التفسير الأثري الجامع - ج ٥

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-06-7
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

موقفا كان أحسن من موقفه ، ما زال مادّا يديه إلى السماء ودموعه تسيل على خدّيه حتّى تبلغ الأرض ، فلمّا صدر الناس قلت له : يا أبا محمّد ما رأيت موقفا قطّ أحسن من موقفك! قال : والله ما دعوت إلّا لإخواني ، وذلك أنّ أبا الحسن موسى عليه‌السلام أخبرني «أنّ من دعا لأخيه بظهر الغيب ، نودي من العرش : ولك مائة ألف ضعف ، فكرهت أن أدع مائة ألف مضمونة ، لواحدة لا أدري تستجاب أم لا!».

[٢ / ٥١٢٣] وعن أبي عبيدة ، عن ثوير قال : سمعت عليّ بن الحسين عليهما‌السلام يقول : «إنّ الملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعو لأخيه المؤمن بظهر الغيب أو يذكره بخير ، قالوا : نعم الأخ أنت لأخيك ، تدعو له بالخير وهو غائب عنك وتذكره بخير ، قد أعطاك الله عزوجل مثلي (١) ما سألت له ، وأثنى عليك مثلي ما أثنيت عليه ، ولك الفضل عليه. وإذا سمعوه يذكر أخاه بسوء ويدعو عليه ، قالوا له : بئس الأخ أنت لأخيك ، كفّ أيّها المستّر على ذنوبه وعورته ، واربع على نفسك (٢) واحمد الله الّذي ستر عليك ، واعلم أنّ الله ـ عزوجل ـ أعلم بعبده منك!».

من تستجاب دعوته

[٢ / ٥١٢٤] روى بالإسناد إلى عيسى بن عبد الله القمّي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «ثلاثة دعوتهم مستجابة : الحاجّ ، فانظروا كيف تخلفونه. والغازي في سبيل الله ، فانظروا كيف تخلفونه. والمريض فلا تغيظوه ولا تضجروه».

[٢ / ٥١٢٥] وعن حسن بن علي الوشّاء عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان أبي يقول : «خمس دعوات لا تحجبن عن الرّب ـ تبارك وتعالى ـ : دعوة الإمام المقسط ، ودعوة المظلوم ، يقول الله ـ عزوجل ـ : لأنتقمنّ لك ولو بعد حين ، ودعوة الولد الصالح لوالديه ، ودعوة الوالد الصالح لولده ، ودعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب ، فيقول (٣) : ولك مثله».

[٢ / ٥١٢٦] وعن النوفليّ ، عن السّكونيّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إيّاكم

__________________

(١) في بعض النسخ [مثل ما سألت] في الموضعين.

(٢) أى اقتصر على نفسك ولا تتعرّض لغيرك. من قولهم : ربع بالمكان إذا توقف فيه.

(٣) أي يقول الله له.

٤١

ودعوة المظلوم ، فإنّها ترفع فوق السحاب (١) حتّى ينظر الله ـ عزوجل ـ إليها فيقول : ارفعوها حتّى أستجيب له ، وإيّاكم ودعوة الوالد فإنّها أحدّ من السيف!».

[٢ / ٥١٢٧] وعن سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان أبي يقول : اتّقوا الظلم فإنّ دعوة المظلوم تصعد إلى السماء».

[٢ / ٥١٢٨] وعن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من قدّم أربعين من المؤمنين ثمّ دعا استجيب له».

[٢ / ٥١٢٩] وعن عبد الله بن طلحة النهدي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أربعة لا تردّ لهم دعوة حتّى تفتح لهم أبواب السماء وتصير إلى العرش : الوالد لولده ، والمظلوم على من ظلمه ، والمعتمر حتّى يرجع ، والصائم حتّى يفطر».

[٢ / ٥١٣٠] وعن النوفليّ ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس شيء أسرع إجابة من دعوة غائب لغائب».

[٢ / ٥١٣١] وأيضا عنه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعا موسى وأمّن هارون وأمّنت الملائكة فقال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما) ومن غزا في سبيل الله أستجيب له كما أستجيب لكما يوم القيامة.

قوله : «يوم القيامة» أي إنّ دعاءه مستجاب حتّى ولو أخّر إلى يوم القيامة فينفعه يومذاك.

