التفسير الأثري الجامع - ج ٦

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-07-4
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٥٩

وأمّا المطلّقات ـ لا المختلعات (١) ـ فإنّ لهنّ أيضا حقّ المتعة حسب المعروف ، وإنّما يفي بها أصحاب التقوى ، وهم المتعهّدون في حياتهم ، السائرون على مناهج العدل والانصاف. وقد أسبقنا الكلام عن هذه المتعة في الآية (٢٣٦).

وهنا أيضا قال بعضهم بالنسخ (٢) ، ولا حاجة لافتراضه ، بعد أن كانت المتعة غير النفقة ، ولا منافاة بين وجوب الإنفاق عليها مدّة العدّة ، واستحباب متعتها بشيء يسلّيها كما سبق.

نعم (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أحكامه اللّائحة بالعدل والانصاف (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أنّكم على هدى من الله وعلى شريعة من العقل السليم.

ملحوظة : هل الوصيّة هنا وصيّة المتوفّين ، لتكون من نوع الوصيّة الّتي أمر بها من تحضره الوفاة ، كما في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)(٣) والتقدير : والّذين تحضرهم الوفاة ويذرون أزواجا فعليهم الوصيّة لأزواجهم. أو فليوصوا وصيّة لأزواجهم.

وعليه فإذا لم يوص المتوفّى لزوجه بالسكنى ، فلا سكنى لها.

أم هي وصيّة من الله للأزواج بلزوم البيوت حولا ، كما في قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) إلى قوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ)(٤)؟

وعليه فهو حكم من الله يجب تنفيذه نظير الاعتداد أربعة أشهر وعشرا ، وعلى هذا الوجه يتوجّه القول بالنسخ ، كما ذهب إليه المشهور.

أم لا هذا ولا ذاك ، بل هي وصيّة من الله بشأن الأزواج ، تكليفا على الورثة ، فلا يخرجوهنّ من البيوت والعيش فيها لمدّة حول ، ليكون ذلك حقّا لها ، إن شاءت أعفته؟

__________________

(١) حيث إنّهنّ اشترين أنفسهنّ بالبذل ، كما في الحديث : الكافي ٦ : ١٤٤ ؛ التهذيب ٨ : ١٣٧ ؛ البحار ١٠١ : ١٦٠.

(٢) روى ذلك عن سعيد بن المسيّب : الطبري ١٢ : ٢٦ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٥٢ و ٤٥٤.

(٣) البقرة ٢ : ١٨٠.

(٤) النساء ٤ : ١١ ـ ١٢.

١٦١

١ ـ ذهب المشهور إلى أنّ الآية توصية للأزواج فيلز من بيوتهنّ حولا كاملا ، وكان ذلك عدّة لهنّ حينذاك. كما كان الإنفاق عليهنّ تلك المدّة مقدار ميراثها ثمّ نسخت الآية بآية الاعتداد أربعة أشهر وعشرا ، وبآية المواريث.

وتقدير الآية : على الّذين تحضرهم الوفاة أن يوصوا وصيّة لأزواجهم ، أو فعليهم وصيّة لأزواجهم.

٢ ـ وذهب مجاهد إلى أنّها توصية بشأن الأزواج ، فلا يزعجن بالإخراج من البيوت إن شاءت البقاء لمدّة حول.

[٢ / ٧٢١٨] قال : «جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصيّة ؛ إن شاءت سكنت في وصيّتها وإن شاءت خرجت» (١).

فقوله تعالى : (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ ...) بتقدير : يوصيكم الله وصيّة في صالح الأزواج ، والخطاب موجّه إلى الورثة.

نظير قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ..) إلى قوله : (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ ..)(٢) وهل تنفيذ هذه الوصيّة واجب على الورثة أم مندوب إليه ، سنتكلّم فيه. وعليه فلا نسخ بعد عدم المنافاة بين هذه الآية وآيتي المواريث والعدد.

٣ ـ وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أنّ معنى الآية : من يتوفّى منكم ويذرون أزواجا ، وقد وصّوا لهنّ وصيّة بنفقة الحول وسكناه ، فلا تجب عليهنّ العمل بهذه الوصيّة ، فإن فضّلن الخروج والتزوّج بعد انقضاء عدّتهنّ ، فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف. فهنّ مخيّرات في العمل بهذه الوصيّة أو إعفائها.

فالآية ـ في الحقيقة ـ نقض لعادة جاهليّة : كانت المتوفّى عنهنّ أزواجهنّ ملزمات بالمكوث في البيوت تمام الحول.

فالآية ـ فضلا عن أنّها غير منسوخة ـ هي ناسخة لعادة جاهليّة كانت سائدة حينذاك!

__________________

(١) البخاري ٥ : ١٦١ ، كتاب التفسير و ٦ : ١٨٧ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٥٢ ـ ٤٥٣ / ٢٣٩٤.

(٢) النساء ٤ : ١١ ـ ١٢.

١٦٢

واستدلّ أبو مسلم بوجوه : أحدها : أنّ النسخ خلاف الأصل فلا يصار إليه ما أمكن.

الثاني : يجب تأخير الناسخ عن المنسوخ في النزول ، وعليه فمن المناسب تأخّر ثبتها في المصحف في الترتيب. أمّا تقدّم الناسخ على المنسوخ في الثبت ، فهو وإن كان جائزا في الجملة ـ وبتقرير من الرسول أحيانا ـ إلّا أنّه يعدّ من سوء الترتيب ، وتنزيه كلام الله عنه واجب بقدر الإمكان.

فكان الأولى أن لا يحكم عليها بالنسخ ، إذ لا ضرورة تدعو إليه.

الثالث : ثبت في الأصول : أنّه متى وقع التعارض بين النسخ والتخصيص كان التخصيص أولى. وبما أنّ هذا الوجه يخصّص الآية بصورة إيصاء الأزواج لهنّ ، كان أولى.

قال الفخر الرازي : وعليه كان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير ضرورة.

وأمّا على قول أبي مسلم فالكلام أظهر ؛ لأنّ المشهور يقدّرون الآية : فعليهم وصيّة لأزواجهم أو فليوصوا وصيّة لهنّ ، ليكون حكما من الله فرضا على الأزواج عند حضور الوفاة.

وأمّا أبو مسلم فيرى تقدير الآية : والّذين يتوفّون منكم ولهم وصيّة لأزواجهم ؛ أو وقد أوصوا وصيّة لأزواجهم ، فالوصيّة من الزوج نفسه.

قال : وإذ كان لا بدّ من الإضمار والتقدير ، فليس إضمار المشهور أولى من إضمار أبي مسلم. هذا في حين استلزام إضمار المشهور القول بالنسخ ، دون إضمار أبي مسلم ، فكان أولى.

قال : وعند هذا يشهد كلّ عقل سليم بأنّ إضمار أبي مسلم أولى من إضمار المشهور ، وأنّ الالتزام بالنسخ التزام له من غير دليل. هذا مع ما في قول المشهور من استلزام سوء الترتيب في المصحف الشريف ، الأمر الّذي يجب تنزيه كلام الله تعالى عنه .. قال : وهذا كلام واضح (١).

