التفسير الأثري الجامع - ج ٦

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-07-4
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٥٩

شابّ ذو هيبة ووقار ، ولم يكن في بني إسرائيل شابّ أحسن منه ، كان أطول رجل في الشعب ، كان أشمخ رأسا من كتفه فما فوق ، ومن ثمّ سمّاه القرآن «طالوت» حيث شهرته بالطول في قومه ويعرف بهذا الوصف.

ثمّ إنّ صموئيل ابتهج به وقرّبه وهمس إليه بما ينويه ، ليجعله ملكا على بني إسرائيل ، فاستغرب شاول من هذا الاقتراح وقال : أنا بنيامينيّ من أصغر أسباط إسرائيل وعشيرتي أصغر كلّ العشائر ، فلماذا تكلّمني بمثل هذا الكلام!

فأخذ صموئيل بيد شاول (طالوت) وذهب به إلى مجتمع القوم ـ وكان يوم قربان ـ وعرّفه القوم ، ومسحه رئيسا على إسرائيل ، إذ صبّ على رأسه زيتا وقبّله ، وبذلك تمّت مراسم التعرفة بسلام. وذلك سنة ١٠٩٥ قبل الميلاد.

وفي الأصحاح العاشر : فأخذ صموئيل قنّينة الدهن وصبّ على رأس شاول وقبّله وقال له : إنّ الله اختارك رئيسا على بني إسرائيل ، فاشدد عزمك ، وتوكّل على الله ، وهكذا تقبّله جميع الشعب.

غير أنّ بني بلّيعال قالوا : كيف يملكنا هذا ويخلّصنا من شرّ الأعداء وهو فلّاح من بيت حقير ، فاحتقروه ولم يأبهوا به.

قوله تعالى : (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ)

ذلك أنّ الله فتح عليه بالحكمة وتنبّأ نبوءات كثيرة تدلّك على عمق تفكيره وغرازة فهمه في الكشف عن حقائق الأمور ، ومن ثمّ رضيت به بعض بني إسرائيل وأباه بعضهم وهم بنو بلّيعال حيث احتقروه لوضاعته واحتقار بيته. إذ كانوا يتوقّعون أنّ ملكهم سوف يكون من كبرائهم من ذوي الشوكة والمهابة والمال.

قال بعضهم : والسرّ في اختيار نبيّهم صموئيل ، شاول ملكا ، أنّه أراد أن تبقى لهم حالتهم الشوريّة بقدر الإمكان ، فجعل ملكهم من عامّتّهم لا من سادتهم ، فيستغلّ القدرة ويرسخ قدمه ويستعبد قومه.

أمّا إذا اختير الملك من العامّة فإنّه لا يزال يتوقّع الخلع ، إن هو سار على غير منهج العدل ، كما

٢٠١

لا يزال يتعامل مع ذوي العقول من الأمّة في تبادل أفكارهم سعيا وراء رضى القوم والتشاور معهم في مهامّ الأمور.

وقوّاد بني إسرائيل وكبراؤهم لم يتفطّنوا لهذه الحكمة ، لقصر أنظارهم ، وإنّما نظروا إلى قلّة جدته ، فتوهّموا ذلك مانعا من تمليكه عليهم ، ولم يعلموا أنّ الاعتبار بالخلال النفسانيّة وأنّ الغنى غنى النفس لا وفرة المال ، وماذا تجدي وفرة المال إذا لم ينفقه في مصالح الخير. قال أبو الطيّب :

الرأي قبل شجاعة الشّجعان

هو أوّل وهي المحلّ الثاني (١)

قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ)

جاء في الأصحاح الرابع من سفر صموئيل الأوّل : أنّه لمّا انكسرت إسرائيل أمام الفلسطينيّين ، اجتمع شيوخ إسرائيل ليعرفوا السبب في انكسارهم ، فكانوا ممّا عزموا عليه أن يصطحبوا التابوت في حروبهم ، وفي ذلك يكون الظفر معهم ببركة التابوت.

وهذا التابوت ـ ويقال له : تابوت العهد ـ صندوق خشبي في طول ثلاثة أقدام وعرض قدمين وارتفاع كذلك. كانوا ـ منذ عهد موسى عليه‌السلام ـ قد أودعوا فيه آثار موسى وهارون ولوحين مكتوبا عليهما الأحكام العشرة ، كانوا يتبرّكون به ، ويقدّموه أمام رحلاتهم وكذا في حروبهم ، استنصارا به.

وكان مقرّ هذا التابوت ذلك العهد مدينة «شيلوة» (٢) فأرسلوا من يأتي به ، فأتوا به في مصاحبة ابني عالي ـ من أحفاد هارون ـ هما : حفني وفينحاس. فاحتفلوا به وضجّت إسرائيل ضجّة واحدة فرحا بنصر متوقّع ، لكنّ القدر عاكسهم ، وشدّ عليهم الفلسطينيّون شدّة عزم واحد ، فكسروهم كسرة فاضحة ، وسقط من إسرائيل في ذلك اليوم ثلاثون ألف راجل ، وأخذ التابوت وهلك ابنا عالي : حفني وفينحاس.

فأخذ الفلسطينيون التابوت وأتوا به إلى مدينتهم «أشدود» وأدخلوه إلى «بيت داجون» وأقاموه بالقرب منه.

__________________

(١) التحرير والتنوير ٢ : ٤٦٧ ـ ٤٦٨.

(٢) في شماليّ بيت إيل.

٢٠٢

لكنّهم من ذلك الوقت جعلت البلايا تنتابهم بين حين وآخر على تتابع دام وقتا طويلا. بحيث تشأموا بوجود التابوت بين أظهرهم ، فحاولوا إرجاعه إلى إسرائيل ، بغية التخلّص من شؤمه لهم.

فاجتمع كلّ أقطاب الفلسطينيّين وأجمعوا أمرهم إلى إرجاع التابوت ، قبل أن يميتهم جميعا (١).

وكانت مدّة بقاء التابوت في بلاد الفلسطينيّين سبعة أشهر. فدعا الفلسطينيّون الكهنة والعرّافين واستشاروهم في الأمر وكيف يرجعون التابوت؟ فأشاروا عليهم ـ بإلهام من الله ـ بأن يرجعوا إليهم التابوت في تبجيل واحترام ، ويرافقوه بهدايا وقرابين لإله بني إسرائيل ؛ قالوا : وأعطوا إله إسرائيل مجدا لعلّه يخفّف يده عنكم وعن آلهتكم وعن أرضكم ، ولا تغلظوا كما غلظ المصريّون وفرعون ، أليس على ما فعل بهم أطلقوهم فذهبوا؟! (٢).

فصنعوا عجلة وجعلوا التابوت على العجلة ، وإلى جنبه أمتعة الذهب ، فداء لما ارتكبوه من إثم.

