التفسير الأثري الجامع - ج ٥

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-06-7
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

قال تعالى :

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧))

وعند الانتهاء من تقرير القاعدة الكلّيّة في الحلف ، يأخذ في الحديث عن يمين الإيلاء ـ عادة جاهليّة مقيتة ـ كان الرجل إذا أراد الإضرار بزوجه حلف أن لا يباشرها ، فيذرها كالمعلّقة لا هي ذات زوج صالح ولا هي مسرّحة ، سنّة جاهليّة سيّئة كافحها الإسلام بشدّة ، فكان ممّا فرضه الإسلام بهذا الصدد : أن أمهل الرجل أربعة أشهر ليختار أمره ، فإن رجع وأعاد علقته الزوجيّة معها ، فإنّ الله غفور عمّا سلف ، رحيم بعباده. والشقّ الآخر أن يعزم الفراق والبتّ في الأمر ، فهذا أيضا نزول عن عصبيّة جاهلة ورضوخ للحقّ الّذي فرض عليه أن يخلّي سبيلها.

إذن فليس الرجل مطلق العنان بشأن الزوجيّة ، سوى الرضوخ لمرّ القانون الحاكم. وبذلك أخذت هذه العادة تتضاءل وتنهار وتذهب جذورها سدى.

***

والإيلاء ـ كما ذكرنا ـ سنّة جاهليّة كانت عمياء ، كان الرجل إذا أراد الإضرار بزوجته ، حيث لا يرغب فيها ولا يتركها لشأنها ، كي تتزوّج بغيره! عادة سيّئة امتهانا بشأن المرأة في الحياة الزوجيّة!

[٢ / ٦٥٩٧] أخرج أبو إسحاق الثعلبي بالإسناد إلى سعيد بن المسيّب ، قال : كان ذلك من ضرار أهل الجاهليّة ، كان الرجل لا يحبّ امرأته ولا يريد أن يتزوّجها غيره ، فيحلف أن لا يقربها أبدا ، فيتركها لا أيّما ولا ذات بعل. قال : وكانوا عليه في ابتداء الإسلام ، فضرب الله له أجلا ، وهي أربعة أشهر (١).

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ١٦٨ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٢٥٥ ؛ البغوي ١ : ٢٩٧. والأيّم : الفاقدة للزوج.

٥٢١

[٢ / ٦٥٩٨] وذكر الثعلبي ـ استنادا إلى بعض السلف (١) ـ : أنّه إذا مضت أربعة أشهر والرجل ممتنع ، فإن عفّت المرأة ولم تطلب حقّها من الاستمتاع فلا شيء على الرجل ، ولا يقع به طلاق ، وهما على نكاح ما لو قامت على ذلك. وإن طلبت حقّها وقف الحاكم زوجها ، فإمّا أن يفيء أو يطلّق ، فإن أبى عنهما جميعا طلّق عليه الحاكم. وقيل : يحبسه أبدا حتّى يطلّق (٢).

[٢ / ٦٥٩٩] وأخرج الشافعي والبيهقي عن سليمان بن يسار قال : أدركت بضعة عشر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّهم يقول : يوقف المولي (٣).

[٢ / ٦٦٠٠] وأخرج ابن جرير والدار قطني والبيهقي من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال :

سألت اثني عشر رجلا من الصحابة عن الرجل يولي من امرأته؟ فكلّهم يقول : ليس عليه شيء حتّى تمضي الأربعة أشهر فيوقف فإن فاء وإلّا طلّق (٤).

[٢ / ٦٦٠١] وأخرج ابن جرير عن أبي يونس قال : قال لي سعيد بن المسيّب : ممّن أنت؟ قلت : من أهل العراق! قال : لعلّك ممّن يقول : إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت؟ لا ولو مضت أربع سنين! (٥)

قلت : وهناك روايات عن السلف تخالف ما تقدّم وتجعل انقضاء الأربعة الأشهر تطليقة بائنة

__________________

(١) ذكر منهم عليّا وعمر وعثمان وأبا الدرداء وعائشة وسعيد بن جبير وابن عمر وسليمان بن يسار ومجاهدا.

(٢) الثعلبي ٢ : ١٦٨ ـ ١٦٩.

(٣) الدرّ ١ : ٦٥١ ؛ الأمّ ٧ : ٢٥ ؛ البيهقي ٧ : ٣٧٦ / ١٤٩٨٤ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤١٢ / ٢١٧٥ ، عن كثير عن الصحابة والمفسّرين بلفظ : «يوقف المؤلى» ؛ البغوي ١ : ٢٩٧ ، وزاد : وإليه ذهب سعيد بن جبير وسليمان بن يسار ومجاهد ؛ القرطبي ٣ : ١٠٥. بلفظ : «كان تسعة رجال من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوقفون في الإيلاء» ؛ ابن كثير ١ : ٢٧٦ ؛ وراجع : الطبري ٢ : ٥٩٠ ـ ٥٩١. والمصنّف لابن أبي شيبة ٤ : ٩٨.

(٤) الدرّ ١ : ٦٥١ ؛ الطبري ٢ : ٥٩١ / ٣٦٧٩ ؛ الدار قطني ٤ : ٦١ / ١٤٧ ؛ البيهقي ٧ : ٣٧٧ / ١٤٩٨٦ ، وهكذا روى بالإسناد إلى ثابت بن عبيدة مولى زيد بن ثابت ٧ : ٣٧٦ ـ ٣٧٧ / ١٤٩٨٥ ؛ القرطبي ٣ : ١١١ ؛ ابن كثير ١ : ٢٧٦. وزاد : «ورواه الدار قطني من طريق سهيل» ثمّ زاد : «قلت : وهو يروي عن عمر وعثمان وعليّ وأبي الدرداء وعائشة أمّ المؤمنين وابن عمر وابن عبّاس وبه يقول سعيد بن المسيّب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وطاووس ومحمّد بن كعب ... وهو اختيار ابن جرير أيضا ، وكلّ هؤلاء قالوا : إن لم يفئ ألزم بالطلاق فإن لم يطلّق طلّق عليه الحاكم والطلقة تكون رجعيّة له رجعتها في العدّة».

(٥) الطبري ٢ : ٥٨٧ / ٣٦٥٨.

٥٢٢

من غير حاجة إلى طلاق! وهذا خلاف صريح قوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ...) وإليك منها :

[٢ / ٦٦٠٢] أخرج عبد الرزّاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وزيد بن ثابت وابن مسعود وابن عمر وابن عبّاس قالوا : الإيلاء تطليقة بائنة ، إذا مرّت أربعة أشهر قبل أن يفيء فهي أملك بنفسها (١).