***

قلت : والّذي يترجّح في النظر ، ويتوافق مع ظاهر تعبير القرآن ، هو قول مجاهد : إنّها توصية من الله بشأن المتوفّى عنهنّ أزواجهنّ ، وأنّ لها حقّ الاستمتاع بالبيوت ـ زيادة على عدّتهنّ أربعة أشهر وعشرا ـ تمام الحول ، إن شاءت تمتّعت بالبقاء وإن شاءت أعفته.

__________________

(١) التفسير الكبير ٦ : ١٥٨ ـ ١٥٩. وأورده السيّد رشيد رضا في تفسير المنار (٢ : ٤٤٨ ـ ٤٤٩) والظاهر ارتضاؤه له.

١٦٣

وهذا من الإرفاق بشأنهنّ ، فلا يزعجن بالخروج عمّا ألفن به من الحياة السعيدة ، فور فقدان الأزواج.

والظاهر اختصاص الآية بمن لا ولد لها من الزوج المتوفّى ، وإلّا فلها البقاء بحقّ ميراث ولدها من متاع.

على أنّ الأولاد لا يقومون بإزعاج أمّهاتهم فور فوات الآباء ، فلا موضع لتوصيتهم بعدم الإخراج.

على أنّ المعهود عند كبر الآباء أن يزوّجهم الأبناء من يكفل أباهم من النساء الأيّمات ، وكانوا إذا مات ، متّعوهنّ شيئا ويدعوهنّ لشأنهنّ ويخرجونهنّ من البيوت ، إذ لا شأن لها عندهنّ بعد فوت الأب.

هذا وقد نهاهم الله عن ذلك ، وأوصى بهنّ الإمهال لمدّة سنة ، ليتمكّنّ من جمع شملهنّ والإعداد للخروج.

وهذا المعنى للآية ، في غنى عن أيّ تقدير ، هو خلاف الأصل.

والآية صريحة في أنّ الّذين يتوفّون منكم ـ خطاب لأهل الميّت ـ ويذرون أزواجا ـ الظاهر :

أن لا علاقة لها تصلها بالأسرة ـ فعند ذلك يوصي الله وصيّة لهنّ ـ الظاهر في الانتفاع ورفاه الحال بهذه الوصيّة. أمّا القول بأنّها وصيّة بالحداد لمدّة سنة ، فهو خلاف ظاهر هذا التعبير الرقيق الرفيق!!

وعلى هذا فلا منافاة بين هذه الآية وآيتي الميراث والاعتداد. فلا موجب للقول بالنسخ بعد عدم ضرورة تدعو إليه.

على أنّه لا مجال للنسخ في آيات أحكام نزلت بالمدينة بعد فترة سنوات من الهجرة ، إذ كيف يعقل من آية نزلت في أخريات سورة البقرة ـ حوالي السنة الخامسة أو السادسة من الهجرة ـ وكانت تهدف إلى تقرير عادة جاهليّة ، لغاية تعديلها ، ثمّ نسخها بآية نزلت من ذي قبل؟!

كلّ ذلك خلاف ظاهر تعبير الكتاب. ومن ثمّ فالقول بالنسخ هنا مردود من وجوه : خلاف ظاهر التعبير. خلاف الاعتبار العقلاني في تشريع الأحكام. وخلاف الأصل في مسألة النسخ ومسألة التقدير في الكلام من غير ضروره تدعو إليه.

١٦٤

بقي الكلام في أنّ العمل بهذه الوصيّة الإلهيّة فرض واجب على الأولياء ، أم هو ندب؟

قال الشيخ محمّد عبده : ذهب بعض الصحابة والتابعين إلى أنّ العمل بهذه الوصية الّتي هي منحة إلهيّة مندوب إليه وتهاون الناس به كما تهاونوا في كثير من المندوبات ، لاستئذان الأطفال الّذين لم يبلغوا الحلم عند دخول بيوتهم في أوقات ثلاثة الّتي هي مظنّة التهاون بالستر : قبل صلاة الفجر ، وحين وضع الثياب من الظهيرة ، ومن بعد صلاة العشاء (١).

وقال سيّدنا الأستاذ الإمام الخوئي ـ قدس‌سره ـ : هذه الآية إيصاء بشأن النساء إذا توفّي أزواجهنّ ، وقد ندب الله الأولياء إلى الإرفاق بشأنهنّ فلا يزعجن بالإخراج ممّا ألفت به ، حتّى تستعدّ لذلك وتتهيّأ للاستقلال بنفسها عند اكتمال الحول.

قلت له ـ في محاورة جرت بيني وبينه بشأن الآية ـ : ماذا ترون والوفرة من روايات النسخ؟ قال : أسنادها ضعيفة ، وهي إمّا مرسلة أو مقطوعة الأسناد.

قلت : فما رأيكم في اتّفاق الفقهاء على عدم الإفتاء بمضمون الآية ، اعتمادا على نسخها ، كما قال الشيخ محمّد عبده : لم يعمل أحد من الصحابة ولا من بعدهم بهذا؟ (٢)

قال : لا عبرة بإعراض المشهور مع صراحة الكتاب. ولعلّه لشبهة حصلت لهم ، فيما حسبوا من نسخها ، ونحن لا نقول بالنسخ في القرآن ، لا في هذه الآية ولا في غيرها!

***

وهكذا فرض الشيخ أبو جعفر الطوسي عدم نسخ في الآية ، وإن كان فسّرها على إيصاء الزوج عند ظهور أمارات الموت ؛ قال : فأمّا حكم الوصيّة فعندنا باق لم ينسخ ، وإن كان على وجه الاستحباب.

[٢ / ٧٢١٩] ونقل عن أبي حذيفة أنّه قال : العدّة أربعة أشهر وعشرا ، وما زاد إلى الحول يثبت بالوصيّة ، والنفقة. فإن امتنع الورثة من ذلك كان لها أن تتصرّف في نفسها.

قال : وحكي عن ابن عبّاس والحسن وقتادة ومجاهد أنّها منسوخة بآية الميراث. قال : وقد

__________________

(١) المنار ٢ : ٤٤٧.

(٢) المصدر.

١٦٥

بيّنّا فساد استنادهم إلى القول بأنّه لا وصيّة لوارث. قال : فأمّا آية الميراث فلا تنافي الوصيّة ، فلا يجوز أن تكون ناسخة لها (١).

قال ابن كثير ـ بعد أن ذكر حديث مجاهد برواية البخاري ـ : ثمّ أسند البخاري عن ابن عبّاس مثل ما تقدّم عنه بهذا القول الّذي عوّل عليه مجاهد وعطاء ، من أنّ هذه الآية لم تدلّ على وجوب الاعتداد سنة ـ كما زعمه الجمهور ـ حتّى يكون ذلك منسوخا بالأربعة أشهر وعشر ، وإنّما دلّت على أنّ ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات أن يمكّنّ من السّكنى في بيوت أزواجهنّ بعد وفاتهم حولا كاملا ، إن اخترن ذلك. ولهذا قال : (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) أي يوصيكم الله بهنّ وصيّة ، كقوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) ، وقوله : (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ.) ولا يمنعن من ذلك لقوله : (غَيْرَ إِخْراجٍ). فأمّا إذا انقضت عدّتهنّ بالأربعة أشهر والعشر أو بوضع الحمل واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنّهن لا يمنعن من ذلك.

