التفسير الأثري الجامع - ج ٦

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-07-4
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٥٩

قال : أفهل كان السيف يعمل عمله في إكراه الناس على الإسلام في مكّة ، أيّام كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي مستخفيا ، وأيّام كان المشركون يفتنون المسلم بأنواع من العذاب ، ولا يجدون رادعا ، حتّى اضطرّ النبيّ وأصحابه إلى الهجرة؟ أم يقولون : إنّ ذلك الإكراه وقع في المدينة ، بعد أن اعتزّ الإسلام ، وهذه الآية قد نزلت في غرّة هذا الاعتزاز ؛ فإنّ غزوة بني النضير كانت في ربيع الأوّل من السنة الرابعة.

وقال البخاري : إنّها كانت قبل غزوة أحد ، الّتي لا خلاف في أنّها كانت في شوّال سنة ثلاث ، وكان كفّار مكّة لا يزالون يقصدون المسلمين بالحرب ، نقض بنو النضير عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكادوا له وهمّوا باغتياله مرّتين ، وهم بجواره في ضواحي المدينة ، فلم يكن له بدّ من إجلائهم عن المدينة ، فحاصرهم حتّى أجلاهم ، فخرجوا مغلوبين على أمرهم ، ولم يأذن لمن استأذنه من أصحابه بإكراه أولادهم المتهوّدين على الإسلام ومنعهم من الخروج مع اليهود. فذلك أوّل يوم خطر فيه على بال بعض المسلمين الإكراه على الإسلام. وهو اليوم الّذي نزل فيه : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)(١).

المعاهدة مع الكفّار

شاع القول بأنّ غير الكتابي من سائر الكفّار ، يجب قتالهم حتّى يسلموا ، ولا تقبل منهم ذمّة ، قالوا : وتجب البدأة بقتالهم ولا أقلّ في كلّ عام مرّة. سواء تحرّشوا للمسلمين أم لم يتحرّشوا.

قال ابن حزم : لقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ). (٢) فعمّ ـ عزوجل ـ كلّ مشرك بالقتل إلّا أن يسلموا ... (٣).

وقال المحقّق ـ صاحب الشرائع ـ : «من يجب جهاده ثلاثة أصناف : البغاة حتّى يرجعوا. وأهل الذمّة ـ وهم أهل الكتاب : اليهود والنصارى والمجوس ـ إذا أخلّوا بشرائط الذمّة. ومن عدا هؤلاء من أصناف الكفّار ، حتّى يكفّوا ـ إن كانوا تعرّضوا للفساد في الأرض ـ أو يسلموا» (٤).

وعدّه صاحب الجواهر من القطعيّات. قال : «لا إشكال في أصل الحكم ، بعد الأمر به والحثّ

__________________

(١) المنار ٣ : ٣٦ ـ ٣٧.

(٢) التوبة ٩ : ٥.

(٣) المحلّى ٧ : ٢٩٦ ـ ٢٩٧ م : ٩٢٨.

(٤) كتاب الشرائع ١ : ٣١٠. بتصرّف.

٢٨١

الأكيد عليه كتابا وسنّة ، بل هو إن لم يكن من الضروريّات ، فلا ريب في كونه من القطعيّات ...» (١).

***

غير أنّ الآية لا عموم فيها ، واللّام ـ في المشركين ـ عهديّة ، إشارة إلى المعهودين من مشركي العرب آنذاك ممّن نقضوا العهود وتعرّضوا للمسلمين غير مرّة. قال تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). قال الزجّاج : معناه : قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء لهم بها ، إذ نكثوا (٢).

ومن ثمّ قال تعالى ـ تعقيبا على ذلك ـ : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ...) أي رجعتم إلى الوفاء بالعهد وعدم التعرّض لأذى المسلمين ، وذلك بدليل قوله تعالى ـ بعد ذلك ـ : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

ثمّ قال ـ أخيرا ـ : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) الّتي يحرم فيها القتال (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) أي أولئك الّذين نكثوا ونبذوا عهودهم (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) أي أسلموا ورضخوا لأحكام الإسلام ، إذ لا عهد لهم بعد ذلك النقض العارم (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣). والإسلام يجبّ ما قبله.

انظر إلى قوله تعالى ـ بعد ذلك ـ : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) كي يفتنوا المؤمنين (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي دعاته العتاة الطغاة (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) لا يفون لأيّ عهد أو ميثاق ، بغيا وعتوّا (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) خوفا وخشية من شكوة أهل الإيمان.

ثمّ يقول : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) إشارة إلى وقعة الأحزاب تحالف مشركو العرب وتحالف معهم اليهود ، وهمّوا باستئصال الإسلام نهائيّا. (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)(٤) أي كان التحرّش من جانبهم هم ، فكان يجب مقابلتهم والدفاع عن كيان الإسلام.

وبعد فالمتحصّل من هذه الآيات ـ وهي عمدة مستند القول بجواز المبادرة إلى قتال سائر الكفّار ، هو وجوب مقابلتهم والضرب على أيديهم المعتدية. ولا مساس لها بالموادعين ممّن لا

__________________

(١) جواهر الكلام ٢١ : ٤٧ ، كتاب الجهاد.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٧.

(٣) التوبة ٩ : ١ ـ ٥.

(٤) التوبة ٩ : ١٢ ـ ١٣.

٢٨٢

يبغي الفساد ولا فتنة العباد.

ويقول : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ). فليس المشرك بما هو مشرك ممّا يستوجب إباحة دمه ، وإنّما هو التخلّف عن مواضع العهد والتحرّش للآمنين. ولذلك يقول تعالى : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) أي بعد نقضهم ذلك الفظيع.

نعم (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

(كَيْفَ) يكون للمشركين عهد (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ)(١).

إذن فهم فريق من المشركين ممّن نبذوا العهود ونقضوا المواثيق ، ومن ثمّ لا تنفعهم بعد ذلك معاهدة أخرى سوى الدخول في حظيرة الإسلام والاستسلام لقيادته الحكيمة.

[٢ / ٧٤٩٣] رووا عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : «كانوا ـ أي المسلمون على عهد الرسول ـ لا يقتلون تجّار المشركين. وقالوا : إنّما نقتل من قاتل ، وهؤلاء لا يقاتلون» (٢).

هذا ونرى ابن حزم يصرّح بجواز قتل عامّة المشركين ممّن قاتل أو لم يقاتل ، تاجرا أو أجيرا وحتّى الشيخ الكبير ، كان ذا رأي أو لم يكن. والفلّاح والأسقف والقسّيس والراهب ، وكذا الأعمى والمقعد ، يجوز قتلهم أجمع. قال : وجائز استبقاؤهم أيضا (٣). أي إذا رأى الإمام ذلك وكان فيه مصلحة.