***

[٢ / ٦٦٠٣] أخرج مالك عن عبد الله بن دينار قال : خرج عمر بن الخطّاب من الليل يسمع امرأة تقول :

تطاول هذا الليل واسودّ جانبه

وأرّقني أن لا خليل ألاعبه

فو الله لو لا الله إنّي أراقبه

لحرّك من هذا السرير جوانبه

فسأل عمر ابنته حفصة : كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت : ستّة أشهر ، أو أربعة أشهر. فقال عمر : لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك (٢).

[٢ / ٦٦٠٤] وأخرج ابن إسحاق وابن أبي الدنيا في كتاب الأشراف عن السائب بن جبير مولى ابن عبّاس وكان قد أدرك أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ما زلت أسمع حديث عمر أنّه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة ، وكان يفعل ذلك كثيرا ، إذ مرّ بامرأة من نساء العرب مغلّقة بابها وهي تقول :

تطاول هذا الليل تسري كواكبه

وأرّقني أن لا ضجيع ألاعبه

__________________

(١) الدرّ ١ : ٦٥١ ؛ الطبري ٢ : ٥٨٤ ـ ٥٨٥ / ٣٦٤١ ، عن عليّ وابن مسعود وابن عبّاس والحسن. بلفظ : «في الرجل يقول لامرأته : والله لا يجمع رأسي ورأسك شيء أبدا ، ويحلف أن لا يقربها أبدا ، فإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ كانت تطليقة بائنة وهو خاطب» وفي رواية بلفظ : «إذا مضت الأربعة الأشهر فهي واحدة بائنة» وفي الأخرى بزيادة قوله : «وهي أحقّ بنفسها» ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤١١ / ٢١٧٢ ، عن عثمان بن عفّان وزيد بن ثابت وكذا في الحديث ٢١٧٤ ، عن كثير عن الصحابة والمفسّرين ؛ البغوي ١ : ٢٩٧ ؛ التبيان ٢ : ٢٣٥ ، بلفظ : «هو مضيّ أربعة أشهر قبل أن يفيء من غير عذر» عن الحسن وقتادة وابن مسعود وإبراهيم وابن عبّاس وحمّاد.

(٢) الدرّ ١ : ٦٥٢ ؛ القرطبي ٣ : ١٠٨ وفيه : «... فاستدعى نساء فسألهنّ عن المرأة كم مقدار ما تصبر عن زوجها؟ فقلن : شهرين ، ويقلّ صبرها في ثلاثة أشهر ، وينفد صبرها في أربعة أشهر ، فجعل عمر مدّة غزو الرجل أربعة أشهر ، فإذا مضت أربعة أشهر استردّ الغازين» ؛ ابن كثير ١ : ٢٧٦ ؛ البيهقي ٩ : ٢٩ ؛ كنز العمّال ١٦ : ٥٧٣ / ٤٥٩١٧.

٥٢٣

فو الله لو لا الله لا شيء غيره

لحرّك من هذا السرير جوانبه

وبتّ ألاهي غير بدع ملعن

لطيف الحشا لا يحتويه مضاجعه

يلاعبني طورا وطورا كأنّما

بدا قمرا في ظلمة الليل حاجبه

يسرّ به من كان يلهو بقربه

يعاتبني في حبّه وأعاتبه

ولكنّني أخشى رقيبا موكّلا

بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه

ثمّ تنفسّت الصعداء وقالت : أشكو عمر بن الخطّاب وحشتي في بيتي ، وغيبة زوجي عليّ ، وقلّة نفقتي! فلان لها عمر فلمّا أصبح بعث إليها بنفقة وكسوة ، وكتب إلى عامله يسرّح إليها زوجها (١).

[٢ / ٦٦٠٥] وأخرج الزبير بن بكّار في الموفّقيات عن محمّد بن معن قال : أتت امرأة إلى عمر بن الخطّاب فقالت : يا أمير المؤمنين إنّ زوجي يصوم النهار ويقوم الليل ، وأنا أكره أن أشكوه إليك وهو يقوم بطاعة الله! فقال لها : جزاك الله خيرا من مثنية على زوجها! فجعلت تكرّر عليه القول ، وهو يكرّر عليها الجواب ، وكان كعب بن سوّار الأسدي حاضرا ، فقال له : اقض يا أمير المؤمنين بينها وبين زوجها! فقال : وهل فيما ذكرت قضاء؟ فقال : إنّها تشكو مباعدة زوجها لها عن فراشها وتطلب حقّها في ذلك! فقال له عمر : أما لأن فهمت ذلك فاقض بينهما! فقال كعب : عليّ بزوجها ، فأحضر فقال : إنّ امرأتك تشكوك! فقال : قصرت في شيء من نفقتها؟ قال : لا. فقالت المرأة :

يا أيّها القاضي الحكيم برشده

ألهى خليلي عن فراشي مسجده

نهاره وليله ما يرقده

فلست في حكم النساء أحمده

زهّده في مضجعي تعبّده

فاقض القضا يا كعب لا تردّده

فقال زوجها :

زهّدني في فرشها وفي الحجل

إنّي امرؤ أزهد فيما قد نزل

في سورة النحل وفي السبع الطول

وفي كتاب الله تخويف جلل

__________________

(١) الدرّ ١ : ٦٥٣ ؛ ابن كثير ١ : ٢٧٦ ، بتفاوت.

٥٢٤

فقال كعب :

إنّ خير القاضيين من عدل

وقضى بالحقّ جهرا وفصل

إنّ لها حقّا عليك يا رجل

تصيبها في أربع لمن عقل

قضيّة من ربّها عزوجل

فأعطها ذاك ودع عنك العلل

ثمّ قال : إنّ الله قد أباح لك من النساء أربعا ، فلك ثلاثة أيّام ولياليها تعبد فيها ربّك ، ولها يوم وليلة. فقال عمر : والله ما أدري من أيّ أمريك أعجب. أمن فهمك أمرها أم من حكمك بينهما! اذهب فقد ولّيتك قضاء البصرة (١)!

قلت : يا لها من بديعة أسطوريّة نسجتها قرائح أدبيّة يومذاك!!

[٢ / ٦٦٠٦] وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عمر : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج وعمر بن الخطّاب معه ، فعرضت امرأة فقالت : يا رسول الله إنّي امرأة مسلمة محرّمة ومعي زوج لي في بيتي مثل المرأة! فقال لها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ادعي زوجك ، فدعته وكان خرّازا فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما تقول امرأتك يا عبد الله؟ فقال الرجل : والّذي أكرمك ، ما جفّ رأسي منها! فقالت امرأته : ما مرّة واحدة في الشهر! فقال لها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتبغضينه؟ قالت : نعم! فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدنيا رؤسكما ، فوضع جبهتها على جبهة زوجها ثمّ قال : «اللهمّ ألّف بينهما وحبّب أحدهما إلى صاحبه» ثمّ مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسوق النّمط فطلعت المرأة تحمل أدما (٢) على رأسها ، فلمّا رأت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرحته وأقبلت فقبّلت رجليه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف أنت وزوجك؟ فقالت : والّذي أكرمك ، ما طارف ولا تالد ولا والد بأحبّ إليّ منه! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أشهد أنّي رسول الله ، فقال عمر : وأنا أشهد أنّك رسول الله.

