصرت لغتان. وأنكر اللحياني قول بعضهم : إنّ معنى «فصرهنّ» ـ بالكسر ـ قطّعهنّ وشقّقهنّ. قال : والمعروف أنّهما لغتان بمعنى واحد. (المحكم لابن سيده ٨ : ٣٧٠ ـ ٣٧١).

(٣) حسبما يأتي فيما نسب إلى عكرمة وقتادة ووهب.

(٤) التحرير والتنوير ٢ : ٥١٢ ـ ٥١٣.

(٥) الدرّ ٢ : ٣٥ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥١٢ / ٢٧١١ ، بلفظ : قال : هي بالنبطيّة : صرّبه ، يعني شقّقهنّ ؛ الطبري ٣ : ٧٨ / ٤٦٨٦ ؛ القرطبي ٣ : ٣٠١ ، بلفظ : قال الضحّاك وعكرمة وابن عبّاس في بعض ما روي عنه : إنّها لفظة بالنبطيّة معناه : قطّعهنّ.

٣٤٠