واستند في جواز قتلهم مقتلة عامّة ، إلى الآية الكريمة!! وقد عرفت قصور دلالتها عن ذلك ، وإنّما هو لمن تحرّش ونقض العهد.

قال الشيخ أبو جعفر الطوسيّ : عقد الأمان جائز للمشركين. لقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ). وعقد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمان للمشركين عام الحديبيّة (٤).

__________________

(١) التوبة ٩ : ٦ ـ ١٠.

(٢) المحلّى ٧ : ٢٩٧.

(٣) المصدر : ٢٩٦.

(٤) المبسوط ٢ : ١٤.

٢٨٣

ثمّ ذكر أحكام المستأمن ومراودته في بلاد المسلمين ، وأنّه في أمان من دمه وماله وعرضه ، ويجري عليه ما يجري على المسلمين من المواطنين ، الأمر الّذي جرى عليه المسلمون في طول تاريخهم المجيد.

[٢ / ٧٤٩٤] وروى بالإسناد إلى ابن عبّاس ـ في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(١) ـ قال : توجّه ذلك إلى كلّ من كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد قبل نزول براءة.

قال الشيخ : وينبغي أن يكون ابن عبّاس أراد بذلك من كان بينه وبين رسول الله عقد هدنة ، أو إلى قوم من المشركين لم يتعرّضوا له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعداوة ، ولا ظاهروا عليه عدوّه ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صالح أهل هجر وأهل البحرين ودومة الجندل ، وأيلة وأذرح وأهل جرباء (٢) ، وهم ناس من أهل الكتاب ، في توجّهه إلى تبوك أو في مرجعه منها. وله عهود الصلح والحرب غير هذه ، ولم ينبذ إليهم بنقض عهد ، ولا حاربهم بعد أن صاروا أهل ذمّة ، إلى أن مضى لسبيله ، ووفي لهم بذلك من بعده. قال : فمن حمل ذلك (البراءة ونبذ العهد) على جميع العهود ، فقد أخطأ (٣).

***

قلت : المستفاد من الكتاب والسنّة وسيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفائه ، أنّ الكفّار بأسرهم ـ سواء أكانوا أهل الكتاب أم غيرهم ـ إن رضخوا للسلم ، والتعايش مع المسلمين بسلام ، فهم آمنون في ظلّ الإسلام ، بشروط تعقد معهم من قبل الدولة ، ومن له ولاية أمر المسلمين ، فما وفوا بالشرط وفي لهم بالعهد ، (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها)(٤).

وقد اصطلح الفقهاء على التعبير بالذمّي بشأن أهل الكتاب. والمعاهد لمن انعقد معه عهد الأمن من سائر الكفّار.

نعم ، إذا نقض الذمّي ذمّته أو المعاهد عهده ، فإنّه لا أمان له ، ما دام على عدائه للإسلام والمسلمين.

__________________

(١) التوبة ٩ : ٤.

(٢) راجع : سيرة ابن هشام ٤ : ١٦٩.

(٣) التبيان ٥ : ١٧٢.

(٤) الأنفال ٨ : ٦١. وجاء التأنيث في الضمير باعتبار أنّ السّلم بمعنى المسالمة. (مجمع البيان ٤ : ٥٥٥).

٢٨٤

(فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ)(١). (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)(٢).

هذا هو منهج الإسلام الحكيم : سلم لمن سالمنا وحرب لمن حاربنا.

أمّا الموادعون فهم في أمان. وأمّا المناوؤن فلا أمان لهم ، ما داموا يشكّلون خطرا على المسلمين.

أمّا أن يكون هناك إكراه أحد على اعتناق الإسلام أو إرعابه أو التهديد عليه ، فهذا أمر غريب عن طبيعة الدين ويرفضه الإسلام وهو دين سلام.

وعليه فكلّ ما قيل أو يقال ممّا ينافي هذا المبدأ الرصين ، فهو من الزخرف الباطل ، ناشئ عن الجهل بحقيقة هذا الدين الحنيف.

***

ومن المؤسف ما ينسب إلى بعض السلف ممّا يخالف هذه الحقيقة الناصعة :

[٢ / ٧٤٩٥] أخرج ابن جرير وأبو إسحاق وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وعبد الرزّاق وأبو داوود في ناسخه عن قتادة وكذا عن الحسن والضحّاك : أنّ آية نفي الإكراه نزلت بشأن أهل الكتاب ، أمّا العرب فكانوا أمّة أميّة لم يكن لهم دين ، فإنّهم أكرهوا على الدين بالسيف! (٣).

قلت : لا شكّ أنّه وهم وهموه ، وأخذوا من عتاة العرب ـ ممّن نقضوا الميثاق ولم يراعوا عهدا من المسلمين ـ مقياسا ، لهذا الحكم العامّ ، الّذي هو مخالف لصريح القرآن ، ولقد صحّ قول مقاتل بن حيّان : إنّ هذا زعم زعمه الضحّاك!! (٤).

[٢ / ٧٤٩٦] نعم روى أحمد وأبو يعلى بالإسناد إلى أنس : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لرجل من بني النجّار : «يا خال ، أسلم! فقال : إنّي أجدني كارها! قال : أسلم ، وإن كنت كارها!» (٥).

__________________

(١) التوبة ٩ : ٧.

(٢) التوبة ٩ : ١٢.

(٣) الطبري ٣ : ٢٤ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٣٥ ؛ البغوي ١ : ٣٥٠ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٣ ـ ٤٩٤. عبد الرزّاق ١ : ٣٦٣ ؛ الدرّ ٢ : ٢١ ـ ٢٢ ؛ التبيان ٢ : ٣١١ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٢٣٥.

(٤) راجع : الثعلبي ٢ : ٢٣٦.

(٥) مسند أحمد ٣ : ١٠٩ و ١٨١ ؛ أبو يعلى ٦ : ٤٠٦ / ٣٧٦٥ ؛ مجمع الزوائد ٥ : ٣٠٥ ؛ قال : رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح.

٢٨٥

قال ابن كثير : ليس هذا من الإكراه على الدين ، فإنّه لم يكرهه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإسلام ، بل دعاه إليه (أي عرض عليه الإسلام) فأخبره الرجل أنّ نفسه كارهة له وليست قابلة ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أسلم وإن كنت ـ [في نفسك] ـ كارها ، فإنّ الله سيرزقك حسن النيّة والإخلاص (١).

والشيء الأغرب ما زعمه بعضهم من أنّ الآية منسوخة بآية السيف! هكذا زعم ابن زيد (٢) ونسب إلى عكرمة (٣) وغيره أيضا (٤).

قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ...)

وفي هذا البيان زيادة إيضاح وتحديد لحقيقة الإيمان وصدق النيّة والإخلاص ، والّتي بها النجاح والفلاح في نهاية المطاف!.