وأخرج أبو يعلى وأبو نعيم في الدلائل من حديث جابر بن عبد الله مثله (٣).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٦٥٣ ـ ٦٥٤.

(٢) والأدم : الخبز المختلط بالإدام. يقال : أدم الخبز إذا خلطه بالإدام ، وهو ما يجعل مع الخبز أو الطعام ليطيبه.

(٣) الدرّ ١ : ٦٥٤ ؛ الدلائل للبيهقي ٦ : ٢٢٨ ـ ٢٢٩ ، وزاد : «قال أبو عبد الله : تفرّد به عليّ بن أبي عليّ اللهبي وهو كثير

٥٢٥

قوله تعالى : (فَإِنْ فاؤُ ...)

أي رجعوا إلى قربان النساء. والفيئة تكون بالتكفير عن اليمين (١) ومن ثمّ (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فحنثهم في يمين الإيلاء مغفور لهم. وفيه إيذان بأنّ الإيلاء ـ قصدا للإضرار بالمرأة ـ خرام ، نعم قد يكون مباحا إذا لم تطل مدّته ولم يكن القصد إضرارا بها ، بل نوع تأديب أو غرض آخر كان في صلاحها ، كالخوف على الولد من الغيل (٢) ، وكالحمية من بعض الأمراض المعدية في الرجل أو المرأة ، فإباحة ذلك حاصلة من أدلّة المصلحة ونفي المضرّة. قال ابن عاشور : وإنّما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس ، لما فيهم من ضعف العزم ، واتّهام أنفسهم بالفلتة في الأمر ، إن لم يقيّدوه بالحلف (٣).

[٢ / ٦٦٠٧] روى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الإيلاء ما هو؟ قال : «هو أن يقول الرجل لامرأته : والله لا أجامعك كذا وكذا ، ويقول : والله لأغيظنّك ، فيتربّص بها أربعة أشهر ، ثمّ يؤخذ فيوقف بعد الأربعة أشهر ، فإن فاء ، وهو أن يصالح أهله (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وإن لم يفئ جبر على أن يطلّق ولا يقع طلاق فيما بينهما ، ولو كان بعد الأربعة الأشهر ، ما لم يرفعه إلى الإمام» (٤).

[٢ / ٦٦٠٨] وعن محمّد بن الفضيل عن أبي الصباح الكناني قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل آلى امرأته بعد ما دخل بها؟ فقال : «إذا مضت أربعة أشهر وقف وإن كان بعد حين ، فإن فاء فليس

__________________

الرواية للمناكير. قلت : قد روى يوسف بن محمّد بن المنكدر عن أبيه عن جابر بن عبد الله معنى هذه القصّة إلّا أنّه لم يذكر فيها عمر بن الخطّاب!» ؛ الدلائل للأصبهاني : ٤٦٠ / ٣٨٧ ، الفصل ٢٤ ، عن جابر ؛ والطارف من الطرفة وهو الشيء الحدث الجديد المستحسن. ويقابله التالد ، وهو الشيء النفيس العتيق (القديم).

(١) لكن روي عن الحسن والنخعي : إذا فاء فلا كفّارة عليه. المصنّف لعبد الرزّاق ٦ : ٤٦٩ ؛ الطبري ٢ : ٥٧٨. وهذا خلاف المأثور عن الأئمّة. روى ابن بابويه والشيخ والعيّاشي عن الصادق عليه‌السلام قال : «كفّر عن يمينه وأمسكها». (التهذيب ٨ : ٨ / ٢١ ؛ الاستبصار ٣ : ٢٥٤ / ٩١٠ ؛ الفقيه ٣ : ٥٢٥ / ٤٨٢٥ ؛ العيّاشي ١ : ١٣٢ / ٣٤٦ ؛ الوسائل ٢٢ : ٣٥٥ ـ ٣٥٦).

(٢) الغيل : إرضاع المرأة ولدها وهي حامل ، الأمر الّذي يضرّ بشأن الولد.

(٣) التحرير والتنوير ٢ : ٣٦٧.

(٤) الكافي ٦ : ١٣٢ / ٩ ؛ التهذيب ٨ : ٣ / ٤ ـ ٤ ؛ الاستبصار ٣ : ٢٥٣ / ٩٠٥ ـ ٢ ، كتاب الطلاق ، أبواب الإيلاء ، باب ١٥٥ (مدّة الإيلاء).

٥٢٦

بشيء وهي امرأته ، وإن عزم الطلاق فقد عزم ، وقال : الإيلاء أن يقول الرجل لامرأته : والله لأغيظنّك ولأسوءنّك ثمّ يهجرها ولا يجامعها حتّى تمضي أربعة أشهر فإذا مضت أربعة أشهر فقد وقع الايلاء. وينبغي للإمام أن يجبره على أن يفيء أو يطلّق ، (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وهو قول الله تبارك وتعالى في كتابه» (١).

[٢ / ٦٦٠٩] وبإسناده عن الحسين بن سعيد عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال : سألته (أي الصادق عليه‌السلام) عن رجل آلى من امرأته؟ فقال : «الإيلاء أن يقول الرجل : والله لا أجامعك كذا وكذا ، فإنّه يتربّص أربعة أشهر فإن فاء ، والإيفاء أن يصالح أهله ، فإنّ الله غفور رحيم ، وإن لم يفئ بعد الأربعة أشهر حبس حتّى يصالح أهله أو يطلّق ، أجبر على ذلك ، ولا يقع طلاق فيما بينهما حتّى يوقف ، وإن كان بعد الأربعة أشهر فإن أبى فرّق بينهما الإمام» (٢).

[٢ / ٦٦١٠] وروى العيّاشي عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أيّما رجل آلى من امرأته ، والإيلاء أن يقول الرجل : والله لا أجامعك كذا وكذا ، ويقول : والله لأغيظنّك ، ثمّ يغايظها ، ولأسوءنّك ، ثم يهجرها فلا يجامعها ، فإنّه يتربّص بها أربعة أشهر ، فإن فاء ، والإيفاء أن يصالح (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وإن لم يفئ أجبر على الطلاق ، ولا يقع بينهما طلاق حتّى توقف ، وإن عزم الطلاق فهي تطليقة» (٣).

***

وهل الإيلاء كان طلاقا في الجاهليّة؟

هكذا ورد في عبائر جماعة من الفقهاء والمفسّرين.

[٢ / ٦٦١١] أخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) قال : هذا في الرجل يؤلي من امرأته يقول : والله لا يجتمع رأسي ورأسك ، ولا أقربك ولا أغشاك!

