التفسير الأثري الجامع - ج ٦

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-07-4
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٥٩

[٢ / ٧٤٦٣] وعن قتادة : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الساعة (وَما خَلْفَهُمْ) من أمر الدنيا (١).

[٢ / ٧٤٦٤] وأخرج الطبراني في السنّة عن ابن عبّاس في قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) قال : يريد من السماء إلى الأرض (وَما خَلْفَهُمْ) يريد ما في السماوات (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) يريد ممّا أطلعهم على علمه (٢).

في قوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ)

[٢ / ٧٤٦٥] أخرج البيهقي في الأسماء والصفات من طريق السدّي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عبّاس ، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وناس من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) يقول : لا يعلمون شيئا من علمه إلّا بما شاء هو يعلّمهم (٣).

[٢ / ٧٤٦٦] وقال ابن عبّاس (إِلَّا بِما شاءَ) يريد : ما أطلعهم على علمه (٤).

العرش والكرسيّ

قد تكرّر ذكر العرش في القرآن إحدى وعشرين مرّة (٥) ولم يأت ذكر الكرسيّ إلّا مرّة واحدة في قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(٦).

والعرش ، كناية عن مقام تدبيره تعالى لشؤون الخلق كلّه ، قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ... يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)(٧). (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ... يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ)(٨). وهكذا غيرهما من آيات ، جاء ذكر العرش فيها كناية عن مقام تدبيره تعالى لشؤون هذا العالم ، إن علوا أو

__________________

(١) ابن أبي حاتم ٢ : ٤٨٩ / ٢٥٨٩ ؛ الطبري ٩ : ٢٦٧ / ١٨٣٦٩ ، سورة طه الآية ١١٠.

(٢) الدرّ ٢ : ٩ ـ ١٠.

(٣) الدرّ ٢ : ١٨ ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٥٠٦.

(٤) الوسيط ١ : ٣٦٨.

(٥) الأعراف ٧ : ٥٤ ؛ التوبة ٩ : ١٢٩ ؛ يونس ١٠ : ٣ ؛ هود ١١ : ٧ ؛ الرعد ١٣ : ٢ ؛ الإسراء ١٧ : ٤٢ ؛ طه ٢٠ : ٥٠ ؛ الأنبياء ٢١ : ٢٢ ؛ المؤمنون ٢٣ : ٨٦ و ١١٦ ؛ الفرقان ٢٥ : ٥٩ ؛ النمل ٢٧ : ٢٦ ، السجدة ٣٢ : ٤ ؛ الزمر ٣٩ : ٧٥ ؛ غافر ٤٠ : ٧ و ١٥ ؛ الزخرف ٤٣ : ٨٢ ؛ الحديد ٥٧ : ٤ ؛ الحاقة ٦٩ : ١٧ ؛ التكوير ٨١ : ٢٠ ؛ البروج ٥٨ : ١٥.

(٦) البقرة ٢ : ٢٥٥.

(٧) الرعد ١٣ : ٢.

(٨) السجدة ٣٢ : ٤.

٢٦١

سفلا. إن دنيا أو آخرة.

وقد جاء تأويل «العرش» في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام إلى العلم والقدرة الشاملة ، وهذا لازم مقام التدبير الشامل.

[٢ / ٧٤٦٧] ففي الصحيح عن الإمام أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «والعرش ، اسم علم وقدرة» (١). أي تعبير عن علمه تعالى بالكائنات جميعا ، وقدرته تعالى على تدبيرهنّ.

قال عليه‌السلام : «وعرش ، فيه كلّ شيء» أي أحاط علمه تعالى بكلّ شيء ؛ علما بذوات الأشياء بأسرها ، وعلما بما يعود إلى جوانب شؤونهنّ في الخلق والتدبير.

وقال ـ في حملة العرش ـ : إنّهم حملة علمه تعالى ، وفي قوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ) : إنّهم يعملون بعلمه ، أي ينفّذون تدابيره تعالى في شؤون الخلق ، تدبيرا ناشئا عن علمه المحيط. والتسبيح ـ هنا ـ عمليّ ، وهو الانصياع التامّ في طاعته تعالى وامتثال أمره.

أمّا الكرسيّ فهو كناية عن ملكه تعالى وسلطانه على الكائنات : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٢). وهكذا وسع كرسيّ ملكه السماوات والأرض.

(وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) : لا يشقّ عليه ولا يثقل كاهله القيام بشؤون تدبيرها ، على سعتها وترامي أطرافها ، وتطاول أمدها عبر الأبديّة.

فالكرسيّ ، جاء تعبيرا عن ملكه تعالى وسلطانه الشامل. والعرش ، تعبير عن جانب تدبيره لشؤون الخلق كلّه. فالكرسيّ كرسيّ الملك ، والعرش عرش التدبير. وكلاهما يشفّان عن سعة علمه تعالى وعظيم قدرته في الخلق والتدبير.

[٢ / ٧٤٦٨] وهكذا روى أبو جعفر الصدوق عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن سنان عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث ، قال : «... والعرش هو العلم الّذي لا يقدّر أحد قدره ...» (٣) أي علمه تعالى الشامل لما ذرأ وبرأ.

وفي بعض الروايات : إطلاق العرش والكرسيّ ، كليهما على سعة علمه تعالى.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٣١.

(٢) الزمر ٣٩ : ٦٢ ـ ٦٣.

(٣) التوحيد : ٣٢٧ / ٢ ، باب ٥٢ ؛ البحار ٤ : ٨٩ / ٢٨ ، باب ٢ ، و ٥٥ : ٢٩ / ٥٠ ، باب ١ (العرش والكرسيّ).

٢٦٢

[٢ / ٧٤٦٩] قال أبو جعفر الصدوق : سئل الصادق عليه‌السلام عن قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)؟ قال : «علمه»! (١).

ورواه في كتاب المعاني بالإسناد إلى حفص بن غياث ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله ـ عزوجل ـ : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)؟ قال : «علمه» (٢).

[٢ / ٧٤٧٠] وروى بالإسناد إلى المفضّل بن عمر ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العرش والكرسيّ ؛ ما هما؟ فقال : «العرش ، في وجه ، هو جملة الخلق ، والكرسيّ وعاؤه. وفي وجه آخر ، هو العلم الّذي أطلع الله عليه أنبياءه ورسله وحججه. والكرسيّ هو العلم الّذي لم يطلع عليه أحدا من أنبيائه ورسله وحججه عليهم‌السلام» (٣).