والطاغوت ـ كما يأتي بيانه ـ صيغة مبالغة من الطغيان ، تفيد : كلّ ما يطغى على الوعي ، ويجور على الحقّ ، ويتجاوز الحدود الّتي رسمها الله للعباد ، ولا يكون له ضابط من العقيدة في الله ، ومن الشريعة الّتي يسنّها الله. ومنه كلّ منهج غير مستمدّ من الله ، وكلّ تصوّر أو وضع أو أدب أو تقليد لا يستمدّ من الله.

فمن يكفر بهذا كلّه وفي كلّ صورة من صوره ، ويؤمن بالله وحده ، ويستمدّ في مسيرته في الحياة من الله وحده ، فقد أفلح ونجا وأسعدته الحياة ، وتتمثّل نجاته وفلاحه في استمساكه بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، فيظلّ آمنا مطمئنّا في طول مسيرته طول الحياة.

إنّ الإيمان بالله عروة وثيقة لا تنفصم أبدا ، إنّها متينة لا تنقطع ، ولا يضلّ الممسك بها طريق النجاة.

والإيمان في حقيقته اهتداء إلى الحقيقة الأولى الّتي تقوم بها سائر الحقائق في هذا الوجود. حقيقة الله ، واهتداء إلى حقيقة الناموس الّذي سنّه الله لهذا الوجود ، وقام به هذا الوجود. فالّذي يمسك بعروته يمضي على هدى من ربّه ، فلا يرتطم ولا يتخلّف ولا تتفرّق به السبل ولا يذهب به الشرور والضلال.

__________________

(١) ابن كثير ١ : ٣١٩.

(٢) الطبري ٣ : ٢٤ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٣٤.

(٣) ابن أبي حاتم : ٢ : ٤٩٤ ؛ البغوي ١ : ٣٥٠.

(٤) مجمع البيان ٢ : ١٦٣ ؛ التبيان ٢ : ٣١١ ؛ القرطبي ٣ : ٢٨٠.

٢٨٦

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع منطق الألسنة ، ويعلم مكنون القلوب. فالمؤمن الموصول به آمن في كنفه الفسيح ؛ لا يبخس ولا يظلم ولا يخيب.

***

ثمّ يمضي السياق ليصوّر في مشهد حسّي حيّ متحرّك ، طريق الهدى وطريق الضلال ؛ وكيف يكون الهدى وكيف يكون الضلال ، يصوّر كيف يأخذ الله بأيدي المؤمنين ليخرجهم من ظلمات الجهالات إلى النور ، بينما الطواغيت تأخذ بأيدي الّذين كفروا لتخرجهم من بصيص نور ، ربما كان قد أضاء لهم الدرب ، إلى غياهب الظلمات.

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ).

إنّ الإيمان نور ، نور واحد في طبيعته وحقيقته ، والكفر ظلمات ، ظلمات متعدّدة متنوّعة. ولكنّها كلّها ظلمات.

قال سيّد قطب : وما من حقيقة أصدق ولا أدقّ من التعبير عن الإيمان بالنور ، والتعبير عن الكفر بالظلمة. إنّ الإيمان نور يشرق به كيان المؤمن أوّل ما ينبثق في ضميره ، تشرق به روحه فتشفّ وتصفو وتشعّ من حوله نورا ووضاءة ووضوحا ، نور يكشف حقائق الأشياء وحقائق القيم وحقائق التصوّرات ، فيراها قلب المؤمن واضحة بغير غبش ، بيّنة بغير لبس ، مستقرّة في مواضعها بغير أرجحة ، فيأخذ منها ما يأخذ ، ويدع منها ما يدع ، في هوادة وطمأنينة وثقة وقرار ، نور يكشف الطريق إلى الناموس الكونيّ ، فيطابق المؤمن بين حركته وحركة الناموس الكونيّ من حوله ومن خلاله ، ويمضي في طريقه إلى الله هيّنا ليّنا ، لا يعتسف ولا يصطدم بالنتوءات ، ولا يخبط هنا وهناك ، فالطريق في فطرته مكشوف معروف!

وهو نور واحد يهدي إلى طريق واحد. فأمّا ضلال الكفر فظلمات شتّى منوّعة ، ظلمة الهوى والشهوة ، ظلمة الشرود والتيه ، ظلمة الكبر والطغيان ، ظلمة الضعف والذلّ ، ظلمة الرياء والنفاق ، ظلمة الطمع والسّعر (١) ، ظلمة الشكّ والقلق ، وظلمات شتّى لا يأخذها الحصر ، تتجمّع كلّها عند

__________________

(١) السعر : النهم ، الجوع الشديد.

٢٨٧

الشرود عن طريق الله السويّ المستقيم ، والتلقّي من غير الله ، والاحتكام لغير منهج الله. وما يترك الإنسان نور الله الواحد غير المبعثر ، نور الحقّ الواحد غير الملتبس ، حتّى يدخل في الظلمات من شتّى الأنواع وشتّى الأصناف ومختلف الملتبسات ، وكلّها متائد وظلمات! (١).

والعاقبة هي اللّائقة بأصحاب الظلمات : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وإذ لم يهتدوا بالنور ، فليخلدوا إذن في النار!

إنّ الحقّ واحد لا يتعدّد ولمّة لا تتبعثر ، والضلال ألوان وأنماط ، فماذا بعد الحقّ إلّا الضلال؟!

***

قوله : (الطَّاغُوتُ) من أوزان المصادر ، جعل علما على الكفر وكلّ منشأ فساد في الأرض ، ويطلق على الواحد والجمع والمذكّر والمؤنّث ، كشأن المصادر ، وفي الآية أريد به الجمع ، بدليل عود ضمير الجمع إليه (٢).

وجاء تفسير الطاغوت بالشيطان يوحي إلى أوليائه زخرف القول غرورا.

[٢ / ٧٤٩٧] فقد روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه سئل عن الطواغيت؟ فقال : هم كهّان ، تنزل عليهم الشياطين.

[٢ / ٧٤٩٨] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه ـ وقد سئل عن الطواغيت الّتي كانوا يتحاكمون إليها ـ فقال : كان في جهينة واحد ، وفي بني أسلم واحد ، وفي كلّ حيّ واحد ، وهي كهّان ينزل عليها الشيطان (٣).

[٢ / ٧٤٩٩] وكذا عن مجاهد ، قال : الطاغوت ، الشيطان في صورة الإنسان ، يتحاكمون إليه ، وهو صاحب أمرهم (٤).

[٢ / ٧٥٠٠] وعن الضحّاك والشعبي أيضا : إنّه الشيطان (٥).

[٢ / ٧٥٠١] وعن ابن جريج ، قال : كهّان تنزل عليها شياطين يلقون على ألسنتهم وقلوبهم (٦).