__________________

(١) الكافي ٦ : ١٣٢ / ٧ ؛ التهذيب ٨ : ٧ / ١٧ ـ ١٧.

(٢) التهذيب ٨ : ٨ / ٢٤ ـ ٢٤ ، كتاب الطلاق ، باب حكم الإيلاء ؛ الاستبصار ٣ : ٢٥٤ / ٩١١ ـ ٨ ، كتاب الطلاق ، أبواب الإيلاء ، باب ١٥٥ ؛ البرهان ١ : ٤٨٢ / ٩.

(٣) العيّاشي ١ : ١٣٢ / ٣٤٤ ؛ البحار ١٠١ : ١٧١ / ٨ ، باب ٦ ؛ البرهان ١ : ٤٨٢ / ١١.

٥٢٧

قال : وكان أهل الجاهليّة يعدّونه طلاقا ، فحدّ لهم أربعة أشهر ، فإن فاء فيها كفّر عن يمينه وكانت امرأته ، وإن مضت الأربعة أشهر ولم يفئ فيها فهي طالقة ، وهي أحقّ بنفسها ، وهو أحد الخطّاب ، ويخطبها زوجها في عدّتها ولا يخطبها غيره في عدّتها ، فإن تزوّجها فهي عنده على تطليقتين (١).

[٢ / ٦٦١٢] وهكذا روى ابن حزم من طريق عبد الرزّاق بالإسناد إلى ابن عبّاس ، قال : فإن مضت أربعة أشهر فهي تطليقة (٢).

الأمر الّذي يخالف إجماع الفقهاء وكذا المرويّ عن السلف (٣) وعن الأئمّة عليهم‌السلام كما عرفت.

ومن ثمّ فمن الغريب ما قاله بعضهم : «وقد كان طلاقا في الجاهليّة كالظهار»؟! (٤) إذ الطلاق تسريح لشأنها ، وهذا تضييق عليها لغرض الإضرار بها.

***

والآن وقد انتهى السياق إلى مسألة الطلاق ، فناسب بيان طرف من أحكامه ، ويبدأ بحكم العدّة والرجعة ، ولم تكن معروفة في الجاهليّة ، وإنّما شرّعها الإسلام.

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ١٦٨ ، بلفظ : «كان الإيلاء طلاقا لأهل الجاهليّة». وبنحوه روى البغوي ١ : ٢٩٧ والطبري ٢ : ٥٨٦ / ٣٦٥١ بدون قوله : «ويخطبها زوجها ... الخ». أبو الفتوح ٣ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٢) المحلّى ١٠ : ٤٣ م ١٨٨٩.

(٣) المصدر : ٤٧. وراجع : الخلاف ـ للطوسي ٤ : ٥١٠ ـ ٥١١ م ٢ من كتاب الإيلاء.

(٤) راجع : جواهر الكلام ٣٣ : ٢٩٧.

٥٢٨

قال تعالى :

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨))

[٢ / ٦٦١٣] أخرج أبو داوود وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن أسماء بنت يزيد بن السّكن الأنصاريّة قالت : طلّقت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن للمطلّقة عدّة ، فأنزل الله حين طلّقت العدّة للطلاق : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ). فكانت أوّل من أنزلت فيها العدّة للطلاق (١).

[٢ / ٦٦١٤] وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) قال : كان أهل الجاهليّة يطلّق أحدهم ليس لذلك عدّة (٢).

قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)

أي يمكثن ويتريّثن فلا يسرعن في التزوّج بل يحجمن أنفسهنّ فلا يسترسلنّ لمجرّد الرغبات من دون تريّث ، حتّى يمضي عليهنّ ثلاثة قروء هي ثلاث حيضات. فإذا طهرن من الحيضة الثالثة ، فهنّ أملك بأنفسهنّ.

وهنا قد يفصّل بين انقضاء العدّة ، فبالدخول في الحيضة الثالثة ، فلا رجعة بعده. وأمّا المكث دون التزوّج فيدوم حتّى انقضاء الدم. ولعلّ هذا احتياط في المسألة ، كان مجاله الفقه.

والكلام هنا في «القرء» هل هو الحيض أم الطهر ، كان مثارا للاختلاف بين الفقهاء ، قديما وحديثا. فلنعرض الكلام فيه حسب الأثر الوارد فيه والمستفاد لغويّا وعند عرف اللغة وأرباب التفاسير.

__________________

(١) الدرّ ١ : ٦٥٦ ؛ أبو داوود ١ : ٥٠٩ / ٢٢٨١ ، باب ٣٦ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٤١٤ / ٢١٨٦ ؛ البيهقي ٧ : ٤١٤ ؛ ابن كثير ١ : ٢٧٧ ؛ القرطبي ١٨ : ١٤٩.

(٢) الدرّ ١ : ٦٥٦.

٥٢٩

كلام عن القرء

قال الراغب : قرأت المرأة : رأت الدم ، والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر ، جامعا بين الأمرين ، وليس القرء اسما للطهر مجرّدا ولا للحيض مجرّدا. وقوله تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أي ثلاثة دخول من الطهر في الحيض.

ثمّ أخذ في تأويل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «دعي الصلاة أيّام أقرائك» أي أيّام حيضك ، بنحو من العناية والمجاز (١).

قال ابن فارس : فأمّا أقرأت المرأة ، فيقال : إنّها من باب الجمع ، كأنّها قد جمعت دمها في جوفها فلم ترخه ، وذكروا أنّها تكون كذا في حال طهرها. وناس يقولون : إنّما إقراؤها : خروجها من طهر إلى حيض ، أو من حيض إلى طهر.

قال : وجملة هذه الكلمة أنّها مشكلة (٢).

وذكر الزمخشري ـ في الأساس ـ قولا واحدا ، قال : وأقرأت المرأة : حاضت (٣). لكنّه تردّد ـ في الفائق ـ قال : والقرء في الأصل : الجمع ، ثمّ قيل لوقت الأمر : قرء. ومن ذلك قرء المرأة لوقت حيضها أو طهرها. هذا مع أنّه ذكر أوّلا حديث طلاق الأمة : تطليقتان. وقرؤها حيضتان (٤).

***

وفي المحكم لابن سيده : القرء والقرء : الحيض والطهر ، ضدّ. وذلك أنّ القرء : الوقت ، فقد يكون للحيض وللطهر (٥).

قلت : إذا كان القرء بمعنى الوقت ، فهو لوقت الحيض (عادتها) أنسب من وقت طهرها. إذ لا وقت للطهر ـ وهو دائميّ بحسب الطبع ـ وإنّما الوقت للحيض ، الّذي هو عارض موقوت.

