التفسير الأثري الجامع - ج ٥

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-06-7
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

تلقّته جديدا مرتبطا بالتصوّر الجديد ؛ إذ ليس من الحتم أن يبطل النظام الجديد كلّ جزئيّة في النظام القديم ، ولكن من المهمّ أن ترتبط هذه الجزئيّات بأصل التصوّر الجديد ، لتصبح جزءا منه ، داخلا في كيانه ، متناسقا مع سائر أجزائه.

وجهة ثالثة تؤخذ من تاريخ هذه الفترة ، وقيام اليهود في المدينة والمشركين في مكّة ، بين الحين والحين بمحاولة التشكيك في قيمة النّظم الإسلاميّة ، وانتهاز كلّ فرصة للقيام بحملة مضلّلة على بعض التصرّفات والأحداث ، ممّا كان يستدعي بروز بعض الاستفهامات والإجابة عليها ، بما يقطع الطريق على تلك المحاولات ، ويسكب الطمأنينة واليقين في قلوب المسلمين.

ومعنى ذلك ، أنّ القرآن كان دائما في المعركة ، سواء تلك المعركة الناشئة في القلوب بين تصوّرات الجاهليّة وتصوّرات الإسلام ، والمعركة الناشئة في الجوّ الخارجيّ بين الجماعة المسلمة وأعدائها الّذين يتربّصون بها من كلّ جانب!

وممّا يسترعي الالتفات أنّ هذه المعركة كتلك ما تزال قائمة ؛ فالنفس البشريّة هي النفس البشريّة ، وأعداء الأمّة المسلمة هم أعداؤها والقرآن حاضر ، ولا نجاة للنفس البشريّة ولا للأمّة المسلمة ، إلّا بإدخال هذا القرآن في المعركة ، ليخوضها حيّة كاملة ، كما خاضها أوّل مرّة. وما لم يستيقن المسلمون من هذه الحقيقة ، فلا فلاح لهم ولا نجاح!

وأقلّ ما تنشئه هذه الحقيقة في النفس ، أن تقبل على هذا القرآن بهذا الفهم وهذا الإدراك وهذا التصوّر ، أن تواجهه وهو يتحرّك ويعمل وينشىء التصوّر الجديد ، ويقاوم تصوّرات الجاهليّة ، ويدفع عن هذه الأمّة ، ويقيها العثرات. لا كما يواجهه الناس اليوم ، نغمات حلوة ترتّل ، وكلاما جميلا يتلى ، وينتهي الأمر!! إنّه لأمر غير هذا نزّل الله القرآن. لقد نزّله لينشىء حياة كاملة ، ويحرّكها ، ويقودها إلى شاطىء الأمان بين الأشواك والعثرات ، ومشقّات الطريق ، الّتي تتناثر فيها الشهوات كما تتناثر فيها العقبات. والله المستعان! (١)

***

والآن نواجه النصّ القرآني في هذا المجال : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ).

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ١ : ٢٥٦ ـ ٢٥٨.

٨١

قد يكون السؤال ـ كما أسلفناه ـ عن الأهلّة : ظهورها ونموّها وتناقصها. ما بالها تختلف في ظهورها؟ وفي بعض الروايات (١) : السؤال عن مثل ذلك.

وقد يكون سؤالا عن أصل خلقتها والحكمة فيها؟ كما روي : أنّهم قالوا : يا رسول الله ، لم جعلت الأهلّة؟ (٢) وربما كان السؤال في صيغته الأخيرة أقرب إلى طبيعة الجواب : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ). إنّها تنفعهم في حلّهم وإحرامهم وفي صومهم وفطرهم وفي النكاح والطلاق والعدد ، وفي معاملاتهم وتجاراتهم وديونهم وما شاكل من أمور دينهم ودنياهم على سواء.

وعلى كلا التقديرين فالجواب متّجه إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرّد العلم النظري ، وحدّثهم عن وظيفة الأهلّة في واقعهم وفي حياتهم ولم يحدّثهم عن الدورة الفلكيّة للقمر وكيف تتمّ ، وعن دور القمر في المجموعة الشمسيّة أو في توازن حركة الأجرام السماويّة وما إلى ذلك.

إنّ العلم النظري من هذا الطراز بحاجة إلى مقدّمات وتمهيدات ، ربما كانت بالقياس إلى عقليّة العالم كلّه في ذلك الزمان ، معضلات. ومن هنا عدل عن الإجابة الّتي لم تتهيّأ لها البشريّة ، ولا تفيدها في المهمّة الّتي جاء القرآن من أجلها.

مقارنة بين القرآن والنظريّات العلميّة

القرآن جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئيّة ، لم يجىء ليكون كتاب علم فلكيّ أو كيماويّ أو طبّيّ ، كما يحاول بعض المتحمّسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم ، أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يلتمسوا مخالفاته لهذه العلوم!

إنّ كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله ؛ إنّ مجاله هو النفس الإنسانيّة والحياة الإنسانيّة. إنّ وظيفته أن ينشىء تصوّرا عامّا للوجود وارتباطه بخالقه ، ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربّه ، وأن يقيم على أساس هذا التصوّر نظاما

__________________

(١) انظر : ابن عساكر ١ : ٢٥ ، فيما أخرجه عن ابن عبّاس ؛ والثعلبي ٢ : ٨٥ ـ ٨٦ ؛ وابن أبي حاتم ١ : ٣٢٢ / ١٧٠٧ ؛ والحاكم ١ : ٤٢٣ ، والبيهقي ٤ : ٢٠٥ ، ومسند أحمد ٤ : ٢٣ ، الدار قطني ٢ : ١٤٣ / ٢٩.

(٢) انظر : الطبري ٢ : ٢٥٣ / ٢٥١٠ ؛ والدرّ ١ : ٤٩٠ ، عن قتادة. وابن أبي حاتم ١ : ٣٢٢ / ١٧٠٨ عن أبي العالية : «لم خلقت الأهلّة»؟

٨٢

للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كلّ طاقاته ، ومن بينها طاقاته العقليّة ، الّتي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامة ، وإطلاق المجال لها لتعمل ـ بالبحث العلمي ـ في الحدود المتاحة للإنسان ـ وبالتجريب والتطبيق ـ وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج ، وليست نهائيّة ولا مطلقة بطبيعة الحال.

إنّ مادّة القرآن الّتي يعمل فيها ، هي الإنسان ذاته ، تصوّره واعتقاده ومشاعره ومفهوماته ، وسلوكه وأعماله ، وروابطه وعلاقاته. أمّا العلوم المادّيّة ، والإبداع في عالم المادّة بشتّى وسائله وصنوفه ، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظريّاته ، بما أنّها أساس خلافته في الأرض ، وربما أنّه مهيّأ لها بطبيعة تكوينه. والقرآن يصحّح له فطرته كي لا تنحرف ولا تفسد ، ويصحّح له النظام الّذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له ، ويزوّده بالتصوّر التامّ لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه وتناسق تكوينه ، وطبيعة العلاقة القائمة بين أجزائه ـ وهو أي الإنسان أحد أجزائه ـ ثمّ يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيّات والانتفاع بها في خلافته. ولا يعطيه التفصيلات ، لأنّ معرفة هذه التفصيلات جزء من عمله الذاتيّ.