وكلّ هذه التعابير تدلّك على معنى واحد شامل ، هو سلطانه تعالى المهيمن على الخلق كلّه ، بما يستلزمه من علم وحكمة وقدرة قاهرة وشاملة عبر الأبد. (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(٤).

وهكذا روي عن ابن عبّاس ـ ترجمان القرآن وتلميذ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه فسّر الكرسيّ ـ في قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ـ بعلمه تعالى الشامل. واستند في تفسيره هذا إلى ذيل الآية : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما). حيث الحفاظ عليهما يستدعي علمه تعالى المحيط بكلّ شيء ، وتدبيره الحكيم.

[٢ / ٧٤٧١] أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قال : كرسيّه علمه ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما)(٥).

__________________

(١) كتاب الاعتقادات للصدوق : ٤٤ ؛ البحار ٥٥ : ٩ / ٦.

(٢) المعاني : ٣٠ / ٢ ؛ التوحيد : ٣٢٧ / ١ ؛ البحار ٥٥ : ٢٨ / ٤٦.

(٣) المعاني : ٢٩ / ١ ؛ البحار ٥٥ : ٢٨ ـ ٢٩ / ٤٧.

(٤) الزمر ٣٩ : ٦٢.

(٥) الدرّ ٢ : ١٦ ؛ الطبري ٣ : ١٥ ـ ١٦ / ٤٥١٥ ـ ٤٥١٦ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٠ ـ ٤٩١ / ٢٥٩٩ ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٥٥٣. الثعلبي ٢ : ٢٣٢ ، عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير ومجاهد ؛ التبيان ٢ : ٣٠٩ ؛ مجمع البيان ٢ : ١٦٠ ، عن ابن ـ عبّاس ومجاهد وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ؛ أبو الفتوح ٣ : ٤٠٩ ، عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير ومجاهد ؛ الوسيط ١ : ٣٦٨ ، بلفظ : روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال : وسع علمه السماوات والأرض.

٢٦٣

قال أبو جعفر الطبري : وأمّا الّذي يدلّ على صحّته ظاهر القرآن ، فقول ابن عبّاس ، الّذي رواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عنه ، أنّه قال : هو علمه! وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره :

(وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) ، على أنّ ذلك كذلك ، فأخبر أنّه لا يؤوده حفظ ما علم وأحاط به ، ممّا في السماوات والأرض. وكما أخبر عن ملائكته أنّهم قالوا في دعائهم : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً)(١) ، فأخبر ـ تعالى ذكره ـ أنّ علمه وسع كلّ شيء ، فكذلك قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

قال : وأصل الكرسيّ العلم. ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب : كرّاسة. ومنه قول الراجز في صفة قانص : «حتّى إذا احتازها تكرّسا» يعني : علم. ومنه يقال للعلماء : الكراسيّ ، لأنّهم المعتمد عليهم ، كما يقال : أوتاد الأرض ، يعني بذلك أنّهم العلماء الّذين تصلح بهم الأرض.

ومنه قول الشاعر :

يحفّ بهم بيض الوجوه وعصبة

كراسيّ بالأحداث حين تنوب

يعني بذلك : علماء بحوادث الأمور ونوازلها.

والعرب تسمّي أصل كلّ شيء : الكرس. يقال : منه فلان كريم الكرس أي كريم الأصل. قال العجّاج :

قد علم القدّوس مولى القدس

أنّ أبا العبّاس أولى نفس

بمعدن الملك الكريم الكرس

يعني بذلك : الكريم الأصل.

ويروى : في معدن العزّ الكريم الكرس (٢).

قال أبو إسحاق الثعلبي : رأيت في بعض التفاسير : كرسيّه : سرّه. وأنشدوا فيه :

مالي بأمرك كرسيّ أكاتمه

وهل بكرسيّ علم الغيب مخلوق (٣)

__________________

(١) غافر ٤٠ : ٧.

(٢) الطبري : ٣ : ١٦.

(٣) الثعلبي ٢ : ٢٣٢.

٢٦٤

قال : وقال الحسن البصري : الكرسيّ هو العرش بعينه. وحكى الأستاذ أبو سعيد عبد الملك عن أبي عثمان الزاهد عن بعض المتقدّمين : أنّ الكرسيّ اسم ملك من الملائكة ، أضافه إلى نفسه تخصيصا وتفضيلا ، فنبّه به عباده على عظمته وقدرته. فقال : إنّ خلقا من خلقي وسع السماوات والأرض ، فكيف تقدّر قدرتي وتعرف عظمتي؟! (١).

***

وهناك أخبار وآراء عن العرش والكرسيّ ، لا تعدو أوهاما نسجتها أوتار الخيال :

[٢ / ٧٤٧٢] أخرج ابن جرير عن أبي موسى الأشعري ، قال : الكرسيّ ، موضع القدمين. وله أطيط كأطيط الرحل (٢).

[٢ / ٧٤٧٣] وعن السدّي : السماوات في جوف الكرسيّ ، والكرسيّ بين يدي العرش ، وهو موضع قدميه.

[٢ / ٧٤٧٤] وعن الضحّاك : كرسيّه الّذي يوضع تحت العرش ، الّذي يجعل الملوك عليه أقدامهم.

[٢ / ٧٤٧٥] وعن مسلم البطين : الكرسيّ موضع القدمين (٣).

[٢ / ٧٤٧٦] وأسندوا إلى ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كرسيّه موضع قدمه. والعرش لا يقدّر قدره!» (٤).

وأيضا أسندوه إلى ابن عبّاس من غير رفع.

[٢ / ٧٤٧٧] وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والدار قطني والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصحّحه والخطيب والبيهقي عن ابن عبّاس ، قال : الكرسيّ موضع القدمين ، والعرش لا يقدّر أحد قدره (٥).

__________________

(١) المصدر : ٢٣٣.

(٢) الأطيط : صوت الأقتاب الّتي توضع على ظهر البعير.

(٣) الطبري ٣ : ١٥ ؛ ابن كثير ١ : ٣١٧ ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٥٦٥ ؛ العظمة ٢ : ٦٢٧ ـ ٦٢٨.

(٤) أورده شجاع بن مخلّد في تفسيره. تاريخ بغداد ٩ : ٢٥٢ / ٤٨٢٨ ؛ ابن كثير ١ : ٣١٧.