وأخذوا بقرتين مرضعتين وربطوهما إلى العجلة ، وحبسوا ولديهما عندهم. وأرسلوهما في طريق «بيت شمس» فجعلتا تسيران في سكّة واحدة وتجأران من غير أن تميلا يمينا وشمالا ، وأقطاب الفلسطينيّين يسيرون وراءهما ، حتّى نهاية المسير.

فأتت العجلة إلى حقل «يهوشع» ووقفت هناك. فجاء أهل البلد وأخذوا الصندوق الّذي فيه أمتعة الذهب ، وأصعدوا محرقات وذبحوا ذبائح في ذلك اليوم. ولمّا رأى أقطاب الفلسطينيّين ذلك ، رجعوا من يومهم.

قلت : كلّ ذلك ليدلّ على أنّ عود التابوت إلى إسرائيل لم يكن عن تدبير منهم ولا من غيرهم ، وإنّما هو صنيع الملائكة (القوى النافذة لتمشية إرادة الله في هذا الكون) إذ قذف في قلوبهم (الفلسطينيّين) الرعب وألجأهم إلى عودة التابوت ، عودة رغم أنفهم وفي احتفال وحفاوة ومهرجان.

وهذا معنى قوله تعالى : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) آية ملك طالوت وأنّه من فضله تعالى واصطفائه بالذات (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) من غير أن يكون لكم يد في عودته (فِيهِ سَكِينَةٌ) ما يسكن إليه قلوبكم

__________________

(١) الأصحاح الخامس من سفر صموئيل الأوّل : ١١ ـ ١٢.

(٢) الأصحاح السادس : ٦ ـ ٧.

٢٠٣

وتطمئنّ بعنايته تعالى (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) آثارهما المتبرّك بها (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) القدرة الإلهيّة الكامنة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بمواضع قدرته تعالى وعنايته بعباده المؤمنين.

وبذلك أراد صموئيل أن يتحدّاهم بمعجزة تدلّ على أنّ الله تعالى هو الّذي اختار لهم شاول ملكا ، لمكان مهابته وسطوته في العلم والجسم. فجعل لهم عودة التابوت بتلك الصورة العجيبة غير المترقّبة آية لهم. فقد أرجع إليهم التابوت ـ بعد سبعة أشهر ـ بيسر وسهولة من غير قتال ولا جدال.

نعم هنا قد يبدو تخالفا بين القرآن ونصّ التوراة ، حيث ظاهر التعبير في القرآن : أنّ عودة التابوت كانت بعد تمليك شاول. على خلاف ظاهر سفر صموئيل : أنّه كان قبل تمليكه.

ويجوز أن يكون سرد القصّة في السفر جاء على غير ترتيبها في الذكر ، وهو كثير في كتابهم. وكثير من أحداث تذكرها التوراة ، لتدلّ على أنّها أحداث وقعت قريبة بعضها مع البعض ، وأمّا أنّها على ترتيب وقوعها فلا ، الأمر الّذي لا يخفى على المراجع.

والحمل في قوله تعالى : (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) بمعنى الترحيل ، كما في قوله تعالى : (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ)(١) أي ما أساعدكم على الرحيل ، لأنّ الراحلة تحمل راكبها ، ولذلك تسمّى حمولة.

فمعنى حمل الملائكة التابوت هو تسييرهم بإذن الله البقرتين السائرتين بالعجلة الّتي عليها التابوت إلى محلّة بني إسرائيل ، سيرا بلا وقفة في اتّجاه مستقيم. من غير أن يسبق لهما إلف بالسير إلى تلك الجهة. وما ذلك إلّا بعناية من الله ولطفه بعباده في تيسير الأمور.

فقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إشاره إلى جميع الأحوال والأوضاع الّتي مرّت خلال عودة التابوت ، بلا تعب ولا قتال. وفيما يشتمل عليه التابوت من أسباب السكينة والبركات ، وفي مجيئه من غير سائق ولا إلف سابق ، إنّ كلّ ذلك لدليل على أنّ هناك يدا وراء الحادث ، خارج إرادة الناس ، حيث شاء الله.

__________________

(١) التوبة ٩ : ٩٢.

٢٠٤

قوله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ)

وبعد أن عزم طالوت على مجاهدة العدوّ ، وأخذ بجنوده في المسير إليهم ، أراد أن يختبر جنوده ، الصادقين منهم الثابتين على اليقين وعلى العهد معه ومثابرتهم أمام الصدمات والشدائد الّتي كانت تنتظرهم ، فاقترح أن يمنعهم من شرب الماء من نهر الأردن وهم على ضافّته ، شربا نهما ، إلّا من اغترف غرفة بيده ، لكنّ الأكثر أبوا إلّا الشرب الوافي ، وبذلك بدأ ضعف قدرتهم الإيمانيّة.

قالوا : إنّ طالوت لمّا علم أنّه سائر بهم إلى عدوّ كثير العدد وقويّ العهد ، أراد أن يختبر قوّة يقينهم في نصرة الدين ، ومخاطرتهم بأنفسهم وتحمّلهم المتاعب ، وعزيمة معاكستهم نفوسهم ، فقال لهم : إنّكم ستمرّون على نهر ـ وهو نهر الأردن ـ فلا تشربوا منه ، فمن شرب فليس منّي. ورخّص لهم في غرفة يغترفها الواحد بيده يبلّ بها ريقه. وهذا غاية ما يختبر به طاعة الجيش ، فإنّ السير في الحرب يعطش الجيش ، فإذا وردوا الماء توافرت دواعيهم إلى الشرب منه عطشا وشهوة.

ويحتمل أنّه أراد إبقاء نشاطهم ؛ لأنّ المحارب إذا شرب ماء كثيرا بعد التعب ، انحلّت عراه ومال إلى الراحة ، وأثقله الماء. والعرب تعرف ذلك ، قال طفيل يذكر خيلهم :

فلمّا شارفت أعلام طيّ

وطيّ في المغار وفي الشعاب

سقيناهنّ من سهل الأداوي

فمصطبح على عجل وآبي

يريد : أنّ الجلد الّذي مارس الحرب مرارا لا يشرب ؛ لأنّه لا يسأم من الركض والجهد ، فإذا كان حاجزا كان أخفّ له وأسرع.

والغرّ (١) منهم يشرب ، لجهله لما يراد منه ، ولأجل هذا رخّص لهم في اغتراف غرفة واحدة.

قوله : (فَلَيْسَ مِنِّي) أي ليس ممّن تبعني عن صدق وإيمان.

قوله : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ...) أي لم يذقه ، هو من الطّعم ـ بفتح الطاء ـ وهو الذوق حيث أريد اختبار المطعوم ، ملوحته أو حلاوته ، ثمّ توسّع فيه فأطلق على اختبار المشروب ، كما قال الحارث بن خالد المخزومي (٢) :

__________________

(١) الغرّ : الشابّ لا خبرة له.

(٢) هو شاعر جاهليّ قتل يوم بدر.

٢٠٥

فإن شئت حرّمت النساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا (١)

والنّقاخ : الماء الصافي.