ومن ثمّ فسّر ابن سيده قولهم : قرأت المرأة ، إذا رأت الدم. وهكذا قال : والمقرّاة : الّتي ينتظر بها انقضاء أقرائها. قال : وقال أبو عمرو بن علاء : دفع فلان جاريته إلى فلانة تقرّؤها ، أي تمسكها عندها حتّى تحيض ، للاستبراء (٦).

__________________

(١) المفردات : ٤٠١ ـ ٤٠٢. مادّة «قرو» إذا همز.

(٢) معجم مقاييس اللغة ٥ : ٧٩ مادّة «قرى» إذا همز.

(٣) أساس البلاغة ٢ : ٢٣٩.

(٤) الفائق ٣ : ١٧٨.

(٥) المحكم والمحيط الأعظم ٦ : ٤٧٠.

(٦) المصدر : ٤٧١.

٥٣٠

وهكذا قال الخليل : وتقول : قرأت المرأة قرءا ، إذا رأت دما. وأقرأت ، إذا حاضت ، فهي مقرئ (١).

***

وفي تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري : أسند إلى الشافعي أنّه قال : القرء اسم للوقت ، فلمّا كان الحيض يجيء لوقت ، والطهر يجيء لوقت ، جاز أن يكون الأقراء حيضا وأطهارا (٢).

[٢ / ٦٦١٥] واستدلّ الشافعي ـ كما في الأمّ ـ بحديث ابن عمر ، لمّا طلّق امرأته وهي حائض ، فاستفتى عمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما فعل ابنه. فقال : «مره فليراجعها ، ثمّ ليمسكها حتّى تطهر ، فإذا طهرت فليطلّقها قبل أن يمسّ ، فتلك العدّة الّتي أمر الله أن يطلّق لها النساء» (٣).

وذكر أبو عمرو بن العلاء أنّ القرء الوقت ، وأضاف : وهو يصلح للحيض ويصلح للطهر. ويقال :

هذا قارئ الرياح لوقت هبوبها. وأنشد :

شنئت العقر عقر بني شليل

إذا هبّت لقارئها الرياح

أي لوقت هبوبها وشدّة بردها (٤).

***

وذكر ابن الأثير : أنّ الأصل في القرء الوقت المعلوم. قال : فلذلك وقع على الضدّين ؛ لأنّ لكلّ منهما وقتا! وذكر الحديث «دعي الصلاة أيّام أقرائك» ثمّ قال : وهذا الحديث أراد بالأقراء فيه الحيض ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرها فيه بترك الصلاة (٥).

وذكر ابن دريد في الجمهرة ـ أوّلا ـ : أنّ القرء هو وقت الحيض. قال : فأمّا قروء الحيض فمهموز ، وستراه في باب الهمز (٦). وذكر هناك : أنّهم اختلفوا في ذلك ، فقال قوم : هو الطهر ، وقال

__________________

(١) كتاب العين مادّة «قرء».

(٢) تقدّم النقاش في ذلك ، حيث الطهر لا وقت له بعد أن كان ذاتيّا يقتضي الدوام حسب الطبع الأوّلي ، وإنّما الحيض عارض لأوقات خاصّة!

(٣) الأمّ ٥ : ٢٢٤. قال الشافعي : الأقراء عندنا الأطهار ، واستدلّ بالحديث.

(٤) تهذيب اللغة ٩ : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٥) النهاية ٤ : ٣٢.

(٦) جمهرة اللغة ٢ : ٤١٠.

٥٣١

قوم : هو الحيض ، قال : وكلّ مصيب ؛ لأنّ الإقراء هو الجمع والانتقال من حال إلى حال ، فكأنّه انتقال من حيض إلى طهر. قال : وهو الأصحّ والأكثر. ويجوز أن يكون انتقالا من طهر إلى حيض. قال وجعلها الأعشى طهرا في قوله يصف غزوة :

مورّثة مالا وفي الحيّ رفعة (١)

لما ضاع فيها من قروء نسائكا (٢)

وقال آخر : إذا ما الثريّا أقرأت لأفول (٣)

فجعل إقراءها انتقالها من حال إلى حال من الشرق إلى الغرب (٤).

***

وقال الجوهريّ : القرء ـ بالفتح ـ الحيض. وفي الحديث : «دعي الصلاة أيّام أقرائك». قال : والقرء أيضا الطهر ، وهو من الأضداد. وأقرأت المرأه : حاضت ، فهي مقرئ. وأقرأت : طهرت.

قال : وقال الأخفش : أقرأت المرأة ، إذا صارت صاحبة حيض. فإذا حاضت قلت : قرأت ـ بلا ألف ـ يقال : قرأت المرأة حيضة أو حيضتين. قال : والقرء : انقضاء الحيض. قال بعضهم : ما بين الحيضتين. وأقرأت حاجتك : دنت.

والقارئ : الوقت ؛ تقول : أقرأت الريح ، إذا دخلت في وقتها ، قال الهذلي :

كرهت العقر عقر بني شليل

إذا هبّت لقارئها الرّياح

أي لوقتها (٥).

***

قلت : تلك كلمات جهابذة الفنّ في تفسير القرء. والمتحصّل من كلامهم أنّ القرء ـ مهموزا ـ اسم للوقت ، فيكون معنى قولهم : أقرأت المرأة : اعتورتها عادتها الوقتيّة ، وما هي إلّا حيضتها المعتادة لها شهريّا. ولم يعهد إطلاق العادة على أيّام الطهر. وما هذا إلّا مسايرة مع الفقهاء اجتهادا في اللغة ، وليس عن نقل موثوق. وقد عرفت من حديث «دعي الصلاة أيّام أقرائك» (٦) أنّها أيّام الحيض.

__________________

(١) ويروى : وفي المجد رفعة.

(٢) قلت : لا شاهد فيه ، حيث أراد : ضياع أوقات النساء ، فلا يدرى عادتهنّ من غيرها.

(٣) أيضا لا شاهد فيه ، بعد إرادة : حانت وقت أفولها.

(٤) جمهرة اللغة ٣ : ٢٧٦.

(٥) الصحاح ١ : ٦٤.

(٦) عوالي اللئالي ٢ : ٢٠٧ / ١٢٤ ؛ ابن كثير ١ : ٢٧٨.

٥٣٢

وهناك لمّة من أحاديث مأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنبؤك عن إرادة الحيض من الأقراء. وفيها الكفاية لمعرفة معاني اللغة الأصيلة. وسنورد الأحاديث تباعا.

وبحقّ قال أبو بكر الجصّاص : إنّ لغة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ القرء الحيض ، فوجب أن لا يكون معنى الآية إلّا محمولا عليه ؛ أنّ القرآن نزل بلغته ـ لسان قومه ـ وهو المبيّن عن الله ـ عزوجل ـ مراد الألفاظ المحتملة للمعاني (١).

نعم إذا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الّذي فسّر الأقراء هنا وفي سائر كلامه بالحيض ، فلا محالة يجب اتّباعه ولا محيد عنه ، بعد أن كان القرآن نزل بلسانه ولسان قومه. وفي الأثر : نزل القرآن بلغة قريش (٢).