(٥) الدرّ ٢ : ١٧ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩١ / ٢٦٠١ ، بلفظ : عن ابن عبّاس ، قال : الكرسيّ ، موضع قدميه ؛ الكبير ١٢ : ٣١ / ١٢٤٠٤ ؛ العظمة ٢ : ٥٢٨ / ٢١٦ ـ ٢٧ ، باب ٩ ؛ الحاكم ٢ : ٢٨٢ ، كتاب التفسير ، فضل آية الكرسيّ وتفسيرها ؛ تاريخ ـ بغداد ٩ : ٢٥٢ ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٥٦٥ ؛ عبد الرزّاق ٣ : ٢٥٠ / ٣٠٣٠ ، سورة النجم ؛ مجمع الزوائد ٦ : ٣٢٣ ، كتاب التفسير ، قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح.

٢٦٥

[٢ / ٧٤٧٨] وأخرج عبد بن حميد وابن أبي عاصم في السنّة والبزّار وأبو يعلى وابن جرير وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه والضياء المقدسي في المختارة عن عمر ، قال : إنّ امرأة أتت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنّة! فعظّم (١) الربّ ـ تبارك وتعالى ـ وقال : «إنّ كرسيّه وسع السماوات والأرض وأنّه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع ثمّ قال بأصبعه فجمعها : وإنّ له أطيطا (٢) كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله» (٣).

[٢ / ٧٤٧٩] وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ والدارمي والحاكم عن ابن مسعود قال : قال رجل : يا رسول الله ما المقام المحمود؟ قال : «ذلك يوم ينزل الله على كرسيّه ، يئطّ منه كما يئطّ الرحل الجديد من تضايقه ، وهو كسعة ما بين السماء والأرض!» (٤).

[٢ / ٧٤٨٠] وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي عن أبي مالك في قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قال : إنّ الصخرة الّتي تحت الأرض السابعة ومنتهى الخلق على أرجائها عليها أربعة من الملائكة ، لكلّ واحد منهم أربعة وجوه : وجه إنسان ، ووجه أسد ، ووجه ثور ، ووجه نسر ، فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرضين والسماوات ، ورؤوسهم تحت الكرسيّ ، والكرسيّ تحت العرش ، والله واضع كرسيّه على العرش.

قال البيهقي : هذا إشارة إلى كرسيّين. أحدهما تحت العرش والآخر موضوع على العرش! (٥).

__________________

(١) أي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عظّم الربّ وقال ...

(٢) الأطيط : صوت الاقتاب الّتي توضع على ظهر البعير.

(٣) الدرّ ٢ : ١٧ ؛ كتاب السنّة : ٢٥١ / ٥٤٧ ، إسناده ضعيف ؛ مسند البزّار ١ : ٤٥٧ / ٣٢٥ ؛ الطبري ٣ : ١٦ / ٤٥٢٤ وبعده عن عبد الله بن خليفة عن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ العظمة ٢ : ٥٤٨ / ١٩٣ ـ ٤ ، باب ٩ ؛ ابن كثير ١ : ٣١٧ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٨٣ ـ ٨٤ ، كتاب الإيمان ، و ١٠ : ١٥٩ وقال الهيثمي : رواه أبو يعلى في الكبير ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن خليفة الهمذاني وهو ثقة ؛ كنز العمّال ١٠ : ٣٧٣ ـ ٣٧٤ / ٢٩٨٦٣.

(٤) الدرّ ٢ : ١٨ ؛ العظمة ٢ : ٥٩٤ ـ ٥٩٥ / ٢٢٥ ـ ٣٦ و ٦٣٧ ـ ٦٣٨ وفيه : «فهي تئطّ من عظمته وجلاله كما يئطّ الرحل الجديد» ؛ الدارمي ٢ : ٣٢٥ ، باب في شأن الساعة ونزول الربّ تعالى ؛ الحاكم ٢ : ٣٦٤ ، كتاب التفسير ، سورة الإسراء ، ذيل الآية ٧٩ ؛ كنز العمّال ١٤ : ٤١٢ / ٣٩١٠٩.

(٥) الدرّ ٢ : ١٨ ؛ العظمة ٢ : ٥٥١ / ١٩٥ ـ ٦ ، باب ٩ ، وفيه : «والله عزوجل على الكرسيّ» بدل «والله واضع كرسيّه على العرش».

٢٦٦

[٢ / ٧٤٨١] وقال مقاتل بن سليمان : يحمل الكرسيّ أربعة أملاك ، لكلّ ملك أربعة وجوه ، أقدامهم تحت الصخرة الّتي تحت الأرض السفلى ، مسيرة خمسمائة عام ، وما بين كلّ أرض مسيرة مئة عام ، ملك وجهه على صورة الإنسان وهو سيّد الصور ، وهو يسأل الرزق للآدميّين ، وملك وجهه على صورة سيّد الأنعام يسأل الرزق للبهائم وهو الثور ، لم يزل الملك الّذي على صورة الثور ، على وجهه كالغضاضة ، منذ عبد العجل من دون الرحمان ، وملك وجهه على صورة سيّد الطير وهو يسأل الله الرزق للطير وهو النسر. وملك على صورة سيّد السباع وهو يسأل الرزق للسباع وهو الأسد! (١).

***

قلت : تلك سخائف القوم سوّدوا بها صحائف كتبهم من غير دراية.

ولم يتحمّلها جلال الدين السيوطي ، عند نقله لهذه الأخبار في تفسيره ، فحاول تأويلها بما يعود إلى نوع من التمثيل والاستعارة ، من غير إرادة ظاهرها المنافي للعقل والحكمة الرشيدة.

قال ـ بعد أن نقل كلام أبي موسى الأشعرى «الكرسيّ موضع القدمين ، وله أطيط كأطيط الرحل» ـ قال : هذا على سبيل الاستعارة ، تعالى الله عن التشبيه!

قال : ويوضّحه ما أخرجه ابن جرير عن الضحّاك في الآية ، قال : كرسيّه الّذي يوضع تحت العرش ، الّذي تجعل الملوك عليه أقدامهم (٢).

أي أنّ قولهم : موضع القدمين. تشبيه بما يجعل الملوك أقدامهم عليه ، تشبيها لغير المحسوس بالمحسوس ، وليس المراد أنّه هو بالذات.

قوله تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما ...)

قال أبو إسحاق الثعلبي : أي لا يثقله ولا يجهده ولا يشقّ عليه.