من لا تستجاب دعوته

[٢ / ٥١٣٢] روى بالإسناد إلى الوليد بن صبيح قال : صحبت أبا عبد الله عليه‌السلام بين مكّة والمدينة ، فجاء سائل فأمر أن يعطى ، ثمّ جاء آخر فأمر أن يعطى ، ثمّ جاء آخر فأمر أن يعطى ، ثمّ جاء الرّابع فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يشبعك الله! ثمّ التفت إلينا فقال : «أما إنّ عندنا ما نعطيه ، ولكن أخشى أن نكون كأحد الثلاثة الّذين لا يستجاب لهم دعوة : رجل أعطاه الله مالا فأنفقه في غير حقّه ، ثمّ قال : اللهمّ ارزقني فلا يستجاب له ، ورجل يدعو على امرأته أن يريحه منها ، وقد جعل الله ـ عزوجل ـ أمرها إليه ، ورجل يدعو على جاره وقد جعل الله ـ عزوجل ـ له السبيل إلى أن يتحوّل عن جواره ويبيع

__________________

(١) أي الحجب بينه تعالى وبين العباد.

٤٢

[٢ / ٥١٣٣] وعن جعفر بن إبراهيم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أربعة لا تستجاب لهم دعوة : رجل جالس في بيته يقول : اللهمّ ارزقني ، فيقال له : ألم آمرك بالطلب! ورجل كانت له امرأة فدعا عليها ، فيقال له : ألم أجعل أمرها إليك! ورجل كان له مال فأفسده ، فيقول : اللهمّ ارزقني ، فيقال له : ألم آمرك بالاقتصاد ، ألم آمرك بالإصلاح! ثمّ قال : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)(١). ورجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة ، فيقال له : ألم آمرك بالشهادة» أي بالإشهاد على الدين (٢)(٣).

فوائد وعوائد لابن فهد الحلّي

وللمولى الفقيه الزاهد أحمد بن فهد الحلّي بيان لطيف حول الدعاء والمسألة لديه تعالى ، أورده في كتابه «عدّة الداعي ونجاح الساعي» ، عرضا على كتاب الله والسنّة الشريفة ومدعما بكلمات مضيئة من سادات أهل التّقى الأئمّة من آل بيت الرسول ، صلوات الله عليهم أجمعين. نقتبس من فوائده الزّبد والعمد ، ولتكون تكملة لما قدّمناه من مباحث في هذا الشأن :

قال رحمه‌الله : كان الإنسان ولا يزال يجد من نفسه محاطا بأخطار وأكدار ، تجعله ـ دوما ـ على مشارف الانهيار ، لو لا أن تتداركه عناية ربانيّة ووقاية رحمانيّة ، تثبيتا لعزيمته وتحكيما لشكيمته. الأمر الّذي لا يحصل إلّا بالاستعانة واللجوء إلى ساحة قدسه تعالى ، سواء في حالة رخاء أم في حالة ضرّاء.

[٢ / ٥١٣٤] قال الإمام أمير المؤمنين ـ عليه صلوات المصلّين ـ : «ما المبتلى الّذي اشتدّ به البلاء بأحوج إلى الدعاء ، من المعافي الّذي لا يأمن البلاء» (٤).

[٢ / ٥١٣٥] وقال : «ادفعوا أمواج البلاء بالدعاء» (٥).

__________________

(١) الفرقان ٢٥ : ٦٧.

(٢) في الآية رقم ٢٨٢ من سورة البقرة.

(٣) الكافي ٢ : ٤٦٥ ـ ٥١١.

(٤) نهج البلاغة ٤ : ٧٣ ، قصار الحكم ٣٠٢ ؛ البحار ٩٠ : ٣٠١ / ٣٧.

(٥) نهج البلاغة ٤ : ٣٥ قصار الكلم ١٤٦.

٤٣

[٢ / ٥١٣٦] وقال : «الدعاء مفتاح الرحمة ومصباح الظلمة» (١).

[٢ / ٥١٣٧] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الحذر لا ينجي من القدر ، ولكن ينجي من القدر الدعاء. فتقدّموا في الدعاء قبل أن ينزل بكم البلاء. إنّ الله يدفع بالدعاء ما نزل من البلاء وما لم ينزل» (٢).

الحثّ على الدعاء والمسألة

قال تعالى : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً ، إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(٣).

وقال : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ)(٤).

وقال : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا)(٥).

وقال : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)(٦).

وقال : (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(٧).

