التفسير الأثري الجامع - ج ٦

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-07-4
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٥٩

[٢ / ٧٥٣٧] وأخرج ابن جرير عن محمّد بن إسحاق قال : ذكر لنا ـ والله أعلم ـ : أنّ نمروذ قال لإبراهيم فيما يقول : أرأيت إلهك هذا الّذي تعبده ، وتدعو إلى عبادته ، وتذكر من قدرته الّتي تعظّمه بها على غيره ، ما هو؟ قال له إبراهيم : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ!) قال نمروذ : فأنا أحيي وأميت! فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت؟ قال : آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي ، فأقتل أحدهما فأكون قد أمتّه ، وأعفو عن الآخر فأتركه وأكون قد أحييته! فقال له إبراهيم عند ذلك : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) أعرف أنّه كما تقول! فبهت عند ذلك نمروذ ، ولم يرجع إليه شيئا ، وعرف أنّه لا يطيق ذلك. يقول تعالى ذكره : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) يعني وقعت عليه الحجّة ، يعني نمروذ (١).

***

وهناك روايات ، لعلّها أشبه بالإسرائيليّات :

[٢ / ٧٥٣٨] أخرج ابن جرير عن عبد الرحمان بن زيد بن أسلم في قول الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) قال : هو نمروذ ، كان بالموصل! والناس يأتونه ، فإذا دخلوا عليه ، قال : من ربّكم؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميروهم! فلمّا دخل إبراهيم ، ومعه بعير خرج يمتار به لولده! قال : فعرضهم كلّهم ، فيقول : من ربّكم؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميروهم! حتّى عرض إبراهيم مرّتين ، فقال : من ربّك؟ قال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) قال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) إن شئت قتلتك فأمتّك ، وإن شئت استحييتك. (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). قال : أخرجوا هذا عنّي فلا تميروه شيئا! فخرج القوم كلّهم قد امتاروا ، وجوالقا إبراهيم يصطفقان (٢) ، حتّى إذا نظر إلى سواد جبال أهله ، قال : ليحزنني صبيّاي إسماعيل وإسحاق!! لو أنّي ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء فذهبت بهما قرّت عينا صبيّتي ، حتّى إذا كان الليل أهرقته! قال : فملأهما ثمّ خيّطهما ، ثمّ جاء بهما ، فترامى عليهما الصبيان فرحا ، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة ، ثمّ قالت : ما يجلسني! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا ، لو قمت صنعت له

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣٩ / ٤٥٨٩ ؛ تاريخ الطبري ١ : ١٦٨ ، بخلاف يسير.

(٢) أي يصرخان جوعا وفراغا.

٣٠١

طعاما إلى أن يقوم. قال : فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها ، وانسلّت قليلا قليلا لئلّا توقظه. قال : فجاءت إلى إحدى الغرارتين (١) ففتقتها ، فإذا حوّارى (٢) من النقيّ لم يروا مثله عند أحد قطّ ، فأخذت منه فطحنته (٣) وعجنته. فلمّا أتت توقظ إبراهيم جاءته حتّى وضعته بين يديه ، فقال : أيّ شيء هذا يا سارة؟ قالت : من جوالقك ، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير. قال : فذهب ينظر إلى الجوالق الآخر فإذا هو مثله ، فعرف من أين ذاك (٤).

[٢ / ٧٥٣٩] وأخرج عبد الرزّاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة ـ أيضا ـ عن زيد بن أسلم ، أنّ أوّل جبّار كان في الأرض نمرود ، وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام ، فخرج إبراهيم عليه‌السلام يمتار مع من يمتار. فإذا مرّ به ناس قال : من ربّكم؟ قالوا له : أنت. حتّى مرّ به إبراهيم فقال : من ربّك؟ قال : الّذي يحيي ويميت. قال : أنا أحيي وأميت! قال إبراهيم : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) فردّه بغير طعام ، فرجع إبراهيم إلى أهله ، فمرّ على كثيب من رمل أعفر ، فقال : ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم! فأخذ منه فأتى أهله ، فوضع متاعه ثمّ نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو بأجود طعام رآه أحد ، فصنعت له منه فقرّبته إليه ، وكان عهده بأهله أنّه ليس عندهم طعام ، فقال : من أين هذا؟! قالت : من الطعام الّذي جئت به. فعرف أن الله رزقه ، فحمد الله.

ثمّ بعث الله إلى الجبّار ملكا أن آمن بي وأنا أتركك على ملكك! فقال نمرود : فهل ربّ غيري؟ فأبى! فجاءه الثانية فقال له ذلك فأبى عليه ، ثمّ أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال له الملك : فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيّام ، فجمع الجبّار جموعه ، فأمر الله الملك ففتح عليه بابا من البعوض ، فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم وشحومهم وشربت دماءهم ، فلم يبق إلّا العظام ، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء ، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة! يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه ثمّ ضرب بهما رأسه! وكان

__________________

(١) الغرارة : الجوالق.

(٢) الحوّارى : الدقيق الأبيض.

(٣) لعلّ واضع الخبر لم يدر أن الحوّارى هو الدقيق ، ولا حاجة إلى الطحن!؟

(٤) الطبري ٣ : ٣٧ ـ ٣٨ / ٤٥٨٥ ؛ العظمة ٤ : ١٥٠٩ ـ ١٥١١ / ٩٨٥ ـ ١ ، باب ٣٩.

٣٠٢

جبّارا أربعمائة سنة! فعذّبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثمّ أماته الله وهو الّذي كان بنى صرحا إلى السماء ، فأتى الله بنيانه من القواعد (١)؟!!

[٢ / ٧٥٤٠] وقال القرطبي : ذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي صالح قال : انطلق إبراهيم النبيّ عليه‌السلام يمتار فلم يقدر على الطعام ، فمرّ بسهلة حمراء فأخذ منها ثمّ رجع إلى أهله فقالوا : ما هذا؟ فقال : حنطة حمراء! ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء! قال : وكان إذا زرع منها شيئا جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حبّا متراكبا (٢)!

التجربة الثانية

وفي سياق الحديث عن سرّ الموت والحياة تجيء القصّة الأخرى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

من هذا الّذي مرّ على قرية كانت خاوية؟

[٧٥٤١ / ٢] أخرج ابن جرير بعدّة أسناد عن وهب بن منبّه أنّه كان إرميا بن حلقيّا (٣)(٤).

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٢٤ ـ ٢٥ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٦٦ / ٣٢٨ ؛ الطبري ٣ : ٣٧ / ٤٥٨٤ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٩ / ٢٦٣٨ ؛ العظمة ٤ : ١٥٠٩ ـ ١٥١١ / ٩٨٥ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٣٩ / ٢٤٠ ؛ البغوي ١ : ٣٥١ ؛ ابن كثير ١ : ٣٢١ ؛ القرطبي ٣ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٤.

(٢) القرطبي ٣ : ٢٨٥ ؛ المصنّف ٧ : ٤٤٨ / ٧ ، باب ٢ ؛ الدرّ ١ : ٢٨٥.