قال سيّد قطب : وإنّي لأعجب لسذاجة المتحمّسين لهذا القرآن ، الّذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه ، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه ، وأن يستخرجوا منه جزئيّات في علوم الطبّ والكيمياء والفلك وما إليها. كأنّما ليعظّموه بهذا ويكبّروه!

إنّ القرآن كتاب كامل في موضوعه ، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلّها. لأنّه هو الإنسان ذاته ، الّذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها ، والبحث والتجريب والتطبيق من خواصّ العقل في الإنسان. والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه ؛ بناء شخصيّته وضميره وعقله وتفكيره ، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الّذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه ، وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصوّر والتفكير والشعور ، ويوجد المجتمع الّذي يسمح له بالنشاط ، يتركه القرآن يبحث ويجرّب ، ويخطىء ويصيب ، في مجال العلم والبحث والتجريب ، وقد ضمن له موازين التصوّر والتدبّر والتفكير الصحيح.

كذلك لا يجوز أن نعلّق الحقائق النهائيّة الّتي يذكرها القرآن أحيانا عن الكون ، في طريقه لإنشاء التصوّر الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه ، وطبيعة التناسق بين أجزائه. لا يجوز أن نعلّق هذه الحقائق النهائيّة الّتي يذكرها القرآن ، بفروض العقل البشريّ ونظريّاته ، ولا حتّى بما

٨٣

يسمّيه «حقائق علميّة» ممّا ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره!

إنّ الحقائق القرآنيّة حقائق نهائيّة قاطعة مطلقة ، أمّا ما يصل إليه البحث الإنساني ـ أيّا كانت الأدوات المتاحة له ـ فهي حقائق غير نهائيّة ولا قاطعة ، وهي مقيّدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها. فمن الخطأ المنهجيّ ـ بحكم المنهج العلميّ الإنسانيّ ذاته ـ أن نعلّق الحقائق النهائيّة القرآنيّة بحقائق غير نهائيّة ، وهي كلّ ما يصل إليه العلم البشريّ!

هذا بالقياس إلى «الحقائق العلميّة». والأمر أوضح بالقياس إلى النظريّات والفروض الّتي تسمّى «علميّة». ومن هذه النظريّات والفروض كلّ النظريّات الفلكيّة ، وكلّ النظريّات الخاصّة بنشأة الإنسان وأطواره ، وكلّ النظريّات الخاصّة بنفس الإنسان وسلوكه. وكلّ النظريّات الخاصّة بنشأة المجتمعات وأطوارها. فهذه كلّها ليست «حقائق علميّة» حتّى بالقياس الإنساني ، وإنّما هي نظريّات وفروض ؛ كلّ قيمتها أنّها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونيّة أو الحيويّة أو النفسيّة أو الاجتماعيّة ، إلى أن يظهر فرض آخر يفسّر قدرا أكبر من الظواهر ، أو يفسّر تلك الظواهر تفسيرا أدقّ! ومن ثمّ فهي قابلة دائما للتغيير والتعديل والنقص والإضافة ، بل قابلة لأن تنقلب رأسا على عقب ، بظهور أداة كشف جديدة ، أو تفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة!

وكلّ محاولة لتعليق الإشارات القرآنيّة العامّة ، بما يصل إليه العلم من نظريّات متجدّدة متغيّرة ـ أو حتّى بحقائق علميّة ليست مطلقة كما أسلفنا ـ تحتوي أوّلا على خطأ منهجيّ أساسيّ ، كما أنّها تنطوي على معان ثلاثة كلّها لا يليق بجلال القرآن الكريم.

الأولى : هي الهزيمة الداخليّة الّتي تخيّل لبعض الناس أنّ العلم هو المهيمن والقرآن تابع. ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم ، أو الاستدلال له من العلم! على حين أنّ القرآن كتاب كامل في موضوعه ، ونهائيّ في حقائقه. والعلم ما يزال موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس ، وكلّ ما يصل إليه غير نهائيّ ولا مطلق ، لأنّه مقيّد بوسط الإنسان وعقله وأدواته ، وكلّها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائيّة مطلقة.

والثانية : سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته. وهي أنّه حقيقة نهائيّة مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتّفق ـ بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبيّة ـ مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهيّ. حتّى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله ، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره ، ويستخدم بعض نواميسه

٨٤

في خلافته. نواميسه الّتي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق ، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل ، لا ليتسلّم المعلومات المادّيّة جاهزة!

والثالثة : هي التأويل المستمرّ ـ مع التمحّل والتكلّف ـ لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريّات الّتي لا تثبت ولا تستقرّ ، وكلّ يوم يجد فيها جديد.

وكلّ أولئك لا يليق وجلال القرآن ، كما أنّه يحتوي على خطأ منهجيّ كما أسلفنا.

هل بإمكان النظريّات العلميّة المساعدة على فهم القرآن؟

قال : ولكن هذا لا يعني أن لا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريّات ـ ومن حقائقه ـ عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن ، كلّا! إنّ هذا ليس هو الّذي عنينا بذلك البيان ، وقد قال الله ـ سبحانه ـ : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ)(١). ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظلّ نتدبّر كلّ ما يكشفه العلم في الآفاق والأنفس من آيات الله ، وأن نوسّع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنيّة في تصوّرنا.

فكيف؟ ودون أن نعلّق النصوص القرآنيّة النهائيّة المطلقة بمدلولات ليست نهائيّة ولا مطلقة؟ هنا ينفع المثال :

يقول القرآن الكريم ـ مثلا ـ : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(٢). ثمّ تكشف الملاحظات العلميّة أنّ هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقّة في هذا الكون ، الأرض بهيأتها هذه وببعد الشمس عنها هذا البعد ، وبعد القمر عنها هذا البعد ، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها ، وبسرعة حركتها هذه ، وبميل محورها هذا ، وبتكوين سطحها هذا ... وبآلاف من الخصائص ، هي الّتي تصلح للحياة وتوائمها. فليس شيء من هذا كلّه فلتة عارضة ، ولا مصادفة غير مقصودة. هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) وتعميقه في تصوّرنا. فلا بأس من تتّبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه. وهكذا.

هذا جائز ومطلوب. ولكنّ الّذي لا يجوز ولا يصحّ علميّا ، هذه الأمثلة الأخرى :

__________________

(١) فصّلت ٤١ : ٥٣.

(٢) الفرقان ٢٥ : ٢.