قال : وهذا القول له اتّجاه وفي اللفظ مساعدة له. وقد اختاره جماعة منهم أبو العبّاس ابن تيميّة (٢).

***

قلت : ومع إباء ظاهر تعبير الآية عن احتمال النسخ ، نراها قد اشتهرت اشتهارا منذ الأوائل بأنّها منسوخة ، هذا عبد الله بن الزبير يعترض على عثمان في ثبته لها في المصحف مع علمه بأنّها منسوخة! فيعتذر عثمان بأنّه وجدها هكذا مثبتة فلم يجرأ على تغييرها أو حذفها.

[٢ / ٧٢٢٠] أخرج البخاري والبيهقي في سننه عن ابن الزبير قال : قلت لعثمان بن عفان : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) قد نسختها الآية الأخرى ، فلم تكتبها أو تدعها؟ قال : يا ابن أخي ، لا أغيّر شيئا منه من مكانه! (٣)

قال ابن كثير : ومعنى هذا الإشكال ـ الّذي قاله ابن الزبير لعثمان ـ : إذا كان حكمها قد نسخ

__________________

(١) التبيان ٢ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

(٢) ابن كثير ١ : ٣٠٤.

(٣) البخاري ٥ : ١٦٠ ـ ١٦١ ، كتاب التفسير ؛ البيهقي ٧ : ٤٢٧ ، باب عدّة الوفاة ؛ كنز العمّال ٢ : ٣٥٧ / ٤٢٣٣ ؛ القرطبي ٣ : ٢٢٦.

١٦٦

بالأربعة الأشهر والعشر ، فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها؟ وبقاء رسمها بعد الّتي نسختها يوهم بقاء حكمها! فأجابه عثمان بأنّ هذا أمر توقيفيّ ، وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتّها حيث وجدتها (١).

[٢ / ٧٢٢١] وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء عن ابن عبّاس في قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) الآية. قال : كان للمتوفّى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة ، فنسختها آية المواريث فجعل لهنّ الربع والثمن ممّا ترك الزوج (٢).

[٢ / ٧٢٢٢] وأخرج أبو داوود والنسائي والبيهقي من طريق عكرمة عن ابن عبّاس في الآية قال : نسخ الله ذلك بآية الميراث ، بما فرض الله لهنّ من الربع والثمن ، ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا (٣).

[٢ / ٧٢٢٣] وهكذا روى العيّاشي بسند مقطوع عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «منسوخة ، نسختها آية التربّص وآية المواريث» (٤).

***

وهناك رواية لا يمكن مصادقتها بوجه :

[٢ / ٧٢٢٤] أخرج ابن راهويه في تفسيره عن مقاتل بن حيّان : أنّ رجلا من أهل الطائف قدم المدينة وله أولاد رجال ونساء ومعه أبواه وامرأته ، فمات بالمدينة ، فرفع ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأعطى الوالدين وأعطى أولاده بالمعروف ، ولم يعط امرأته شيئا ، غير أنّهم أمروا أن ينفقوا عليها من تركة

__________________

(١) ابن كثير ١ : ٣٠٤.

(٢) الدرّ ١ : ٧٣٨ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٥١ / ٢٣٩٠ ، وزاد : وروي عن أبي موسى الأشعري وابن الزبير ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن وعكرمة وقتادة والضحّاك وزيد بن أسلم والسدّي ومقاتل بن حيّان وعطاء الخراساني والربيع بن أنس ، أنّها منسوخة ؛ نواسخ القرآن لابن الجوزي : ٩١.

(٣) الدرّ ١ : ٧٣٨ ؛ أبو داوود ١ : ٥١٤ / ٢٢٩٨ ، باب ٤٢ ؛ النسائي ٣ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨ / ٥٧٣٧ ، باب ٦٩ ؛ البيهقي ٧ : ٤٢٧ ـ ٤٢٨ ؛ معاني القرآن للنحّاس ١ : ٢٤٣ ؛ الطبري ٢ : ٧٨٧ / ٤٣٥١ ، عن عكرمة والحسن البصري ؛ سنن سعيد بن منصور ٣ : ٩٣٣ / ٤١٦ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٥٥ / ٣٩٩ ، عن قتادة.

(٤) العيّاشي ١ : ١٤١ / ٣٨٩ ، و ١٤٨ / ٤٢٧ ، و ١٤٩ / ٤٢٨ ؛ البحار ١٠١ : ١٨٩ و ١٩٠ و ١٩١.

١٦٧

زوجها إلى الحول ، وفيه نزلت : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) الآية (١).

[٢ / ٧٢٢٥] وهكذا أغرب مقاتل بن سليمان : قال في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ ...) : نزلت في حكيم بن الأشرف ؛ قدم الطائف ومات بالمدينة وله أبوان وأولاد فأعطى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الميراث الوالدين وأعطى الأولاد بالمعروف ولم يعط امرأته شيئا. غير أنّ النبيّ أمر بالنفقة عليها في الطعام والكسوة حولا ، فإن كانت المرأة من أهل المدر التمست السكنى فيما بينها وبين الحول ، وإن كانت من أهل الوبر نسجت ما تسكن فيه إلى الحول. فكان هذا قبل أن تنزل آية المواريث ، ثمّ نزل : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) نسخت هذه الحول. ثمّ أنزل الله آية المواريث ، فجعل لهنّ الربع والثمن فنسخت نصيبها من الميراث نفقة سنة (٢)!

قوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أسبقنا الكلام عن ذلك ونبّهنا أنّ المقصود غير المختلعات ، لأنّهنّ اشترين أنفسهنّ بالبذل. كما في الحديث (٣).

[٢ / ٧٢٢٦] روى أبو جعفر الكليني عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي عن عبد الكريم عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) قال : متاعها ، بعد ما تنقضي عدّتها ، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره. وكيف لا يمتّعها وهي في عدّتها ترجوه ويرجوها ، ويحدث الله ـ عزوجل ـ بينهما ما يشاء ، وقال : إذا كان الرجل موسّعا عليه

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ٢٠١ ، نسبه إلى ابن عبّاس وسائر المفسّرين ؛ البغوي ١ : ٣٢٧ ؛ أسباب النزول للواحدي : ٥١ ـ ٥٢ ، إلى قوله : إلى الحول ، أبو الفتوح ٣ : ٣١٦.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ٢٠٢.

(٣) راجع : الكافي ٦ : ١٤٤ / ٣ و ٨ والتهذيب ٨ : ١٣٧ / ٤٧٦ ـ ٧٥ والبحار ١٠١ : ١٦٠ / ٨٩. وفي حديث الحلبي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «لا تمتّع المختلعة». الكافي ٦ : ١٤٤ / ٢.

١٦٨

متّع امرأته بالعبد والأمة ، والمقتر يمتّع بالحنطة والزبيب والثوب والدراهم (١).

[٢ / ٧٢٢٧] وأخرج الشافعي عن جابر بن عبد الله قال : نفقة المطلّقة ما لم تحرم ، فإذا حرمت فمتاع بالمعروف (٢).