وقال : (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ). (٨)

وقال : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ)(٩).

[٢ / ٥١٣٨] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من عدوّكم ويدرّ أرزاقكم؟ قالوا : بلى ، قال : تدعون ربّكم باللّيل والنهار ، فإنّ الدعاء سلاح المؤمنين» (١٠).

[٢ / ٥١٣٩] وقال : «افزعوا إلى الله في حوائجكم ، والجأوا إليه في ملمّاتكم ، وتضرّعوا إليه وادعوه ، فإنّ الدعاء مخّ العبادة ، وما من مؤمن يدعو الله إلّا استجاب له ، فإمّا أن يعجّله له في الدنيا ، أو يؤجّل له في الآخرة ، وإمّا يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ، ما لم يدع بمأثم ...» (١١).

__________________

(١) البحار ٩٠ : ٣٠١.

(٢) الدعوات ، الراوندي : ٢٨٤ / ٤ ؛ البحار ٩٠ : ٣٠٠ / ٣٧.

(٣) الأعراف ٧ : ٥٦.

(٤) الأنعام ٦ : ٤١.

(٥) الأنعام ٦ : ٤٢.

(٦) النمل ٢٧ : ٦٢.

(٧) غافر ٤٠ : ١٤.

(٨) هود ١١ : ٦١.

(٩) الأنبياء ٢١ : ٨٣.

(١٠) البحار ٩٠ : ٢٩٧ / ٢٥ ؛ مكارم الأخلاق : ٢٦٨.

(١١) عدّة الداعي : ٣٤ ؛ البحار ٩٠ : ٣٠٢ / ٣٩.

٤٤

[٢ / ٥١٤٠] وقال : «أكسل الناس عبد صحيح فارغ لا يذكر الله بشفة لسان ، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء» (١).

[٢ / ٥١٤١] وقال : «سلوا الله وأجزلوا ، فإنّه لا يتعاظمه شيء» (٢).

[٢ / ٥١٤٢] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سلوا الله ـ عزوجل ـ ما بدالكم من حوائجكم حتّى شسع النعل ، فإنّه إن ييسّره لم يتيسّر» (٣).

[٢ / ٥١٤٣] وقال : «ليسأل أحدكم ربّه حاجته كلّها ، حتّى يسأله شسع نعله إذا انقطع» (٤).

[٢ / ٥١٤٤] وفي الحديث القدسيّ : «يا موسى ، سلني كلّ ما تحتاج إليه ، حتّى علف شاتك وملح عجينك» (٥).

***

[٢ / ٥١٤٥] وسئل الإمام أبو الحسن عليه‌السلام عن قوله : «لكلّ داء دواء»؟ فقال : «لكلّ داء دعاء ، فإذا ألهم العليل الدعاء فقد أذن الله في شفائه». ثمّ قال : «الدعاء أفضل من قراءة القرآن ، لأنّ الله ـ جلّ وعزّ ـ يقول : (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ)(٦)». (٧)

[٢ / ٥١٤٦] وعنه عليه‌السلام قال : «عليكم بالدعاء ، فإنّ الدعاء والطلبة إلى الله ـ جلّ وعزّ ـ يردّ البلاء وقد قدّر وقضي فلم يبق إلّا إمضاؤه ، فإذا دعي الله وسئل ، صرف البلاء صرفا» (٨).

[٢ / ٥١٤٧] وقال الصادق عليه‌السلام : «عليك بالدعاء ، فإنّ فيه شفاء من كلّ داء» (٩).

[٢ / ٥١٤٨] وقال : «إنّ الدعاء يردّ القضاء المبرم بعد ما أبرم إبراما ، فأكثر من الدعاء ، فإنّه مفتاح كلّ رحمة ، ونجاح كلّ حاجة ، ولا ينال ما عند الله إلّا بالدعاء ، فإنّه ليس من باب يكثر قرعه إلّا أوشك أن يفتح لصاحبه» (١٠).

__________________

(١) عدّة الداعي : ٣٤ ؛ البحار ٩٠ : ٣٠٢.

(٢) عدّة الداعي : ٣٦ ؛ البحار ٩٠ : ٣٠٢.

(٣) البحار ٩٠ : ٢٩٥.

(٤) المصدر.

(٥) عدّة الداعي : ١٢٣ ؛ البحار ٩٠ : ٣٠٣.

(٦) الفرقان ٢٥ : ٧٧.