٨٥

يقول القرآن الكريم : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ)(١). ثمّ توجد نظريّة في النشوء والارتقاء ل «والاس» و «دارون» تفرض أنّ الحياة بدأت خليّة واحدة ، وأنّ هذه الخليّة نشأت في الماء ، وأنّها تطوّرت حتّى انتهت إلى خلق الإنسان. فنحمل نحن هذا النصّ القرآنيّ ونلهث وراء النظريّة ، لنقول : هذا هو الّذي عناه القرآن!!!

لا ، إنّ هذه النظريّة أوّلا ليست نهائيّة ؛ فقد دخل عليها من التعديل في أقلّ من قرن من الزمان ما يكاد يغيّرها نهائيّا ، وقد ظهر فيها من النقص المبنيّ على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة الّتي تحفظ لكلّ نوع بخصائصه ، ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر ، ما يكاد يبطلها وهي معرضة غدا للنقض والبطلان. بينما الحقيقة القرآنيّة نهائيّة ، وليس من الضروريّ أن يكون هذا معناها ، فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان ولا تذكر تفصيلات هذه النشأة ، وهي نهائيّة في النقطة الّتي تستهدفها وهي ، أصل النشأة الإنسانيّة. وكفى. ولا زيادة.

ويقول القرآن الكريم : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها)(٢). فيثبت حقيقة نهائيّة عن الشمس وهي : أنّها تجري. ويقول العلم : إنّ الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدّرت بنحو ١٢ ميلا في الثانية. ولكنّها في دورانها مع المجرّة الّتي هي واحدة من نجومها تجري جميعا بسرعة ١٧٠ ميلا في الثانية. ولكن هذه الملاحظات الفلكيّة ليست هي عين مدلول الآية القرآنيّة. إنّ هذه تعطينا حقيقة نسبيّة غير نهائيّة قابلة للتعديل أو البطلان. أمّا الآية القرآنيّة فتعطينا حقيقة نهائيّة ـ في أنّ الشمس تجري ـ وكفى. فلا نعلّق هذه بتلك أبدا!

ويقول القرآن الكريم : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما)(٣). ثمّ تظهر نظريّة تقول : إنّ الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها ، فنحمل النصّ القرآني ونلهث لندرك هذه النظريّة العلميّة ، ونقول : هذا ما تعنيه الآية القرآنيّة؟

لا ، ليس هذا هو الّذي تعنيه! فهذه نظريّة ليست نهائيّة ؛ وهناك عدّة نظريّات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلميّ! أمّا الحقيقة القرآنيّة فهي نهائيّة ومطلقة. وهي تحدّد فقط أنّ الأرض فصلت عن السماء ، كيف؟ ما هي السماء الّتي فصلت عنها؟ هذا ما لا تتعرّض له

__________________

(١) المؤمنون ٢٣ : ١٢.

(٢) يس ٣٦ : ٣٨.

(٣) الأنبياء ٢١ : ٣٠.

٨٦

الآية. ومن ثمّ لا يجوز أن يقال عن أيّ فرض من الفروض العلميّة في هذا الموضوع ، إنّه المدلول النهائيّ المطابق للآية!

قال : وحسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة ، فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلميّة في توسيع مدلول الآيات القرآنيّة وتعميقها ، دون تعليقها بنظريّة خاصّة أو بحقيقة علميّة خاصّة ، تعليق تطابق وتصديق ، وفرق بين هذا وذاك! (١).

وقد نقلنا كلامه هنا بكمال ، لما فيه من الوفاء بشرائط استخدام النظريّات العلميّة ـ الموسومة عندهم بالحقائق الراهنة ـ في فهم القرآن الكريم. وأن لا بأس به ما لم يكن من الحمل المتكلّف فيه ولا أن يكون هناك تعليق قاطع ، مادام العلم في حركة دائبة ، لا يتناسب والكلمة الأخيرة الّتي قالها القرآن الكريم ، وصدق الله العليّ العظيم.

قوله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها)

وهذا الشطر من الآية ، ترتبط مع عادة جاهليّة كانت سائدة عندهم في مراسيم الحجّ ؛ كانوا إذا أحرم الرجل منهم بالحجّ أو العمرة ، لم يدخل حائطا ولا بيتا ولا دارا من بابه ، فإن كان من أهل المدر (٢) نقب نقبا في ظهر بيته ليدخل منه ويخرج ، أو يتّخذ سلّما فيصعد منه ويهبط ، وإن كان من أهل الوبر (٣) خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتّى يحلّ من إحرامه.

وكانوا يرون ذلك برّا (مرسوما حسنا من مراسيم الحجّ) سوى الحمس ، وهم : قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخيثم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نضر بن معاوية ، سمّوا حمسا ، لتشدّدهم في دينهم ، والحماسة : الشدّة والصلابة. فكانوا لا يأبهون بذلك ولا يرون الدخول من الأبواب ذمّا ، لا في الإحرام ولا في العودة من الأسفار ، كما كان الأنصار ـ في جاهليّتهم ـ يرونه ذمّا في مطلق الرجعة من السفر.

[٢ / ٥٢٦٠] روى البخاري ومسلم وغيرهما بالإسناد إلى البراء بن عازب ، قال : كان الأنصار إذا

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ١ : ٢٦٠ ـ ٢٦٣.

(٢) المدر : المدن والحضر.

(٣) الوبر : صوف الإبل والأرانب. وأهل الوبر : الّذين يعيشون في الخيم.

٨٧

حجّوا ، فجاؤوا ، أو عادوا من سفرهم ، لم يدخلوا البيوت أو الخيم من قبل أبوابها. فجاء رجل منهم فدخل من قبل الباب ، فكأنّه عير بذلك. فنزلت الآية دفعا لتوهّم العار ورفعا لسنّة جاهليّة كانت بدعة لا مبرّر لها (١).

وسواء كانت هذه عادتهم في السفر بصفة عامّة ، أو في الحجّ بصفة خاصّة ، وهو الأظهر في السياق ، فقد كانوا يعتقدون أنّ هذا هو البرّ ـ أي الخير أو الإيمان ـ فجاء القرآن ليبطل هذا التصوّر الفارغ ، وهذا العمل المتكلّف فيه الّذي لا يستند إلى حجّة ، ولا يؤدّي إلى شيء! وجاء ليصحّح التصوّر الإيماني للبرّ. فالبرّ هو التقوى ، هو الشعور بالله ورقابته في السرّ والعلن ، وليس شكليّة من الشكليّات الّتي لا ترمز إلى شيء من حقيقة الإيمان. ولا تعني أكثر من عادة جاهليّة فارغة!

كذلك أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها ، وكرّر الإشارة إلى التقوى ، بوصفها سبيل الفلاح : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وبهذا ربط القلوب بحقيقة إيمانيّة أصيلة ـ هي التقوى ـ وربط هذه الحقيقة برجاء الفلاح المطلق في الدنيا والآخرة ، وأبطل كلّ عادة جاهليّة فارغة لا طائل تحتها. ووجّه المؤمنين إلى إدراك نعمة الله عليهم ، بأن هداهم إلى طريق المكرمات وأجزل لهم المثوبات. فكان تحذيرا من ردى وتحضيضا إلى هدى جميعا ، كلّ ذلك في آية واحدة قصيرة.