[٢ / ٧٢٢٨] وأخرج مالك وعبد الرزّاق والشافعي وعبد بن حميد والنحّاس في ناسخه وابن المنذر والبيهقي عن ابن عمر قال : لكلّ مطلّقة متعة إلّا الّتي يطلّقها ولم يدخل بها وقد فرض لها ، كفى بالنصف متاعا (٣).

[٢ / ٧٢٢٩] وروى العيّاشي بالإسناد إلى الحسن بن زياد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : سئل عن رجل طلّق امرأته قبل أن يدخل بها؟ فقال : «إن كان سمّي لها مهرا فلها نصف المهر ولا عدّة عليها ، وإن لم يكن سمّي لها مهرا فلا مهر لها ولكن يمتّعها ؛ فإنّ الله يقول في كتابه : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)». (٤)

[٢ / ٧٢٣٠] وأخرج ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قال : «لكلّ مؤمنة طلّقت حرّة أو أمة متعة» وتلا قوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). (٥)

[٢ / ٧٢٣١] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ) اللّاتي دخل بهنّ (مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) يعني على قدر مال الزوج ولا يجبر الزوج على المتعة لأنّ لها المهر كامل (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أن يمتّع الرجل امرأته (٦).

__________________

(١) الكافي ٦ : ١٠٥ / ٣ و ٤ ، كتاب الطلاق ، باب متعة المطلّقة ؛ البرهان ١ : ٥١٢ ـ ٥١٣ / ٣ و ٨ ؛ التهذيب ٨ : ١٣٩ ـ ١٤٠ / ٤٨٤ ـ ٨٣ و ٤٨٥ ـ ٨٤ ؛ العيّاشيّ ١ : ١٤٩ / ٤٣٠ ؛ نور الثقلين ١ : ٢٤٠ / ٩٥٦.

(٢) الدرّ ١ : ٧٤٠ ؛ الأمّ ٥ : ٢٥٤ ، باب سكنى المطلّقات ونفقاتهنّ.

(٣) الدرّ ١ : ٧٤٠ ؛ الموطّأ ٢ : ٥٧٣ / ٤٥ ، كتاب الطلاق ، بلفظ : لكلّ مطلّقة متعة إلّا الّتي تطلّق ، وقد فرض لها صداق ولم تمسّ فحسبها نصف ما فرض لها ؛ المصنّف لعبد الرزّاق ٧ : ٦٨ / ١٢٢٢٤ ؛ الأمّ ٧ : ٣٢ و ٢٧٠ ؛ البيهقي ٧ : ٢٥٧ ، باب المتعة ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ٤ : ١١٢ / ١ ، باب ١٤٥ ؛ كنز العمّال ١٦ : ٥٢٧ / ٤٥٧٤٧.

(٤) البرهان ١ : ٥١٣ / ١١ ؛ العيّاشي ١ : ١٥٠ / ٤٣٣ ؛ البحار ١٠٠ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ / ٦٧ ، باب ١٧.

(٥) الدرّ ١ : ٧٤٠ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٠١ ـ ٢٠٢ ؛ كنز العمّال ٢ : ٣٦٣ / ٤٢٥٩.

(٦) تفسير مقاتل ١ : ٢٠٢.

١٦٩

[٢ / ٧٢٣٢] وأخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله قال : لمّا طلّق حفص بن المغيرة امرأته فاطمة أتت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لزوجها : متّعها! قال : لا أجد ما أمتّعها. قال : «فإنّه لا بدّ من المتاع ، متّعها ولو نصف صاع من تمر» (١).

[٢ / ٧٢٣٣] وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : لكلّ مطلّقة متاع بالمعروف حقّا على المتّقين (٢).

[٢ / ٧٢٣٤] وروى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى ابن أبي نصر عن عبد الكريم عن أبي بصير قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أخبرني عن قول الله ـ عزوجل ـ : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ما أدنى ذلك المتاع إذا كان معسرا لا يجد؟ قال : خمار أو شبهه (٣).

[٢ / ٧٢٣٥] وعن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حفص بن البختري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يطلّق امرأته أيمتّعها؟ قال : «نعم ، أما يحبّ أن يكون من المحسنين أما يحبّ أن يكون من المتّقين؟» (٤).

[٢ / ٧٢٣٦] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) : هكذا يبيّن الله لكم أمره في المتعة (٥)(لَعَلَّكُمْ) يعني لكي (تَعْقِلُونَ)(٦).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٧٤٠ ؛ البيهقي ٧ : ٢٥٧ ، باب المتعة ؛ كنز العمّال ٩ : ٦٧٢ / ٢٧٩٢٣.

(٢) الطبري ٢ : ٧٩١ / ٤٣٥٨ ؛ القرطبي ٣ : ٢٢٨ ؛ مجمع البيان ٢ : ١٣١ ؛ التبيان ٢ : ٢٨٠.

(٣) الكافي ٦ : ١٠٥ ـ ١٠٦ / ٥ ؛ التهذيب ٨ : ٥١٣ / ٦ ؛ العيّاشي ١ : ١٤٩ / ٤٢٩ ؛ البحار ١٠٠ : ٣٦٠ / ٦٨ ، باب ١٧ ؛ البرهان ١ : ٥١٢ ـ ٥١٣ / ٥ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣٧٢ ـ ٣٧٣ ؛ نور الثقلين ١ : ٢٤٠ ـ ٢٤١ / ٩٥٩.

(٤) الكافي ٦ : ١٠٤ ـ ١٠٥ / ١ ؛ البرهان ١ : ٥١١ ـ ٥١٢ / ١ ؛ نور الثقلين ١ : ٢٣٢ / ٩١١ ؛ العيّاشي ١ : ١٤٣ / ٣٩٧ ؛ البحار ١٠٠ : ٣٥٧ / ٤٩ ، باب ١٧.

(٥) بل في مطلق أحكام الزوجين على ما فصّله الإسلام على أحسن وجه معقول.

(٦) تفسير مقاتل ١ : ٢٠٢.

١٧٠

قال تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))

استئناف ابتدائي للتحريض على الجهاد والتذكير بأنّ الحذر لا يؤخّر الأجل ، وأنّ الجبان قد يلقى حتفه في مظنّة النجاة.

وهذه الآية تمهيد للدستور الوارد في قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ...) ، ورجوع إلى قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)(١).

وعليه فموقع قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ...) ، قبل قوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) موقع ذكر الدليل ، وإن

شئت قلت : موقع تمهيد الأرضيّة لبيان المقصود الأصل ، وهذا من أحسن طرق الخطابة : أن تمهّد الأرضيّة قبل الورود في صلب الموضوع ، ويكون من قبيل ذكر الدليل قبل بيان المطلوب.

قوله : (أَلَمْ تَرَ ...) استفهام تقريريّ فيما لا مجال لإنكاره ، ليكون دليلا محرّضا على ما ينبغي الاهتمام به من مقصود الخطاب.

ويبدو من تعبير الآية أنّ هؤلاء الّذين خرجوا من ديارهم ، حذر الموت ـ وهو الطاعون ـ كما في أكثر الروايات كانوا معروفين عند العرب المخاطبين بهذا الكلام.