قالت الخنساء :

وحامل الثقل بالأعباء قد علموا

إذا يؤوده رجالا بعض ما حملوا

وقيل : يؤوده أي يسقطه من ثقله.

قال الشاعر :

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ٢١٣.

(٢) الدرّ ٢ : ١٧.

٢٦٧

إليّ وما سحروا عداة منّا

عند الحمار يؤوده العقل (١)

وقال ابن منظور : قال أهل التفسير وأهل اللغة معا : معناه : ولا يكرثه (٢) ولا يثقله ولا يشقّ عليه. من آده يؤوده أودا.

وأنشد : إذا ما تنوء به آدها.

وأنشد ابن السكّيت :

إلى ماجد لا ينبح الكلب ضيفه

ولا يتآداه احتمال المغارم

قال : لا يتآداه ، لا يثقله. أراد : يتأوّده ، فقلبه (٣).

[٢ / ٧٤٨٢] روى عليّ بن إبراهيم بالإسناد إلى الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : «أي لا يثقل عليه حفظ ما في السماوات والأرض» (٤).

[٢ / ٧٤٨٣] وأخرج الطبراني في السنّة عن ابن عبّاس ، قال : «لا يفوته شيء ممّا في السماوات والأرض» (٥).

[٢ / ٧٤٨٤] وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات من طريق السدّي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عبّاس ، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وناس من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) : فلا يثقل عليه! (٦).

[٢ / ٧٤٨٥] وقال ابن زيد : لا يعزّ عليه حفظهما (٧).

[٢ / ٧٤٨٦] وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عبّاس ، أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) قال : لا يثقله. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم. أما سمعت قول

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

(٢) كرث الغمّ فلانا : اشتدّ عليه وبلغ منه المشقّة.

(٣) لسان العرب ٣ : ٧٤ ـ ٧٥ ، (أود).

(٤) نور الثقلين ١ : ٢٦١ / ١٠٤٥ ؛ القمّي ١ : ٨٤ ؛ البرهان ١ : ٥٢٩ / ١ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٤١٣ ؛ البحار ٨٩ : ٢٦٣ / ضمن رقم ٦ ، باب ٣٠.

(٥) الدرّ ٢ : ١٠.

(٦) الدرّ ٢ : ١٨ ـ ١٩ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٢ / ٢٦٠٦ ؛ الطبري ٣ : ١٨ ؛ القرطبي ٣ : ٢٧٨ ، بمعناه عن ابن عبّاس والحسن وقتادة وغيرهم ؛ معاني القرآن ١ : ٢٦٦ / ١٨٤ ، عن الحسن ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٦٣ / ٣٢٣ ، عن الحسن.

(٧) الطبري ٣ : ١٩ / ٤٥٣٣.

٢٦٨

الشاعر :

يعطي المئين ولا يؤوده حملها

محض الضرائب ماجد الأخلاق (١)

***

وورد في قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)

[٢ / ٧٤٨٧] أخرج الطبراني في السنّة عن ابن عبّاس في قوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) قال : يريد لا أعلى منه ولا أعظم ولا أعزّ ولا أجلّ ولا أكرم! (٢)

[٢ / ٧٤٨٨] وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس : هو السيّد الّذي قد كمل في سؤدده ، والشريف الّذي قد كمل في شرفه ، والعظيم الّذي قد كمل في عظمته ، والحليم الّذي قد كمل في حلمه ، والعليم الّذي قد كمل في علمه ، والحكيم الّذي قد كمل في حكمته ؛ وهو الّذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله سبحانه. هذه صفته لا تنبغي إلّا له ، ليس له كفؤ ، وليس كمثله شيء ، سبحان الله الواحد القهّار (٣).

[٢ / ٧٤٨٩] وروى أبو جعفر الصدوق وأبو جعفر الكليني ، كلاهما بالإسناد إلى محمّد بن سنان ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام : هل كان الله عارفا بنفسه ، قبل أن يخلق الخلق؟ قال : نعم. قلت : يراها ويسمعها؟ قال : «ما كان محتاجا إلى ذلك ، لأنّه لم يكن يسألها ولا يطلب منها ، هو نفسه ونفسه هو ، قدرته نافذة ، فليس يحتاج أن يسمّي نفسه. ولكنّه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها ، لأنّه إذا لم يدع باسمه لم يعرف. فأوّل ما اختاره لنفسه : (الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) ، لأنّه أعلى الأشياء كلّها. فمعناه : الله ، واسمه العليّ العظيم. هو أوّل أسمائه ، لأنّه علا على كلّ شيء» (٤).

***

قال أبو جعفر الطبري : واختلف أهل البحث في معنى قوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ ...). فقال بعضهم : يعني بذلك : وهو العليّ عن النظير والأشباه. وأنكروا أن يكون معنى ذلك : وهو العليّ المكان!

__________________

(١) الدرّ ٢ : ١٩.

(٢) المصدر : ١٠.

(٣) الطبري ١٥ : ٤٥١ / ٢٩٦٣٥ ، سورة التوحيد ؛ ابن كثير ٤ : ٦٠٩ ـ ٦١٠.

(٤) عيون الأخبار ١ : ١١٨ / ٢٤ ، باب ١١ ؛ التوحيد : ١٩١ ـ ١٩٢ / ٤ ، باب ٢٩ ؛ معاني الأخبار : ٢ / ٢ ؛ الكافي ١ : ١١٣ / ٢ ؛ البحار ٤ : ٨٨ ـ ٨٩ / ٢٦ ، باب ٢ ، و ٥٤ : ١٦٣ ـ ١٦٤ / ١٠٢ ، باب ١ ؛ نور الثقلين ٣ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣ / ٤٧٢.

٢٦٩

وقالوا : غير جائز أن يخلو منه مكان ، ولا معنى لوصفه تعالى بعلوّ المكان ، لأنّ ذلك وصفه بأنّه في مكان دون مكان.

وقال آخرون : معنى ذلك : وهو العليّ على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه ، لأنّه ـ تعالى ذكره ـ فوق جميع خلقه ، وخلقه دونه ، كما وصف به نفسه أنّه على العرش ، فهو عال بذلك عليهم.