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٤٢٨ ؛ ٤٢٩.

(٢) راجع : مجمع البيان ٢ : ٣٦٣ ؛ الدرّ ٢ : ٢٢.

(٣) الطبري ٣ : ٢٨ / ٤٥٦٢.

(٤) الطبري ٣ : ٢٧ / ٤٥٥٣ ، و ٤ : ١٨٣ / ٧٧٢٤ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٥ / ٢٦٢١.

(٥) الطبري ٣ : ٢٧ / ٤٥٥٥ و ٤٥٥٤.

(٦) المصدر : ٢٨ / ٤٥٦٢.

٢٨٨

[٢ / ٧٥٠٢] وعن عكرمة : أنّه الكاهن (١).

[٢ / ٧٥٠٣] وعن أبي العالية : إنّه الساحر (٢).

[٢ / ٧٥٠٤] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : الطاغوت الّذي يكون بين يدي الأصنام (٣) يعبّرون عنها الكذب ليضلّوا الناس (٤).

[٢ / ٧٥٠٥] وعن مالك بن أنس قال : (الطَّاغُوتُ) ما يعبد من دون الله! (٥).

قال أبو علي الطبرسيّ : في الطاغوت خمسة أقوال :

[٢ / ٧٥٠٦] أحدها : أنّه الشيطان. عن مجاهد وقتادة. وهو المرويّ عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام.

[٢ / ٧٥٠٧] وثانيها : إنّه الكاهن. عن سعيد بن جبير.

[٢ / ٧٥٠٨] وثالثها : إنّه الساحر. عن أبي العالية.

ورابعها : إنّهم مردة الجنّ والإنس وكلّ ما يطغى.

وخامسها : إنّهم الأصنام وما عبد من دون الله (٦).

وقال ابن كثير : ومعنى قولهم في الطاغوت : إنّه الشيطان ، قويّ جدّا ، فإنّه يشمل كلّ شرّ كان عليه أهل الجاهليّة ، من عبادة الأصنام والتحاكم إليها (٧) والاستنصار بها (٨).

قلت : ولعلّه إلى ذلك ينظر ما ذكره عليّ بن إبراهيم في التفسير : هم الّذين غصبوا آل محمّد حقّهم (٩).

قال ابن جرير الطبري : والصواب من القول عندي في الطاغوت : أنّه كلّ ذي طغيان على الله فعبد من دونه ، إمّا بقهر منه لمن عبده ، وإمّا بطاعة له ممّن عبده ، إنسانا كان ذلك المعبود ، أو شيطانا ، أو وثنا ، أو صنما ، أو كائنا ما كان من شيء. وأرى أنّ أصل الطاغوت : الطغووت ، من قول القائل :

__________________

(١) المصدر / ٤٥٦٠ و ٤٥٦١.

(٢) المصدر : ٢٧ / ٤٥٥٨.

(٣) أي سدنة دور الأصنام.

(٤) ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٥ / ٢٦١٩.

(٥) الدرّ ٢ : ٢٢ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٥ / ٢٦٢٢ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٤١٥ ، عن مقاتل والكلبيّ.

(٦) مجمع البيان ٢ : ١٦٣ ؛ البحار ٦٤ : ٢٢ ، باب ١.

(٧) أي التحاكم إلى سدنتها.

(٨) ابن كثير ١ : ٣١٩.

(٩) القمّي ١ : ٨٤ ؛ البحار ٨٩ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤ / ٦ ، باب ٣٠ ؛ نور الثقلين ١ : ٢٦١ / ١٠٤٥.

٢٨٩

طغا فلان يطغو : إذا عدا قدره فتجاوز حدّه ، كالجبروت من التجبّر ، والحلبوت من الحلب ، ونحو ذلك من الأسماء الّتي تأتي على تقدير فعلوت بزيادة الواو والتاء ، ثم نقلت لامه أعني لام الطغووت ، فجعلت له عينا وحوّلت عينه فجعلت مكان لامه ، كما قيل : جذب وجبد وجابذ وجاذب وصاعقة وصاقعة وما أشبه ذلك من الأسماء الّتي على هذا المثال. فتأويل الكلام إذن : فمن يجحد ربوبيّة كلّ معبود من دون الله فيكفر به ، (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) يقول : ويصدّق بالله أنّه إلهه وربّه ومعبوده ، (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) يقول : فقد تمسّك بأوثق ما يتمسّك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله وعقابه (١).

قوله تعالى : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ...)

[٢ / ٧٥٠٩] روى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام في قول الله عزوجل : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) قال : «هي الإيمان» (٢).

[٢ / ٧٥١٠] وروى العيّاشي عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام في قول الله : (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) قال : «هي الإيمان بالله ؛ يؤمن بالله وحده» (٣).

[٢ / ٧٥١١] وروى عليّ بن إبراهيم عن أبيه ومحمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد جميعا عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله عزوجل : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) قال : «هي الإيمان بالله وحده لا شريك له» (٤).

[٢ / ٧٥١٢] وروى الثعلبي عن ابن عبّاس قال : أخبر الله تعالى أنّ الإيمان هو العروة الوثقى ، ولا يقبل عمل إلّا به (٥).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٨.

(٢) الكافي ٢ : ١٤ / ٣ ؛ البرهان ١ : ٥٣٦ / ٣ ؛ نور الثقلين ١ : ٢٦٣ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٤٠٧.

(٣) العيّاشي ١ : ١٥٨ / ٤٦٠ ؛ البحار ٦٤ : ٦٠ / ٤ ، باب ١.

(٤) الكافي ٢ : ١٤ / ١ ؛ البحار ٦٤ : ١٣١ / ١ ، باب ٤ ؛ البرهان ١ : ٥٣٦ / ٢ ؛ الصافي ١ : ٤٤٥ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٤٠٧ ؛ نور الثقلين ١ : ٢٦٣.

(٥) الثعلبي ٢ : ٢٣٧.

٢٩٠

[٢ / ٧٥١٣] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) قال : لا إله إلّا الله (١).

[٢ / ٧٥١٤] وأخرج سفيان وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) قال : الإيمان. ولفظ سفيان قال : كلمة الإخلاص (٢).

[٢ / ٧٥١٥] وعن السدّي ، قال : (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) هو الإسلام (٣).

[٢ / ٧٥١٦] وأخرج ابن أبي شيبة في المصنّف وابن أبي حاتم عن أنس بن مالك في قوله : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) قال : القرآن (٤).

[٢ / ٧٥١٧] وأخرج ابن أبي حاتم عن سالم بن أبي الجعد قال : العروة الوثقى ، الحبّ في الله والبغض في الله (٥).