وإليك الآن ما ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن الأقراء وأنّها الحيض :

[٢ / ٦٦١٦] قال أبو بكر أحمد بن عليّ الرازي الجصّاص : اختلف السلف في المراد بالقرء هنا في الآية. فقال عليّ عليه‌السلام وعمر وعبد الله بن مسعود وابن عبّاس وأبو موسى : هو الحيض ، وقالوا : «هو أحقّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة».

[٢ / ٦٦١٧] وروى وكيع عن عيسى الحافظ عن الشعبي عن ثلاثة عشر رجلا من أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحبر (٣) فالحبر منهم ، أبو بكر وعمر وعليّ عليه‌السلام وابن مسعود وابن عبّاس وأبو الدرداء وعبد الله بن الصامت وعبد الله بن قيس (٤) ، قالوا : «الرجل أحقّ بامرأته ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة» ؛ وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيّب.

[٢ / ٦٦١٨] وقال عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعائشة : إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها. قالت عائشة : الأقراء الأطهار.

[٢ / ٦٦١٩] وروي عن ابن عبّاس رواية أخرى : أنّها إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها ولا تحلّ للأزواج حتّى تغتسل (٥).

قال الجصّاص : وقال أصحابنا جميعا : الأقراء الحيض. وهو قول الثوري والأوزاعي والحسن

__________________

(١) أحكام القرآن ١ : ٣٦٦.

(٢) راجع : البخاري ٤ : ١٥٦ ، و ٦ : ٩٧.

(٣) الحبر ، بالحاء المهملة : العالم النحرير.

(٤) الزيادة من المبسوط للرخسي حسبما يأتي.

(٥) وهذا مبنيّ على الاحتياط جمعا بين القولين.

٥٣٣

بن صالح. وقال ابن شبرمة : إذا انقطع من الحيضة الثالثة بطلت الرجعة ولم يعتبر الغسل (١). وقال مالك والشافعيّ : الأقراء الأطهار ، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة فقد بانت وانقطعت الرجعة.

قال الجصّاص : قد حصل من اتّفاق السلف وقوع اسم الأقراء على المعنيين من الحيض والأطهار ، من وجهين : أحدهما أنّ اللّفظ لو لم يكن محتملا لهما لما تأوّله السلف عليهما ، لأنّهم أهل اللّغة والمعرفة بمعاني الأسماء ، وما يتصرف عليه المعاني من العبارات ، فلمّا تأوّلها فريق على الحيض ، وآخرون على الأطهار ، علمنا وقوع الاسم عليهما.

ومن جهة أخرى : أنّ هذا الاختلاف قد كان شائعا بينهم مستفيضا ولم ينكر واحد منهم على مخالفيه في مقالته ، بل سوّغ له القول فيه ، فدلّ ذلك على احتمال اللّفظ للمعنيين وتسويغ الاجتهاد فيه.

ثمّ لا يخلو من أن يكون الاسم حقيقة فيهما أو مجازا فيهما أو حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر ، فوجدنا أهل اللغة مختلفين في معنى القرء في أصل اللّغة ، فقال قائلون منهم : هو اسم للوقت :

حدّثنا بذلك أبو عمرو غلام ثعلب عن ثعلب أنّه كان إذا سئل عن معنى القرء ، لم يزدهم على الوقت. وقد استشهد لذلك بقول الشاعر :

يا ربّ مولى حاسد مباغض

عليّ ذي ضغن وضبّ فارض

له قروء كقروء الحائض

يعني : وقتا تهيج فيه عداوته [كما للحائض وقت تهيج فيه عادتها]. وعلى هذا تأوّلوا قول الأعشى :

وفي كلّ عام أنت جاشم غزوة

تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا

مورّثة مالا وفي الحيّ رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائكا

يعني وقت وطئهنّ.

ومن الناس من يتأوّله على الطهر نفسه ، كأنّه قال : لما ضاع فيها من طهر نسائك.

__________________

(١) لا شكّ أنّ الاعتبار بانقطاع الدم في الحيضة الثالثة وكان التعبير بالغسل في كلامهم كناية عن هذا الانقطاع ، إذ لا موضوعيّة له.

٥٣٤

وقال الشاعر :

كرهت العقر عقر بني شليل

إذا هبّت لقارئها الرياح

يعني لوقتها في الشتاء.

وقال آخرون : هو الضمّ والتأليف ، ومنه قوله :

تريك إذا دخلت على خلاء

وقد أمنت عيون الكاشحينا

ذراعي عيطل أدماء بكر

هجان اللون لم تقرأ جنينا

يعني لم تضمّ في رحمها جنينا.

ومنه قولهم : قريت الماء في الحوض ، إذا جمعته. وقروت الأرض ، إذا جمعت شيئا إلى شيء وسيرا إلى سير. ويقولون : ما قرأت الناقة سلى قطّ ، أي ما اجتمع رحمها على ولد قطّ. ومنه أقرأت النجوم ، إذا اجتمعت في الأفق.

ويقال : أقرأت المرأة ، إذا حاضت ، فهي مقرئ. ذكره الأصمعي والكسائي والفرّاء.

وحكي عن بعضهم (١) أنّه قال : هو الخروج من شيء إلى شيء! وهذا قول ليس عليه شاهد من اللّغة ، ولا هو ثابت عمّن يوثق به من أهلها ، وليس فيما ذكرنا من الشواهد ما يليق بهذا المعنى ، فهو ساقط مردود!

قال الجصّاص (٢) : إن كانت حقيقة القرء الوقت ، فالحيض أولى به ، لأنّ الوقت إنّما يكون وقتا لما يحدث فيه ، والحيض هو الحادث ، وليس الطهر شيئا أكثر من عدم الحيض ، وليس هو (عدم الحيض) شيء حادث ، فوجب أن يكون الحيض أولى بمعنى الاسم!

قال : وإن كان هو الضمّ والتأليف ، فالحيض أولى به ، لأنّ دم الحيض إنّما يتألّف ويجتمع من سائر أجزاء البدن في حال الحيض.

قال : فإذن ، القرء اسم للدم ، وليس باسم للطهر ، ولكنّه لا يسمّى بهذا الاسم إلّا بعد ظهوره ، إذ لا يتعلّق به حكم إلّا في هذه الحال.

قال : على أنّه لا يقين أنّ الدم يتكوّن حيضا في الرحم حال الطهر ، إذ لا سبيل إلى العلم بذلك! والدم لا يكون حيضا ولا يسمّى بذلك ـ كما لا يتعلّق به حكم ـ إلّا بعد السيلان ، لا عند كونه محتبسا

__________________

(١) وقد مرّ عليك أنّه اختيار الراغب!