قال : وكذلك اختلفوا في معنى قوله : (الْعَظِيمُ). فقال بعضهم : معنى العظيم في هذا الموضع : المعظّم ، صرف المغعّل إلى فعيل ، كما قيل للخمر المعتقة : خمر عتيق ، كما قال الشاعر :

وكأنّ الخمر العتيق من الإسفنط ممزوجة بماء زلال

وإنّما هي معتقة. قالوا : فقوله : «عظيم» ، معناه : المعظّم الّذي يعظّمه خلقه ويهابونه ويتّقونه. قالوا : وإنّما يحتمل قول القائل : «هو عظيم» أحد معنيين : أحدهما ما وصفنا من أنّه معظّم. والآخر : أنّه عظيم في المساحة والوزن. قالوا : وفي بطلان القول بأن يكون معنى ذلك أنّه عظيم في المساحة والوزن ، صحّة القول بما قلناه.

وقال آخرون : بل تأويل قوله : (الْعَظِيمُ) هو أنّ له عظمة هي له صفة ، وقالوا : لا نصف عظمته بكيفيّة ، ولكنّا نضيف ذلك إليه من جهة الإثبات وننفي عنه أن يكون ذلك على معنى مشابهة العظم المعروف من العباد ، لأنّ ذلك تشبيه له بخلقه ، وليس كذلك. وأنكر هؤلاء ما قاله أهل المقالة الّتي قدّمنا ذكرها ، وقالوا : لو كان معنى ذلك أنّه معظّم ، لوجب أن يكون قد كان غير عظيم قبل أن يخلق الخلق ، وأن يبطل معنى ذلك عند فناء الخلق ، لأنّه لا معظّم له في هذه الأحوال.

وقال آخرون : بل قوله : إنّه العظيم ، وصف منه نفسه بالعظم ، وقالوا : كلّ ما دونه من خلقه فبمعنى الصغر ، لصغرهم عن عظمته (١).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٠.

٢٧٠

قال تعالى :

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))

وبعد أن تمّ الكلام عن التصوّر الإيماني ، في أدقّ جوانبها ، وبيان صفة الله وعلاقة الخلق به ، بذلك البيان الواضح المنير ، ينتقل الكلام إلى إيضاح طريق المؤمنين ، وهم يحملون هذا التصوّر ، ويقومون بهذه الدعوة ، وينهضون بواجب القيادة البشريّة التائهة في غياهب الضلال.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

إنّ قضيّة العقيدة والإيمان ، كما جاء بها هذا الدين الحنيف ، قضيّة اقتناع بعد البيان والإدراك ، وليست قضيّة إكراه وقهر وإجبار. إذ (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ)

فقد جاء هذا الدين ليخاطب الإدراك البشري بكلّ قواه وطاقاته ، يخاطب العقل المفكّر ، والبداهة الناطقة ، ويخاطب الوجدان المنفعل ، كما يخاطب الفطرة المستكنّة. يخاطب الكيان البشري بكلّ جوانبه ، في غير قهر ولا إجبار ، بل في وضح من البرهان ، اللّائح الساطع البيان.

بل لا يواجهه حتّى بالخوارق المادّيّة الّتي قد تلجىء مشاهدها إلجاء إلى الإذعان (١) ، ولكن وعيه لا يتدبّرها وإدراكه لا يتعقّلها ، لأنّها فوق الوعي والإدراك.

وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحسّ البشري بالخارقة المادّيّة القاهرة ، فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوّة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع.

__________________

(١) إشارة إلى حادث نتوق الجبل ـ حسبما فسّره بعضهم ـ لغرض إلجاء بني إسرائيل إلى الإذعان بشرائع الدين! لكنّا قد فنّدنا هذا الرأي : (التمهيد ٧ : ٩٠ ـ ٩٤).

٢٧١

وفي هذا المبدأ بالذات يتجلّى تكريم الله للإنسان ، واحترام إرادته وفكره ومشاعره ، وترك أمره لنفسه فيما يختصّ بالهدى والضلال في الاعتقاد ، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه. وهذه هي أخصّ خصائص التحرّر الإنساني. التحرّر الّذي تنكّره على الإنسان ـ في القرن العشرين ـ مذاهب معتسفة ونظم مذلّلة ، لا تسمح لهذا الكائن الّذي كرّمه الله ـ باختياره لعقيدته ـ أن ينطوي ضميره على تصوّر للحياة غير ما تمليه عليه السلطة الحاكمة (١).

إنّ حرّية الاعتقاد هي أوّل حقوق الإنسان الّتي يثبت له بها وصف «إنسان». فالّذي يسلب إنسانا حرّيّته في الاعتقاد ، إنّما يسلبه إنسانيّته الّتي فطره الله عليها. لكن ليس معنى حرّيّته في اعتناق عقيدة ، حرّيّته في الدعوة ـ إذا كانت دلائل الضلال عليها لائحة ـ أو حرّيّته في التلاعب بعقائد الآخرين ، أو إيجاد التشويش والبلبلة والإخلال بالنظام ، الأمر الّذي كان يعمله المرجفون ولا يزال ، في الأوساط المؤمنة الآمنة المطمئنّة.

الدين في ذاته يتأبّى الإكراه عليه

لا شكّ أنّ الدين ، بما أنّه إيمان وعقيدة ، فإنّه يستدعي أن يكون الباعث له قدرة بيان ووضوح برهان. وفي جوّ هادىء فاره وديع ، لا إكراه فيه ولا إرعاب. إنّه اقتناع نفسيّ وعقد قلبيّ ، لا بدّ له من قوّة دليل الإقناع ، وفي ظلّ من التفاهم الحرّ النزيه ، لا يعكر صفوه تشويش خاطر ولا بلبلة فكر.

ومن ثمّ فليس من طبيعة الدين ، إمكان الإكراه عليه.

هذا شيء ينفيه القرآن وأن لا إكراه في الدين ، إذ قد تبيّن للناس في فطرهم طريق الرشد وطريق الغيّ : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)(٢) قد علم كلّ مشربه ، الأمر الّذي لاح به الدين في وضح النهار وليس في ستار من الظلام.

وهذه خصيصة الدين وميزة شريعة السماء ، تتوافق مع الفطرة وتتلائم مع منهج العقل الرشيد : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) ، و (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)(٣). وإن كان أصحاب الشغب الزائفون يحاولون إنكاره ، فحسبوا من الدين أفيون الشعوب!!

__________________

(١) إشارة إلى الماركسيسيّة وضغطها على الشعوب حيث حلّت وارتحلت. (في ظلال القرآن ١ : ٤٢٥).

(٢) الشمس ٩١ : ٧ ـ ٨.

(٣) الروم ٣٠ : ٣٠.