(٧) البحار ٩٠ : ٢٩٤ و ٢٩٦.

(٨) مكارم الأخلاق : ٣٨٨ ؛ البحار ٩٠ : ٢٩٥.

(٩) الكافي ٢ : ٤٧٠ ؛ البحار ٩٠ : ٢٩٥.

(١٠) فلاح السائل لابن طاووس : ٢٨ ؛ البحار ٩٠ : ٢٩٩.

٤٥

[٢ / ٥١٤٩] وقال : «من تخوّف بلاء يصيبه فيقوم فيه بالدعاء ، لم يره الله ذلك البلاء أبدا» (١).

[٢ / ٥١٥٠] وقال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام رجلا دعّاء» (٢).

شرائط الاستجابة

قال ابن فهد : قد يدعو الداعي فلا يستجاب له ، فما قوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)؟

والجواب : سبب منع الإجابة الإخلال بآداب الدعاء من جانب الداعي ، إمّا بأن يكون قد سأل من غير مراعاة لأدب الدعاء وشرائطه ، وإمّا لعدم الصلاح في الإجابة ـ إمّا لنفس الداعي أو ما يعود إلى غيره ـ أو لغيرها من شرائط وآداب تجب مراعاتها في الدعاء ، لنيل الإجابة.

[٢ / ٥١٥١] فقد روى عثمان بن عيسى عمّن حدّثه عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : آيتان في كتاب الله أطلبهما ولا أجدهما (٣)! قال : وما هما؟ قلت : قوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(٤). وقوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)(٥)؟!

فقال عليه‌السلام : أمّا الآية الأولى ، فمن أطاع الله فيما أمره ، ثمّ دعاه من جهة الدعاء ، أجابه!

قلت : وما جهة الدعاء؟

قال : تبدأ فتحمد الله وتذكر نعمه عندك ثمّ تشكره ، ثمّ تصلّي على النبيّ وآله ، ثمّ تذكر ذنوبك فتقرّ بها ثمّ تستغفر منها ، فهذه جهة الدعاء!

ثمّ قال : وأمّا الآية الأخرى ، فلو أنّ أحدكم اكتسب المال من حلّه وأنفقه في حقّه (٦) ، لم ينفق أحد درهما إلّا أخلف الله عليه!» (٧).

قال ابن فهد : وإمّا أن يكون قد سأل ما لا صلاح فيه ويكون مفسدة له أو لغيره ، إذ ليس أحد يدعو الله ـ سبحانه ـ على ما توجبه الحكمة فيما فيه صلاحه ، إلّا أجابه.

__________________

(١) فلاح السائل : ٢٨ ؛ البحار ٩٠ : ٣٠٠.

(٢) كشف الغطاء ٢ : ٣٠٧ ؛ الكافي ٢ : ٤٦٨ ؛ عدّة الداعي : ٣٣ ؛ البحار ٩٠ : ٣٠٤.

(٣) مرّ تفسير ذلك بطلب الوفاء بالعهد من الله تجاه ما وعد.

(٤) غافر ٤٠ : ٦٠.

(٥) سبأ ٣٤ : ٣٩.

(٦) وفي نسخة : في حلّه.

(٧) عدّة الداعي : ١٥ ـ ١٦. انظر : الكافي ٢ : ٤٨٦ / ٨.

٤٦

قال : وعلى الداعي أن يشترط ذلك بلسانه (١) ، أو يكون منويّا في قلبه ، فالله يجيبه البتّة ، إن اقتضت المصلحة إجابتها ، أو يؤخّر له إن اقتضت المصلحة التأخير! قال تعالى : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)(٢).

قلت : وعن بعض الأجلّة (هو الشيخ محمّد رضا جرقوييي الأصفهاني رحمه‌الله) : على الداعي أن يسأل الله تعالى ليجعل الصلاح فيما سأله ، فإنّ تغيير المصلحة بيده تعالى يجعلها حيث يشاء.

قال ابن فهد : وكفاك قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٣).

قال : لعلّك تقول : إنّه تعالى إنّما يفعل وفق ما تقتضيه حكمته ، وليست الوسائل بالتي تغيّر من حكمته تعالى ، فما شأن الدعاء؟

وأجاب : بإمكان تغيير المصلحة بإرادة الله ، إثر الدعاء.