[٢ / ٧٥١٨] وروى أبو جعفر الصدوق بإسناده إلى الرضا عليه‌السلام أنّه ذكر القرآن يوما فعظّم الحجّة فيه ، والآية المعجزة في نظمه ، فقال : «هو حبل الله المتين وعروته الوثقى وطريقته المثلى» (٦).

[٢ / ٧٥١٩] وروى بالإسناد إلى عبد الله بن العبّاس قال ؛ قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فينا خطيبا فقال في آخر خطبته : «نحن كلمة التقوى ، وسبيل الهدى ، والمثل الأعلى ، والحجّة العظمى ، والعروة الوثقى» (٧).

قلت : هذا الحديث والّذي قبله يتّحدان مفادا مع مفاد حديث الثقلين ؛ حيث مستمسك الأئمّة

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٢٢ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٦ / ٢٦٢٤ ، وزاد : وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير مثله ؛ الطبري ٣ : ٢٩ ، و ١١ : ٩٦ ؛ كتاب الدعاء للطبراني : ٤٥٣ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٣٧ ، بلفظ : قال : «أخبر الله تعالى أنّ الإيمان ، لا إله إلّا الله».

(٢) الدرّ ٢ : ٢٣ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٦ / ٢٦٢٧ ، وزاد : وروي عن السدّي : الإسلام ؛ الطبري ٣ : ٢٩ / ٤٥٦٤.

(٣) الطبري ٣ : ٢٩ / ٤٥٦٥ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٦ ، ذيل رقم ٢٦٢٧.

(٤) الدرّ ٢ : ٢٣ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٦ / ٢٦٢٥ ؛ ابن كثير ١ : ٣١٩ ؛ المصنّف ٧ : ١٦٦ / ١٢ ، باب ١٦.

(٥) ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٦ / ٢٦٢٦ ؛ ابن كثير ١ : ٣١٩.

(٦) عيون الأخبار ٢ : ١٣٧ / ٩ ، باب ٣٥ ؛ باب ما كتبه الرضا عليه‌السلام للمأمون في محض الإسلام وشرائع الدين ؛ البحار ١٧ : ٢١٠ / ١٦ ، باب ١ ، و ٨٩ : ١٤ / ٦ ، نور الثقلين ١ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

(٧) الخصال : ٤٣٢ / ١٤ ، باب العشرة ؛ البحار ٢٦ : ٢٤٤ / ٥ ، باب ٥ ؛ نور الثقلين ١ : ٢٦٤ و ٤ : ١٨١ / ٤٧ ؛ فرات الكوفي : ٣٠٨ / ٤١٢ ـ ٦ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٤٠٨.

٢٩١

وسبيل نجاتهم إلى يوم المعاد ، الأمر الّذي يوضّح موضع الأحاديث التالية ، وأنّ عليّا والذرّيّة الطيّبة ، هم العروة الوثقى إلى جنب الكتاب.

[٢ / ٧٥٢٠] وروى بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة : «أنا حبل الله المتين وأنا عروة الله الوثقى» (١).

[٢ / ٧٥٢١] وروى موفّق بن أحمد ، بإسناده عن عبد الرحمان بن أبي ليلى ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : «أنت العروة الوثقى» (٢).

[٢ / ٧٥٢٢] وروى أبو جعفر الصدوق بالإسناد إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحبّ أن يستمسك بالعروة الوثقى ، فليستمسك بحبّ عليّ وأهل بيته» (٣).

[٢ / ٧٥٢٣] وبإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا عليه‌السلام في حديث قال : «نحن حجج الله في خلقه ، وخلفاؤه في عباده ، وأمناؤه على سرّه ، ونحن كلمة التقوى والعروة الوثقى» (٤).

قال الفخر الرازي بعد اختيار القول بجواز الجهر ببسم الله الرحمان الرّحيم في الصلوات الإخفاتيّة : «إنّ الدلائل العقليّة موافقة لنا وعمل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام معنا ومن اتخذ عليّا إماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه» (٥).

قوله تعالى : (لَا انْفِصامَ لَها ...)

[٢ / ٧٥٢٤] أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل ، أنّه سئل عن قوله : (لَا انْفِصامَ

__________________

(١) التوحيد : ١٦٥ / ٢ ، باب ٢٢ ؛ معاني الأخبار : ١٧ / ١٤ ؛ البحار ٢٤ : ١٩٩ / ٢٧ ، باب ٥٣ ، و ٣٩ : ٣٣٩ / ١٠ ؛ نور الثقلين ١ : ٢٦٤.

(٢) المناقب للخوارزمي : ٦١ / ٣١ ، الفصل الخامس ؛ الأمالي للطوسيّ : ٣٥١ / ٧٢٦ ـ ٦٦ ، المجلس ١٢ ؛ البحار ٢٨ : ٤٥ / ٨ باب ٢ ، و ٣٦ : ٢٠ / ١٥ ؛ البرهان ١ : ٥٣٧ / ٩.

(٣) عيون الأخبار ٢ : ٦٣ / ٢١٦ ، باب ٣١ ؛ البحار ٢٤ : ٨٣ ـ ٨٤ / ١ ، باب ٣١ ، و ٢٧ : ٧٩ / ١٤ ، باب ٤ ؛ البرهان ١ : ٥٣٧ / ٧ ؛ تأويل الآيات الباهرة ١ : ٩٥ / ٨٦.

(٤) كمال الدين : ٢٠٢ / ٦ ، باب ٢١ ؛ نور الثقلين ١ : ٢٦٤ ؛ البحار ٢٣ : ٣٥ / ٥٩ ، باب ١ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٤٠٨.

(٥) التفسير الكبير ١ : ١٨٣.

٢٩٢

لَها). قال : لا انقطاع لها دون دخول الجنّة (١).

[٢ / ٧٥٢٥] وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (لَا انْفِصامَ لَها) قال : لا يغيّر الله ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم (٢).

[٢ / ٧٥٢٦] وعن أبي الدرداء أنّه عاد مريضا من جيرته فوجده في السوق وهو يغرغر ، لا يفقهون ما يريد ، فسألهم : يريد أن ينطق؟ قالوا : نعم ، يريد أن يقول : آمنت بالله وكفرت بالطاغوت! قال أبو الدرداء : وما علمكم بذلك؟ قالوا : لم يزل يردّدها حتّى انكسر لسانه ، فنحن نعلم أنّه إنّما يريد أن ينطق بها! فقال أبو الدرداء : أفلح صاحبكم ؛ إنّ الله يقول : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٣).

قوله تعالى : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)

أي يخرجهم من ضلالات الحياة إلى وضح النور اللّائح ، فلا يتيهون الطريق في مسيرتهم ، أينما حلّوا وحيثما ارتحلوا ، فالله تعالى هو رائدهم وهاديهم إلى معالم الفلاح والحادي بهم إلى مشارب النجاح ، في طول حياتهم الكريمة. فيعيشون عيشتهم الهنيئة المرضيّة ، والله عنده حسن المآب.