(٣) عاصر ثلاثة من ملوك بني إسرائيل : يوشيّا ويهوقاقيم وصدقيّا ، الّذي وقع هذا الأخير أسيرا بيد ملك بابل نبوكد نصّر. وكان إرميا حينذاك مسجونا فأطلقه نبوكد نصّر من السجن ، ولكنّه جعله مع الأسارى الّذين ذهب بهم إلى بلاده. له كتاب شرح فيه تاريخ حياة إسرائيل ما بين سنين (٦٢٥ ـ ٥٨٠) قبل الميلاد. وله تنبّؤات بشأنهم في خلالها. وكان إطلاق سراحه ـ بعد الرحلة إلى مصر ـ سنة (٥٨٦ ـ ق. م) ليعود إلى بلده القدس.

(٤) الطبري ٣ : ٤١.

٣٠٣

[٢ / ٧٥٤٢] وأخرج عن سلمة عن ابن إسحاق عمّن لايتّهم عن وهب بن منبّه ، قال : هو إرميا (١).

وكذا أخرج عن عبد الصمد بن معقل عن وهب أنّه إرميا (٢).

وزعم محمّد بن إسحاق أنّ إرميا هو الخضر!!

[٢ / ٧٥٤٣] وأخرج أبو جعفر عن عبد بن حميد عن سلمة عن محمّد بن إسحاق ، قال : اسم الخضر ـ فيما كان وهب بن منبّه يزعم عن بني إسرائيل ـ إرميا بن حلقيّا ، وكان من سبط هارون بن عمران (٣).

قال ابن عطيّة : وهذا كما ترى! إلّا أن يكون اسما وافق اسما ، لأنّ الخضر معاصر لموسى وهذا الّذي مرّ على القرية هو بعده بزمان ، من سبط هارون فيما روى وهب بن منبّه (٤).

قال القرطبي : إن كان الخضر هو إرميا ، فلا يبعد أن يكون هو ، لأنّ الخضر لم يزل حيّا من وقت موسى حتّى الآن على الصحيح في ذلك ، على ما يأتي بيانه في سورة الكهف (٥).

[٢ / ٧٥٤٤] وأخرج ابن جرير عن يونس عن ابن وهب (٦)؟ قال : أخبرني بكر بن مضر ، قال : يزعمون في بعض الكتب أنّ إرميا كان بإيليا حتّى خرّبها بخت نصّر ، فخرج منها إلى مصر ، فكان بها. فأوحى الله إليه أن اخرج منها إلى بيت المقدس ، فأتاها فإذا هي خربة ، فنظر إليها فقال : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) فإذا حماره حيّ قائم على رباطه ، وإذا طعامه سلّ عنب وسلّ تين لم يتغيّر عن حاله. قال يونس : قال لنا سلم الخواص (٧) : كان طعامه وشرابه سلّ عنب وسلّ تين وزقّ عصير! (٨).

قلت : في هذه النقول مواضع للنظر ، لا تخفى على الناقد البصير.

__________________

(١) المصدر : ٤١ ـ ٤٢.

(٢) المصدر.

(٣) الطبري ٣ : ٤١ / ٤٦٠٠ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٤٢ ؛ البغوي ١ : ٣٥٢ ؛ ابن كثير ١ : ٣٢٢.

(٤) المحرّر الوجيز ١ : ٣٤٧.

(٥) القرطبي ٣ : ٢٨٩.

(٦) قال ابن حجر في التقريب ٢ : ٥٣١ : ابن وهب بن منبّه مجهول.

(٧) هو : سلم بن ميمون الخوّاص ، من عبّاد أهل الشام وقرّائهم ، ممّن غلب عليه الصلاح حتّى غفل عن حفظ الحديث وإتقانه ، فربما ذكر الشيء بعد الشيء وتقلّبه توهّما لا تعمّدا! قال السمعاني : نبطل الاحتجاج بما يروي. (الأنساب ٢ : ٤١١).

(٨) الطبري ٣ : ٥٥ / ٤٦٣٢.

٣٠٤

[٢ / ٧٥٤٥] وقال قتادة والربيع وعكرمة وناجية بن كعب وسليمان بن بريدة والضحّاك والسدّي وسلم الخوّاص : هو عزير بن شرحيّا (١).

[٢ / ٧٥٤٦] وعن ابن عبّاس ـ فيما رواه ابن جرير وابن عساكر ـ : «إنّه عزير بن سروحا» (٢).

وعزير هو عزرا بن سرايا بن عزريا ، من سبط هارون (٣) كاهن وكاتب يهودي وقع في أسر بابل (عام : ٥٨٦ ق. م.) مع سائر الكهنة اليهود. وبعد أن سقطت بابل على يد الملك الفارسي «كورش» (عام : ٥٣٩) وتحرّر اليهود ، عاد أكثرهم إلى أورشليم ليعيدوا بناء الهيكل من جديد. وبعد ثمانين عاما ، جاءهم عزرا ، ليعيد لهم الشريعة الّتي مزّقها ملك بابل. وأعاد كتابة الأسفار الّتي كانت ممزّقة ومبعثرة ، ومن ثمّ كان هو القائم بإحياء شريعة اليهود بعد اندراسها لعهد طويل. ولأجله لقّب بابن الله ، تشريفا له.

الأمر الّذي جعل حياته واضحة الأبعاد ، لا موضع فيها لفرض غيبته طول مئة عام ، كي يحتمل أنّه هو صاحب القصّة.

وقال ابن عاشور : والّذي يظهر لي أنّه (صاحب القصّة) حز قيال بن بوزي ، كان معاصرا لإرميا ودانيال وكان من جملة الّذين أسرهم نبوكد نصّر إلى بابل ، في أوائل القرن السادس قبل الميلاد.

وذلك أنّه لمّا رأى عزم نبوكد نصّر على استئصال اليهود ، ومحق آثار الشريعة ، وإحراق الكتب والصحائف الدينيّة ، عمد إلى جمع كتب الشريعة وتابوت العهد وعصا موسى وغيرها من آثار اليهود ، ورماها في بئر في أورشليم ، خشية أن يحرقها نبوكد نصّر ، ولعلّه اتّخذ علامة يعرفها بها وجعلها سرّا بينه وبين أنبياء عصره وورثتهم من الأنبياء.

فلمّا أسر وأخذ إلى بابل ، بقي هنالك وكتب رسالة تحتوي على رؤى ومنامات كان يراها وحيا يأتيه رمزا في منامه ، فجعل يسجّلها تنبّؤا بأنّها إشارات إلى شدائد يتحمّلها قومه وفيها البشائر أيضا إلى الخلاص والنجاة وإحياء الدين وإعادة قوميّتهم من جديد.

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ٢٤٢.

(٢) الطبري ٣ : ٤٠ ـ ٤١ ؛ ابن عساكر ٤٠ : ٣٢٠ / ٤٦٩٦.

(٣) سفر عزرا ٧ : ١.

٣٠٥

وكان آخر ما كتب عام : ٢٥ بعد سبي اليهود (١) ، ولم يعرف له خبر بعد ، كما ورد في تاريخهم (٢) ويظنّ أنّه مات أو قتل. ومن جملة ما كتبه من رؤياه : «كأنّي وقد أخرجني روح الربّ وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاما كثيرة ، وأمّرني عليها وإذا تلك العظام يابسة ، فقال لي : أتحيى هذه العظام؟ فقلت : يا سيّدي الربّ ، أنت تعلم. فقال لي : تنبّأ على هذه العظام وقل لها : أيّتها العظام اليابسة ، اسمعي كلمة الربّ ، قال : ها أنا ذا أدخل فيكم الروح وأضع عليكم عصبا وأكسوكم لحما وجلدا. فتنبّأت كما أمرني ، فتقاربت العظام كلّ عظم إلى عظمه ، ونظرت وإذا باللحم والعصب كساها وبسط الجلد عليها من فوق ، ودخل فيهم الروح ، فحيّوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدّا».