وأتوا الأمور من وجوهها

والآية في رسالتها العامّة تهدف إلى تثبيت أصل إيمانيّ ، ينبغي أن يكون مسيطرا على حياة المسلمين في كافّة أنحائها الفرديّة والاجتماعيّة ، فلا يدخلوا في أمر ولا يخرجوا منه إلّا عن طريقه المستقيم المألوف ، ويدعوا منعرجات السبل ، الأمر الّذي يضمن لهم النجاح والفلاح ، إن دنيا أو آخرة ، وعلى ذمّة الخلود.

(وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) من طرقها المألوفة المستقيمة. (وَاتَّقُوا اللهَ) واحذروا منحدرات

__________________

(١) البخاري ٢ : ٢٠٥ ، و ٥ : ١٥٦ ـ ١٥٧ ، و ٧ : ٢٣٤ ؛ مسلم ٨ : ٢٤٣ ؛ الحاكم ١ : ٤٨٣ ؛ سنن سعيد ٢ : ٧٠٧ / ٢٨٣ ؛ أسباب النزول للواحدي : ٢٨ ـ ٢٩ ؛ الطبري ٢ : ٢٥٥ / ٢٥١٨ ؛ الدرّ ١ : ٤٩٣ ، و ٧ : ٥٦٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٣٢٣ / ١٧٠٩ ؛ الثعلبي ٢ : ٨٥ ـ ٨٦ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣١٣ ـ ٣١٤ / ١٩٤ ـ ١٩٥.

٨٨

السّبل المضلّة. والتقوى ـ كما أسلفنا ـ هو التزام الجادّة الوسطى الّتي لا اعوجاج فيها ولا انحراف. (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(١). وهذا هو الفلاح الدائم الأبديّ وفي كنفه تعالى المستديم.

[٢ / ٥٢٦١] روى العيّاشيّ والبرقيّ بالإسناد إلى جابر بن يزيد الجعفي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها). قال : «يعني أن يأتي الأمر من وجهه ، أيّ الأمور كان» (٢).

وقال بعضهم : هذا مثل ضربه الله لهم : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) أي وأتوا البرّ من وجهه الّذي أمر الله به ورغّب فيه. قال الشيخ : وهو وجه حسن (٣). فلتجري الأمور على استقامتها المعروفة ، وعلى سبيل الطاعة لأوامره تعالى في جميع الشؤون.

ومن الطرق المؤدّية إلى الفلاح ، اللجوء إلى أبواب رحمته تعالى ، محمّد وآله الطيّبين (صلوات الله عليهم اجمعين).

[٢ / ٥٢٦٢] روى الصفّار بالإسناد إلى سعد الإسكاف عن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام قال : «جعل الله محمّدا وآل محمّد الأبواب الّتي تؤتى منها ، وذلك قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها)» (٤).

وبمعناه روى الكلينيّ والعيّاشيّ وغيرهما (٥).

[٢ / ٥٢٦٣] وقال الإمام أبو جعفر عليه‌السلام : «آل محمّد أبواب الله ، وسبله ، والدّعاة إلى الجنّة ، والقادة إليها ، والأدلّاء عليها إلى يوم القيامة» (٦).

[٢ / ٥٢٦٤] وعن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «وقد جعل الله للعلم أهلا وفرض على العباد

__________________

(١) الجنّ ٧٢ : ١٦.

(٢) العيّاشيّ ١ : ١٠٥ / ٢١٢ ؛ المحاسن ١ : ٢٢٤ / ١٤٣ ، باب ١١ ؛ البحار ٢ : ١٠٤ / ٦١ و : ٢٦٢ / ٨ ؛ البرهان ١ : ٤١٦ / ٦ ؛ التبيان ٢ : ١٤٢ ؛ مجمع البيان ٢ : ٢٧.

(٣) التبيان ٢ : ١٤٢ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٦٧.

(٤) البصائر : ٥١٩ / ١١ ، باب ١٩ ؛ البحار ٨ : ٣٣٦ / ٥ ، باب ٢٥.

(٥) الكافي ١ : ١٩٣ / ٢ ؛ العيّاشيّ ١ : ١٠٥ / ٢١١ ؛ الاحتجاج للطبرسي ١ : ٣٣٨ ؛ البحار ٢٤ : ٢٤٨.

(٦) مجمع البيان ٢ : ٢٧ ـ ٢٨ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٢٦٠ ؛ البرهان ١ : ٤١٦ / ١٠ ؛ نور الثقلين ١ : ١٧٨ / ٦٢٣.

٨٩

طاعتهم ، بقوله تعالى : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها). والبيوت هي بيوت العلم الّذي استودعه الأنبياء ، وأبوابها أوصياؤهم» (١).

[٢ / ٥٢٦٥] وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، ولا تؤتى المدينة إلّا من قبل بابها».

[٢ / ٥٢٦٦] ويروى : «أنا مدينة الحكمة وعليّ بابها» (٢).

[٢ / ٥٢٦٧] وروى الكليني بالإسناد إلى محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «كان في بني إسرائيل من إذا دعى الله استجيب له ، وكان قد دعى رجل منهم واجتهد في الدعاء أربعين ليلة ، فلم يستجب له ، فأتى عيسى بن مريم عليهما‌السلام يشكو إليه عدم إجابته ، فسأل الله عن ذلك ، فأوحى الله إليه : يا عيسى ، إنّه أتاني من غير الباب الّذي أؤتى منه ؛ إنّه دعاني وفي قلبه شكّ منك ، فلو دعاني حتّى ينقطع عنقه وتنتثر أنامله ما استجبت له! فالتفت عيسى عليه‌السلام إلى الرجل فقال : تدعو ربّك وأنت في شكّ من نبيّه؟! فقال : يا روح الله وكلمته ، قد كان والله ما قلت ، فادع الله لي أن يذهب به عنّي. فدعا له عيسى فتاب الله عليه» (٣).

قلت : ويؤيّد ذلك ويدعمه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)(٤). وخير وسيلة ناجحة هو التوسّل إلى أعتاب نبيّ الرحمة وأهل بيته الأطيبين. قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(٥).

[٢ / ٥٢٦٨] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ؛ من ركبها نجى ومن تخلّف عنها غرق وهوى». وفي رواية : «هلك».

[٢ / ٥٢٦٩] وقال : «ومثل أهل بيتي مثل باب حطّة بني إسرائيل».

إلى غيرهما من أحاديث متواترة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن أهل بيته الأطهار وأنّهم سبل النجاة. أخرجها الحاكم وغيره بالإسناد إلى أبي ذرّ وغيره من وجوه الأصحاب (٦).