ووجه تقييده بيده ، تنبيها على هذا المقدار من الذوق القليل.

هذا ؛ وقد دلّ قوله تعالى : (فَشَرِبُوا مِنْهُ ...) على قلّة صبرهم وضعف شكيمتهم ، وأنّهم ليسوا بأهل لمزاولة حرب عوان ، ولذلك لم يلبثوا أن صرّحوا بعد مجاوزة النهر واقترابهم من مصافّ العدوّ ، فقالوا : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ.)

وفي الآية انتقال بديع إلى ذكر جند «جالوت» والتصريح باسمه ، وهو قائد من قوّاد الفلسطينيّين ، اسمه في كتب اليهود : «جليات» كان طوله ستّة أذرع وشبرا ، وكان مسلّحا مدرّعا (٢) ، وكان لا يستطيع أن يبارزه أحد من بني إسرائيل ، فكان إذا خرج للصّفّ عرض عليهم مبارزته ، وعيّرهم بجبنهم.

ملحوظة

لم يأت ذكر النهر ـ الّذي ابتلي به بنو إسرائيل ـ في كتب اليهود. نعم جاء في الأصحاح ١٤ من سفر صموئيل : أنّه (طالوت) اختبرهم بالإمساك عن الطعام : «وضنك (٣) رجال إسرائيل في ذلك اليوم ، لأنّ شاول حلّف الشّعب قائلا : ملعون ، الرجل الّذي يأكل خبزا إلى المساء ، حتّى أنتقم من أعدائي. فلم يذق جميع الشعب خبزا.

وجاء كلّ الشعب إلى الوعر (الغابة) (٤) وكان عسل (٥) على وجه الحقل. ولمّا دخل الشعب الوعر إذا بالعسل يقطّر ، ولم يمدّ أحد يده إلى فيه ، لأنّهم خافوا من القسم. إلّا يوناثان ـ ابن شاول ـ فمدّ يده وذاق من العسل ، واستعاد قواه وعرض على القوم أن لو يذوقوا ليستعيدوا قواهم وها هو ذا غنيمة

__________________

(١) الخطاب لليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود.

(٢) راجع : صموئيل الأوّل ، الأصحاح ١٧ : ٤ ـ ٥.

(٣) ضعفوا على أثر الجياع ، حيث كان شاول قد حلّفهم أن لا يطعموا شيئا حتّى ينتقموا من أعدائهم. (الأصحاح ١٤ : ٢٤).

(٤) هكذا جاء في الترجمة الفارسية : «وتمامي قوم به جنگل رسيدند» ..

(٥) جاء في الترجمة الفارسية : «عسل فراوان ..» أي الكثير وقد يدلّ عليه التنكير في عسل.

٢٠٦

أصبناها من عدوّنا ، فما لنا لا نتقوّى به!!» (١).

والصحيح ما جاء في القرآن ، للحكمة الّتي أفدناها. أمّا النهي من أكل الطعام والإمساك طول النهار ، ولا سيّما أثناء النضال. فهذا ما يبدو غريبا يخالف منهج القتال ، حيث القتال بحاجة إلى قوّة بأس ، يتنافى مع ضعف الإمساك.

ولعلّ الأمر اشتبه على مسجّلي حروب إسرائيل آنذاك ، ولا سيّما وكان التسجيل متأخّرا عنها بمدّة قد لا تكون قصيرة!

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ)

وبعد أن جاوزوا نهر الأردن حتّى أشرفوا على ساحة القتال ورأوا كثرة العدوّ وشوكتهم ، هابوهم وخافوا الانكسار ، كما جرّبوه مرارا.

قوله : (هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ...) قيل : هم الّذين أمسكوا عن الشرب. كما يأتي الحديث عنه.

والأرجح أنّهم عامّة الجيش ، حيث تعاهدوا طالوت على الثبات معه في الحرب ، حتّى نهاية المطاف. ولكنّهم حين مواجهة شوكة العدوّ ، استرهبوهم وخافوا الفشل ، لو لا أنّ البعض ممّن امتحن الله قلوبهم ، ثبّتوهم وقالوا : النصر بيد الله ، و (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) «إن صبرت ظفرت» والأساس هو الاستقامة والثبات والاتّكال على الله ـ سبحانه ـ.

وهذا التشجيع أثّر في نفوس القوم فزادهم قوّة وثباتا في المعركة وكانت النتيجة : أن ظفروا على العدوّ وهزموهم بإذن الله.

ومن ثمّ : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا) ضارعين إلى الله : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

فاستجاب الله دعاءهم ـ حيث كان عن صدق نيّة وإخلاص وعن انقطاع إليه ـ سبحانه ـ :

(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ).

__________________

(١) الأصحاح ١٤ : ٢٤ ـ ٣١.

٢٠٧

وهذه إشارة إلى انتصار بني إسرائيل ، وهو انتصار عظيم كان به نجاحهم واستيلاؤهم على بلاد العمالقة مع قلّة عددهم تجاه الفلسطينيّين.

قال مؤرّخو اليهود : إنّ طالوت لمّا خرج لحرب الفلسطينيّين جمع جيشا فيه ثلاثة آلاف رجل ، فلمّا رأوا كثرة العدوّ حصل لهم ضنك شديد واختبأ معظم الجيش في جبل «أفرايم» في المغارات والفياض والآبار ، ولم يعبروا الأردن. ووجم طالوت واستخار صموئيل ، وخرج للقتال. فلمّا اجتاز النهر عدّ الجيش الّذي معه فلم يجد إلّا نحوا من ستّمائة رجل. ثمّ وقعت مقاتلات كان النصر فيها حليفهم. وتشجّع الّذين جبنوا واختبأوا في المغارات وغيرها ، فخرجوا وراء الفلسطينيّين وغنموا غنيمة كثيرة.

وفي تلك الأيّام ـ وربما طالت أربعين يوما ـ ظهر داوود بن يسي من نسل يهودا ، وكان راعيا لغنم أبيه ، فاجتباه ربّه وأوحى إلى صموئيل أن يبذل عنايته بشأن داوود ، وبشّره بأنّ النصر القاطع سوف يكون على يده. وأنّه سيكون ملكا على إسرائيل.

كان داوود شجاعا باسلا ، وكان من بسالته أن طارد أسدا كان هجم على غنمه فطارده حتّى أخذ بخنقه وقتله وأفلت الغنم من براثنه. وهكذا فعل بدبّ هاجم ، حتّى قتله ، الأمر الّذي يدلّ على شدّة بأسه وقوّته وصلابته في مجابهة العدوّ ، غير هائب ولا فاشل.

فصادف أن جاء إلى معسكر الإسرائيل وفيه ثلاث من إخوته الستّة ـ وكان سابعهم وأصغرهم ـ واستفسر الحال ، وعرف تخاذلهم تجاه «جالوت» الّذي كان يبرز يوميّا ويطلب المبارز ، ولم يجرأ أحد لمقابلته.