قال ابن عاشور : ولمّا كانت رؤيا الأنبياء وحيا ، فلا شكّ أنّ الله لمّا أعاد عمران أورشليم في عهد عزرا النبيّ في حدود سنة ٤٥٠ قبل الميلاد (٣) ، أحيا النبيّ حزقيال ليرى مصداق نبوءته ، وأراه إحياء العظام ، وأراه آية في طعامه وشرابه وحماره ، حينما أحياه ـ وهذه مخاطبة بين الخالق وبعض أصفيائه على طريق المعجزة ـ وجعل خبره آية للناس من أهل الإيمان الّذين يوقنون بما أخبرهم

__________________

(١) راجع : الأصحاح : ٤٠ من سفر حزقيال. كتب فيه رؤى وتنّبؤات عجيبة ، عن مصير أمّة إسرائيل في التشريد والتمزيق وتخريب الديار ومغادرة الأوطان (الأصحاح : ٣٣). كتبها في العام الخامس والعشرين من الأسر ، وبعد هدم الهيكل بأورشليم بأربعة عشر عاما (الأصحاح : ٤٠). فكان فيما رأى ، رأى نفسه واقفا على كثيب ينظر إلى أطلال أورشليم وهي خاوية على عروشها (الأصحاح : ٣٧). وعند ذلك سمع نداء الربّ يقول له : هل لهذه العظام اليابسة أن تحيى من جديد؟! ها أنا السيّد الربّ : أدخل فيهم الروح فيحيون وأضع عليهم عصبا وأكسيهم لحما وأبسط عليهم جلدا وأجعل فيهم روحا ، فتعلمون أنّي أنا الربّ!!

(٢) يقول جيمز هاكس : لم يعرف شيء عن زمن موته وسبب وفاته. وله قبر وعليه قبّة معروفة في ناحية بابل (الحلّة ـ العراق) يعرف بذي الكفل. (قاموس الكتاب المقدّس : ٣٢١).

(٣) وكان بعد تحرّر اليهود من الأسر بعد حوالي قرن. كان سقوط أورشليم على يد نبوكدنصّر سنة (٥٨٦ ق. م.). وفي سنة (٥٣٩) سقط بابل على يد كورش الكبير وتحرّر اليهود. فعاد أكثرهم (ما يقرب من خمسين ألفا) إلى أورشليم لإعادة بنائها. وبعد ثمانين سنة من إعادة البناء ، ارتحل عزرا في ألفين من أسر اليهود إلى أورشليم لكي يعيد لهم الشريعة من جديد. فكان ذلك حوالي ٤٥٠ قبل الميلاد. وإذ كان حزقيال رأى رؤاه في زمن الأسر ، ثمّ توفّاه الله ، وأحياه من جديد ليأتي بلده ويؤازر عزرا في إحياء الدين ؛ يمكن الحدس بأنّ زمن سباته استغرق حوالي مئة عام ، والله العالم. (راجع : سفر عزرا ، ط : ١٩٩٥ م). (قاموس الكتاب المقدّس : ٦٠٩).

٣٠٦

الله تعالى ، أو لقوم اطّلعهم الله على ذلك من أصفيائه ، أو لأهل القرية الّتي كان فيها وفقد من بينهم (١) ، فجاءهم بعد مئة سنة وتحقّقه من يعرفه بصفاته ، فيكون قوله تعالى : (مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) إشارة إلى قوله : «أخرجني روح الربّ وأمّرني عليها». فقوله : (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ)؟ إشارة إلى قوله : «أتحيى هذه العظام؟ فقلت : يا سيّدي ، أنت تعلم!» ؛ لأنّ كلامه هذا ينبئ باستبعاد إحيائها. ويكون قوله تعالى : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) ممّا أفاده القرآن من البيان ، زيادة على ما في كتب اليهود ، لأنّهم كتبوها بعد مرور أزمنة.

فمن هنا يحتمل ـ والله العالم ـ أنّه مات (أخذه السّبات) في تغيّبه عن قومه في حدود سنة (٥٦٠ ق. م.) وكان تجديد أورشليم في حدود (٤٥٨). فتلك مئة سنة تقريبا ، ويكون قوله : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) تذكرة له بتلك النبوءة ، وهي تجديد مدينة إسرائيل (٢).

[٢ / ٧٥٤٧] وهكذا أخرج ابن أبي حاتم من طريق أبيه عن سليمان بن محمّد الأسلمي اليساريّ الجاريّ ـ من أهل الجار (٣) ـ ابن عمّ مطرّف (٤) ، قال : سمعت رجلا من أهل الشام ، يقول : إنّ الّذي أماته الله مئة عام ثمّ بعثه ، اسمه : حزقيل بن بوزي (٥).

***

وجاء في تفسير المنار عند قوله تعالى : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) قالوا : معناه : ألبثه مئة عام ميّتا ، وذلك أنّ الموت يكون في لحظة واحدة.

قال الأستاذ محمّد عبده : وفاتهم أنّ من الموت ما يمتدّ زمنا طويلا ، وهو ما يكون من فقد الحسّ والحركة والإدراك ، من غير أن تفارق الروح البدن بالمرّة ، وهو ما كان لأهل الكهف ، وقد عبّر عنه تعالى بالضرب على الآذان.

قال السيّد رشيد رضا : ولعلّ وجهه أنّ السمع ، آخر ما يفقد من إدراك من أخذه النوم أو الموت.

__________________

(١) وسيأتي في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «فغيّب الله شخصه مئة عام ، ثمّ بعثه» كمال الدين للصدوق ١ : ١٥٨ ، باب ٧.

(٢) التحرير والتنوير ٢ : ٥٠٨ ـ ٥٠٩.

(٣) بليدة على الساحل بقرب المدينة. وهو سليمان بن محمّد بن موسى الأسلمي اليساريّ المديني الجاريّ ، صدوق.

(٤) هو أبو مصعب مطرّف بن عبد الله بن سليمان بن يسار المديني ، ابن أخت مالك ، ثقة.

(٥) ابن أبي حاتم ٢ : ٥٠٠ / ٢٦٤٢ ؛ ابن كثير ١ : ٣٢٢ ؛ الدرّ ٢ : ٢٩.

٣٠٧

وهذا الموت أو الضرب على الآذان هو المراد بالشقّ الثاني من قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها)(١). والبعث هو الإرسال. فإذا كان هذا النوع من الموت يكون بتوفّي النفس أي قبضها ، فزواله إنّما يكون بإرسالها وبعثها.