أمّا العائش في كنف الطاغوت ، فسبيله سبيل الغوايات والضلالات ، وقد انطفت عليهم ومضة الفطرة واختبأ في ضميرهم نور العقل ، الّذي جعل الله في فطرتهم ، كما ولم يسترعوا اهتماما

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٢٣ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٦ ـ ٤٩٧ / ٢٦٢٨ ، وفيه : لا انقطاع لها ، مرّتين .... ـ وزاد : وروي عن السدّي نحو ذلك ؛ ابن كثير ١ : ٣١٩ ؛ الوسيط ١ : ٣٧٠ ، بلفظ : قال ابن عبّاس : لا انقطاع لها دون رضا الله ودخول الجنّة.

(٢) الطبري ٣ : ٣٠ / ٤٥٦٨ وبعده ؛ ابن كثير ١ : ٣١٩ ، عن مجاهد وسعيد بن جبير بلفظ : قال مجاهد وسعيد بن جبير (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها ثمّ قرأ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٧ / ٢٦٢٩ ، وزاد : وروي عن سعيد بن جبير ، نحو ذلك ؛ القرطبي ٣ : ٢٨٢ ؛ معاني القرآن للنحّاس ١ : ٢٧٢ / ١٨٧.

(٣) الطبري ٣ : ٢٨ ـ ٢٩ / ٤٥٦٣.

٢٩٣

بمواعظ الأنبياء وإرشاداتهم الحكيمة (١) ومن ثمّ فهم على عمه من الحياة وازدياد من الارتطام في غياهب الظلمات. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ)(٢).

[٢ / ٧٥٢٧] أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) يقول : من الضلالة (٣) إلى الهدى. وفي قوله : (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) يقول : من الهدى (٤) إلى الضلالة (٥).

[٢ / ٧٥٢٨] وروى عليّ بن إبراهيم عن حميد بن زياد عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن يحيى عن طلحة بن زيد عن الإمام جعفر بن محمّد عن أبيه محمّد بن عليّ عليهما‌السلام في قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٦) قال : «بدأ بنور نفسه تعالى. (مَثَلُ نُورِهِ) مثل هداه في قلب المؤمن. (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ...) المشكاة ، جوف المؤمن. والقنديل قلبه. والمصباح ، النور الّذي جعله في قلبه ... (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) قال : الشجرة المؤمن. (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : على سواء الجبل ، لا غربيّة ، أي لا شرق لها. ولا شرقيّة ، أي لا غرب لها ؛ إذا طلعت الشمس طلعت عليها ، وإذا غربت غربت عليها. (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) يكاد النور الّذي جعله الله في قلب المؤمن يضيء وإن لم يتكلّم ... (نُورٌ عَلى نُورٍ) فريضة على فريضة. وسنّة على سنّة. (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) يهدي الله لفرائضه وسننه من يشاء. (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ..). فهذا مثل ضربه الله للمؤمن.

ثمّ قال : فالمؤمن يتقلّب في خمسة [جوانب] من النور : مدخله نور ، ومخرجه نور ، وعلمه نور ، وكلامه نور ، ومصيره نور يوم القيامة ، إلى الجنّة : نور» (٧).

__________________

(١) حيث الأنبياء برمّتهم إنّما يحاولون إخراج الناس ـ عامّة ـ من الظلمات إلى النور : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (إبراهيم ١٤ : ٥).

(٢) الأنعام ٦ : ٣٩.

(٣) أي من ضلالات الحياة إلى جادّة الهدى النيّرة.

(٤) أي من هدى الفطرة ونور العقل إلى معوجّات الطريق والضلالات.

(٥) الدرّ ٢ : ٢٤ ؛ الطبري ٣ : ٣١ / ٤٥٧٠ ؛ البخاري ٦ : ٥٧ ، كتاب التفسير ؛ سورة الحديد ، ذيل الآية ٩. إلى قوله : «إلى الهدى». القرطبي ٣ : ٢٨٣ ، بلفظ : «الظلمات الضلالة ، والنور الهدى» وبمعناه قال الضحّاك والربيع ؛ التبيان ٢ : ٣١٤ ، بلفظ : «يخرجهم من ظلمة الضلالة إلى نور الهدى».

(٦) النور ٢٤ : ٣٥.

(٧) القمّي ٢ : ١٠٣. وروى ذيله الصدوق في الخصال : ٢٧٧ / ٢٠ باب الخمسة ؛ البحار ٦٥ : ١٧ / ٢٤.

٢٩٤

قال تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠))

تجارب ثلاث

هذه الآيات الثلاث تتناول موضوعا واحدا في جملته : سرّ الحياة والموت ، وحقيقة الحياة والموت. وهي بهذا تؤلّف جانبا من التصوّر الإسلامي ، يضاف إلى القواعد الّتي قرّرتها الآيات السابقة ، وتتّصل اتّصالا مباشرا بآية الكرسيّ وما قرّرته من صفات الله تعالى. وهي جميعا تمثّل جانبا من جوانب الجهد الطويل المتجلّي في القرآن الكريم لإنشاء التصوّر الصحيح لحقائق هذا الوجود في ضمير المسلم وفي إدراكه ، الأمر الّذي لا بدّ منه للإقبال على الحياة بعد ذلك إقبالا بصيرا ، منبثقا من الرؤية الصحيحة الواضحة ، وقائما على أساس اليقين الثابت المطمئنّ. فنظام الحياة ومنهج السلوك وقواعد الأخلاق والآداب ، ليست بمعزل عن التصوّر الاعتقادي ، بل هي قائمة عليه ، مستمدّة منه. وما يمكن أن تثبت وتستقيم ويكون لها ميزان مستقرّ إلّا أن ترتبط بالعقيدة ، وبالتصوّر الشامل لحقيقة هذا الوجود وارتباطاته بخالقه الّذي وهبه الوجود.

٢٩٥

التجربة الأولى

والآية الأولى تحكي حوارا بين إبراهيم عليه‌السلام وملك في أيّامه يجادله في الله. قيل : هو نمروذ بن كوش من ولد حام بن نوح ، وكان ملكا جبّارا وهو الّذي بنى بابل بأرض شنعار. وكان إبراهيم بن تارح من ولد سام بن نوح. ولد إبراهيم بأرض «أور كلدان ـ شوش» وهاجر مع أبيه إلى أرض «حرّان» بلاد شنعار (العراق) (١). فلعلّ نمروذ هذا هو الّذي جادل إبراهيم في ربّه (٢) ، والقرآن لا يذكر اسمه ، لأنّ ذكر اسمه لا يزيد من العبرة الّتي تمثّلها الآية شيئا.