قال : ويدلّ على ذلك ما رواه ميسّر بن عبد العزيز :

[٢ / ٥١٥٢] قال له الصادق عليه‌السلام : «يا ميسّر ، ادع الله ، ولا تقل : إنّ الأمر قد فرغ منه ؛ إنّ عند الله منزلة لا تنال إلّا بمسألة. ولو أنّ عبدا سدّ فاه ولم يسأل لم يعط شيئا ، فاسأل تعط ، يا ميسّر ، إنّه ليس يقرع باب إلّا يوشك أن يفتح لصاحبه» (٤).

[٢ / ٥١٥٣] وعن عمرو بن جميع : «من لم يسأل الله افتقر» (٥).

[٢ / ٥١٥٤] وقال عليّ عليه‌السلام : «من أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة» (٦).

وأيضا فإنّ الدعاء ـ في ذاته ـ عبادة مندوب إليها.

[٢ / ٥١٥٥] وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الدعاء مخّ العبادة» (٧).

__________________

(١) أي يسأل الإجابة إن كان فيها صلاحه.

(٢) يونس ١٠ : ١١.

(٣) عدّة الداعي : ١٥ ـ ١٦.

(٤) الكافي ٢ : ٤٦٦ / ٣.

(٥) المصدر / ٤.

(٦) نهج البلاغة ٤ : ٣٣ ، قصار الحكم ١٣٥.

(٧) البحار ٩٠ : ٣٠٠.

٤٧

[٢ / ٥١٥٦] وفيما وعظ الله به عيسى عليه‌السلام : «يا عيسى ، أذلّ قلبك ، وأكثر ذكري في الخلوات. واعلم أنّ سروري أن تبصبص إليّ ، وكن في ذلك حيّا (أي ذا حيويّة نابضة ، نشطا) ولا تكن ميّتا (خاملا لا حراك فيه)» (١).

[٢ / ٥١٥٧] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما المؤمن كالطائر ، وله جناحان : الخوف والرجاء» (٢).

الاقتراح على الله مذموم وفضول

وينبغي للعبد المؤمن ، إذا تأخّرت الإجابة ، ان لا يتبرّم ولا ينضجر ، بل يستسلم لقضاء الله ، وأنّ هناك حكمة أوجبت تأخّر الإجابة ، وربما كان الواقع هو عين الصلاح ، فالتسليم لذلك غاية تفويض الأمر إلى الله والاستكانة لديه.

[٢ / ٥١٥٨] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تسخطوا نعم الله ولا تقترحوا على الله ، وإذا ابتلي أحدكم في رزقه أو معيشته ، فلا يحدثنّ شيئا يسأله ، لعلّ في ذلك حتفه وهلاكه. ولكن ليقل : «اللهمّ بجاه محمّد وآله الطيّبين ، إن كان ما كرهته من أمري هذا خيرا لي وأفضل في ديني ، فصبّرني عليه وقوّني على احتماله ، ونشّطني بثقله. وإن كان خلاف ذلك خيرا لي فجد به عليّ ورضّني بقضائك على كلّ حال ، ولك الحمد» (٣).

[٢ / ٥١٥٩] وعن الصادق عليه‌السلام : «فيما أوحى الله إلى موسى بن عمران عليه‌السلام : يا موسى ، ما خلقت خلقا أحبّ إليّ من عبدي المؤمن ، وإنّي إنّما ابتليته لما هو خير له ، وأعافيه لما هو خير له ، وأنا أعلم بما يصلح عبدي عليه ، فليصبر على بلائي ، وليشكر على نعمائي. أثبته في الصّدّيقين عندي إذا عمل برضائي وأطاع أمري» (٤).

[٢ / ٥١٦٠] وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : قال الله ـ عزوجل ـ من فوق عرشه : «يا عبادي ، أطيعوني فيما أمرتكم به ، ولا تعلموني بما يصلحكم ، فإنّي أعلم به ولا أبخل عليكم بمصالحكم» (٥).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٥٠٢.

(٢) عدّة الداعي : ٢٨ ، رواه عن الائمة عليهم‌السلام.

(٣) عدّة الداعي : ٣٠.

(٤) المصدر.

(٥) المصدر.

٤٨

[٢ / ٥١٦١] وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عباد الله ، أنتم كالمرضى ، وربّ العالمين كالطبيب ، فصلاح المرضى بما يعلمه الطبيب ويدبّره ، لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه ، ألا فسلّموا الله أمره تكونوا من الفائزين» (١).