قال : وقد ثبت في هذا الزمان أنّ من الناس من تحفّظ حياته زمنا طويلا يكون فيه فاقد الحسّ والشعور ، ويعبّرون عن ذلك بالسّبات وهو النوم المستغرق ، الّذي سمّاه الله وفاة. وقد كتب إلى مجلّة المقتطف سائل يقول : إنّه قرأ في بعض التقاويم أنّ امرأة نامت (٥٥٠٠) يوم أي بلياليها ، من غير أن تستيقظ ساعة مّا في خلال هذه المدّة ، وسأل هل هذا صحيح؟ فأجابه أصحاب المجلّة بأنّهم شاهدوا شابّا نام نحو شهر من الزمان ، ثمّ أصيب بدخل في عقله. وقرأوا عن أناس ناموا نوما طويلا أكثر من أربعة أشهر ونصف ، واستبعدوا أن ينام إنسان مدّة (٥٥٠٠) يوم أي أكثر من (١٥) سنة نوما متواليا. وقالوا : إنّهم لا يكادون يصدّقون ذلك!

نعم ، إنّ الأمر غير مألوف ، ولكن القادر على حفظ الإنسان أربعة أشهر ونصف و (١٥) سنة ، قادر على حفظه مئة سنة ، غير محال في نظر العقل.

قال : ولا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النصّ من آيات الله تعالى وأخذها على ظاهرها إلّا أن تكون من الممكنات دون المستحيلات. وإنّما ذكرنا ما وصل إليه علم بعض الناس من هذا السّبات الطويل الّذي لم يعهده أكثرهم ، لأجل تقريب إمكان هذه الآية من أذهان الّذين يعسر عليهم التمييز بين ما يستبعد ، لأنّه غير مألوف. وما هو محال لا يقبل الثبوت لذاته (٢)!

***

وهناك من أبهم في الأمر إبهاما ، ولم يزد على أنّه كان رجلا من بني إسرائيل.

[٢ / ٧٥٤٨] أخرج ابن جرير عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قال : كان هذا رجلا من بني إسرائيل ، نفخ الروح في عينيه (٣) ، فنظر إلى خلقه كلّه حين يحييه الله ، وإلى حماره حين يحييه الله (٤).

__________________

(١) العنكبوت ٢٩ : ٤٢.

(٢) تفسير المنار ٣ : ٤٩ ـ ٥٠.

(٣) حسبما ورد في بعض الروايات : أوّل ما خلق منه عيناه. (ابن أبي حاتم ٢ : ٥٠٢ / ٢٦٥٤) وسيأتي.

(٤) الطبري ٣ : ٥٧ ـ ٥٨ / ٤٦٣٧ ؛ ابن كثير ١ : ٣٢٢ ، بلفظ : «قال مجاهد بن جبر : هو رجل من بني إسرائيل» ؛ القرطبي ٣ : ٢٨٩ ، بلفظ : «حكى النحّاس ومكّي عن مجاهد أنّه رجل من بني إسرائيل غير مسمّى!».

٣٠٨

وأضاف : أنّه كان كافرا شاكّا في البعث (١).

***

قال أبو جعفر الطبري : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إنّ الله تعالى عجّب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول هذا القائل : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها). ولا بيان عندنا من وجه صحيح على اسم هذا القائل ، عزير أو إرميا؟ ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه ، إذ لم يكن المقصود معرفة اسمه ، وإنّما المقصود اعتبار المنكرين للبعث من قريش وسائر العرب. وتثبيت الحجّة بذلك على من كان بين ظهرانيّ مهاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اليهود ، باطّلاعه تعالى نبيّه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما يزيل شكّهم في نبوّته ويقطع عذرهم في رسالته ؛ إذ كان الّذي أوحاه إلى نبيّه لم يكن يعرفه لا هو ولا قومه من قبل ، فليعلم أهل الكتاب أنّه بوحي من الله (٢).

وقال سيّد قطب : إنّ القرآن لم يفصح عن هذا الّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها ، ولا عن القرية ، ولو شاء لأفصح ، ولو كانت حكمة النصّ لا تتحقّق إلّا بهذا الإفصاح ما أهمله في القرآن (٣).

تفسير الآية

سبق أن نبّهنا أنّ الآية جاءت في سياق الحديث عن سرّ الموت والحياة وأنّهما بيد الله الّذي برأ الخلق.

فكان فيما حاجج الّذي آتاه الله الملك ، إبراهيم في ربّه ، دلالة وعبرة على ذلك. والآن يعيد الكلام ثانيا ، ويقول : وإن شئت فاعتبر بقصّة أخرى هي نظيرة الأولى في العظة والاعتبار.

قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها). أي إن شئت فاعتبر بقصّة الّذي مرّ على قرية خربة باد أهلها.

العرش من البيت : سقفه. وخوى البيت تهدّم. فقوله : (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي متهدّمة محطّمة على قواعدها. وليس هناك من يعير اهتمامه بها!

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ٢٤٢ ؛ البغوي ١ : ٣٥٢.

(٢) الطبري ٣ : ٥٨.

(٣) في ظلال القرآن ١ : ٤٣٨.

٣٠٩

[٢ / ٧٥٤٩] قال قتادة : خربة ليس فيها أحد! (١).

ومن ثمّ فإنّه تحدّث في نفسه : هل هناك من يهتمّ بها أو يقوم بإعادة الحياة إليها؟!

وحيث كان الرجل مؤمنا بالله القائم على كلّ أمر ، جاء حديثه مع الله : كيف يبعث الله من يقوم على إعادة حياتها ، وكيف يتحقّق هذا الأمر المستبعد في ظاهره؟! قال : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) كيف تدبّ الحياة في هذا الموات؟

[٢ / ٧٥٥٠] قال قتادة : أنّى تعمر هذه بعد خرابها؟ (٢)

سؤال استعجابي عن الكيفيّة ـ الّتي كان يجهلها ـ وليس عن استنكار.

(فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) أراه الله ظاهرة الموت والحياة ، رؤية في ذات نفسه ، وفي تجربة وقعت في ذاته نفسه ، ليراها بشهود عيان ، ويلمسها في الصميم.

(فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) : أفقده الحياة حقبا طويلا ، لا تدوم معه الحياة عادة ، (ثُمَّ بَعَثَهُ) : أفاض عليه الحياة من جديد.

فقد أراه الله في عالم الواقع ، كيف يقع الموت والحياة ، يقعان لحظة إرادته تعالى. الأمر الّذي لا يعالج ـ أحيانا ـ بالبرهان العقلي ولا بالمنطق الوجداني ، وإنّما يكون العلاج بالتجربة الشخصيّة الذاتيّة المباشرة ، الّتي يمتلىء بها الحسّ ، ويطمئنّ بها القلب ، دون كلام!

ثمّ لتنبيهه على هذه التجربة الذاتيّة (قالَ : كَمْ لَبِثْتَ قالَ) فيما حسب : (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). ذلك أنّه ـ حسبما ورد في بعض الروايات ـ : أخذته السبتة والشمس في ضحاها ، وكانت إفاقته عند العشيّ قبيل الغروب :

[٢ / ٧٥٥١] روى العيّاشي بالإسناد إلى أبي بصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «أماته الله غدوة ، وبعثه عشيّة قبل أن تغيب الشمس» (٣).

فنبّهه تعالى على طول فترة غياب نفسه : (قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ).

__________________

(١) الطبري ١٠ : ٢٣٦ / ١٩١٣٢ ؛ عبد الرزّاق ٢ : ٤٠٩ / ١٩٤٣.