٢٧٢

قال الفخر الرازي : في تأويل هذه الآية وجوه ، أحدها ـ وهو قول أبي مسلم والقفّال ، وهو الأليق بأصول المعتزلة ـ : معناه أنّه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، وإنّما بناه على التمكّن والاختيار.

قال : احتجّ القفّال على أنّ هذا هو المراد ، بأنّه تعالى لمّا بيّن دلائل التوحيد بيانا شافيا قاطعا للعذر ، قال بعد ذلك : إنّه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل ، للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلّا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه ، وذلك ممّا لا يجوز في دار الدنيا ، الّتي هي دار الابتلاء ؛ إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان.

قال : ونظير هذا قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)(١). وكذا قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(٢). وقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)(٣).

قال : وممّا يؤكّد هذا القول أنّه تعالى قال ـ بعد هذه الآية (آية نفي الإكراه) ـ : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ). يعني ظهرت الدلائل ووضحت البيّنات ، ولم يبق بعدها إلّا طريق القسر والإلجاء والإكراه ، وذلك غير جائز ، لأنّه ينافي التكليف (٤).

***

وقال أبو عليّ الطبرسيّ : في الآية عدّة أقوال : أحدها ، أنّه في أهل الكتاب خاصّة ، حيث يؤخذ منهم الجزية. عن الحسن وقتادة والضحّاك.

وثانيها : أنّه في جميع الكفّار ، ثمّ نسخ. عن السدّي وغيره.

وثالثها : أنّ المراد : لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب : أنّه دخل مكرها ، لأنّه إذا رضي بعد الحرب وصحّ إسلامه فليس بمكره. عن الزجّاج.

ورابعها : أنّها نزلت في قوم خاصّ من الأنصار ، حسبما جاء في أسباب النزول. عن ابن عبّاس وغيره.

وخامسها : أنّ المراد : ليس في الدين إكراه من الله ، ولكن العبد مخيّر فيه ؛ لأنّ ما هو دين في

__________________

(١) الكهف ١٨ : ٢٩.

(٢) يونس ١٠ : ٩٩.

(٣) الشعراء ٢٦ : ٤.

(٤) التفسير الكبير ٧ : ١٤ ـ ١٥.

٢٧٣

الحقيقة هو من أفعال القلوب إذا فعل لوجه وجوبه ، فأمّا ما يكره عليه من إظهار الشهادتين فليس بدين حقيقة ، كما أنّ من أكره على كلمة الكفر لم يكن كافرا. والمراد : الدين المعروف وهو الإسلام ودين الله الّذي ارتضاه ... (١).

قال الأستاذ محمّد عبده : كان معهودا عن بعض الملل ـ لا سيّما النصارى ـ حمل الناس على الدخول في دينهم بالإكراه (٢). وهذه ألصق بالسياسة منها بالدين! لأنّ الإيمان هو أصل الدين ، وجوهره عبارة عن إذعان النفس ، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه ، وإنّما يكون بالبيان والبرهان ، ولذلك قال تعالى ـ بعد نفي الإكراه ـ : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) أي قد ظهر أنّ في هذا الدين الرشد والهدى والفلاح والسير في الجادّة على نور ، وأنّ ما خالفه من الملل والنحل ، على غيّ وضلال (٣).

وقال سيّدنا العلّامة الطباطبائي : هذه الآية تنفي أن يكون الدين إجباريّا ، ذلك أنّ الدين عبارة عن سلسلة من معارف علميّة ، تتبعها سلسلة من الأعمال الخارجيّة. ويجمعها : اعتقادات ، والاعتقادات والإيمان من الأمور القلبيّة الّتي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار ، فإنّ الإكراه إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهريّة والأفعال والحركات البدنيّة المادّيّة ، وأمّا الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبيّة من سنخ الاعتقاد والإدراك. ومن المحال أن ينتج الجهل علما ، أو تولّد المقدّمات غير العلميّة تصديقا علميّا.

فقوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ...). إن كانت قضيّة إخباريّة حاكية عن حال التكوين ، أنتج

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ١٦٣.

(٢) كانت المسيحيّة ـ آخر الديانات قبل الإسلام ـ قد فرضت فرضا بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع الّتي زاولتها الدولة الرومانيّة ، بمجرّد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحيّة ، بنفس الوحشة والقسوة الّتي زاولتها الدولة الرومانيّة من قبل ضدّ المسيحيّبن القلائل من رعاياها الّذين اعتنقوا المسيحيّة اقتناعا وحبّا! ولم تقتصر وسائل القمع والقهر على الّذين لم يدخلوا في المسيحيّة ، بل إنّها ظلّت تتناول في ضراوة المسيحيّين أنفسهم الّذين لم يدخلوا في مذهب الدولة ، وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح! فقد جاء الإسلام عقب ذلك ، جاء ليعلن ـ في أوّل ما يعلن ـ هذا المبدأ العظيم الكبير : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ). فياله من مبدء فخيم. (في ظلال القرآن ١ : ٤٢٥).

(٣) المنار ٣ : ٣٧.

٢٧٤

حكما شرعيّا بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد.

وإن كان حكما إنشائيّا تشريعيّا ، كما يشهد به ما عقّبه من قوله : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) كان نهيا من الحمل على الاعتقاد والإيمان كرها ، وهو نهي متّك على حقيقة تكوينيّة ، وهي الّتي مرّ بيانها : أنّ الإكراه إنّما يؤثّر بشأن الأفعال الخارجيّة لا المعتقدات القلبيّة (١).

***

وبعد فالإسلام هو أرقى تصوّر للوجود وللحياة ، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء ، هو الّذي ينادي بأن لا إكراه في الدين ، وهو الّذي يفرض على معتنقيه أن يدعو الناس على اختيارهم فلا يكرهوا أحدا على قبول الدين ، حيث الدين ـ بطبيعته الذاتيّة ـ يرفض إمكان الإكراه عليه.

ثمّ إنّه لا يزيد السياق على أن يلمس الضمير البشري لمسة توقظه ، وتشوّقه إلى اختيار الهدى ، وتهديه إلى الطريق ، وتبيّن حقيقة الإيمان الّتي أعلن أنّها أصبحت واضحة ، وهو يقول : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).