(٢) وضع يده على نكتة دقيقة ، نبّهنا عليها ، وهو البيت القصيد.

٥٣٥

في الرحم كما زعموه.

قال : وإذ قد بيّنّا وقوع الاسم عليهما ، وبيّنّا حقيقة ما يتناوله هذا الاسم في اللغة ، فليدلّ على أنّه اسم للحيض لا للطهر في الحقيقة ، وأنّ إطلاقه على الطهر ـ فرضا ـ مجاز لا محالة. وإن كان ما قدّمناه من شواهد اللغة ، فيها الكفاية على أنّه حقيقة في الحيض ، لعدم انتفاء الاسم عنه. في حين انتفاء الاسم عن الطهر ـ كما في اليائسة والصغيرة ـ الأمر الّذي يدلّ على أنّه مجاز فيه ـ لو فرض الإطلاق عليه ـ.

وأضاف : أنّه لو كان اللفظ محتملا للمعنيين ، واتّفقت الأمّة على أنّ المراد أحدهما ، فلو تساوى الاحتمالان لكان الحيض أولى ، وذلك لأنّ لغة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وردت بالحيض دون الطهر :

[٢ / ٦٦٢٠] بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : «فإذا أقبل قرؤك فدعي الصلاة ، وإذا أدبر فاغتسلي وصلّي ما بين القرء إلى القرء».

فكان لغة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ القرء الحيض ، فوجب أن لا يكون معنى الآية إلّا محمولا عليه ؛ لأنّ القرآن لا محالة نزل بلغته ، وهو المبيّن عن الله ـ عزوجل ـ مراد الألفاظ المحتملة للمعاني ، ولم يرد لغته بالطهر ، فكان حمله على الحيض أولى منه على الطهر.

[٢ / ٦٦٢١] وروى بالإسناد إلى عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «طلاق الأمة ثنتان ، وقرؤها حيضتان» وفي رواية : «وعدّتها حيضتان».

وإذ قد ثبت أنّ عدّة الأمة حيضتان ، كانت عدّة الحرّة ثلاث حيض.

وهكذا ذهب في دلائله ، مناقشا دلائل الخصوم في إسهاب وتفصيل (١).

***

وقال شمس الدين السرخسيّ الحنفي : عدّة الّتي تحيض ثلاث حيض ، قال : وهذا عندنا. وعند الشافعي هي الأطهار. حتّى أنّ على مذهبه كما طعنت في الحيضة الثالثة يحكم بانقضاء عدّتها ، وعندنا ما لم تطهر منها لا يحكم بانقضاء العدّة.

قال : وأصل الخلاف بين الصحابة ؛ فقد روى الشعبيّ عن بضعة عشر من الصحابة الحبر فالحبر منهم ، أبو بكر وعمر وعليّ عليه‌السلام وابن مسعود وأبو الدرداء وعبد الله بن الصامت وعبد الله بن

__________________

(١) أحكام القرآن ١ : ٣٦٤ ـ ٣٧١.

٥٣٦

قيس ، فالزوج أحقّ برجعتها ما لم تحلّ لها الصلاة.

وعن ابن عمر وعائشة وزيد بن ثابت : الأقراء الأطهار.

وقد اختلف القول فيه عند أهل اللغة ، غير أنّ عند اختلاف أهل اللغة يجب المصير إلى لغة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرء في لغة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحيض ؛ قال لفاطمة بنت قيس : «إذا أتاك قرؤك فدعي الصلاة».

وقال للمستحاضة : «تدع الصلاة أيّام أقرائها».

والشافعي رجّح الأطهار ، باعتبار التاء في قوله : ثلاثة قروء ، لأنّ جمع المذكّر يؤنّث ، والطهر هو المذكّر! قال السرخسيّ : الإعراب يتبع اللفظ دون المعنى. ثمّ أخذ في الاستدلال والنقض والإبرام في إسهاب (١).

***

وقال محمّد بن إدريس الشافعي : والأقراء عندنا الأطهار. واستدلّ على ذلك بما روي عن نافع عن ابن عمر :

[٢ / ٦٦٢٢] أنّه طلّق امرأته وهي حائض ـ في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فسأل عمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مره فليراجعها ، ثمّ ليمسكها حتّى تطهر ثمّ تحيض ، ثمّ إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ. فتلك العدّة الّتي أمر الله ـ عزوجل ـ أن تطلّق لها النساء».

قال الشافعي : فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ العدّة الطهر دون الحيض. ومعنى قوله تعالى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي لقبل عدّتهنّ فيجب أن تطلّق طاهرا ، لأنّها حينئذ تستقبل عدّتها ، ولو طلّقت حائضا لم تكن مستقبلة عدّتها إلّا بعد الحيض.

[٢ / ٦٦٢٣] وروى عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة ، أنّها قالت : وهل تدرون ما الأقراء؟ الأقراء الأطهار.

وأيضا روى عن مالك عن ابن شهاب ، قال : سمعت أبا بكر بن عبد الرحمان يقول : ما أدركت أحدا من فقهائنا إلّا وهو يقول هذا ، يريد : الّذي قالت عائشة.

__________________

(١) المبسوط ٦ : ١٣ ـ ١٤.

٥٣٧

[٢ / ٦٦٢٤] وعن عمرة بنت عبد الرحمان عن عائشة قالت : إذا طعنت المطلّقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه.

[٢ / ٦٦٢٥] وروى عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت ، قال : إذا طعنت المطلّقة في الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها.

قال الشافعي : والأقراء الأطهار ، فإذا طلّق الرجل امرأته طاهرا ، اعتدّت بالطّهر الّذي وقع عليها فيه الطلاق ، ولو كانت ساعة من نهار ، وتعتدّ بطهرين تامّين بين حيضتين ، فإذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة حلّت (١).

***

وأمّا ابن العربيّ المالكيّ ، فبعد أن تسلّم أنّ أهل اللّغة متّفقون على أنّ القرء هو الوقت ، وأنّ معنى الآية : والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة أوقات. قال : صارت الآية مفسّرة في العدد ، محتملة في المعدود. فوجب طلب بيان المعدود من غير الآية. قال : وقد اختلفنا فيها.

احتجّ القائل بأنّها الحيض بالصحيح المشهور : لا توطأ حامل حتّى تضع ولا حائل حتّى تحيض. والمطلوب من الحرّة في استبراء الرحم هو المطلوب من الأمة بعينه. فنصّ الشارع على أنّ براءة الرحم الحيض ، وبه يقع الاستبراء بالواحد في الأمة ، فكذلك فليكن بالثلاثة في الحرّة.

وأمّا حجّتنا فالصحيح الثابت أنّ ابن عمر طلّق امرأته وهي حائض ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يراجعها ، ثمّ يمسكها حتّى تحيض وتطهر ، ثمّ تحيض وتطهر ، ثمّ إن شاء أمسك وإن شاء طلّق.