(٢) ابن أبي حاتم ٢ : ٥٠١ / ٢٦٤٨.

(٣) العيّاشي ١ : ١٦٠ ـ ١٦١ / ٤٦٧ ؛ البحار ١٤ : ٣٧٣ / ١٤ ، باب ١٥.

٣١٠

ثمّ لا بدّ أن كانت هناك دلائل وشواهد على سباته تلك الفترة الطويلة ، وعلاوة على ذلك كانت دلائل آيات الله أيضا لائحة عليها.

ومن ثمّ جاء التعقيب بقوله تعالى : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

فقد كانت هناك أشلاء متمزّقة وأعضاء متفتّتة ، دليلا على طول الأمد في اندثارها. وإلى جنبها أشياء باقية على حالتها الأولى سليمة لم تتغيّر ، ممّا كان وجودها مقارنا مع وجود تلكم الأشلاء المتمزّقة.

فما هذا البقاء وذلك الفناء ، في أشياء متقارنة الوجود ، إلّا دلائل واضحة على عظيم قدرة الله ، وهو فاعل الإفناء والإبقاء على حدّ سواء.

هذا ما ظهر لهذا النبيّ ظهورا بالحسّ والعيان ، وليكون على يقين واطمئنان ، كما في قصّة إبراهيم عليه‌السلام الآتية.

نعم ، وهذه الآثار المحسوسة لم تكن في طعام الرجل ولا شرابه ؛ إذ لم يكونا آسنين متعفّنين : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) : لم يتغيّر ، من السّنة ، لأنّ مرّ السنين يوجب التغيّر يقال : شجرة سنهاء أي معمّرة مضت عليها سنون. وكذا الماء المسنون : المتغيّر المنتن على أثر مضيّ الزمان. وهكذا الآسن : الماء المتغيّر.

[٢ / ٧٥٥٢] وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عبّاس : أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله : (لَمْ يَتَسَنَّهْ). قال : لم تغيّره السّنون! قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت قول الشاعر :

طاب منه الطعم والريح معا

لن تراه يتغيّر من أسن (١)

***

وإذن فلابدّ أنّ هذه الآثار المحسوسة كانت متمثّلة في شخصه أو في حماره : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) نركّب بعضها على بعض (٢)(ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً).

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٣٠.

(٢) وقد كانت مبعثرة منتشرة هنا وهناك.

٣١١

أيّة عظام؟ عظامه هو؟ كما يقول بعض المفسّرين :

[٢ / ٧٥٥٣] جاء في الحديث : «... (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) فأوّل ما خلق منه عيناه ، فجعل ينظر إلى عظامه ينضمّ بعضها إلى بعض ، ثمّ كسيت لحما ، ثمّ نفخ فيه الروح ، فقيل له : (كَمْ لَبِثْتَ قالَ : لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ...)» (١).

[٢ / ٧٥٥٤] وذكر صاحب كتاب الاحتجاج : «... ونظر إلى أعضائه كيف تلتئم وكيف تلبس اللحم ، وإلى مفاصله وعروقه كيف توصل ، فلمّا استوى جالسا قال : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»)(٢).

[٢ / ٧٥٥٥] وفي تفسير العيّاشي : ... وكان أوّل شيء خلق منه عيناه في مثل غرقىء البيض (٣) ثمّ قيل له : (كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). فجعل ينظر إلى عظامه كيف يصل بعضها إلى بعض (٤).

[٢ / ٧٥٥٦] وفيما رواه أبو الشيخ في العظمة بالإسناد إلى وهب بن منبّه : ... فنظر إلى التين في مكتله لم يتغيّر ، ونظر إلى الماء في القلّة لم يتغيّر طعمه ولم ينقص منه شيء. ومكث الحمار مئة سنة مربوطا لم يأكل ولم يشرب ، فقال : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)» (٥).

[٢ / ٧٥٥٧] وأخرج ابن جرير بالإسناد إليه أيضا ، قال : «فإذا حماره حيّ قائم على رباطه» (٦).

[٢ / ٧٥٥٨] وهكذا أخرج عن ابن وهب ، قال أخبرنا ابن زيد ، (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) ، واقفا عليك منذ مئة سنة (٧).

__________________

(١) رواه الحاكم ٢ : ٢٨٢ ، وصحّحه ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٠٢ ـ ٥٠٣ / ٢٦٥٨ ؛ الدرّ ٢ : ٢٦ ؛ البيهقي في استدراكات البعث والنشور : ١٣ ـ ١٤ / ٦.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٨٨ ؛ البحار ١٠ : ١٧٥ ـ ١٧٦ / ٢ ، و ١٤ : ٣٦٢ / ٣ ؛ البرهان ١ : ٥٤٨ / ٥.

(٣) غرقىء البيض : القشرة المتّصلة ببياض البيض. بياض البيض الّذي في وسطه الصفار.

(٤) العيّاشيّ ١ : ١٦٠ ـ ١٦١ / ٤٦٧ ؛ البحار ١٤ : ٣٧٣ / ١٤.

(٥) العظمة ٢ : ٦١٩ ـ ٦٢٠ / ٢٤٠ ـ ٥١.

(٦) الطبري ٣ : ٦٠ / ٤٦٤٤.

(٧) المصدر : ٥٩ / ٤٦٣٣.

٣١٢

قال سيّد قطب : لو كان الأمر كذلك ـ كما يقول بعض المفسّرين : إنّ عظامه هي الّتي تعرّت من اللحم ـ للفت هذا نظره عند ما استيقظ ، ووخز حسّه كذلك ، ولمّا كانت إجابته : (لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).

قال : لذلك نرجّح أنّ الحمار هو الّذي تعرّت عظامه وتفسّخت. ثمّ كانت الآية هي ضمّ هذه العظام بعضها إلى بعض وكسوتها باللحم وردّها إلى الحياة ، على مرأى من صاحبه الّذي لم يمسّه البلى ، ولم يصب طعامه ولا شرابه العفن. ليكون هذا التباين في المصائر ، والجميع في مكان واحد ، ومعرّضون لمؤثّرات جوّيّة وبيئيّة واحدة ، آية أخرى على القدرة الّتي لا يعجزها شيء ، والّتي تتصرّف مطلقة من كلّ قيد ، وليدرك الرجل كيف يحيي هذه الله بعد موتها! (١)

***

[٢ / ٧٥٥٩] أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر من طرق عن ابن عبّاس ، قال : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ ...) يعني انظر إلى عظام حمارك كيف يركب بعضها بعضا في أوصالها ، حتّى إذا صارت عظاما مصوّرا حمارا بلا لحم ، ثمّ انظر كيف نكسوها لحما (٢).

[٢ / ٧٥٦٠] وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) قال : لمّا قام نظر إلى مفاصله متفرّقة ، فمضى كلّ مفصل إلى صاحبه ، فلمّا اتّصلت المفاصل كسيت لحما.

[٢ / ٧٥٦١] وعن السدّي : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) وقد هلكت وبليت عظامه.

[٢ / ٧٥٦٢] وعن مجاهد ، قال : فنظر إلى حماره حين يحييه الله (٣).