الأمر الّذي دعا بداوود أن يأخذ مقلاعه وخمسة أحجار ملس (١) جعلها في جعبته وأخذ طريقه إلى الميدان ، ولمّا رآه جالوت استهان به ، لكنّ داوود استغلّ الفرصة ورماه بمقلاعه فأصاب الحجر جبهته وأسقطه إلى الأرض ، فلمّا رأى الفلسطينيّون ذلك انهزموا لأجمعهم وزوّج شاول ابنته المسمّاة «ميكال» من داوود ، وجرت هناك بين آونة وأخرى فتن وكوارث ، وانتهت بقتل شاول

__________________

(١) جمع أملس : مستو حادّ الأطراف.

٢٠٨

وبنيه الثلاثة ، وأصبح داوود ـ بعد حين ـ ملكا على إسرائيل وأتاه الله الحكم والنبوّة وفصل الخطاب (١). (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) ممّا يمسّ شؤون النبوّة وسياسة البلاد.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)

ذيّلت هذه الآية الرهيبة ، كلّ الوقائع العجيبة الّتي أشارت إليها الآيات السالفة ، لتدفع عن السامع المتبصّر ما يخامره من تطلّب الحكمة في حدثان هذه الوقائع وأمثالها في هذه الحياة ، وليكون مضمون هذه الآية عبرة من عبر الزمان وحكمة من حكم التاريخ ، لا تزال الحوادث تتفاعل مع بعضها البعض ، وليكون الغلب في نهاية المطاف مع الحقيقة الناصعة ـ والّتي هي صلاح العباد وقوام البلاد ـ وفق مشيئة الله تعالى في تسيير هذه الحياة.

ومن هنا نرى أنّ أعيان الأشخاص والأحداث تتوارى في طيّ الزمان ، كي تبرز من خلالها ومن خلال النصّ القصير ، حكمة الله العليا في الأرض ، من اصطراع القوى وتنافس الطاقات ، وانطلاق السعي في تيّار الحياة المتدفّق الصاخب الموّار!

وهنا تنكشف على مدّ البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف تموج بالناس ، في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات ، ومن ورائها جميعا تلك اليد الحكيمة المدبّرة ، تمسك بالخيوط جميعا ، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق ، إلى الخير والصلاح والنماء ، في نهاية المطاف.

نعم كانت الحياة كلّها تأسن وتتعفّن ، لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض ، ولو لا أنّ في طبيعة هذا التدافع ، لتنطلق الطاقات كلّها ؛ تتزاحم وتتغالب وتتدافع ، فتنفض عنها الكسل والخمول ، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة ، وتظلّ أبدا يقظة عاملة ، مستنبطة لذخائر الأرض ، مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة.

__________________

(١) صموئيل الأوّل ، الأصحاح ١٧ و ١٨ ؛ صموئيل الثاني ، الأصحاح ١ و ٢.

٢٠٩

وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء ، يكون بقيام الجماعة الخيّرة المهتدية المتجرّدة ، تعرف الحقّ الّذي بيّنه الله لها ، وتعرف طريقها إليه واضحا ، وتعرف أنّها مكلّفة بدفع الباطل وإقرار الحقّ في الأرض. وتعرف أن لا نجاة لها من الذلّ والهوان ، إلّا أن تنهض بهذا الدور النبيل ، وإلّا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه.

ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر ، وذلك أنّها تمثّل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض ، وتمكين الصلاح في الحياة. إنّها تنتصر لأنّها تمثّل غاية عليا تستحقّ الانتصار.

قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)

وفي النهاية يجيء التعقيب بالاستنتاج الحاصل من ذكر قصص السالفين ، دليلا على عظيم قدرته تعالى في الخلق والتدبير ، وحكمته تعالى البالغة في تسيير الأمور.

نعم تلك الحوادث العظام ـ الّتي مرّت على الحياة البشرية. في سالف أيّامها ولا تزال تستمرّ عبر الأيّام ـ لدليل قاطع على أنّ هناك يدا وراء هذا الظاهر ، هي الّتي تسيّر الأمور ، إن خيرا وإن شرّا وفق ما يعمله الإنسان ويحاول التصرّف على ما يريد.

وفي النهاية فإنّ كلّ المحاولة تصبح فاشلة إلّا ما أراده الله من الخير والصلاح ، الأمر الّذي يتأصّل في الحياة ويدوم ويكون له البقاء والخلود.

إذن فتلك (آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) تلك الآيات العالية المقام ، البعيدة الغايات ، نتلوها عليك. فالله ـ سبحانه ـ هو الّذي يتلوها وهو أمر هائل عظيم حين يتدبّر الإنسان حقيقته العميقة الرهيبة ، نتلوها عليك بالحقّ ، تحمل معها الحقّ ويتلوها من يملك حقّ تلاوتها وتنزيلها ، وجعلها دستورا للعباد. وليس هذا الحقّ لغير الله ـ سبحانه ـ. فكلّ من يسنّ للعباد منهجا غيره تعالى فقد جرأ على الله وادّعى ما لا يملكه ، مبطل لا يستحقّ أن يطاع ، فإنّما يطاع أمر الله ، وأمر من يهتدي بهدى الله ، دون سواه.

(وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ومن ثمّ نتلو عليك هذه الآيات ، ونزوّدك بتجارب البشريّة كلّها في

٢١٠

جميع أعصارها ، وتجارب الموكب الإيمانيّ كلّه في جميع مراحله ، ونورثك ميراث المرسلين أجمعين.

***

وبعد فإليك ما ورد من آثار السلف بشأن الأحداث الّتي أشارت إليها الآيات هنا :

[٢ / ٧٣١١] أخرج عبد بن حميد عن أبي عبيدة قال : كان في بني إسرائيل رجل له ضرّتان ، وكانت إحداهما تلد والأخرى لا تلد ، فاشتدّ على الّتي لا تلد ، فتطهّرت وخرجت إلى المسجد لتدعو الله ، فلقيها حكم بني إسرائيل ـ وحكّامهم : الّذين يدبّرون أمورهم ـ فقال : أين تذهبين؟ قالت : حاجة لي إلى ربّي. قال : اللهمّ اقض لها حاجتها ، فعلقت بغلام وهو الشمول (١) ، فلمّا ولدت جعلته محرّرا ، وكانوا يجعلون المحرّر إذا بلغ السعي في المسجد يخدم أهله ، فلمّا بلغ الشمول السعي دفع إلى أهل المسجد يخدم. فنودي الشمول ليلة ، فأتى الحكم فقال : دعوتني؟ قال : لا. فلمّا كانت الليلة الأخرى دعي ، فأتى الحكم فقال : دعوتني؟ فقال : لا ، وكان الحكم يعلم كيف تكون النبوّة فقال : دعيت البارحة الأولى؟ قال : نعم. قال : ودعيت البارحة؟ قال : نعم. قال : فإن دعيت الليلة فقل : لبّيك وسعديك والخير في يديك والمهدي من هديت ، أنا عبدك بين يديك ، مرني بما شئت!