والأخبار بهذا الشأن كثيرة. وأسهب رحمه‌الله في بيان شرائط الاستجابة إمّا بحال الداعي او الدعاء ذاته ، أو الزمان أو المكان أو الأحوال ونحو ذلك ، في بيان رتيب وكفاءة بالغة ، فلله شأنه من أديب لبيب (٢).

وهكذا تجد المولى محمّد باقر المجلسي العظيم ، أتى على جميع هذه الأبواب والفصول باستيعاب شامل وإيفاء كامل. فأكرم به من محقّق مضطلع خبير (٣).

وغيرهما من كتب وتصانيف تخصّصت بذكر الأدعية والأذكار.

قوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) [٢ / ٥١٦٢] أخرج البزّار عن سلمان عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يقول الله تعالى : يا ابن آدم واحدة لي ، وواحدة لك ، وواحدة فيما بيني وبينك ، وواحدة فيما بينك وبين عبادي! فأمّا الّتي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا ، وأمّا الّتي لك فما عملت من شيء أو من عمل وفّيتكه ، وأمّا الّتي بيني وبينك فمنك الدعاء وعليّ الإجابة ، وأمّا الّتي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك» (٤).

[٢ / ٥١٦٣] وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سلمان قال : لمّا خلق الله تعالى آدم قال : يا آدم ، واحدة لي وواحدة لك ، وواحدة بيني وبينك. فأمّا الّتي هي لي فتعبدنى لا تشرك بي شيئا. وأمّا الّتي هي لك ، فما عملت من شيء جزيتك به ، وأن أغفر ، فأنا الغفور الرحيم. وأمّا الّتي بيني وبينك فمنك المسألة والدعاء ، ومنّي الإجابة والعطاء.

__________________

(١) المصدر.

(٢) راجع : عدّة الداعي : ١١ ـ ٦٠ ، فما بعد.

(٣) راجع : بحار الأنواره ٩٠ : ١٤٧ ـ ٣٩٤. الجزء الثاني من المجلد التاسع عشر في ذكر الأدعية والأذكار.

(٤) الدرّ ١ : ٤٧١ و ٤٧٤ ؛ مسند البزّار ٦ : ٤٩٠ / ٢٥٢٣ ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ٨ : ١٧٨ ، باب ١٧ / ١.

٤٩

قال : هذا موقوف.

وقد رواه زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري عن أنس بن مالك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيما يروي عن ربّه ـ عزوجل ـ ورواه صالح المرّي عن الحسن عن أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزاد : وواحدة فيما بينك وبين عبادي ، ثمّ قال : وأمّا الّتي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك (١).

قوله تعالى : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) [٢ / ٥١٦٤] قال مجاهد : فليطيعوني (٢).

[٢ / ٥١٦٥] وعن عطاء الخراسانى : فليدعوني (٣).

[٢ / ٥١٦٦] وعن ابن المبارك : قال : طاعة الله (٤).

قوله تعالى : (وَلْيُؤْمِنُوا بِي).

[٢ / ٥١٦٧] قال عطاء الخراساني : وليؤمنوا بي أنّي أستجيب لهم (٥).

[٢ / ٥١٦٨] وقال الصادق عليه‌السلام : «أي وليتحقّقوا أنّي قادر على إعطائهم ما سألوه» (٦).

[٢ / ٥١٦٩] وروى العيّاشيّ بالإسناد إلى ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «يعلمون أنّي قادر على أن أعطيهم ما يسألون» (٧).

[٢ / ٥١٧٠] وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : قال المسلمون : أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) ليطيعوني ، والاستجابة هي الطاعة ، (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) ليعلموا أنّي

__________________

(١) الشعب ٢ : ٣٩ ـ ٤٠ / ١١١٢ ـ ١١١٣.

(٢) الطبري ٢ : ٢١٧ / ٢٣٨٩ ؛ مجمع البيان ٢ : ١٨ ؛ الدرّ ١ : ٤٧٣.

(٣) الطبري ٢ : ٢١٧ / ٢٣٩١.

(٤) المصدر / ٢٣٩٠.

(٥) المصدر / ٢٣٩١ ـ ٢٣٩٢.

(٦) مجمع البيان ٢ : ١٨ ؛ التبيان ٢ : ١٣١ ؛ البحار ٨٧ : ٥٣ ، باب ٦.