[٢ / ٧٥٦٣] وأخرج أبو إسحاق الثعلبي عن وهب ، قال : ليس في الجنّة كلب ولا حمار ، إلّا كلب أصحاب الكهف وحمار إرميا ، الّذي أماته الله مئة عام ، (٤) إن أرجعنا الوصف إلى الحمار!؟

[٢ / ٧٥٦٤] وهكذا ذكر مقاتل بن سليمان : أنّ الّذي بليت عظامه فجعل ينظر إليها ، هو الحمار (٥).

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٤٣٩.

(٢) الدرّ ٢ : ٢٧ ـ ٢٩ ؛ القرطبي ٣ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ؛ ابن عساكر ٤٠ : ٣٢١ ـ ٣٢٤ / ٤٦٩٦ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ؛ البغوي ١ : ٣٥٦ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٢٤ ـ ٢٥.

(٣) ابن أبي حاتم ٢ : ٥٠٤ / ٢٦٦٩ و ٢٦٧٠ و ٢٦٧١.

(٤) الثعلبي ٢ : ٢٥١.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ٢١٦ ـ ٢١٨.

٣١٣

قال الأستاذ محمّد عبده : اختلفوا في المراد بقوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) ، فقيل : معناه : انظر كيف مات وتفرّقت أو تفتّتت عظامه ، فلو لا طول المدّة لم يكن كذلك. وقيل : معناه : انظر كيف بقي حيّا طول هذه المدّة ، على عدم وجود من يعتني بشأنه (١).

وقال سيّدنا العلّامة الطباطبائي : أنّ الرجل لمّا حسب أنّه لبث يوما أو بعض يوم ، نبّهه تعالى : أنّه لبث مئة عام ، ودليلا على هذا اللبث الطويل ، قال : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ، وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) حيث النظر إلى كلا الأمرين ـ وكان صاحبهما جميعا ـ ليشرف به إلى إمكان البقاء سليما طول المدّة. فدليلا على طول المدّة ، هو النظر إلى الحمار وقد تبدّدت أوصاله. ودليلا على إمكان سلامة البقاء ، هو النظر إلى طعامه وشرابه ، بقيا سليمين طول المدّة. وما هذا إلّا خرق للمألوف من العادة لا يقدر عليه سوى البارىء المتعال (٢).

غرائب آثار

هناك آثار نقلتها الأحاديث بشأن الّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها ، تبدو غريبة ، ولعلّها من صنع القصّاصين ، نذكر منها :

[٢ / ٧٥٦٥] ما أخرجه ابن جرير عن ابن إسحاق عمّن لا يتّهم عن وهب بن منبّه اليماني ، أنّه كان يقول : قال الله لإرميا ، حين بعثه نبيّا إلى بني إسرائيل : يا إرميا ، من قبل أن أخلقك اخترتك ، ومن قبل أن أصوّرك في رحم أمّك قدّستك ، ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهّرتك ، ومن قبل أن تبلغ السعي نبّأتك ، ومن قبل أن تبلغ الأشدّ اخترتك ، ولأمر عظيم اجتبيتك. فبعث الله إرميا إلى ملك بني إسرائيل يسدّده ويرشده ، ويأتيه بالخبر من الله فيما بينه وبينه. قال : ثمّ عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، وركبوا المعاصي واستحلّوا المحارم ونسوا ما كان الله صنع بهم ، وما نجّاهم من عدوّهم سنحاريب. فأوحى الله إلى إرميا أن ائت قومك من بني إسرائيل ، فاقصص عليهم ما آمرك به ، وذكّرهم نعمتي عليهم وعرّفهم أحداثهم. ثمّ ذكر ما أرسل الله به إرميا إلى قومه من بني إسرائيل ، قال : ثمّ أوحى الله إلى إرميا إنّي مهلك بني إسرائيل بيافث ، ويافث أهل بابل! وهم من ولد يافث بن

__________________

(١) تفسير المنار ٣ : ٥٠.

(٢) الميزان ٢ : ٣٨٥. بتوضيح واختزال.

٣١٤

نوح. فلمّا سمع إرميا وحي ربّه ، صاح وبكى وشقّ ثيابه ، ونبذ الرماد على رأسه ، فقال : ملعون يوم ولدت فيه ويوم لقيت التوراة ، ومن شرّ أيّامي يوم ولدت فيه ، فما أبقيت آخر الأنبياء إلّا لما هو شرّ عليّ ، لو أراد بي خيرا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل ، فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك.

فلمّا سمع الله تضرّع الخضر! وبكاءه وكيف يقول ، ناداه : إرميا أشقّ عليك ما أوحيت إليك؟ قال : نعم يا ربّ أهلكني في بني إسرائيل ما لا أسرّ به! فقال الله : وعزّتي العزيزة لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتّى يكون الأمر من قبلك في ذلك. ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربّه وطابت نفسه ، وقال : لا والّذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ ، لا آمر ربّي بهلاك بني إسرائيل أبدا ، ثمّ أتى ملك بني إسرائيل وأخبره بما أوحى الله إليه ، ففرح واستبشر وقال : إن يعذّبنا ربّنا فبذنوب كثيرة قدّمناها لأنفسنا ، وإن عفا عنّا فبقدرته. ثمّ إنّهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلّا معصية وتمادوا في الشرّ ، وذلك حين اقترب هلاكهم ، فقلّ الوحي ، حتّى لم يكونوا يتذكّرون الآخرة ، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنها ، فقال ملكهم : يا بني إسرائيل انتهوا عمّا أنتم عليه قبل أن يمسّكم بأس من الله ، وقبل أن يبعث عليكم ملوك لا رحمة لهم بكم ، فإنّ ربّكم قريب التوبة ، مبسوط اليدين بالخير ، رحيم من تاب إليه ، فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء ممّا هم عليه.

وإنّ الله ألقى في قلب بخت نصّر بن نعون بن زادان! أن يسير إلى بيت المقدس ، ثمّ يفعل فيه ما كان جدّه سنحاريب! أراد أن يفعله. فخرج في ستّمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس ، فلمّا فصل سائرا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أنّ بخت نصّر أقبل هو وجنوده يريدكم ، فأرسل الملك إلى إرميا ، فجاءه فقال : يا إرميا ، أين ما زعمت لنا أنّ ربّنا أوحى إليك أن لا يهلك أهل بيت المقدس حتّى يكون منك الأمر في ذلك؟! فقال إرميا للملك : إنّ ربّي لا يخلف الميعاد ، وأنا به واثق ، فلمّا اقترب الأجل ، ودنا انقطاع ملكهم ، وعزم الله على هلاكهم ، بعث الله ملكا من عنده ، فقال له : اذهب إلى إرميا فاستفته ، وأمره بالّذي تستفتيه فيه ، فأقبل الملك إلى إرميا ، وقد تمثّل له رجلا من بني إسرائيل ، فقال له إرميا : من أنت؟ قال : رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري ، فأذن له ، فقال الملك : يا نبيّ الله أتيتك أستفتيك في أهل رحمي ، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به ، لم آت إليهم إلّا حسنا ، ولم آلهم كرامة ، فلا تزيدهم كرامتي إيّاهم إلّا إسخاطا لي ، فأفتني فيهم يا نبيّ الله ، فقال له :