فأوحي إليه ، فأتى الحكم فقال : دعيت الليلة؟ قال : نعم ، وأوحي إليّ! قال : فذكرت لك بشيء؟ قال : لا عليك أن لا تسألني! قال : ما أبيت أن تخبرني إلّا وقد ذكر لك شيء من أمري ، فألحّ عليه ، وأبى أن يدعه حتّى أخبره! فقال : قيل لي : إنّه قد حضرت هلكتك وارتشى ابنك في حكمك ، فكان لا يدبّر أمرا إلّا انتكث ، ولا يبعث جيشا إلّا هزم ، حتّى بعث جيشا وبعث معهم بالتوراة (٢) يستفتح بها فهزموا ، وأخذت التوراة فصعد المنبر وهو آسف غضبان ، فوقع فانكسرت رجله أو فخذه فمات من ذلك ، فعند ذلك قالوا لنبيّهم : ابعث لنا ملكا وهو الشمول بن حنّة العاقر! (٣).

[٢ / ٧٣١٢] وقال الطبري ـ في قوله تعالى : (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) : اختلف في ذلك النبيّ ، فقيل :

__________________

(١) السموئيل.

(٢) ولعلّه التابوت وفيه ألواح التوراة.

(٣) الدرّ ١ : ٧٥٥ ـ ٧٥٦.

٢١١

إشمويل وهو بالعربيّة إسماعيل ، عن أكثر المفسّرين ، وهو المأثور عن أبي جعفر (١).

[٢ / ٧٣١٣] وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة : (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) قال : هو الشمول بن حنّة بن العاقر (٢).

[٢ / ٧٣١٤] وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) قال : شمؤل (٣).

[٢ / ٧٣١٥] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن وهب بن منبّه قال : خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتّى قبضه الله ، ثمّ خلف فيهم كالب بن يوفنّا يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتّى قبضه الله ، ثمّ خلف فيهم حز قيل بن بوزى وهو ابن العجوز ، ثمّ إنّ الله قبض حز قيل وعظمت في بني إسرائيل الأحداث ونسوا ما كان من عهد الله إليهم حتّى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله ، فبعث إليهم إلياس بن تسي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيّا.

وإنّما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة ، وكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له إجان وكان يسمع منه ويصدّقه ، فكان إلياس يقيم له أمره ، وكان سائر بني إسرائيل قد اتّخذوا صنما يعبدونه ، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله وجعلوا لا يسمعون منه شيئا إلّا ما كان من ذلك الملك ، والملوك متفرّقة بالشام كلّ ملك له ناحية منها يأكلها ، فقال ذلك الملك لإلياس : ما أرى ما تدعو إليه إلّا باطلا ، أرى فلانا وفلانا ـ يعدّد ملوك بني إسرائيل ـ قد عبدوا الأوثان ، وهم يأكلون ويشربون ويتنعّمون ، ما ينقص من دنياهم! فاسترجع

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ١٤٠ ؛ البحار ١٣ : ٤٤١ ـ ٤٤٢ ، باب ١٩ ؛ البرهان ١ : ٥٢٤ / ٢١ ؛ نور الثقلين ١ : ٢٤٥ ؛ الصافي ١ : ٤٢٨ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣٧٩.

(٢) الدرّ ١ : ٧٥٢ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٦٢ / ٢٤٤١.

(٣) الدرّ ١ : ٧٥٢ ؛ الطبري ٢ : ٨٠٧ / ٤٣٩٠ ، وفيه «شمعون» بدل قوله «شمؤل» ؛ ابن كثير ١ : ٣٠٧ ، وفيه «شمويل» بدل قوله «شمؤل» ؛ البغوي ١ : ٣٣١ ، بلفظ : قال مجاهد : هو إشمويل ، وهو بالعبرانيّة إسماعيل بن هلقايا ؛ الثعلبي ٢ : ٢٠٨ ، بلفظ : قال سائر المفسّرين : هو إشمؤيل ، وهو بالعربيّة إسماعيل بن نالي بن علقمة بن حازم بن تهو بن عرصوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عرزيا ... قال مجاهد : هو إسمويل بن هلفانا ولم ينسبه أكثر من ذلك ؛ مجمع البيان ٢ : ١٤٠ ، عن أكثر المفسّرين وهو المأثور عن أبي جعفر ، بلفظ : قيل : هو إشمويل ـ وهو بالعربيّة «إسماعيل» ؛ التبيان ٢ : ٢٨٨ ، عن وهب وهو المأثور عن أبي جعفر ، بلفظ : هو شمويل ؛ أبو الفتوح ٣ : ٣٤٩.

٢١٢

إلياس وقام شعره ، ثمّ رفضه وخرج من عنده ، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه وعبد الأوثان.

ثمّ خلف من بعده فيهم اليسع ، فكان فيهم ما شاء الله أن يكون ، ثمّ قبضه الله إليه وخلفت فيهم الخلوف وعظمت فيهم الخطايا وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر ، فيه السكينة وبقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون ، وكان لا يلقاهم عدوّ فيقدّمون التابوت ويرجعون به معهم إلّا هزم الله ذلك العدوّ ، فلمّا عظمت أحداثهم وتركوا عهد الله إليهم ، نزل بهم عدوّ فخرجوا إليه وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه ، ثمّ زحفوا به فقوتلوا حتّى استلب من أيديهم ، فمرج أمرهم عليهم ووطأهم عدوّهم حتّى أصاب من أبنائهم ونسائهم ، وفيهم نبيّ لهم يقال له شمويل (١) ، وهو الّذي ذكره الله في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ...) فكلّموه وقالوا : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

وإنّما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك وطاعة الملوك أنبياءهم (٢) ، وكان الملك هو يسير بالجموع والنبيّ يقوم له بأمره ويأتيه بالخبر من ربّه ، فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم ، فإذا عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم ، فكانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر الرسل ، ففريقا يكذّبون فلا يقبلون منه شيئا وفريقا يقتلون ، فلم يزل ذلك البلاء بهم حتّى قالوا له : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) فقال لهم : إنّه ليس عندكم وفاء ، ولا صدق ، ولا رغبة في الجهاد.

فقالوا : إنّا كنّا نهاب الجهاد ونزهد فيه ، إنّا كنّا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد فلا يظهر علينا عدوّ ، فأمّا إذا بلغ ذلك فإنّه لا بدّ من الجهاد ، فنطيع ربّنا في جهاد عدوّنا ونمنع أبناءنا ونساءنا وذرارينا.