فالإيمان هو الرشد الّذي ينبغي للإنسان أن يتوخّاه ويحرص عليه ، والكفر هو الغيّ الّذي ينبغي للإنسان أن ينفر منه ويتّقي أن يوصم به! نعم ، والأمر كذلك فعلا ، فما يتدبّر الإنسان نعمة الإيمان ، وما تمنحه للإدراك البشري من تصوّر ناصع واضح ، وما تمنحه للقلب البشري من طمأنينة وسلام ، وما تثيره في النفس البشريّة من اهتمامات رفيعة ومشاعر نظيفة ، وما تحقّقه في المجتمع الإنساني من نظام سليم قويم دافع إلى تنمية الحياة وترقيتها ، ما يتدبّر الإنسان نعمة الإيمان على هذا النحو ، حتّى يجد فيها الرشد الّذي يتقبّله كلّ ذي قلب سليم ، ولا يرفضه إلّا سفيه ، يترك الرشد إلى الغيّ ، ويدع الهدى إلى الضلال ، ويؤثر التخبّط والقلق والهبوط والضآلة ، على الطمأنينة والسّلام والرفعة والاستعلاء!

مشروعية الجهاد في الإسلام

وإذ كان أمر الدين ، إنّما يستقيم على البرهان والاستدلال ، ولا ينفع أيّ إرهاب أو إرعاب ، فما موضع قتال أهل الكفر في الإسلام؟ : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)(٢). (وَقاتِلُوا

__________________

(١) الميزان ٢ : ٣٦٠ ـ ٣٦١.

(٢) التوبة ٩ : ١٢.

٢٧٥

الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)(١). (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ ...)(٢). (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ)(٣). (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٤). إلى غيرها من آيات تنمّ عن مشروعيّة قتال الكفّار ، ولا سيّما المشركين ، حتّى يستسلموا أو ينفوا من الأرض؟!

الأمر الّذي استمسك به بعضهم على نسبة الإسلام إلى العنف وإكراه الناس على قبول الإسلام ، وإلّا كان السيف محتكما فيهم. كان يعرض على الناس والقوّة عن يمينه ؛ فمن قبله نجا ، ومن رفضه حكم فيه السيف حكمه (٥).

فهل لا يتنافى ذلك والمبدأ القائل : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)؟!

لكنّا ذكرنا في غير موضع ، أنّ الجهاد في الإسلام دفاع عن كرامة الإنسان ، وكسر لشوكة الطاغوت الحائلة دون بثّ العدل على بسيطة الأرض.

الجهاد في الإسلام محاولة لإعادة كرامة الإنسان المغصوبة من قبل الطغاة العتاة ، وليتحرّر الإنسان من براثن أهل الشقاق والنفاق ، فيستعيد حرّيّته في الاختيار والاهتداء إلى سبيل الرشاد.

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ...)(٦).

على أنّ آيات القتال مغيّاة بغاية رفع الفتنة وقطع جذور الفساد في الأرض ، (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)(٧).

هذه الآية تكرّرت في سورتي البقرة والأنفال ، تأكيدا على أنّ القتال إنّما هو لرفع الفساد من

__________________

(١) التوبة ٩ : ٣٦.

(٢) التوبة ٩ : ٢٩.

(٣) التوبة ٩ : ١٤.

(٤) التوبة ٩ : ٧٣.

(٥) المنار ٣ : ٣٦.

(٦) الأعراف ٧ : ١٥٧.

(٧) الأنفال ٨ : ٣٩ ، البقرة ٢ : ١٩٣. وفيها : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

٢٧٦

الأرض ، والضرب على أيدي المناوئين المناوشين ممّن تعرّضوا للاعتداء على المؤمنين حتّى يردّوهم عن دينهم. (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)(١)(وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا ...)(٢). (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(٣). (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ...)(٤).

إذن فالقتال مع أئمّة الكفر ، دفاع عن حقّ مهضوم ، وليست مبادأة قتال لا موجب له ، بل وصريح القرآن عدم مشروعيّة قتال الودعاء : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً)(٥). (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً)(٦).

بل قد أبيح للمؤمنين مراودة أهل الوداعة من الكفّار وموالاتهم. (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ...)(٧). (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ...)(٨).

نعم (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ...)(٩).

بل وإنّ الإسلام دين السّلام والوفق والوئام : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ...)(١٠). (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ)(١١).

__________________

(١) التوبة ٩ : ٣٦.

(٢) البقرة ٢ : ٢١٧.

(٣) الحجّ ٢٢ : ٣٩ ـ ٤٠.

(٤) البقرة ٢ : ١٩٠.

(٥) النساء ٤ : ٩٠.

(٦) النساء ٤ : ٩١.

(٧) الممتحنة ٦٠ : ٨ ـ ٩.

(٨) الأنفال ٨ : ٦١.

(٩) الأنفال ٨ : ٦٢.

(١٠) البقرة ٢ : ٢٠٨.

(١١) محمّد ٤٧ : ٣٥.

٢٧٧

هذا هو منطق القرآن بشأن مشروعيّة الجهاد ، في سبيل الدفاع عن كرامة الإنسان ، والدفاع عن حرّيّته ، والدفاع عن عقيدته والدفاع عن حقوقه المهضومة ، الّتي اغتصبها أصحاب الاستكبار والاستثمار ، أصحاب الاستعمار والاستغلال ، أصحاب استضعاف الشعوب واستئصالهم.

هذا هو شأن الجهاد في الإسلام دفاعا عن كيان الإنسان ذاته.

جاهد الإسلام ليدفع عن المؤمنين الأذى والفتنة الّتي كانوا يسامونها ، وليكفل لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم ، وقرّر ذلك المبدأ العظيم : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ).

جاهد الإسلام لتقرير حرّيّة الدعوة ـ بعد تقرير حرّيّة العقيدة ، فقد جاء الإسلام بأكمل تصوّر للوجود وللحياة ، وبأرقى نظام لتطوير الحياة. جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشريّة كلّها ، يبلّغه إلى أسماعها وإلى قلوبها. فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر ، ولا إكراه في الدين. ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافّة ، كما جاء من عند الله للناس كافّة. وأن تزول الحواجز الّتي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضمّوا إلى موكب الهدى إذا أرادوا.

ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصدّ الناس عن الاستماع إلى الهدى وتفتن المهتدين أيضا. فجاهد الإسلام ليحطّم هذه النظم الطاغية ، وليقيم مكانها نظاما عادلا يكفل حرّيّة الدعوة إلى الحقّ في كلّ مكان وحرّيّة الدعاة. وما يزال هذا الهدف قائما ، وما يزال الجهاد مفروضا على المسلمين ليبلّغوه إن كانوا مسلمين!