[٢ / ٧٢٣٧] وفي حديث الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : أنّهم كانوا أهل مدينة عامرة من مدائن الشام ، وكانوا ألوفا ، وكان الطاعون يقع فيهم بين آونة وأخرى ، فخرجوا منها جميعا هربا من الموت الّذي

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢١٦.

١٧١

أحسّوا به ، فمرّوا بمدينة خربة باد أهلها على أثر الوباء ، فنزلوا بها وحطّوا رحالهم فلمّا اطمأنّوا بها جاءتهم البليّة من حيث لم يحتسبوا فأماتتهم جميعا ، فصاروا عظاما وهبّت عليهم الريّاح (١).

قلت : ولعلّه كان على ممرّ العرب في رحلتهم الصيفيّة ، فكانوا قد وقفوا على مرّ الحادثة!

وعلى أيّة حال ، ليس بالمهمّ أن نعرف شخصيّة القوم الّذين هربوا من الموت. إنّما العمدة أنّها عبرة وعظة ينبغي التوجّه إلى مغزاها ، إنّما يراد هنا تصحيح التصوّر عن الموت والحياة وأسبابهما الظاهرة وحقيقتها المضمرة ، وردّ الأمر فيهما إلى القدرة المدبّرة ، والاطمئنان إلى قدر الله في الحياة ، فالمقدّر كائن ، والموت والحياة بيد الله في نهاية المطاف ، نعم إنّ للإنسان سعيه في المضيّ على تعهّداته في الحياة والتكاليف والواجبات المفروضة عليه ، من دون هلع ولا جزع ، والأمر إلى الله.

إنّ الفزع والهلع ، من غير رويّة ولا دراية ، لا يزيدان حياة ولا يردّان قضاء (٢) ، وإنّ الله هو واهب الحياة ، وهو آخذ الحياة ، وإنّه متفضّل في الحالتين : حين يهب وحين يستردّ ، والحكمة الإلهيّة الكبرى كامنة خلف الهبة والاسترداد ، وإنّ مصالح الناس متحقّقة في هذا وذاك ، وإنّ فضل الله عليهم متواجدة في الأخذ والمنح سواء :

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).

إذن فلا موقع للتخلّي عن فريضة الجهاد في سبيل الله ، الّذي فيه حياة الأمّة وحياة الشريعة والدّين. (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بما في قلوبكم.

***

هذا والجهاد في سبيل الله بذل وتضحية ، ولا سيّما في تلك الفترة ، حيث كان الجهاد تطوّعا ، والمجاهد ينفق على نفسه ، وقد يقعد به المال حين لا يقعد به الجهد ، فلم يكن بدّ من الحثّ المستمرّ على الإنفاق ـ من قبل أهل الثراء ـ لتيسير الطريق للمجاهدين. وهنا تجيء الدعوة إلى الإنفاق ـ وأنّه إيداع المال حيث ينمو ولا يذهب ضياعا ـ دعوة موحية دافعة :

__________________

(١) الكافي ٨ : ١٩٨ ـ ١٩٩ / ٢٣٧. وسيأتي تفصيل الحديث.

(٢) قال أبو الطيّب :

يرى الجبناء أنّ الجبن حزم

وتلك خديعة الطبع اللئيم

١٧٢

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) بالإنفاق في سبيله (قَرْضاً حَسَناً) عن طيب نفس ونيّة صادقة (فَيُضاعِفَهُ) الله (لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

وهذا تنبيه على القبض والبسط في المعيشة ، إنّما هو قدر من الله وفق حكمته البالغة ، وليس في هذه الحياة فحسب ، بل وفي الحياة الأخرى ، وهي مرجع الجميع في نهاية المطاف.

***

هذا ولكن جاء في المأثور عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام بيان عن تفاصيل الحادثة وعن هؤلاء القوم من هم ، ومتى وأين كانوا؟ لكنّها مختلفة متضاربة بعضها مع البعض ، فضلا عن ضعف أسنادها بالقطع والإرسال.

[٢ / ٧٢٣٨] فقد روى العيّاشي بسند مقطوع عن حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه‌السلام سأله عن إحيائهم؟ فقال : «ردّهم الله إلى مساكنهم فعاشوا مدّة آجالهم ما شاء الله» (١).

[٢ / ٧٢٣٩] وهكذا روى الكليني بسند مجهول : عن عمر بن يزيد وغيره عن بعضهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام وبعضهم عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّهم كانوا سبعين بيت ، فأماتهم الله ، فمرّ بهم نبيّ الله حز قيل فحنّ عليهم ، فدعى الله أن يحييهم ليعمروا البلاد ، فأجابه الله على ذلك ، بعد أن علّمه الاسم الأعظم فنطق به وكان سبب إحيائهم (٢).

[٢ / ٧٢٤٠] وروى الحسين بن همدان الحضينى بسند فيه مجاهيل عن الصادق عليه‌السلام أنّهم كانوا زهاء ثلاثين ألفا ، فأماتهم الله حتّى صاروا رفاتا ، فدعى حز قيل بن العجوز ربّه فأحياهم. وكان يوم إحيائهم يوما شريفا عظيم القدر ، وفيه لا يردّ الله حاجة إلّا قضاها ، وهو يوم «نيروز». وكان إحياؤهم بأن رشّ حز قيل الماء على تلك الرفاة ، فقاموا ساعتهم ، فكان عليهم يوما جديدا (٣).

__________________

(١) العيّاشي ١ : ١٥٠ / ٤٣٤ ؛ البحار ١٣ : ٣٨١ ـ ٣٨٢ / ٢ ، باب ١٤. وأورده صاحب كتاب منتخب بصائر الدرجات : ٢٣ ـ ٢٤ مسندا حسبما جاء في البحار. غير أنّ أبا خالد القمّاط الواقع في السند مشترك بين مجهول ومعروف. (معجم رجال الحديث ١٠ : ٦٩).

(٢) الكافي ٨ : ١٩٨ ـ ١٩٩ / ٢٣٧ ؛ البحار ٦ : ١٢٣ ـ ١٢٤ / ٩ ، باب ٣.

(٣) الهداية في إثبات الرجعة : ٤٢٠ ؛ مستدرك الوسائل ٦ : ٣٥٣.

١٧٣

[٢ / ٧٢٤١] وروى ابن أبي جمهور الأحسائي بسند ـ في غاية الضعف ـ عن المعلّى بن خنيس عن الصادق عليه‌السلام في حديث يذكر فيه فضل يوم النيروز (العيد الفارسيّ) جاء فيه : أنّ نبيّا من أنبياء بني إسرائيل سأل ربّه أن يحيي القوم الّذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فأماتهم الله ، فأوحى الله إلى ذلك النبيّ أن صبّ الماء عليهم في مضاجعهم ، فصبّ عليهم الماء في هذا اليوم (أي يوم النيروز) فعاشوا وهم ثلاثون ألفا ، ومن ثمّ صار صبّ الماء يوم النيروز سنّة ماضية ، لا يعرف سببها إلّا الراسخون في العلم! وهو أوّل يوم من سنة الفرس! (١)

انظر كيف ينسبون إلى سلالة آل الرسول ، أمثال تلك الهزائل؟!