فلمّا قالوا له ذلك سأل الله شمويل أن يبعث لهم ملكا. فقال الله له : انظر القرن الّذي فيه الدهن في بيتك ، فإذا دخل عليك رجل فنشّ الدهن الّذي في القرن ـ فهو ملك بني إسرائيل ـ فادهن رأسه منه وملّكه عليهم ، فأقام ينتظر متى ذلك الرجل داخلا عليه ، وكان طالوت رجلا دبّاغا يعمل الأدم ، وكان من سبط بنيامين بن يعقوب ، وكان سبط بنيامين سبطا لم يكن فيهم نبوّة ولا ملك ، فخرج طالوت في ابتغاء دابّة له أضلّته ومعه غلام ، فمرّا ببيت النبيّ عليه‌السلام ، فقال غلام طالوت لطالوت : لو

__________________

(١) هو سموئيل.

(٢) لم يكن لهم ملوك إلى ذلك الحين ، كما تقدّم.

٢١٣

دخلت بنا على هذا النبيّ فسألناه عن أمر دابّتنا فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير. فقال طالوت : ما بما قلت من بأس ، فدخلا عليه ، فبينما هما عنده يذكران له شأن دابّتهما ويسألانه أن يدعو لهما فيها إذ نشّ الدهن الّذي في القرن ، فقام إليه النبيّ فأخذه ، ثمّ قال لطالوت : قرّب رأسك فقرّبه ، فدهنه منه ثمّ قال : أنت ملك بني إسرائيل الّذي أمرني الله أن أملّكك عليهم ، وكان اسم طالوت بالسريانيّة (١) شاول بن قيس بن أشال بن ضرار بن يحرب بن أفيح بن أنس بن يامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فجلس عنده وقال للناس : ملك طالوت! فأتت عظماء بني إسرائيل نبيّهم فقالوا له : ما شأن طالوت تملّك علينا وليس من بيت النبوّة ولا المملكة ، وقد عرفت أنّ النبوّة والملك في آل لاوي وآل يهوذا؟! فقال لهم : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)(٢).

[٢ / ٧٣١٦] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) وذلك أنّ كفّار بني إسرائيل قهروا مؤمنيهم فقتلوهم وسبوهم وأخرجوهم من ديارهم وأبنائهم فمكثوا زمانا ليس لهم ملك يقاتل عدوّهم والعدوّ بين فلسطين ومصر (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) فقالوا لنبيّ لهم عليه‌السلام اسمه إشماويل وهو بالعربيّة إسماعيل بن هلقابا واسم أمّه حنّة وهو من نسل هارون بن عمران أخو موسى : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ) عدوّنا (فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ) لهم نبيّهم (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ) بعث الله لكم ملكا و (كُتِبَ) يعني وفرض (عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ) أي فلمّا فرض كقوله ـ سبحانه ـ : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) يعني فرض عليكم (عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) يعني على بني إسرائيل (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) يعني كره القتال العصابة الّذين وقفوا في النهر (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) يعنيهم لقولهم : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) وكان القليل أصحاب الفرقة ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد أصحاب بدر. وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر : إنّكم على عدد أصحاب طالوت (٣).

__________________

(١) سبق أنّ طالوت نعته ، حيث كان طويلا جدّا.

(٢) الدرّ ١ : ٧٥٠ ـ ٧٥٣ ؛ الطبري ٢ : ٨٠٧ ـ ٨١٥ / ٤٣٩٢ و ٤٣٩٧ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ؛ البغوي ١ : ٣٣١ ـ ٣٣٣ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٦٣ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٣٤٩ ـ ٣٥١.

(٣) تفسير مقاتل ١ : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٢١٤

[٢ / ٧٣١٧] وقال في قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) إسماعيل (إِنَّ اللهَ) عزوجل (قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ) يعني من أين يكون له الملك (عَلَيْنا) وليس طالوت من سبط النبوّة ولا من سبط الملوك وكان طالوت فيهم حقير الشأن دون (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) منّا الأنبياء والملوك وكانت النبوّة في سبط لاوي بن يعقوب والملوك في سبط يهوذا بن يعقوب (وَلَمْ يُؤْتَ) طالوت (سَعَةً مِنَ الْمالِ) أن ينفق علينا (قالَ) لهم نبيّهم إسماعيل : (إِنَّ اللهَ) عزوجل (اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) يعني اختاره كقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) يعني اختاره (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) وكان أعلم بني إسرائيل وكان طالوت من سبط بنيامين وكان جسيما عالما وكان اسمه شارل بن كيس وبالعربيّة طالوت بن قيس وسمّي طالوت لطوله (١). (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ) بعطيّة الملك (عَلِيمٌ) بمن يعطيه الملك (٢).

[٢ / ٧٣١٨] وأخرج ابن جرير عن وهب في قوله : (وَالْجِسْمِ) قال : كان فوق بني إسرائيل بمنكبيه فصاعدا (٣).

[٢ / ٧٣١٩] وقال الجبّائي : كان إذا قام الرجل ، فبسط يده رافعا لها ، نال رأسه! (٤).

[٢ / ٧٣٢٠] وأخرج ابن جرير بالإسناد إلى إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدّثني عبد الصمد بن معقل أنّه سمع وهب بن منبّه ، قال : كان لعيلي الّذي ربّي شمويل ابنان شابّان أحدثا في القربان شيئا لم يكن فيه ، كان شرط القربان الّذي كانوا يشرطونه به ، كلابين (٥) ، فما أخرجا كان للكاهن الّذي يستوطنه ، فجعل ابناه كلاليب ، وكانا إذا جاء النساء يصلّين في القدس يتشبّثان بهنّ. فبينا شمويل نائم قبل البيت الّذي كان ينام فيه عيلي ، إذ سمع صوتا يقول : أشمويل! فوثب إلى عيلي ، فقال : لبّيك ، مالك دعوتني؟ فقال : لا ، ارجع فنم. فرجع فنام. ثمّ سمع صوتا آخر يقول : أشمويل! فوثب إلى عيلي أيضا ، فقال : لبّيك ، مالك دعوتنى؟ فقال : لم أفعل ارجع فنم ، فإن سمعت شيئا فقل : لبّيك

__________________

(١) سبق أن نبّهنا أنّ طالوت كان وصفا له معروفا بالطول.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

(٣) الدرّ ١ : ٧٥٤ ؛ الطبري ٢ : ٨١٩ / ٤٤٠٩ ، بلفظ ... قال : واجتمع بنو إسرائيل ، فكان طالوت فوقهم من منكبيه فصاعدا ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٦٦ / ٢٤٦٢.

(٤) التبيان ٢ : ٢٩١ ؛ مجمع البيان ٢ : ١٤٢.

(٥) الكلاب : عروة أو حديدة عقفاء في طرف الرحل يعلّق عليها المسافر الزاد ونحوه.

٢١٥

مكانك ، مرني فأفعل. فرجع فنام فسمع صوتا أيضا يقول : أشمويل! فقال : لبّيك أنا هذا مرني أفعل. قال : انطلق إلى عيلي فقل له : منعه حبّ الولد أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي وقرباني وأن يعصياني ، فلأنز عنّ منه الكهانة ومن ولده ، ولأهلكنّه وإيّاهما ، فلمّا أصبح سأله عيلي ، فأخبره ، ففزع لذلك فزعا شديدا.