__________________

(١) البحار ٦٥ : ٢٦٦ و ٩٠ : ١١١.

(٢) القمي ١ : ٦٨ ؛ البحار ٢٨ : ١٩٩ ؛ الاحتجاج ١ : ١٠٢.

(٣) الكافي ٢ : ٤٠٠ / ٩ ، نقلا باختزال ؛ البحار ١٤ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٢٦١ ، من كتاب أبي عمرو الزاهد.

(٤) المائدة ٥ : ٣٥.

(٥) النساء ٤ : ٦٤.

(٦) الحاكم ٢ : ٣٤٣ ؛ كنز العمّال ١٢ : ٩٤ / ٣٤١٤٤ ، و ٩٨ ـ ٩٩ / ٣٤١٧٠ ؛ مجمع الزوائد ٩ : ١٦٨ ؛ حلية الأولياء ٤ : ٣٠٦ ؛ فضائل الخمسة ، للفيروزآبادي ٢ : ٥٦ ـ ٥٩.

٩٠

قال تعالى :

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤))

ورد في بعض الروايات أنّ هذه الآيات هي أوّل ما نزل في القتال (١) ، وكان قد نزل قبلها الإذن من الله للمؤمنين بأن يقاتلوا من ظلمهم : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ...)(٢). وأحسّ المسلمون بأنّ هذا الإذن هو مقدّمة لفرض الجهاد ، لغرض التمكين لهم في الأرض. ومن ثمّ كانوا يعرفون لم أذن لهم : بأنّهم ظلموا. وأعطيت لهم حقّ الانتصاف من هذا الظلم ، بعد أن كانوا مكفوفين عن دفعه وهم في مكّة ، وقد قيل لهم : (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(٣).

فقد كان يراد من وراء ذلك تطويع نفوس المؤمنين للصبر والأناة ، امتثالا للأمر وخضوعا للقيادة الحكيمة وانتظارا للإذن. وقد آن أوانه فليستعدّوا وليأخذوا أهبّتهم للدفاع مثلا بمثل. وأن لا يتجاوزوا ولا يعتدوا.

وآية القتال هذه نزلت بالمناسبة مع آية الإهلال بالحجّ وأن ليس البرّ بأن تأتوا البيوت من

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ٣٢٥ / ١٧١٩ ، عن أبي العالية قال : هذه أوّل آية نزلت في القتال ، بالمدينة. فلمّا نزلت كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقاتل من قاتله ، ويكفّ عمّن كفّ عنه ، حتّى نزلت سورة براءة.

(٢) الحجّ ٢٢ : ٣٩.

(٣) النساء ٤ : ٧٧.

٩١

ظهورها ، وهو استطراد دعا إليه استعداد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمرة القضاء سنة ستّ (١) ، وتوقّع المسلمين غدر المشركين بالعهد ، وهو قتال متوقّع لقصد الدفاع ، لقوله : (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ؛ فكان إذنا للقتال مع من قاتلهم ، وليس إذنا في مبادأة القتال. وسوف ننبّه أن لا قتال ابتدائيّا في شريعة الإسلام ، وإنّما هو دفاع محض ، لغرض هدم السدود الّتي يضربها العدوّ ، دون نشر الدعوة ، وقد خاب ظنّهم وخسر هنالك المبطلون.

مشروعيّة القتال دفاعا عن الحقّ

إذ من حقّ البشريّة أن تبلغ إليها الدعوة وأن لا تقف عقبة أو سلطة في وجه التبليغ بأيّ حال من الأحوال. كما أنّ من حقّ البشريّة كذلك أن يترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحرارا في اعتناق الدين ، لا تصدّهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة.

وعليه فإذا أبى فريق من الناس أن يعتنقه بعد البيان ، لم يكن له أن يصدّ الدعوة عن المضيّ في طريقها ، وكان عليه أن يعطي من العهود ما يكفل لها الحرّيّة والاطمئنان ، وما يضمن للجماعة المسلمة المضيّ في طريق الدعوة بلا عدوان.

فإذا اعتنقها من هداهم الله إليها ، كان من حقّهم أن لا يفتنوا عنها بأيّ وسيلة من وسائل الفتنة ، لا بأذى ولا بإغراء ولا بإقامة أوضاع من شأنها صدّ الناس عن الهدى وتعويقهم عن الاستجابة.

فكان من واجب الجماعة المسلمة أن تدفع عنهم بالقوّة من يتعرّض لهم بالأذى والفتنة ، ضمانا لحرّيّة العقيدة ، وكفالة لأمن الّذين هداهم الله ، وإقرارا لمنهج الله في الحياة ، وحماية للبشريّة من الحرمان من ذلك الخير العام.

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ٨٨. عن ابن عبّاس قال : نزلت هذه الآية في صلح الحديبيّة وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج مع أصحابه للعمرة وكانوا ألفا وأربعمائة ، فساروا حتّى نزلوا الحديبيّة فصدّهم المشركون عن البيت الحرام ، فصالحهم على أن يرجع عامه ذلك على أن يخلوا له مكّة عام قابل ثلاثة أيّام ، فيطوف بالبيت. فلمّا كان العام المقبل تجهّز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لا تفي قريش بما قالوا ، وأن يصدّوهم عن البيت الحرام ، وكره أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم ، فأنزل الله تعالى : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ يعني محرمين الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ يعني قريشا وَلا تَعْتَدُوا ولا تظلموا فتبدأوا في الحرم بالقتال محرمين (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

٩٢

وينشأ من هذه الحقوق الذاتيّة لبني الإنسان واجب آخر على الجماعة المسلمة ؛ وهو أن تحطّم كلّ قوّة تعترض طريق الدعوة وإبلاغها للناس في حرّيّة ، أو تهدّد حرّيّة اعتناق العقيدة وتفتن الناس عنها ، وأن تظلّ تجاهد حتّى تصبح الفتنة للمؤمنين غير ممكنة ، وأنّ القوّة لله ، ويكون الدين هو الظاهر الغالب المسيطر.

لكن لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان ، بل بمعنى استعلاء دين الله في الأرض ، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول ، ولا يخاف قوّة في الأرض تصدّه عن دين الله أن يبلغه ، وأن يستجيب له ، وأن يديم عليه. وبحيث لا يكون في الأرض وضع أو نظام ، يحجب نور الله وهداه عن أهله ، ويضلّهم عن سبيل الله ، بأيّة وسيلة وبأيّة أداة.

قال سيّد قطب : وفي حدود هذه المبادىء العامّة كان الجهاد في الإسلام. وكان لهذه الأهداف العليا وحدها ، غير ملتبسة بأيّ هدف آخر ، ولا بأيّ شارة أخرى!