قال : فتلك العدّة الّتي أمر الله بها أن يطلّق لها النساء. وهذا يدلّ على أنّ ابتداء العدّة طهر ، فمجموعها أطهار.

قال : والترجيح مع حجّتنا ، لأنّه ظاهر قويّ في أنّ الطهر قبل العدّة واحد أعدادها. ولأنّه تعالى قال : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فذكّره وأثبت الهاء في العدد ، فدلّ على أنّه أراد الطهر المذكّر ولو أراد الحيضة المؤنّثة لأسقط الهاء ، وقال : ثلاث قروء. ثمّ أطال في النقض والإبرام بصدد إثبات أنّ الأقراء هنا هي الأطهار ، فراجع (٢).

__________________

(١) الأمّ ٥ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ (العدد).

(٢) أحكام القرآن لابن العربي : ١ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

٥٣٨

وقال أبو عبد الله القرطبيّ : اختلف العلماء في الأقراء ، فقال أهل الكوفة : هي الحيض ، وهو قول عمر وعليّ عليه‌السلام وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحّاك وعكرمة والسدّي وقال أهل الحجاز : هي الأطهار ، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي.

قال مالك وجمهور أصحابه والشافعي وعلماء المدينة : إنّ المطلّقة إذا رأت أوّل نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة. وهو مذهب زيد بن ثابت وعائشة وابن عمر.

قال القرطبي : وبه قال أحمد بن حنبل. وإليه ذهب داوود بن عليّ وأصحابه.

قال : واحتجّ الكوفيّون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش حين شكت إليه الدم : «إنّما ذلك عرق (١) ، فانظري فإذا أتى قرؤك (٢) فلا تصلّي ، وإذا مرّ القرء فتطهّري ثمّ صلّي من القرء إلى القرء».

قالوا : وهو قول عشرة من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة ، وحسبك ما قالوا!

وقوله تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) يريد : ثلاثة أقراء كوامل ، وهذا لا يكون إلّا على قولنا بأنّ الأقراء الحيض ، لأنّ من يقول : إنّه الطهر ، يجوّز أن تعتدّ بطهرين وبعض آخر ، لأنّه إذا طلّق حال الطهر اعتدّت عنده ببقيّة ذلك الطهر قرءا. وعندنا تستأنف من أوّل الحيض حتّى يصدق الاسم. فإذا الرجل المرأة في طهر لم يطأ فيه ، استقبلت حيضة ثمّ حيضة ثمّ حيضة ، فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدّة.

ثمّ أخذ في الردّ عليهم ، واختار أنّها الأطهار (٣).

***

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي : الأقراء هي الأطهار. وبه قال ابن عمر وزيد وعائشة. وبه قال الفقهاء السبعة (٤). وفي التابعين : الزهريّ وربيعة. وبه قال مالك وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور وغيرهم.

__________________

(١) يعني دم الاستحاضة.

(٢) أي الوقت المعتاد لأيّام حيضها.

(٣) القرطبي ٣ : ١١٣ ـ ١١٧.

(٤) وهم عروة بن الزبير وسعيد بن المسيّب وأبو بكر بن عبد الله المخزومي وسليمان بن يسار وعبد الله بن عتبة وخارجة بن زيد والقاسم بن محمّد بن أبي بكر.

٥٣٩

وقال قوم : الأقراء هي الحيض. ذهب إليه ـ على ما رووه ـ عليّ عليه‌السلام وعمر وابن مسعود وابن عبّاس وأبو موسى. وبه قال أهل البصرة : الحسن البصري وعبيد الله بن الحسن العنبري. وبه قال الأوزاعي ، وأهل الكوفة والثوري وابن شبرمة وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد وإسحاق.

وحكي عن أحمد أنّه قال : الأظهر عندي قول زيد : إنّها الأطهار (١).

***

وبعد فإذ قد عرفت اتّفاق أهل اللغة على أنّ القرء هو الوقت المحدّد ، المتناسب مع إطلاقه على الحيضة وهي محدّدة موقوتة ، لا الطهر ، الّذي هو على الأصل الثابت بالذات ، من غير توقيت ولا تحديد ، وعرفت آراء جلّ الصحابة والتابعين على أنّ الأقراء هي الحيض ، وإن اختلفت آراء الفقهاء من بعدهم ، وربّما كانت كفّة الترجيح مع القول بالحيض.

فالآن وقد جاء دور عرض الروايات المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحابته وعن الأئمّة من ذرّيّته عليهم‌السلام ليعرف الحقيقة المفسّر بها الآية الكريمة ، على الوجه الصحيح ، وإليك :

[٢ / ٦٦٢٦] أخرج أحمد عن يحيى بن أبي بكير قال : حدّثنا إسرائيل عن عثمان بن سعد عن عبد الله بن أبي مليكة قال : حدّثتني خالتي فاطمة بنت أبي حبيش ، قالت : أتيت عائشة فقلت لها : يا أمّ المؤمنين ، قد خشيت أن لا يكون لي حظّ في الإسلام ، وأن أكون من أهل النار ، أمكث ما شاء الله من يوم استحاض فلا أصلّي لله ـ عزوجل ـ صلاة! قالت : اجلسي حتّى يجيء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا جاء النبيّ قالت : يا رسول الله ، هذه فاطمة بنت أبي حبيش تخشى أن لا يكون لها حظّ في الإسلام وأن تكون من أهل النار تمكث ما شاء الله من يوم تستحاض فلا تصلّي لله ـ عزوجل ـ صلاة! فقال : «مري فاطمة بنت أبي حبيش ، فلتمسك كلّ شهر عدد أيّام أقرائها ، ثمّ تغتسل وتحتشي وتستثفر وتنظّف ، ثمّ تطهّر عند كلّ صلاة ، وتصلّي ، فإنّما ذلك ركضة من الشيطان أو عرق انقطع أو داء عرض لها» (٢).

[٢ / ٦٦٢٧] وهكذا أخرج أبو داوود وابن ماجة وأحمد أيضا بالإسناد عن عروة بن الزبير أنّ فاطمة بنت أبي حبيش حدّثته أنّها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكت إليه الدم ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما ذلك عرق ، فانظري إذا أتى قرؤك فلا تصلّي فإذا مرّ قرؤك فتطهّري ثمّ صلّي ما بين القرء إلى القرء» (٣).

__________________

(١) الخلاف ٥ : ٥٤ ـ ٥٥.

(٢) مسند أحمد ٦ : ٤٦٤.

(٣) أبو داوود ١ : ٦٩ / ٢٨٠ ؛ مسند أحمد ٦ : ٤٢٠ ؛ ابن ماجة ١ : ٢٠٣ / ٦٢٠ ، باب ١١٥.

٥٤٠