٣١٥

أحسن فيما بينك وبين الله ، وصل ما أمرك الله به أن تصل ، وأبشر بخير ، فانصرف عنه الملك ، فمكث أيّاما ثمّ أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الّذي جاءه ، فقعد بين يديه ، فقال له إرميا : من أنت؟ قال : أنا الرجل الّذي أتيتك في شأن أهلي ، فقال له نبيّ الله : أو ما طهرت لك أخلاقهم بعد ، ولم تر منهم الّذي تحبّ؟ فقال : يا نبيّ الله ، والّذي بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمه إلّا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك ، فقال النبيّ عليه‌السلام : ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم ، أسأل الله الّذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم ، وأن يجمعكم على مرضاته ، ويجنّبكم سخطه. فقام الملك من عنده ، فلبث أيّاما ، وقد نزل بخت نصّر بجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجراد ، ففزع بنو إسرائيل فزعا شديدا ، وشقّ ذلك على ملك بني إسرائيل ، فدعا إرميا ، فقال : يا نبيّ الله ، أين ما وعدك الله؟ قال : إنّي بربّي واثق! ثمّ إنّ الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربّه الّذي وعده ، فقعد بين يديه ، فقال له إرميا : من أنت؟ قال : أنا الّذي كنت استفتيتك في شأن أهلي مرّتين. فقال له النبيّ عليه‌السلام : أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الّذي هم فيه؟ فقال الملك : يا نبيّ الله ، كلّ شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه ، وأعلم أنّما قصدهم في ذلك سخطي! فلمّا أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضى الله ولا يحبّه الله! فقال النبيّ عليه‌السلام : على أيّ عمل رأيتهم؟ قال : يا نبيّ الله رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله ، ولو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي ، وصبرت لهم ورجوتهم ، ولكن غضبت اليوم لله ولك ، فأتيتك لأخبرك خبرهم ، وإنّي أسألك بالله الّذي بعثك بالحقّ إلّا ما دعوت عليهم ربّك أن يهلكهم. فقال إرميا : يا مالك السماوات والأرض ، إن كانوا على حقّ وصواب فأبقهم ، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه ، فأهلكهم. فلمّا خرجت الكلمة من فيّ إرميا أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس ، فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها ، فلمّا رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ، ونبذ الرماد على رأسه ، فقال : يا ملك السماء ، ويا أرحم الراحمين ، أين ميعادك الّذي وعدتني؟ فنودي إرميا : إنّه لم يصبهم الّذي أصابهم إلّا بفتياك الّتي أفتيت بها رسولنا. فاستيقن النبيّ عليه‌السلام أنّها فتياه الّتي أفتى بها ثلاث مرّات ، وأنّه رسول ربّه ، فطار إرميا حتّى خالط الوحوش.

٣١٦

ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس ، فوطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتّى أفناهم ، وخرّب بيت المقدس ، ثمّ أمر جنوده أن يملأ كلّ رجل منهم ترسه ترابا ثمّ يقذفه في بيت المقدس ، فقذفوا فيه التراب حتّى ملؤه ، ثمّ انصرف راجعا إلى أرض بابل ، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل ، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلّهم ، فاجتمع عنده كلّ صغير وكبير من بني إسرائيل ، فاختار منهم تسعين ألف صبيّ ، فلمّا خرجت غنائم جنده ، وأراد أن يقسّمهم فيهم ، قالت له الملوك الّذين كانوا معه : أيّها الملك ، لك غنائمنا كلّها ، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الّذين اخترتهم من بني إسرائيل ، ففعل ، فأصاب كلّ واحد منهم أربعة غلمة ، وكان من أولئك الغلمان دانيال وعزاريا ومسايل وحنانيا. وجعلهم بخت نصّر ثلاث فرق فثلثا أقرّ بالشام ، وثلثا سبا ، وثلثا قتل ، وذهب بأسبية بيت المقدس حتّى أقدمها بابل وبالصبيان التسعين الألف حتّى أقدمهم بابل ، فكانت هذه الواقعة الأولى الّتي ذكر الله تعالى ذكره نبيّ الله بأحداثهم وظلمهم.

فلمّا ولّى بخت نصّر عنه راجعا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل ، أقبل إرميا على حمار له معه عصير من عنب في زكرة (١) وسلّة تين ، حتّى أتى إيليا ، فلمّا وقف عليها ، ورأى ما بها من الخراب دخله شكّ ، فقال : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) وحماره وعصيره وسلّة تينه عنده حيث أماته الله ، ومات حماره معه ، فأعمى الله عنه العيون ، فلم يره أحد ، (ثُمَّ بَعَثَهُ) الله تعالى ، فقال له : (كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) يقول : لم يتغيّر (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) فنظر إلى حماره يتّصل بعضه إلى بعض ، وقد مات معه بالعروق والعصب ، ثمّ كيف كسي ذلك منه اللحم ، حتّى استوى ، ثمّ جرى فيه الروح ، فقام ينهق ، ونظر إلى عصيره وتينه ، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغيّر. فلمّا عاين من قدرة الله ما عاين (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ثمّ عمر الله إرميا بعد ذلك ، فهو الّذي يرى بفلوات الأرض والبلدان! (٢)

__________________

(١) الزكرة : وعاء من جلد للخمر ونحوه.

(٢) الطبري ٣ : ٤٦ ـ ٤٩ / ٤٦١٦ ، و ٩ : ٤٨ ؛ تاريخ الطبري ١ : ٣٨٩ ـ ٣٩٥ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٤٣ ـ ٢٤٦ ؛ البغوي ١ : ٣٥٢ ـ ٣٥٤ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٩ ـ ١٤.

٣١٧

[٢ / ٧٥٦٦] وأخرج عن عبد الصمد بن معقل أنّه سمع وهب بن منبّه يقول : أوحى الله إلى إرميا وهو بأرض مصر أن ألحق بأرض إيليا ، فإنّ هذه ليست لك بأرض مقام ، فركب حماره ، حتّى إذا كان ببعض الطريق ، ومعه سلّة من عنب وتين ، وكان معه سقاء جديد ، فملأه ماء ، فلمّا بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القرى والمساجد ، ونظر إلى خراب لا يوصف ، ورأى هدم بيت المقدس كالجبل العظيم ، قال : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) وسار حتّى تبوّأ منها منزلا ، فربط حماره بحبل جديد. وعلّق سقاءه ، وألقى الله عليه السبات ، فلمّا نام نزع الله روحه مئة عام ، فلمّا مرّت من المئة سبعون عاما ، أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس عظيم يقال له كورش ، فقال : إنّ الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها ، حتّى تعود أعمر ما كانت ، فقال الملك : أنظرني ثلاثة أيّام حتّى أتأهّب لهذا العمل ولما يصلحه من أداء العمل ، فأنظره ثلاثة أيّام ، فانتدب ثلاثمائة قهرمان ، ودفع إلى كلّ قهرمان ألف عامل ، وما يصلحه من أداة العمل ، فسار إليها قهارمته ، ومعهم ثلاثمائة ألف عامل ، فلمّا وقعوا في العمل ردّ الله روح الحياة في عين إرميا ، وأخّر جسده ميتا ، فنظر إلى إيليا وما حولها من القرى والمساجد والأنهار والحروث تعمل وتعمر وتجدّد ، حتّى صارتا كما كانت! وبعد ثلاثين سنة تمام المئة ، ردّ إليه الروح ، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنّه ، ونظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب ، ونظر إلى الرمّة (١) في عنق الحمار لم تتغيّر ، جديدة ، وقد أتى على ذلك ريح مئة عام وبرد مئة عام وحرّ مئة عام ، لم تتغيّر ولم تنتقص شيئا ، وقد نحل جسم إرميا من البلى ، فأنبت الله له لحما جديدا ، ونشز عظامه وهو ينظر ، فقال له الله : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢).