إنّه الجهاد للعقيدة ، لحمايتها من الحصار ، وحمايتها من الفتنة ، وحماية منهجها وشريعتها في الحياة ، وإقرار رايتها في الأرض ، بحيث يرهبها من يهمّ بالاعتداء عليها قبل الاعتداء (١) ، وبحيث يلجأ إليها كلّ راغب فيها ، لا يخشى قوّة أخرى في الأرض تتعرّض له أو تمنعه أو تفتنه.

وهذا هو الجهاد الوحيد الّذي يأمر به الإسلام ، ويقرّه ويثيب عليه ، ويعتبر الّذين يقتلون فيه شهداء ، والّذين يحتملون أعباءه أولياء (٢).

***

ولسيّدنا العلّامة الطباطبائي بيان لطيف عن الجهاد في الإسلام ، وأنّه الدفاع عن حقوق الإنسان الأوّليّة الفطريّة. حيث الإسلام دين التوحيد ودين الفطرة ، ومن ثمّ فإنّه القيّم الكافل لإصلاح الإنسانيّة في جميع ساحات حياتها : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٣).

فإقامة الدين والحفاظ عليه من أهمّ حقوق الإنسان المشروعة. وينشأ من هذا الحقّ ، حقّ

__________________

(١) (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال ٨ : ٦٠).

(٢) في ظلال القرآن ، ١ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

(٣) الروم ٣٠ : ٣٠.

٩٣

آخر فطريّ هو الدفاع عن حقوق الإنسان في شتّى ميادينها. (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(١). (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)(٢).

والفطرة تقضي بأنّ التوحيد هو الأساس الّذي يجب ابتناء القوانين الفرديّة والاجتماعيّة عليه ، وأنّ الدفاع عن هذا الأصل إنّما هو بفسح المجال لنشره وبثّه بين الناس ، والدفاع عنه حقّ مشروع للإنسانيّة يجب استيفاؤه بأيّ وسيلة ممكنة ، وبشرط مراعاة طريقة الاعتدال والاحتراز عن الاعتداء.

وكما أنّ الفطرة والجبلّة الإنسانيّة وهبته حقّ التصرّف في الوجود ، وأفسحت له المجال في الانتفاع بمواهب الطبيعة حيث يشاء ، وبلا مانع ولا رادع ، سوى مراعاة طريقة الاعتدال ، كذلك أعطته حقّ الدفاع عن حقوقه المشروعة بحسب فطرته وطبيعة ذاته. حيث الدار دار تنازع وتزاحم في البقاء ، وكلّ يرى الحفاظ على حقوقه والدفاع عنها بشتّى أنواع الوسائل الممكنة المستقيمة. فكلّ قتال ومنابذة ، هو في الحقيقة دفاع حرّ عن الكيان الّذي يفرضه الإنسان لنفسه ، إن حقّا أو باطلا. إلّا من هداه الله إلى طريق الحقّ الصراح. الأمر الّذي أكّد عليه القرآن وأوضح الطريق إليه (٣).

***

والآيات هذه من سورة البقرة تواجه وضع الجماعة المسلمة في المدينة مع مشركي قريش ، الّذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وآذوهم في دينهم وحاولوا الفتنة في عقيدتهم. وهي ـ مع هذا ـ تمثّل قاعدة أحكام الجهاد في الإسلام :

تبدأ الآيات بأمر المسلمين بقتال من لا يزالون يقاتلونهم ، ثمّ بقتال من سوف يقاتلهم في أيّ وقت وفي أيّ مكان (٤) ، ولكن دون الاعتداء!

وفي بداية آيات القتال نجد التحديد الحاسم لهدف الجهاد ، والراية الّتي تخاض المعركة تحتها في وضوح وجلاء :

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ؛ إنّه القتال لله محضا ، دون غيره من أهداف عرفتها

__________________

(١) الحجّ ٢٢ : ٤٠.

(٢) البقرة ٢ : ٢٥١.

(٣) الميزان ٢ : ٦٥ ـ ٧٢. باختزال وتلخيص.

(٤) أي ليس ابتدائيّا على أيّ حال.

٩٤

البشريّة لحدّ ذاك ولا تزال.

إنّه الجهاد لإعلاء كلمة الله في الأرض وإقرار منهجه في الحياة ، وحماية المؤمنين أن يفتنوا عن دينهم أو أن يصدّ عليهم إبلاغ رسالة الله إلى الملأ من الناس.

كما ومع تحديد الهدف تحديد المدى : (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). فلا يتجاوزوا المحاربين إلى غيرهم من الآمنين المسالمين ، ولا الّذين لا يشكّلون خطرا على المسلمين ، كما لا يكون يتجاوز آداب القتال الّتي شرعها الإسلام.

[٢ / ٥٢٧٠] فقد روي : «أنّه وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنهى عن قتل النساء والصبيان» (١).

[٢ / ٥٢٧١] وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه» (٢).

[٢ / ٥٢٧٢] وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعفّ الناس قتلة أهل الإيمان» (٣).

[٢ / ٥٢٧٣] وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن النّهبى والمثلة» (٤).

[٢ / ٥٢٧٤] وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الحرق والتعذيب بالنار ، وقال : «لا يعذّب بالنار إلّا الله» (٥).

[٢ / ٥٢٧٥] وعن أبي أيّوب الأنصاري قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عن قتل الصبر. وقال :

فو الّذي نفسي بيده لو كانت دجاجة ما صبرتها» (٦).

[٢ / ٥٢٧٦] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (وَلا تَعْتَدُوا) يقول : لا تقتلوا النساء والصبيان ، ولا الشيخ الكبير ، ولا من ألقى السلم وكفّ يده ، فإن فعلتم فقد اعتديتم! (٧).

__________________

(١) البخاري ٤ : ٢١ ؛ مسلم ٥ : ١٤٤ ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٦٥٤ ؛ الدرّ ١ : ٤٩٣.

(٢) مسند أحمد ٢ : ٣١٣ و ٣٢٧ ؛ البخاري ٣ : ١٢٦ ؛ مسلم ٨ : ٣١ و ٣٢.

(٣) أبو داوود ١ : ٦٠٢ / ٢٦٦٦ ؛ مسند أحمد ١ : ٣٩٣ ؛ ابن ماجة ٢ : ٨٩٤ / ٢٦٨١.

(٤) البخاري ٣ : ١٠٧ و ٦ : ٢٢٨ ؛ مسند أحمد ٤ : ٣٠٧.

(٥) البخاري ٤ : ٧ و ٢١ ؛ الترمذي ٣ : ٦٧ / ١٦١٩ ؛ أبو داوود ١ : ٦٠٣ / ٢٦٧٣.

(٦) أبو داوود ١ : ٦٠٨ / ٢٦٨٧ ، وقتل الصبر : القتل بصفحة السيف لا بشفرته. وهو نوع من التعذيب بالموت البطيء.