وهذا الحوار يعرض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى الجماعة المسلمة في أسلوب التعجيب من هذا المجادل ، وكأنّما مشهد الحوار يعاد عرضه من ثنايا التعبير القرآني العجيب : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ).

ألم تر؟ إنّه تعبير التشنيع والتفظيع ، وإنّ الإنكار والاستنكار لينطلقان من بنائه اللفظي وبنائه المعنوي سواء ، فالفعلة منكرة حقّا : أن يأتي الحجاج والمكابرة بسبب نعمة الملك ، الّتي أنعمها الله عليه بالذات ، وأن يدّعي عبد لنفسه ما هو من اختصاص الربّ المتعال ، وأن يستقلّ حاكم بحكمه الناس بهواه دون أن يستمدّ قانونه من الله!!

إنّ هذا الملك لم يكن منكرا لوجود الله ولا كونه خالق الكون وبارئه ، إنّما أنكر وحدانيّته تعالى في الربوبيّة والتصريف في شؤون الحياة.

ومن ثمّ ناقضه إبراهيم بقضيّة الموت والحياة : (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ).

والإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكرورتان في كلّ لحظة ، المعروضتان لحسّ الإنسان وعقله. وهما ـ في الوقت نفسه ـ السرّ الّذي يحير ، والّذي يلجئ الإدراك البشري إلجاء إلى مصدر آخر غير بشري. ولا بدّ من الالتجاء إلى الألوهيّة القاهرة ، القادرة على الإنشاء والإفناء ، لحلّ هذا اللغز الّذي يعجز عنه كلّ الأحياء.

إنّنا لا نعرف شيئا عن حقيقة الحياة وحقيقة الموت ، حتّى اللحظة الحاضرة ، ولكنّنا ندرك

__________________

(١) راجع : سفر التكوين ـ الأصحاح ١٠ ـ ١١.

(٢) حسبما جاء في الروايات الإسلاميّة.

٢٩٦

مظاهرهما في الأحياء والأموات. وليس لنا سوى إيكال مصدر الحياة والموت إلى قوّة ليست من القوى ـ الّتي ينتابها الموت والحياة ـ على الإطلاق ، قوّة الله وحده لا شريك له.

ومن ثمّ عرّف إبراهيم ربّه بالصفة الّتي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد ، وكان إبراهيم عنى من الإحياء والإماتة إنشاء هاتين الحقيقتين إنشاء. فذلك عمل الربّ المتفرّد به. لكنّ الملك تعامى أو تغافل ، وحسب من قدرته على إنفاذ أمره في الناس بالحياة ـ أي بإبقائها فيمن يشاء ـ والموت بقتل من يريد ، فحسب من نفسه بذلك مظهرا من مظاهر الربوبيّة ، فقال لإبراهيم : أنا سيّد هؤلاء القوم ، وأنا المتصرّف في شؤونهم وأقضي لمن شئت بالموت أو الحياة ، و (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) إحياء بالإبقاء ، وإماتة بالإهلاك.

عند ذلك رأى إبراهيم أن لا يخوض مغالطة فاضحة ، أساسها على الجدل والمراء ، وقد لا تنتهي إلى شيء. ما دام أمرها يعود إلى سرّ خفيّ غير ملموس ولا مشهود.

وعندئذ عدل عن تلك السنّة الكونيّة الخفيّة ، وعمد إلى سنّة أخرى ظاهرة مرئيّة ، وقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ). يعني : إن كانت لك يد في تدبير هذا الكون ، فاعمد ـ ولو لحظة ـ إلى تغيير مسيرة الشمس. (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) ولم يحر جوابا. حيث لم يجد مجالا للجدل والمغالطة في أمر محسوس مشاهد.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ممّن عتا واستكبر وحاول كفران نعم الله ، فإنّ الله تعالى سوف يخذله ولا يفيض عليه بنصره وعنايته ، تلك العناية الّذي يبذلها لأولئك الصلحاء من عباده المؤمنين. إذن فالكافر بنعم الله ، ليس ظلم ربّه لوحده بهذا الكفران ، بل وظلم نفسه وخسر خسرانا مبينا.

[٢ / ٧٥٢٩] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمّد بن إسحاق ، قال ـ في قوله تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ـ : أي لا يهديهم في الحجّة عند الخصومة ، لما هم عليه من الضلالة (١).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣٩ / ٤٥٩٠ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٩ / ٢٦٤٠.

٢٩٧

الّذي حاجّ إبراهيم

[٢ / ٧٥٣٠] أخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عبّاس في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) قال : نمرود بن كنعان (١) ، يزعمون أنّه أوّل من ملك في الأرض ، أتي برجلين قتل أحدهما وترك الآخر! فقال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). قال : أستحيي : أترك من شئت ، وأميت : أقتل من شئت (٢)!

[٢ / ٧٥٣١] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) قال : أقتل من شئت ، واستحيي من شئت ، أدعه حيّا فلا أقتله (٣).

[٢ / ٧٥٣٢] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : كنّا نحدّث أنّه ملك يقال له نمرود بن كنعان ، وهو أوّل ملك تجبّر في الأرض ، وهو صاحب الصرح ببابل ، ذكر لنا : أنّه دعا برجلين ، فقتل أحدهما واستحيا الآخر ، فقال : أنا أستحيي من شئت وأقتل من شئت. وكذا روى عن عكرمة (٤).

[٢ / ٧٥٣٣] وأخرج ابن جرير عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنّه سمع مجاهدا يقول : قال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) ، أحيي فلا أقتل ، وأميت من قتلت. قال ابن جريج ، كان أتي برجلين ، فقتل أحدهما وترك الآخر ، فقال : أنا أحيي وأميت ، قال : أقتل فأميت من قتلت. وأحيي ، قال : أستحيي فلا أقتل (٥)!

__________________

(١) جاء في سفر التكوين (أصحاح ١٠) أنّ نمرود من ولد كوش أي من ذراريه. وأنّ كنعان وفوطا ومصرايم إخوة كوش ، هم ولد حام الأربعة ، ولعلّ بعض أحفاد كوش كان سمّي كنعان ، باسم عمّ آبائهم ، كما جاء في لفظ القرطبي ٣ : ٢٨٣ ـ ٢٨٤. نقلا عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة والربيع والسدّي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم. وأخرج ابن أبي حاتم (٢ : ٤٩٨) عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قال : «الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه هو نمرود بن كنعان». وذكر ابن عابدين (٢ : ٥٠٥) أنّ الّذي حاجّ إبراهيم ـ على ما قيل ـ هو نمرود بن فالح بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن كوش بن حام بن نوح.

(٢) الدرّ ٢ : ٢٥.

(٣) الدرّ ٢ : ٢٥ ؛ الطبري ٣ : ٣٦ / ٤٥٨٣ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٣٩ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٣.