[٢ / ٧٢٤٢] وروى صاحب كتاب الاحتجاج ـ لم يعرف المؤلّف ـ حديثا أرسله عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ الله أحيا قوما خرجوا من أوطانهم هاربين من الطاعون ، لا يحصى عددهم ، فأماتهم الله دهرا طويلا حتّى بليت عظامهم وتقطّعت أوصالهم وصاروا ترابا. فبعث الله نبيّا يقال له : حز قيل فدعاهم ، فاجتمعت أبدانهم ورجعت فيها أرواحهم ، وقاموا كهيأة يوم ماتوا لا يفتقدون من أعدادهم رجلا ، فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا» (٢).

وكتاب الاحتجاج هذا فاقد للاعتبار ؛ إذ لا يعرف مؤلّفه ، فضلا عن ملأ الكتاب بالمخاريق والمراسيل ممّا لا حجّة فيه لدى ذوي الاعتبار.

[٢ / ٧٢٤٣] وروى ابن بابويه بسند فيه مجاهيل ، في باب مجلس الرضا عليه‌السلام مع أهل الأديان والمقالات عقد له المأمون ، فكان كلامه عليه‌السلام مع كبير النصارى : إنّكم اتّخذتم عيسى ربّا ، لأنّه أبرأ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى. فجاز لكم أن تتّخذوا اليسع وحز قيل ربّا ، لأنّهما فعلا مثل ما فعل عيسى عليه‌السلام وكذلك لم يتّخذهما أمّتهما ربّا كما اتّخذتم المسيح ربّا.

ثمّ قال : فهذا حز قيل النبيّ صنع مثل ما صنع عيسى بن مريم ، إذ أحيا خمسة وثلاثين ألف رجل بعد موتهم بستّين سنة ، فقاموا أحياء جميعا ينفضون التراب عن رؤوسهم (٣).

__________________

(١) عوالى اللئالي ٣ : ٤١ / ١١٦ ؛ البحار ٥٦ : ١١٩ ، باب ٢٢.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٨٨ ؛ البحار ١٠ : ١٧٦ ، و ١٣ : ٣٨٧ / ٩ ؛ البرهان ١ : ٥١٥ / ٣.

(٣) عيون الأخبار ١ : ١٤٣ / ١ ، باب ١٢ ؛ التوحيد : ٤٢٢ ـ ٤٢٣ / ١ ، باب ٦٥ ؛ البحار ١٠ : ٣٠٣ ، و ١٣ : ٣٨٦.

١٧٤

[٢ / ٧٢٤٤] وهكذا ذكر عليّ بن إبراهيم من غير إسناد : أنّه وقع طاعون بالشام في بعض الكور ، فخرج خلق كثير ، هربا من الطاعون فصاروا إلى مفازة فماتوا في ليلة واحدة كلّهم ، فبقوا حتّى كانت عظامهم يمرّ بهم المارّة فينحّيها برجله عن الطريق ، ثمّ أحياهم الله وردّهم إلى منازلهم فبقوا دهرا طويلا ثمّ ماتوا ودفنوا (١).

***

وهناك روايات هي أشبه بالأساطير معزوّه إلى ابن عبّاس وكبار التابعين :

[٢ / ٧٢٤٥] أخرج وكيع والفريابي وابن جرير وابن المنذر والحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون ، وقالوا : نأتي أرضا ليس بها موت ، حتّى إذا كانوا بموضع كذا وكذا ، قال لهم الله : موتوا فماتوا فمرّ عليهم نبيّ من الأنبياء ، فدعا ربّه أن يحييهم حتّى يعبدوه فأحياهم! فتلا هذه الآية : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٢).

[٢ / ٧٢٤٦] وفي رواية عنه : «أنّهم كانوا ثمانية آلاف» (٣) وفي ثالثة : «أنّهم أربعون ألفا».

وفي رابعة : «أنّهم أربعون ألفا وثمانية آلاف».

[٢ / ٧٢٤٧] وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عبّاس في الآية قال : كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف حظر عليهم حظائر (٤) ، وقد أروحت (٥) أجسادهم وأنتنوا ، فإنّها لتوجد اليوم

__________________

(١) القمّي ١ : ٨٠ ـ ٨١.

(٢) الدرّ ١ : ٧٤١ ؛ الطبري ٢ : ٧٩٣ / ٤٣٦٢ ؛ الحاكم ٢ : ٢٨١ ، بلفظ : عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون وقالوا : نأتي أرضا ليس بها موت. فقال لهم الله : موتوا ، فماتوا ، فمرّ بهم نبيّ فسأل الله أن يحييهم فأحياهم ، فهم الّذين قال الله ـ عزوجل ـ : وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ؛ ابن كثير ١ : ٣٠٥ ؛ القرطبي ٣ : ٢٣٠ و ٢٣٢ ؛ قال : أصحّ هذه الأقوال وأبينها وأشهرها أنّهم خرجوا فرارا من الوباء ـ رواه سعيد بن جبير عن ابن عبّاس ؛ التبيان ٢ : ٢٨٣.

(٣) ابن كثير : ١ : ٣٠٥ ؛ القرطبي ٣ : ٢٣١ ، وقال : والصحيح أنّهم زادوا على عشرة آلاف ؛ لقوله تعالى : (وَهُمْ أُلُوفٌ) وهو جمع الكثرة ، ولا يقال في عشرة فمادونها ألوف ؛ البغوي ١ : ٣٢٩ ، عن مقاتل والكلبي ؛ الثعلبي ٢ : ٢٠٣ ، عن مقاتل والكلبي ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٥٦ / ٣٠٣ ، عن الكلبي.

(٤) الحظيرة : المحوّطة أحاط بها سور.

(٥) أي نتنت وصارت ذات رائحة كريهة.

١٧٥

في ذلك السبط من اليهود تلك الريح ، خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله ، فأماتهم الله ثمّ أحياهم فأمرهم بالجهاد ، فذلك قوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)(١).

[٢ / ٧٢٤٨] وعن أبي صالح قال : كانوا تسعة آلاف (٢).

[٢ / ٧٢٤٩] وروي عن السّدي : سبعة وثلاثين ألفا (٣).

[٢ / ٧٢٥٠] وقال عطاء بن أبي رباح : كانوا سبعين ألفا. وقال أبو روق : عشرة آلاف (٤).

[٢ / ٧٢٥١] وقال الواقدي : بضعة ومأتين ألفا (٥).

[٢ / ٧٢٥٢] وقال وهب بن منبّه وأبو مالك : كانوا بضعة وثلاثين ألفا (٦).

[٢ / ٧٢٥٣] وقال مقاتل بن سليمان : حتّى أنّه ليوجد في ذلك السبط من اليهود ريح كريح الموتى وكانوا ثمانية آلاف (٧).

[٢ / ٧٢٥٤] وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) قال : هم من أذرعات (٨).

[٢ / ٧٢٥٥] وأخرج ابن جرير عن وهب بن منبّه ، أنّ كالب بن يوقنّا لمّا قبضه الله بعد يوشع ، خلف في بني إسرائيل حز قيل بن بوزي وهو ابن العجوز ، وإنّما سمّي ابن العجوز لأنّها سألت الله الولد وقد كبرت فوهبه لها ، وهو الّذي دعا للقوم الّذين ذكر الله في كتابه في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) الآية (٩).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٧٤٣ ـ ٧٤٤ ؛ الطبري ٢ : ٧٩٥ ـ ٧٩٦ / ٤٣٦٩ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٠٤ ؛ بلفظ : قال ابن عبّاس : فإنّها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح ؛ أبو الفتوح ٣ : ٣٣٥.