(٧) الدرّ ١ : ٤٩٣ ؛ الطبري ٢ : ٢٥٩ / ٢٥٣٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٣٢٥ / ١٧٢١ ؛ الثعلبي ٢ : ٨٧ ، نقلا عن مجاهد أيضا ؛ البغوي ١ : ٢٣٦ ، نقلا عن ابن عبّاس ومجاهد ، وزاد ـ بعد قوله : الشيخ الكبير ـ والرهبان ؛ أبو الفتوح ٣ : ٦٩.

٩٥

[٢ / ٥٢٧٧] وأخرج ابن أبي شيبة عن أنس قال : كنّا إذا استنفرنا نزلنا بظهر المدينة حتّى يخرج إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول : «انطلقوا بسم الله وفي سبيل الله تقاتلون أعداء الله ، لا تقتلوا شيخا فانيا ، ولا طفلا صغيرا ، ولا امرأة ، ولا تغلّوا» (١).

[٢ / ٥٢٧٨] وعن بريدة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : «اغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا ، ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع» (٢).

***

وبعد فهذه هي الحرب الّتي يخوضها الإسلام ، وهذه هي آدابه فيها ، وهذه هي أهدافه منها.

وهي جميعا تنبثق من ذلك التوجيه القرآنيّ النزيه : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). نعم وكان المسلمون يعلمون أنّ لا نصرة بعدد ولا عدّة ، إنّما هو نصر من الله وعونه ، وبفضل طاعتهم لأمره والحفاظ على حريم شريعته ، بشأن مقابلة الأعداء ، بل وفي كلّ مجالات الدين في الحياة. ومن ثمّ كانوا منصورين مظفّرين.

***

ثمّ يمضي السياق في توكيد قتال هؤلاء الّذين هم أهل بغي وفساد في الأرض ، ممّن فتنوا المؤمنين في دينهم وأخرجوهم من ديارهم. فليقاتلوهم على أية حال ولينقطع جذر الشقاق والنفاق. ويخلص الدين لله ويظهر على الدين كلّه.

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ). هذا أمر بقتل من يعثر عليه من المناوئين للإسلام أينما وجدوا. فإنّهم على حالة المنابذة مع الإسلام أينما حلّوا وارتحلوا. ومن ثمّ قال : (وَاقْتُلُوهُمْ) ، ولم يقل : «وقاتلوهم» ، تنبيها على ضرورة قطع جذر الفتنة ، سواء بدا بصورة محارب شاهر سيفه ، أو اختفى

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤٩٣ ؛ المصنّف ٧ : ٦٥٤ / ٧ ، باب ٩٥ ؛ مسند أحمد ١ : ٣٠٠ ؛ أبو داوود ١ : ٥٨٨ ـ ٥٨٩ / ٢٦١٤ ، بلفظ : «وعن ابن عبّاس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا بعث جيوشه قال : اخرجوا بسم الله ، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، لا تعتدوا ولا تغلّوا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع» رواه الإمام أحمد. ولأبي داوود عن أنس مرفوعا ، نحوه. (ابن كثير ١ : ٢٣٣).

(٢) الثعلبي ٢ : ٨٧ ، نقلا عن سلميان بن بريدة عن أبيه ؛ البغوي ١ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧ / ١٧٠ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٦٩ ـ ٧٠ ؛ ابن كثير ١ : ٢٣٣.

٩٦

لجمع القوى والاستعداد للمناضلة والكفاح المستمرّ.

و (ثَقِفْتُمُوهُمْ) بمعنى عثرتم عليهم عثور الطالب الغالب على المطلوب المغلوب المنكوب.

(وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) عملا بالمثل عند لقاء العدوّ اللدود ، فلا يمهل ولا يهمل ليستعيد قواه من جديد.

قال الطبرسي : وفي الآية دلالة على وجوب إخراج الكفّار من مكّة المكرّمة. قال : والسنّة قد وردت بذلك (١) :

[٢ / ٥٢٧٩] وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان» (٢).

[٢ / ٥٢٨٠] وأخرج أبو داوود بالإسناد إلى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى بثلاثة ؛ فقال : «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ممّا كنت أجيزهم». قال ابن عبّاس : وسكت عن الثالثة (٣).

[٢ / ٥٢٨١] وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لأخرجنّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، فلا أترك فيها إلّا مسلما» (٤).

[٢ / ٥٢٨٢] وعن ابن عبّاس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تكون قبلتان في بلد واحد» (٥).

***

هذا ، وقد جاء تعليلا لجواز تلك المقاصّة العادلة قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ). وفي موضع آخر : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)(٦). حيث هدر النفوس في الفتن ـ وهي تعمّ ـ أشدّ وطأة وأكبر متّسعا من القتل في معركة القتال ـ وهي تخصّ ـ. كما أنّ الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانيّة ، وأشدّ من قتل النفس الّذي هو إزهاق الروح وإعدام للحياة في فرد أو أفراد بخصوصهم. ويستوي أن تكون هذه الفتنة بالتهديد والأذى الفعلي ، أو بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضلّ الناس وتفسدهم وتبعدهم عن منهج الله ، وتزيّن لهم الكفر والإلحاد والفسوق.

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٣٠.

(٢) مسند أحمد ٦ : ٢٧٥ ، وفيه : لا يترك بجزيرة العرب دينان ؛ البيهقي ٦ : ١١٥.

(٣) أبو داوود ٣ : ١٦٥ / ٣٠٢٩.

(٤) المصدر / ٣٠٣٠.

(٥) المصدر ٢ : ٤١ / ٣٠٣٢.

(٦) البقرة ٢ : ٢١٧.

٩٧

وهذه النظرة الإسلاميّة لحرّيّة العقيدة ، وإعطاؤها هذه القيمة الكبرى في حياة البشريّة. هي الّتي تتّفق مع طبيعة الإسلام ونظرته إلى غاية الوجود الإنساني ؛ فغاية الوجود الإنساني هي العبادة ، ويدخل في نطاقها كلّ نشاط خير يتّجه به صاحبه إلى الله. وأكرم ما في الإنسان حرّيّة الاعتقاد.

فالّذي يسلبه هذه الحرّيّة ويفتنه عن دينه فتنة مباشرة أو بالواسطة ، يجني عليه ما لا يجني عليه قاتل حياته. ومن ثمّ يدفعه بالقتل. لذلك لم يقل : «وقاتلوهم» ، إنّما قال : (وَاقْتُلُوهُمْ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي حيث وجدتموهم ، في أيّة حالة كانوا عليها ، وبأيّة وسيلة تملكونها ، مع مراعاة أدب الإسلام في عدم المثلة أو الحرق أو القتل صبرا (القتل بزجر).

[٢ / ٥٢٨٣] أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) قال : ارتداد المؤمن إلى الوثن أشدّ عليه من أن يقتل محقا (١).

[٢ / ٥٢٨٤] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : الفتنة الّتي أنتم مقيمون عليها أكبر من القتل (٢).

[٢ / ٥٢٨٥] وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : فتنة الكفر (٣).

وعن آخرين : الفتنة الشرك (٤). أي الحالة الّتي عليها أهل الشرك من الزيغ والفساد في الأرض.