جاهد الإسلام ليقيم في الأرض نظامه الخاصّ ويقرّره ويحميه. وهو وحده النظام الّذي يحقّق حرّيّة الإنسان تجاه أخيه الإنسان ، حينما يقرّر أنّ هناك عبوديّة واحدة لله الكبير المتعال ، ويلغي من الأرض عبوديّة البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها!

جاهد الإسلام ليقيم هذا النظام الرفيع في الأرض ويقرّره ويحميه. وكان من حقّه أن يجاهد ليحطّم النظم الباغية الّتي تقوم على عبوديّة البشر للبشر!

وما يزال هذا الجهاد لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضا على المسلمين (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)(١).

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٣٩.

٢٧٨

لم يحمل الإسلام السيف إذن ليكره الناس على اقتناعهم عقيدة ، ولم ينتشر بالسيف على هذا المعنى ، كما يريد بعض أعدائه أن يتّهموه ، إنّما جاهد ليقيم نظاما آمنا يأمن في ظلّه أصحاب العقائد جميعا ، ويعيشون في إطاره خاضعين له وإن لم يعتنقوا عقيدته.

وكانت قوّة الإسلام ضروريّة لوجوده وانتشاره وإمكان بقائه واستمراره ، ليطمئنّ أهله على عقيدتهم واطمئنان من يريدون اعتناقه على أنفسهم ، وإقامة هذا النظام الصالح وحمايته. ولم يكن الجهاد أداة قليلة الأهمّيّة ، ولا معدومة الضرورة في حاضره ومستقبله ، كما يريد أخبث أعدائه أن يوحوا للمسلمين.

لا بدّ للإسلام من نظام ، ولا بدّ للإسلام من قوّة ، ولا بدّ للإسلام من جهاد. فهذه طبيعته الّتي لا يقوم بدونها إسلام يعيش ويقود.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ، نعم ، ولكن : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ)(١).

وهذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام. وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم ، وحقيقة تاريخهم ، فلا يقفوا بدينهم موقف المتّهم الّذي يحاول الدفاع ، إنّما يقفون به دائما موقف المطمئنّ الواثق المستعلي على تصوّرات الأرض جميعا ، وعلى نظم الأرض جميعا ، وعلى مذاهب الأرض جميعا (٢). (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٣). بل (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ)(٤).

***

وإليك ما ورد بشأن نزول الآية ، ينبؤك عن رصانة هذا المبدأ الإسلامي العريق :

[٢ / ٧٤٩٠] روي عن ابن عبّاس ـ بشأن نزول الآية ـ أنّ رجلا من الأنصار يقال له : الحصين ، من بني سالم بن عوف ، تنصّر ابنان له وذهبا إلى الشام قبل ظهور الإسلام. فجاءا في نفر من النصارى

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٦٠.

(٢) في ظلال القرآن ١ : ٤٢٩ ـ ٤٣٣. (اقتباس). وراجع : السّلام العالمى في الإسلام ـ لسيّد قطب. وكتاب الجهاد لأبي عليّ المودوديّ وغيرهما من أعلام.

(٣) آل عمران ٣ : ١٣٩.

(٤) محمّد ٤٧ : ٣٥.

٢٧٩

يحملون طعاما وزيتا ، فلمّا باعوا وأرادوا الرجوع ، عمد أبوهما إلى ولديه يحاول دخولهما في الإسلام ، ولكنّهما أبيا أن يسلما ، فجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستفتيه في إكراههما على الإسلام وقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيدخل بعضي النار؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعهما ، وتلا : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ...)(١).

[٢ / ٧٤٩١] وروي عنه أيضا قال : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة ـ والمقلاة من النساء : الّتي لا يعيش لها ولد ـ لا يكاد يعيش لها ولد ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده ، فلمّا أجليت بنو النضير ، وكان فيهم عدد من أبناء الأنصار ، قالت الأنصار : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبناؤنا وإخواننا فيهم؟! فسكت عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) فكانت الفصل بينهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد خيّر أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منهم ، وإن اختاروهم فهم منهم» فلحق بهم من بقي على اليهوديّة وأجلوا معهم ، وبقي من أسلم. وفي رواية : قال : «من شاء أن يقيم أقام ، ومن شاء أن يذهب ذهب» (٢).

[٢ / ٧٤٩٢] وكذا روي عن مجاهد قال : كانت بنو النضير وبنو قريظة أرضعت ناسا من أبناء الأنصار ، فكانوا على دينهم ، فلمّا جاء الإسلام أراد أهلوهم أن يكرهوهم على الإسلام ، فمنعتهم الآية ، فخلّوا سبيلهم (٣).

***

قال الشيخ محمّد عبده : هذا هو حكم الدين الّذي يزعم الكثير من أعدائه ـ وفيهم من يظنّ أنّه من أوليائه ـ أنّه قام بالسيف والقوّة ، فكان يعرض على الناس ، والقوّة عن يمينه ، فمن قبله نجا ومن رفضه حكم فيه السيف حكمه.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٢ ـ ٢٣ / ٤٥٣٩ و ٤٥٤١ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٣٤ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٤١٣ ؛ البغوي ١ : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ / ٢٩٩.

(٢) الطبري ٣ : ٢١ / ٤٥٣٦ و ٢٢ / ٤٥٣٨ و ٢٣ / ٤٥٤٠ ـ ٤٥٤٤ ، الثعلبي ٢ : ٢٣٤ ؛ البغوي ١ : ٣٤٩ / ٢٩٧ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٤١٤ ؛ سنن سعيد ٣ : ٩٥٦ ـ ٩٥٨ / ٤٢٧ ؛ البيهقي ٩ : ١٨٦ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٣ / ٢٦٠٩ ؛ مجمع البيان ٢ : ١٦٢ ـ ١٦٣ ؛ أبو داوود ١ : ٦٠٦ / ٢٦٨٢ ، باب ١٢٦ ؛ النسائي ٦ : ٣٠٤ ـ ٣٠٥ / ١١٠٤٩.

(٣) الطبري ٢ : ٢٣ / ٤٢٤٥. و ٢٣ / ٤٥٤٣ ، و ٢٤ / ٤٥٤٦ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٣٥ ؛ البغوي ١ : ٣٤٩ ؛ أسباب النزول للواحدي : ٥٣ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٤١٣ ؛ سنن سعيد ٣ : ٩٦٠ / ٤٢٩ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٩٣ / ٢٦١١.

٢٨٠