[٢ / ٧٥٦٧] وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر من طرق عن ابن عبّاس وكعب والحسن ووهب ـ يزيد بعضهم على بعض ـ أنّ عزيرا كان عبدا صالحا حكيما ، خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها ، فلمّا انصرف انتهى إلى خربة حين قامت الظهيرة أصابه الحرّ ، فدخل الخربة وهو على حمار له ، فنزل عن حماره ومعه سلّة فيها تين وسلّة فيها عنب ، فنزل في ظلّ تلك الخربة.

__________________

(١) الرّمّة : القطعة من الحبل البالي.

(٢) الطبري ٣ : ٤٩ ـ ٥٠ / ٤٦١٧.

٣١٨

وأخرج قصعة معه ، فاعتصر من العنب الّذي كان معه في القصعة ، ثمّ أخرج خبزا يابسا معه فألقاه في تلك القصعة في العصير ليبتلّ ليأكله ، ثمّ استلقى على قفاه وأسند رجليه إلى الحائط ، فنظر سقف تلك البيوت ورأى منها ما فيها وهي قائمة على عرشها وقد باد أهلها ، ورأى عظاما بالية فقال : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها!) فلم يشكّ أنّ الله يحييها ولكن قالها تعجّبا.

فبعث الله ملك الموت فقبض روحه ، فأماته الله مئة عام ، فلمّا أتت عليه مئة عام وكان فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث ، فبعث الله إلى عزير ملكا فخلق قلبه ليعقل به ، وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى ، ثمّ ركّب خلقه وهو ينظر ، ثمّ كسا عظامه اللحم والشعر والجلد ، ثمّ نفخ فيه الروح ، كلّ ذلك يرى ويعقل ، فاستوى جالسا فقال له الملك : كم لبثت؟ قال : لبثت يوما ، وذلك أنّه كان نام في صدر النهار عند الظهيرة ، وبعث في آخر النهار والشمس لم تغب. فقال : أو بعض يوم ، ولم يتمّ لي يوم. فقال له الملك : بل لبثت مئة عام ، فانظر إلى طعامك وشرابك ، يعني الطعام الخبز اليابس ، وشرابه العصير الّذي كان اعتصر في القصعة ، فإذا هما على حالهما لم يتغيّر العصير والخبز اليابس ، فذلك قوله : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) يعني لم يتغيّر ، وكذلك التين والعنب غضّ لم يتغيّر عن حاله ، فكأنّه أنكر في قلبه!

فقال له الملك : أنكرت ما قلت لك؟! انظر إلى حمارك. فنظر فإذا حماره قد بليت عظامه وصارت نخرة ، فنادى الملك عظام الحمار فأجابت وأقبلت من كلّ ناحية حتّى ركّبه الملك ، وعزير ينظر إليه ، ثمّ ألبسها العروق والعصب ، ثمّ كساها اللحم ، ثمّ أنبت عليها الجلد والشعر ، ثمّ نفخ فيه الملك ، فقام الحمار رافعا رأسه وأذنيه إلى السماء ناهقا ، فذلك قوله : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) يعني : انظر إلى عظام حمارك كيف يركب بعضها بعضا في أوصالها ، حتّى إذا صارت عظاما مصوّرا حمارا بلا لحم ، ثمّ انظر كيف نكسوها لحما (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من إحياء الموتى وغيره.

قال : فركب حماره حتّى أتى محلّته فأنكره الناس ، وأنكر الناس ، وأنكر منازله ، فانطلق على وهم منه حتّى أتى منزله ، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مئة وعشرون سنة كانت أمة لهم ، فخرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة كانت عرفته وعقلته ، فقال لها عزير : يا هذه أهذا

٣١٩

منزل عزير؟ قالت : نعم ، وبكت وقالت : ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة يذكر عزيرا وقد نسيه الناس! قال : فإنّي أنا عزير! قالت : سبحان الله! فإنّ عزيرا قد فقدناه منذ مئة سنة فلم نسمع له بذكر! قال : فإنّي أنا عزير ، كان الله أماتني مئة سنة ثمّ بعثني. قالت : فإنّ عزيرا كان رجلا مستجاب الدعوة ، يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء فادع الله أن يردّ عليّ بصري حتّى أراك ، فإن كنت عزيرا عرفتك. فدعا ربّه ومسح يده على عينيها فصحّتا ، وأخذ بيدها فقال : قومي بإذن الله ، فأطلق الله رجلها فقامت صحيحة كأنّما نشطت من عقال ، فنظرت فقالت : أشهد أنّك عزير.

فانطلقت إلى محلّة بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم ، وابن لعزير شيخ ابن مئة سنة وثمان عشرة سنة ، وبنو بنيه شيوخ في المجلس ، فنادتهم فقالت : هذا عزير قد جاءكم. فكذّبوها فقالت : أنا فلانة مولاتكم ، دعا لي ربّه فردّ عليّ بصري وأطلق رجلي ، وزعم أنّ الله كان أماته مئة سنة ثمّ بعثه ، فنهض الناس فأقبلوا إليه فنظروا إليه فقال ابنه : كانت لأبي شامة سوداء بين كتفيه ، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير! فقالت بنو إسرائيل : فإنّه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدّثنا غير عزير ، وقد حرق بخت نصّر التوراة ولم يبق منها شيء إلّا ما حفظت الرجال فاكتبها لنا!

وكان أبوه سروحا قد دفن التوراة أيّام بخت نصّر في موضع لم يعرفه أحد غير عزير ، فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة ، وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب ، فجلس في ظلّ شجرة وبنو إسرائيل حوله فجدّد لهم التوراة ، فنزل من السماء شهابان حتّى دخلا جوفه ، فتذكّر التوراة فجدّدها لبني إسرائيل ، فمن ثمّ قالت اليهود : عزير ابن الله ، للّذي كان من أمر الشهابين ، وتجديده للتوراة ، وقيامه بأمر بني إسرائيل ، وكان جدّد لهم التوراة بأرض السواد بدير حز قيل ، والقرية الّتي مات فيها يقال لها سابر أباد ، قال ابن عبّاس : فكان كما قال الله : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) يعني لبني إسرائيل ، وذلك أنّه كان يجلس مع بني بنيه وهم شيوخ وهو شابّ ، لأنّه كان مات وهو ابن أربعين سنة ، فبعثه الله شابّا كهيئته يوم مات (١).

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٢٧ ـ ٢٩ ؛ القرطبي ٣ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ، روى بعضه ؛ البغوي ١ : ٣٥٦ ، روى بعضه ، نقلا عن قتادة عن كعب والضحّاك عن ابن عبّاس والسدّي عن مجاهد عن ابن عبّاس ؛ أبو الفتوح ٤ : ٢٤ ـ ٢٥ ، عن ابن عبّاس ومقاتل ، باختصار ؛

٣٢٠