[٢ / ٥٢٨٦] وأخرج البخاري عن نافع عن ابن عمر ، أنّ رجلا (٥) جاءه فقال : يا أبا عبد الرحمان ،

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤٩٤ ؛ الطبري ٢ : ٢٦١ / ٢٥٣٦ ؛ القرطبي ٢ : ٣٥١ ، بلفظ : وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ : أي من أن يقتل المؤمن. فالقتل أخفّ عليه من الفتنة.

(٢) الدرّ ١ : ٤٩٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٣٢٦ / ١٧٢٧ ؛ ابن كثير ١ : ٢٣٣.

(٣) الطبري ٢ : ٢٦٢.

(٤) الطبري ٢ : ٢٦١ ؛ الثعلبي ٢ : ٨٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٣٢٦ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣١٤.

(٥) قال ابن حجر : تقدّم في تفسير سورة البقرة ما أخرج سعيد بن منصور من أنّ السائل هو حيّان صاحب الدثنية. وروى أبو بكر النجّاد في فوائده أنّه الهيثم بن حنش. وقيل : نافع بن الأزرق. وسأذكر في الطريق الّتي بعد هذه قولا آخر. قال : ولعلّ السائلين عن ذلك جماعة ، أو تعدّدت القصّة. (فتح الباري ٨ : ٢٣٢).

٩٨

ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ)(١). فما يمنعك أن لا تقاتل (٢) كما ذكر الله في كتابه!؟ فقال : يا ابن أخي ، أعيّر بهذه الآية ولا أقاتل ، أحبّ إليّ من أن أعيّر بهذه الآية الّتي يقول الله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها)(٣). قال : فإنّ الله يقول : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)! قال ابن عمر : قد فعلنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ كان الإسلام قليلا ، فكان الرجل يفتن في دينه ؛ إمّا يقتلوه وإمّا يوثّقوه (٤) ، حتّى كثر الإسلام فلم تكن فتنة!

فلمّا رأى [الرجل] أنّه لا يوافقه فيما يريد ، قال : فما قولك في عليّ وعثمان؟ (٥)

قال ابن عمر : ما قولي في عليّ وعثمان؟ أمّا عثمان فكان الله قد عفا عنه. وأمّا عليّ فابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وختنه (٦) ، وأشار بيده. وقال : هو ذاك بيته أوسط بيوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وفي رواية النسائى : «ولكن انظر إلى منزلته من نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس في المسجد غير بيته ، حيث ترون» (٧).

[٢ / ٥٢٨٧] وأخرج عن سعيد بن جبير ، قال : خرج إلينا ابن عمر ، فقال له رجل : كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال : وهل تدري ما الفتنة؟ كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقاتل المشركين ، وكان الدخول عليهم فتنة ، وليس كقتالكم على الملك. (٨) يشير إلى ما خاضه ابن الزبير وآل أميّة في قتال دام لا شأن له

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ٩.

(٢) أي ما يمنعك من الجهاد بأن لا تقاتل. قال ابن حجر : «لا» زائدة. وقد تقدّم تقريره في تفسير سورة الأعراف عند قوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ). (فتح الباري ٨ : ٢٣٢).

(٣) النساء ٤ : ٩٣.

(٤) قال ابن حجر : إسقاط النون من غير جازم ولا ناصب ثابت في اللغة وشائع. ويروى بإثبات النون أيضا. (فتح الباري ٨ : ٢٣٣).

(٥) قال ابن حجر : يبدو أنّ السائل كان من الخوارج ، فإنّهم كانوا يتوالون الشيخين ويحطّون عثمان وعليّا ، فردّ عليه ابن عمر بذكر مناقبهما ومنزلتهما من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاعتذار عمّا عابوا به عثمان من الفرار يوم أحد ، بأنّ الله عفى عنه. قال : وقد عابوه فراره يوم أحد ، وغيابه عن بدر وعن بيعة الرضوان.

(٦) الختن : زوج الابنة.

(٧) البخاري ٥ : ١٥٧. وصحّحنا الحديث وأكملناه على شرح ابن حجر في الفتح ٨ : ٢٣٣.

(٨) البخاري ٥ : ٢٠٠ ، و ٨ : ٩٥.

٩٩

سوى الاستيلاء على الملك.

[٢ / ٥٢٨٨] وأخرج البغوي عن نافع ، قال : جاء رجل إلى ابن عمر في فتنة ابن الزبير ، فقال : ما يمنعك أن تخرج؟ قال : يمنعني أنّ الله حرّم دم أخي! قال : ألا تسمع ما ذكره الله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ...)(١)؟ فقال ابن عمر : يا ابن أخي ، لأن أعيّر بهذه الآية ولا أقاتل ، أحبّ إليّ من أن أعيّر بالآية الّتي يقول الله تعالى فيها : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ...)(٢)! قال الرجل : ألم يقل الله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)؟ (٣) قال ابن عمر : قد فعلنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ كان الإسلام قليلا ، وأنتم [اليوم] تريدون أن تقاتلوا حتّى تكون فتنه ويكون الدين لغير الله! (٤).

[٢ / ٥٢٨٩] وعن سعيد بن جبير ، قال : قال رجل لابن عمر : كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال : هل تدري ما الفتنة؟ كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقاتل المشركين ، وكان الدخول عليهم فتنة ، وليس لكم غنى عن الملك! (٥).

[٢ / ٥٢٩٠] وجاء رجل إلى سعد بن أبي وقّاص (٦) وقال له : ألا تخرج تقاتل مع الناس حتّى لا تكون فتنة؟ فقال سعد : قد قاتلت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى لم تكن فتنة ، فأمّا أنتم تريدون أن أقاتل حتّى تكون فتنة! (٧)

قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)

إذ أنّ المطاردة لأذناب الكفر والفساد ، لا تعني هتك حرمات الله ، ما أمكن الحفاظ على

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ٩.

(٢) النساء ٤ : ٩٣.

(٣) البقرة ٢ : ١٩٣ ؛ الأنفال ٨ : ٣٩.

(٤) البغوي ١ : ٢٣٨.

(٥) المصدر.

(٦) انعزل بعد مقتل عثمان ، وخذل إمام المتّقين عليّا أمير المؤمنين عليه‌السلام رغم وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمناصرته ، ومن ثمّ شملته دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «واخذل من خذله». فكان يتردّد إلى معاوية ، حتّى دعاه إلى بيعة يزيد ، فأبى ـ وكان يطمع في الخلافة ـ فدسّ معاوية إليه السمّ فقتله ، كما سمّ الإمام الزكيّ الحسن بن عليّ عليه‌السلام. (أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيّين : ٧٣ ـ ط : القاهرة ١٩٤٩ ـ ؛ قاموس الرجال ٥ : ٢٥ / ٣١٣٩).

(٧) الدرّ ١ : ٤٩٦.

١٠٠