فسار إليهم عدوّ ممّن حولهم ، فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدوّ فخرجا وأخرجا معهما التابوت الّذي كان فيه اللوحان وعصا موسى ، لينصروا به. فلمّا تهيّئوا للقتال هم وعدوّهم ، جعل عيلي يتوصّد الخبر ماذا صنعوا ، فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيّه : أنّ ابنيك قد قتلا ، وأنّ الناس قد انهزموا. قال : فما فعل التابوت؟ قال : ذهب به العدوّ. قال : فشهق ووقع على قفاه من كرسيّه فمات. وذهب الّذين سبوا التابوت حتّى وضعوه في بيت آلهتهم ولهم صنم يعبدونه ، فوضعوه تحت الصنم ، والصنم من فوقه ، فأصبح من الغد والصنم تحته وهو فوق الصنم. ثمّ أخذوه فوضعوه فوقه وسمروا قدميه في التابوت ، فأصبح من الغد قد تقطّعت يدا الصنم ورجلاه ، وأصبح ملقى تحت التابوت! فقال بعضهم لبعض : قد علمتم أنّ إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء ، فأخرجوه من بيت آلهتكم ، فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم ، فأخذ أهل تلك الناحية الّتي وضعوا فيها التابوت وجع في أعناقهم ، فقالوا : ما هذا؟ فقالت لهم جارية كانت عندهم من سبي بني إسرائيل : لا تزالون ترون ما تكرهون ما كان هذا التابوت فيكم ، فأخرجوه من قريتكم! قالوا : كذبت! قالت : إنّ آية ذلك أن تأتوا ببقرتين لهما أولاد لم يوضع عليهما نير قطّ ، ثمّ تضعوا وراءهم العجلة ، ثمّ تضعوا التابوت على العجلة ، وتسيروهما ، وتحبسوا أولادهما فإنّهما تنطلقان به مذعنين ، حتّى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أرض بني إسرائيل ، كسرتا نيرهما ، وأقبلتا إلى أولادهما.

ففعلوا ذلك فلمّا خرجتا من أرضهم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل ، كسرتا نيرهما ، وأقبلتا إلى أولادهما ووضعتاه في خربة فيها حضار (١) من بني إسرائيل. ففزع إليه بنو إسرائيل وأقبلوا إليه ، فجعل لا يدنو منه أحد إلّا مات ، فقال لهم نبيّهم شمويل : اعترضوا (٢) ، فمن آنس من نفسه قوّة فليدن منه فعرضوا عليه الناس ، فلم يقدر أحد يدنو منه ، إلّا رجلان من بني إسرائيل أذن لهما

__________________

(١) أي جماعات حضور من بني إسرائيل.

(٢) أي أعرضوا أنفسكم عليه.

٢١٦

بأن يحملاه إلى بيت أمّهما ، وهي أرملة ، فكان في بيت أمّهما حتّى ملك طالوت ، فصلح أمر بني إسرائيل مع شمويل (١).

[٢ / ٧٣٢١] وأخرج ابن المنذر عن وهب أنّه سئل أنبيّ كان طالوت؟ قال : لا ، لم يأته وحي (٢).

***

[٢ / ٧٣٢٢] ومن عجيب الأمر ما أخرجه عبد الرزّاق عن قتادة : أنّ ذلك النبيّ الّذي سأله بنو إسرائيل أن يجعل لهم ملكا ، هو : يوشع بن نون (٣).

[٢ / ٧٣٢٣] وروي أنّه إرميا (٤).

[٢ / ٧٣٢٤] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) وهم مئة ألف إنسان (٥) فسار في حرّ شديد (قالَ إِنَّ اللهَ) عزوجل (مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) بين الأردن وفلسطين (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) يقول ليس معي على عدوّي ، كقول إبراهيم عليه‌السلام : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) يعني معي (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) فإنّه معي على عدوّي ثمّ استثنى فقال : (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) الغرفة يشرب منها الرجل وخدمه ودابّته ويملأ قربته.

ووصلوا إلى النهر من مفازة وأصابهم العطش ، فلمّا رأى الناس الماء ابتدروا فوقعوا فيه (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) والقليل ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا عدّة أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر

__________________

(١) الطبري ٢ : ٨٢٢ ـ ٨٢٣ / ٤٤١٤ ؛ البغوي ١ : ٣٣٥ ؛ الثعلبي ٢ : ٢١٤ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ؛ تاريخ الطبري ١ : ٣٣١ ـ ٣٣٢ ؛ ابن كثير ١ : ٣٠٩.

(٢) الدرّ ١ : ٧٥٤.

(٣) عبد الرزّاق ١ : ٣٥٧ / ٣٠٦ ؛ الطبري ٢ : ٨٠٧ / ٤٣٩١ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٦٣ / ٢٤٤٢ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٠٨ ؛ ابن كثير ١ : ٣٠٧ ، قال : وهذا القول بعيد ، لأنّ هذا كان بعد موسى بدهر طويل وكان في زمن داوود عليه‌السلام وكان بينه وبين موسى ما ينيف عن ألف سنة ، والله أعلم.

(٤) القمّي ١ : ٨١ ؛ البحار ١٣ : ٤٣٩ ، قال المجلسي : وهذا من كلام المصنّف ، أدخل بين الخبر. يعني : من كلام عليّ بن إبراهيم ، أدخله ضمن الحديث الّذي رواه بالإسناد إلى أبي بصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام ؛ نور الثقلين ١ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٥) لعلّه بالغ فيه وقد سبق أنّ مؤرّخي اليهود لم يزيدوا على ثلاثة آلاف جند ، اختارهم طالوت للقتال. وروى الطبري ٢ : ٨٣٥ عن السدّي أنّهم ثمانون ألفا. والطبرسي ٢ : ١٤٧ عن مقاتل : سبعون ألفا. وسيأتي عن السدّي أنّهم أربعة آلاف ؛ الطبرسي ٢ : ١٤٨ ؛ والطبري ٢ : ٨٤٠ ـ ٨٤١.

٢١٧

(فَلَمَّا جاوَزَهُ) أي جاوز النهر (هُوَ) يعني طالوت (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وكلّهم مؤمنون ، فقال العصاة الّذين وقعوا في النهر (قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) فردّ عليهم أصحاب الغرفة (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) يعني الّذين يعلمون ، كقوله ـ سبحانه ـ : (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ)(١) يعني وعلم ، وكقوله ـ عزوجل ـ : (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها)(٢). وكقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ)(٣) أي ألا يعلم. (أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) لأنّهم قد طابت أنفسهم بالموت (كَمْ مِنْ فِئَةٍ) يعني جند (قَلِيلَةٍ) عددهم (غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) عددهم (بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) يعني بني إسرائيل في النصر على عدوّهم ، فردّ طالوت العصاة وسار بأصحاب الغرفة حتّى عاينوا العدوّ (٤).