(٢) الدرّ ١ : ٧٤٢ ؛ ابن أبى حاتم ٢ : ٤٥٦ / ٢٤١٤ ؛ ابن كثير ١ : ٣٠٥.

(٣) القرطبي ٣ : ٢٣١ ؛ البغوي ١ : ٣٢٩ ، بلفظ : قال السدّي : بضعة وثلاثون ألفا.

(٤) الثعلبي ٢ : ٢٠٣ ؛ قال : وأولى الأقاويل قول من قال : كانوا زيادة على عشرة آلاف لأنّ الله تعالى قال : (وَهُمْ أُلُوفٌ) والألوف جمع الكثير ، وجمع القليل آلاف ؛ البغوي ١ : ٣٢٩.

(٥) الثعلبي ٢ : ٢٠٣.

(٦) ابن أبي حاتم ٢ : ٤٥٦ / ٢٤١٥ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٠٣.

(٧) تفسير مقاتل ١ : ٢٠٣.

(٨) الدرّ ١ : ٧٤٢ ؛ ابن أبى حاتم ٢ : ٤٥٥ / ٢٤١٠ ؛ ابن كثير ١ : ٣٠٥.

(٩) الدرّ ١ : ٧٤٣ ؛ الطبري ٢ : ٧٩٦ / ٤٣٧٠.

١٧٦

[٢ / ٧٢٥٦] وقال الحسن ومقاتل : هو ذو الكفل ، وسمّي حز قيل ذا الكفل لأنّه تكفّل بسبعين نبيّا وأنجاهم من القتل ، فلمّا مرّ حز قيل على أولئك الموتى ، وقف عليهم فجعل يتفكّر فيهم متعجّبا ، فأوحى الله تعالى إليه تريد أن أريك آية؟ قال : نعم ، فأحياهم الله تعالى ، وقيل دعا حز قيل ربّه أن يحييهم فأحياهم (١).

[٢ / ٧٢٥٧] وقال مقاتل والكلبي : هم كانوا قوم حز قيل أحياهم الله بعد ثمانية أيّام ، وذلك أنّه لمّا أصابهم ذلك خرج حز قيل في طلبهم فوجدهم موتى فبكى وقال : يا ربّ كنت في قوم يحمدونك ويسبّحونك ويقدّسونك ويكبّرونك ويهلّلونك ؛ فبقيت وحيدا لا قوم لي! فأوحى الله تعالى إليه انّي جعلت حياتهم إليك ، قال حز قيل : أحيوا بإذن الله ، فقاموا (٢).

[٢ / ٧٢٥٨] وأخرج عبد بن حميد عن وهب قال : أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدّة من زمان ، فشكوا ما أصابهم وقالوا : يا ليتنا قد متنا فاسترحنا ممّا نحن فيه ، فأوحى الله إلى حز قيل أنّ قومك صاحوا من البلاء (٣) ، وزعموا أنّهم ودّوا لو ماتوا واستراحوا ، وأيّ راحة لهم في الموت؟ أيظنّون أنّي لا أقدر على أن أبعثهم بعد الموت؟ فانطلق إلى جبّانة كذا وكذا (٤) ، فإنّ فيها أربعة آلاف فقم فناد فيهم ، وكانت عظامهم قد تفرّقت كما فرّقتها الطير والسباع ، فنادى حزقيل : أيّتها العظام ، إنّ الله يأمرك أن تجتمعي! فاجتمع عظام كلّ إنسان منهم معا ، ثمّ قال : أيّتها العظام إنّ الله يأمرك أن ينبت العصب والعقب ، فتلازمت واشتدّت بالعصب والعقب ، ثمّ نادى حز قيل فقال : أيّتها العظام إنّ الله يأمرك أن تكتسي اللحم ، فاكتست اللحم ، وبعد اللحم جلدا فكانت أجسادا ، ثمّ نادى حز قيل الثالثة فقال : أيّتها الأرواح ، إنّ الله يأمرك أن تعودي في أجسادك ، فقاموا بإذن الله فكبّروا تكبيرة رجل واحد! (٥)

[٢ / ٧٢٥٩] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق أسباط عن السدّي عن أبي

__________________

(١) البغوي ١ : ٣٢٩ ، قال : فمرّ عليهم نبيّ يقال له : حز قيل بن بوذا ؛ الثعلبي ٢ : ٢٠٣ ، وزاد : هذا قول السدّي وجماعة من المفسّرين ؛ مجمع البيان ٢ : ١٣٣ ، عن الحسن.

(٢) البغوي ١ : ٣٢٩ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٠٣ ، نقلا عن عطاء ومقاتل والكلبي.

(٣) أي اشتدّ بهم الأمر.

(٤) الجبّانة : أرض مستعلية في استواء.

(٥) الدرّ ١ : ٧٤٣ ؛ الطبري ٢ : ٧٩٣ ـ ٧٩٤ / ٤٣٦٣ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٠٤ ، مع عدم ذكر الراوي ؛ أبو الفتوح ٣ : ٣٣٤.

١٧٧

مالك في الآية قال : كانت قرية يقال لها داوردان قريب من واسط ، فوقع فيهم الطاعون ، فأقامت طائفة وهربت طائفة ، فوقع الموت فيمن أقام وسلم الّذين أجلوا ، فلمّا ارتفع الطاعون رجعوا إليهم ، فقال الّذين بقوا : إخواننا كانوا أحزم منّا لو صنعنا كما صنعوا سلمنا ، ولئن بقينا إلى أن يقع الطاعون لنصنعنّ كما صنعوا.

فوقع الطاعون من قابل فخرجوا جميعا ، الّذين كانوا أجلوا والّذين كانوا أقاموا وهم بضعة وثلاثون ألفا ، فساروا حتّى أتوا واديا فسيحا فنزلوا فيه وهو بين جبلين ، فبعث الله إليهم ملكين ، ملكا بأعلى الوادي وملكا بأسفله ، فناداهم : أن موتوا فماتوا. فمكثوا ما شاء الله ، ثمّ مرّ بهم نبيّ يقال له حز قيل ، فرأى تلك العظام فوقف متعجّبا لكثرة ما يرى منهم ، فأوحى الله إليه أن ناد أيّتها العظام إنّ الله يأمرك أن تجتمعي ، فاجتمعت العظام من أعلى الوادي وأدناه حتّى التزق بعضها ببعض كلّ عظم من جسد التزق بجسده ، فصارت أجسادا من عظام لا لحم ولا دم ، ثمّ أوحى الله إليه أن ناد أيّتها العظام إنّ الله يأمرك أن تكتسي لحما فاكتست لحما ، ثمّ أوحى الله إليه أن ناد أيّتها الأجساد إنّ الله يأمرك أن تقومي فبعثوا أحياء. فرجعوا إلى بلادهم فأقاموا لا يلبسون ثوبا إلّا كان عليهم كفنا دسما ، يعرفهم أهل ذلك الزمان أنّهم قد ماتوا ، ثمّ أقاموا حتّى أتت عليهم آجالهم بعد ذلك. قال أسباط : وقال منصور عن مجاهد : كان كلامهم حين بعثوا أن قالوا : سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك لا إله إلّا أنت ...! (١).