(٤) الدرّ ٢ : ٢٥ ؛ الطبري ٣ : ٣٥ و ٣٦ / ٤٥٧٦ و ٤٥٨٢ ؛ ابن كثير ١ : ٣٢١ ، بلفظ : «قال قتادة ومحمّد بن إسحاق والسدّي وغير واحد ، وذلك أنّي أوتي بالرجلين قد استحقّا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل ، فذلك معنى الإحياء والإماتة» ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٨ / ٢٦٣٥ ؛ التبيان ٢ : ٣١٦.

(٥) الطبري ٣ : ٣٩ / ٤٥٨٨.

٢٩٨

[٢ / ٧٥٣٤] وقال عليّ بن إبراهيم في الآية : لمّا ألقى نمرود إبراهيم عليه‌السلام في النار وجعلها الله عليه بردا وسلاما ، قال نمرود : يا إبراهيم من ربّك؟ قال : ربّي الّذي يحيي ويميت (١). قال نمرود : أنا أحيي وأميت (٢)! فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت؟ قال : أعمد إلي رجلين ممّن قد وجب عليهما القتل ، فأطلق عن واحد وأقتل الآخر فأكون قد أحييت وأمتّ! فقال إبراهيم : إن كنت صادقا (٣) فأحي الّذي قتلته! ثمّ قال عليه‌السلام : دع هذا ، فإنّ ربّي يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب! فكان كما قال الله عزوجل : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي انقطع ، وذلك أنّه علم أنّ الشمس أقدم منه (٤)(٥).

قال أبو عليّ الطبرسي : قيل في انتقاله من حجّة إلى أخرى وجهان : أحدهما : أنّ ذلك لم يكن انتقالا وانقطاعا عن إبراهيم ، فإنّه يجوز من كلّ حكيم إيراد حجّة أخرى على سبيل التأكيد بعد تمام ما ابتدأ به من الحجاج وعلامة تمامه ، ظهوره من غير اعتراض عليه ، بشبهة لها تأثير عند التأمّل والتدبّر. والثاني : أنّ إبراهيم إنّما قال ذلك ليبيّن أنّ من شأن من يقدر على إحياء الأموات وإماتة الأحياء ، أن يقدر على إتيان الشمس من المشرق ، فإن كنت قادرا على ذلك فأت بها من المغرب ، وإنّما قال ذلك ، لأنّه لو تشاغل معه بأنّي أردت إبداع الحياة والموت من غير سبب ولا علاج ، لاشتبه على كثير ممّن حضر ، فعدل عليه‌السلام إلى ما هو أوضح ، لأنّ الأنبياء عليهم‌السلام إنّما بعثوا للبيان والإيضاح ، وليست أمورهم مبنيّة على لجاج الخصمين وطلب كلّ واحد منهما غلبة خصمه. وقد روي عن الصادق عليه‌السلام أنّ إبراهيم عليه‌السلام قال له : أحي من قتلته إن كنت صادقا ، ثمّ استظهر عليه بما قاله ثانيا (٦).

[٢ / ٧٥٣٥] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) : هو

__________________

(١) أي الّذي بيده الحياة والموت.

(٢) أي أنا أيضا أستطيع الإحياء والإماتة ، ولكنّه غالط وخلط بين الإيجاد والإبقاء ، فحسب من الإبقاء ـ وهو تداوم الوجود ـ إيجادا.

(٣) أي في دعواك القدرة على التصرّف في الكائنات.

(٤) أي خارجة عن طوع إرادته.

(٥) القمّي ١ : ٨٦ ؛ البحار ١٢ : ٣٤ / ٩ ، باب ٢.

(٦) مجمع البيان ٢ : ١٦٨ ـ ١٦٩.

٢٩٩

نمروذ بن كنعان بن ريب بن نمروذ بن كوشى بن نوح ، وهو أوّل من ملك الأرض كلّها! وهو الّذي بنى الصرح ببابل (أَنْ آتاهُ اللهُ) يقول : أن أعطاه الله (الْمُلْكَ) وذلك أنّ إبراهيم عليه‌السلام حين كسر الأصنام سجنه نمروذ ثمّ أخرجه ليحرقه بالنار. فقال لإبراهيم : من ربّك؟ (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وإيّاه أعبد ، ومنه أسأل الخير. (قالَ) نمروذ : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). قال له إبراهيم : أرني بيان الّذي تقول! فجاء برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر! وقال : كان هذا حيّا فأمتّه وأحييت هذا ، ولو شئت قتلته (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ) الجبّار (الَّذِي كَفَرَ) بتوحيد الله. يقول بهت نمروذ الجبّار فلم يدر ما يردّ على إبراهيم ، ثمّ إنّ الله سلّط على نمروذ بعوضة ، بعد ما أنجا الله إبراهيم من النار ، فعضّت شفته فأهوى إليها فطارت في منخره ، فذهب ليأخذها فدخلت خياشيمه ، فذهب يستخرجها فدخلت دماغه ، فعذّبه الله بها أربعين يوما ثمّ مات منها ، وكان يضرب رأسه بالمطرقة ، فإذا ضرب رأسه سكنت البعوضة وإذا رفع عنها تحرّكت. فقال الله : «وعزّتي وجلالي لا تقوم الساعة حتّى آتي بها. يعني الشمس من قبل المغرب ، فيعلم من يرى ذلك أنّي أنا الله قادر على أن أفعل ما شئت». ثمّ قال ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لا يهديهم إلى الحجّة (١).

[٢ / ٧٥٣٦] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدّي قال : لمّا خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه ، فكلّمه وقال له : من ربّك؟ قال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ). قال نمرود : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) ، أنا أدخل أربعة نفر بيتا فلا يطعمون ولا يسقون حتّى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا وتركت اثنين فماتا. فعرف إبراهيم أنّه يفعل ذلك (٢) قال له : فإنّ ربّي الّذي يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب! فبهت الّذي كفر وقال : إنّ هذا إنسان مجنون فأخرجوه ، ألا ترون أنّه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها ، وإنّ النار لم تأكله ، وخشي أن يفتضح في قومه! (٣).

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ٢١٥ ـ ٢١٦.

(٢) أي يفعل ذلك مغالطة تمويها على العامّة.

(٣) الدرّ ٢ : ٢٥ ـ ٢٦ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٨ ـ ٤٩٩ / ٢٦٣٦ ؛ الطبري ٣ : ٣٨ ـ ٣٩ / ٤٥٨٧ ، وزاد : أعني نمرود فكان يزعم أنّه ربّ وأمر بإبراهيم فأخرج ؛ ابن كثير ١ : ٣٢١ ؛ القرطبي ٣ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٤١ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٤.

٣٠٠