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ)

قال ابن جرير : اختلف في عدّة من جاوز النهر معه يومئذ ، ومن قال منهم : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده.

[٢ / ٧٣٢٥] فعن البراء بن عازب ، قال : كنّا نتحدّث أن عدّة أصحاب بدر على عدّة أصحاب طالوت الّذين جاوزوا النهر ، ولم يجز معه إلّا مؤمن : ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا (٥).

[٢ / ٧٣٢٦] وعن قتادة ، قال : ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأصحابه يوم بدر : «أنتم بعدّة أصحاب طالوت يوم لقي» (٦).

[٢ / ٧٣٢٧] وعن الربيع ، قال : محص الله الّذين آمنوا ، عند النهر ، وكانوا ثلاثمائة وفوق العشرة دون العشرين ، فجاء داوود عليه‌السلام فأكمل به العدّة.

قال ابن جرير : وقال آخرون : بل جاوز معه النهر أربعة آلاف ، وإنّما خلص أهل الإيمان منهم حين لقوا جالوت.

[٢ / ٧٣٢٨] فعن السدّي ، قال : عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف ، فلمّا جاوزه هو

__________________

(١) القيامة ٧٥ : ٢٨.

(٢) الكهف ١٨ : ٥٣.

(٣) المطفّفين ٨٣ : ٤.

(٤) تفسير مقاتل ١ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٥) الطبري ٢ : ٨٣٩.

(٦) المصدر.

٢١٨

والّذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت ، رجعوا أيضا وقالوا : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) ، فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستّمائة وبضعة وثمانون ، وخلص في ثلاثمائة وبضعة عشر ، عدّة أهل بدر.

[٢ / ٧٣٢٩] وعن ابن عبّاس ، قال : لمّا جاوزه هو والّذين آمنوا معه ، قال الّذين شربوا : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ)(١).

قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، ما روي عن ابن عبّاس وقاله السدّي ، وهو : أنّه جاوز النهر مع طالوت ، الّذي لم يشرب من النهر إلّا الغرفة والّذي شرب منه الكثير. ثمّ وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت ولقائه ، وانخذل عنه ضعاف الإيمان ، وهم الّذين قالوا : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) ، ومضى أهل البصيرة بأمر الله على بصائرهم ، وهم أهل الثبات على الإيمان ، فقالوا : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

فإن ظنّ ظانّ أنّه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت غير أهل الإيمان الّذين ثبتوا معه على إيمانهم ولم يشربوا من النهر إلّا الغرفة ، لأنّ الله تعالى قال : (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) فكان معلوما أنّه لم يجاوز معه إلّا أهل الإيمان ، على ما روي به الخبر عن البراء بن عازب ، ولأنّ أهل الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيمان ، لما خصّ الله بالذكر في ذلك أهل الإيمان!

فإنّ الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّ ، وذلك أنّه غير مستنكر أن يكون الفريقان جاوزوا النهر ، وأخبر الله نبيّه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المؤمنين بالمجاوزة ، لأنّهم كانوا من الّذين جاوزوه مع ملكهم ، وترك ذكر من عداهم ، وإن كانوا قد جاوزوا النهر مع المؤمنين! والّذي يدلّ على صحّة ما قلنا في ذلك ، قول الله تعالى ذكره : (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) فأوجب الله ـ تعالى ذكره ـ أنّ الّذين يظنّون أنّهم ملاقوا الله هم الّذين قالوا عند مجاورة النهر : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) دون غيرهم ، وأنّ الّذين لا يظنّون أنّهم ملاقوا الله هم الّذين قالوا : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) وغير جائز أن يضاف الإيمان إلى من جحد أنّه ملاقي الله أو شكّ فيه (٢).

__________________

(١) المصدر.

(٢) الطبري ٢ : ٨٤٠ ـ ٨٤١.

٢١٩

[٢ / ٧٣٣٠] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (وَلَمَّا بَرَزُوا) لقتال (لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) قال أصحاب الغرفة (قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) يعني ألق : أصبب علينا صبرا ، كقوله ـ سبحانه ـ : (أَفْرِغْ) : يعني أصبب (عَلَيْهِ قِطْراً)(١)(وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) عند القتال حتّى لا تزول (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) يعني جالوت وجنوده ، وكانوا يعبدون الأوثان. فاستجاب الله لهم وكانوا مؤمنين : أصحاب الغرفة في العصاة ، فلمّا التقى الجمعان وطالوت في قلّة وجالوت في كثرة ، عمد داوود عليه‌السلام فقام بحيال جالوت لا يقوم ذلك المكان إلّا من يريد قتال جالوت ، فجعل الناس يسخرون من داوود حين قام بحيال جالوت. فقال جالوت : من أين هذا الفتى؟ ارجع ، ويحك فإنّي أراك ضعيفا ولا أرى لك قوّة ولا أرى معك سلاحا ، ارجع فإنّي أرحمك. فقال داوود : أنا أقتلك بإذن الله ـ عزوجل ـ! فقال جالوت : بأي شيء تقتلني؟ وقد قمت مقام الأشقياء ، ولا أرى معك سلاحا إلّا عصاك هذه ، هلّم فاضربني بها ما شئت! وهي عصاه الّتي كان يردّ بها غنمه. قال داوود : أقتلك بإذن الله ، بما شاء الله. فتقدّم جالوت ليأخذه بيده مقتدرا عليه في نفسه. فلمّا دنا جالوت من داوود أخرج الحجر من مخلاته فرماه فوقع الحجر في دماغه فانكبّ على وجهه وانهزم الكفّار! وطالوت ومن معه وقوف ينظرون! فذلك قوله ـ سبحانه ـ : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ)(٢).

[٢ / ٧٣٣١] وروى العيّاشي بالإسناد إلى الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان داوود وإخوة له أربعة ، ومعهم أبوهم شيخ كبير ، وتخلّف داوود في غنم لأبيه ، ففصل طالوت بالجنود ، فدعا أبوه داوود وهو أصغرهم فقال : يا بنيّ ، اذهب إلى إخوتك بهذا الّذي قد صنعناه لهم يتقوّون به ، وكان رجلا قصيرا أزرق قليل الشعر طاهر القلب ، فخرج وقد تقارب القوم بعضهم من بعض. فلمّا دخل العسكر سمعهم يتعظّمون أمر جالوت ، فقال لهم داوود : ما تعظّمون من أمره؟! فو الله لئن عاينته لأقتلنّه ، فتحدّثوا بخبره حتّى أدخل على طالوت ، فقال : يا فتى ، وما عندك من القوّة وما جرّبت من نفسك؟ قال : كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه فآخذ برأسه فأفكّ لحييه عنها فآخذها

__________________

(١) الكهف ١٨ : ٩٦.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

٢٢٠