[٢ / ٧٢٦٠] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ) من بني إسرائيل (أُلُوفٌ) ثمانية آلاف (حَذَرَ الْمَوْتِ) يعني حذر القتل وذلك أنّ نبيّهم حز قيل بن بوزي ، وهو ذو الكفل ابن بوزي ، ندبهم إلى قتال عدوّهم ، فأبوا عليه جبنا من عدوّهم واعتلّوا. فقالوا : إنّ الأرض الّتي نبعث إليها لنقاتل عدوّنا هي أرض يكون فيها الطاعون فأرسل الله عليهم الموت فلمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فرارا من الموت. فلمّا رأى ذلك حز قيل قال : اللهمّ ربّ يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك ، فأرهم آية في أنفسهم حتّى يعلموا أنّهم لن يستطيعوا

__________________

(١) الدرّ ١ : ٧٤١ ؛ الطبري ٢ : ٧٩٤ ـ ٧٩٥ / ٤٣٦٦ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤٥٧ ـ ٤٥٨ / ٢٤٢٠ ـ ٢٤٢١ ؛ تاريخ الطبري ١ : ٣٢٣ ؛ البغوي ١ : ٣٢٨ ، باختصار وعدم ذكر الراوي ؛ الثعلبي ٢ : ٢٠٢.

١٧٨

فرارا منك. فأمهلهم الله حتّى خرجوا من ديارهم وهي قرية تسمّى دامردان فلمّا خرجوا قال الله لهم : (مُوتُوا) عبرة لهم! فماتوا جميعا وماتت دوابّهم كموت رجل واحد ثمانية أيّام ، فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم حتّى حظروا عليهم وأروحت أجسادهم. (ثُمَ) إنّ الله (أَحْياهُمْ) بعد ثمانية أيّام وبهنّ نتن شديد. ثمّ إنّ حز قيل بكى إلى ربّه فقال : اللهمّ ربّ إبراهيم وإله موسى لا تكن على عبادك الظلمة كأنفسهم! واذكر فيهم ميثاق الأوّلين فسمع الله فأمره أن يدعوهم بكلمة واحدة فقاموا كقيام رجل واحد كان وسنانا (١) فاستيقظ فذلك قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) ربّ هذه النعمة حين أحياهم بعد ما أراهم عقوبته ثمّ أمرهم أن يرجعوا إلى عدوّهم فيجاهدوا فذلك قوله : (مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أنّه أحياهم بعد ما أماتهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٢).

***

قلت : تلك أهازيج القوم حيكت على غير منوال! الأمر الّذي جعل بعضهم يراه مثلا ضربه الله إيقاظا للناس كسائر الأمثال المضروبة في القرآن.

[٢ / ٧٢٦١] أخرج ابن أبي حاتم بالإسناد إلى ابن جريج ، قال : سألت عطاء عن هذه الآية؟ قال : مثل (٣).

ولعلّ يدا إسرائيليّة عملت في حياكة ذلك النسيج المتخبّط :

[٢ / ٧٢٦٢] كما أخرج ابن جرير عن أشعث بن أسلم البصري قال : بينا عمر يصلّي ويهوديّان خلفه! وكان عمر إذا أراد أن يركع خوّى (٤) فقال أحدهما لصاحبه : أهو هو؟ فلمّا انفتل عمر قال : رأيت قول أحدكما لصاحبه : أهو هو! قالا : إنّا نجده في كتابنا قرنا من حديد يعطى ما يعطى حز قيل الّذي أحيا الموتى بإذن الله! فقال عمر : ما نجد في كتاب الله حز قيل ولا أحيا الموتى بإذن الله إلّا عيسى! قالا : أما تجد في كتاب الله : (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)(٥)؟ فقال عمر : بلى. قالا : وأمّا إحياء

__________________

(١) الوسنان : المغشي عليه من نتن البئر ونحوه.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٣) ابن أبي حاتم ٢ : ٤٥٥ / ٢٤١١ ؛ ابن كثير ١ : ٣٠٥.

(٤) أي جافا بطنه عن الأرض ورفعها.

(٥) النساء ٤ : ١٦٤.

١٧٩

الموتى فسنحدّثك أنّ بني إسرائيل وقع عليهم الوباء ، فخرج منهم قوم حتّى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله ، فبنوا عليهم حائطا حتّى إذا بليت عظامهم بعث الله حز قيل ، فقام عليهم فقال ما شاء الله ، فبعثهم الله له ، فأنزل الله في ذلك : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ) الآية (١).

نعم هكذا تنسج أبناء إسرائيل مهازيلهم ، عن خبث لئيم.

***

وهناك عمد أصحاب المذاهب العقليّة إلى تأويل الآية إلى ما يتوافق والمعهود من حكمته تعالى. قال أصحاب الاعتزال : إحياء الموتى فعل خارق للعادة ، ومثل هذا لا يجوز إظهاره من الله إلّا عند ضرورة الإعجاز ، دليلا على صحّة نبوّة نبيّ ، إذ لو جاز ظهوره في غير ضرورة الإعجاز ، لبطلت دلالته على النبوّات (٢).

وأجاب الفخر الرازي بأنّ هذا الحادث وقع على يد نبيّ الله حز قيل (ذي الكفل) فيكون معجزة له!

قلت : القرآن خلو عن هذا الإسناد ، سوى روايات عاميّة لا اعتبار بها ، وعلى فرض صحّتها فإنّ الحادث في ظاهره لم يقع لضرورة إعجاز وليكون دليلا على نبوّة حز قيل ، على الفرض.

كما أنّ تاريخ حياة حز قيل ، سواء قبل إسارته على يد بخت نصّر أم بعدها معلومة مشهورة (٣) ، فلو كان مثل هذا الحادث وقع على يده لذكرته أسناد كتب اليهود القديمة ، وليس فيها ولا إشارة إلى هذا الحادث الرهيب!

رؤيا حز قيل

نعم هناك رؤيا رآها حز قيل ، لها شبه بما سطّره القصّاصون. فكلّ من الّذين قالوا : إنّهم قوم من بني إسرائيل أحياهم الله بدعوة حز قيل ، والّذين قالوا إنّما هذا مثل لا قصّة واقعة ، فالظاهر أنّهم

__________________

(١) الدرّ ١ : ٧٤٢ ؛ الطبري ٢ : ٧٩٤ / ٤٣٦٤ ؛ تاريخ الطبري ١ : ٣٢٣ ـ ٣٢٤.

(٢) راجع : تفسير الرازي ٦ : ١٦٤.

(٣) ولد في قرية «اليهوديّة» سنة ٥٩٨ قبل الميلاد وكانت نبوّته عبر ستّ وثلاثين سنة ، مشروحة مبيّنة في سجلّات القوم. (قاموس الكتاب المقدّس ـ جيمس هاكس : ٣٢٠).

١٨٠