(٧) العيّاشيّ ١ : ١٠٢ / ١٩٧ ؛ البحار ٩٠ : ٣٢٣ / ٣٧ ، باب ١٧.

٥٠

قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان (١).

[٢ / ٥١٧١] وأخرج ابن أبي الدنيا في الدعاء وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات والأصبهاني في الترغيب والديلميّ من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال : حدّثني جابر بن عبد الله ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) الآية. فقال : «اللهمّ إنّي أمرت بالدعاء وتكفّلت بالإجابة ، لبيّك اللهمّ لبيّك ، لبيّك لا شريك لك لبيّك ، إنّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ، اللهمّ أشهد أنّك فرد أحد صمد ، لم تلد ولم تولد ، ولم يكن لك كفوا أحد ، وأشهد أنّ وعدك حقّ ، ولقاءك حقّ ، والجنّة حقّ ، والنار حقّ ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّك تبعث من في القبور» (٢).

[٢ / ٥١٧٢] وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم التيميّ قال : كان يقال : إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء فقد استوجب ، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على رجاء (٣).

قوله تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ ...)

[٢ / ٥١٧٣] قال ابن عبّاس : قريب من أوليائي وأهل طاعتي (٤).

[٢ / ٥١٧٤] وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن شبيب قال : صلّيت إلى جنب سعيد بن المسيّب المغرب ، فرفعت صوتي بالدعاء ، فانتهرني وقال : ظننت أنّ الله ليس بقريب منك؟! (٥)

[٢ / ٥١٧٥] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي موسى الأشعري قال : كنّا مع

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤٧٠.

(٢) الدرّ ١ : ٤٧٤ ؛ الشكر لله : ١٤٢ / ١٥٢ ؛ الأسماء والصفات (الجزء الأوّل) : ١٥١ ؛ كنز العمّال ٢ : ٣٢٠ / ٤١٢٥ ؛ ابن كثير ١ : ٢٢٥.

(٣) الدرّ ١ : ٤٧٤ ؛ المصنّف ٧ : ٢٤ / ٥ ، باب ٥.

(٤) الوسيط ١ : ٢٨٤.

(٥) الدرّ ١ : ٤٧٤ ؛ المصنّف ٢ : ٣٧٢ / ٧ ، باب ٣١٨ ، وفيه عبد الله بن نسيب.

٥١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزاة ، فجعلنا لا نصعد شرفا ولا نهبط واديا إلّا رفعنا أصواتنا بالتكبير ، فدنا منّا فقال : «يا أيّها الناس اربعوا على أنفسكم (١) فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا ، إنّما تدعون سميعا بصيرا ، إنّ الّذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته!» (٢).

[٢ / ٥١٧٦] وأخرج ابن جرير والبغوي في معجمه وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طريق الصلت بن حكيم عن رجل من الأنصار عن أبيه عن جدّه قال : «جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنزل الله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) إذا أمرتهم أن يدعوني ، فدعوني أستجيب لهم» (٣).

[٢ / ٥١٧٧] وأخرج سفيان بن عيينة في تفسيره وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، من طريق سفيان عن أبيّ قال : «قال المسلمون : يا رسول الله أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) الآية (٤).

__________________

(١) أي ارفقوا بأنفسكم.

(٢) الدرّ ١ : ٤٧٠ ؛ المصنّف ٧ : ١٠٨ / ٣ ؛ باب ٩٤ ؛ مسند أحمد ٤ ؛ ٤٠٢ ؛ البخاري ٥ ؛ ٧٥ ؛ مسلم ٨ : ٧٣ ؛ أبو داوود ١ : ٣٤١ / ١٥٢٨ ؛ الترمذي ٥ : ١٧٢ ـ ١٧٣ / ٣٥٢٨ ؛ النسائي ٤ ؛ ٣٩٨ / ٧٦٨٠ ؛ كنز العمّال ٢ : ٩١ / ٣٢٨٧ ؛ الأسماء والصفات : ٦٠١ ؛ مجمع البيان ٤ : ٢٧١.

(٣) الدرّ ١ : ٤٦٩ ؛ الطبري ٢ : ٢١٥ / ٢٣٨١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٣١٤ / ١٦٦٧.

(٤) الدرّ ١ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ ؛ الثعلبي ٢ : ٧٤ ، نقلا عن الضحّاك ؛ البغوي ١ : ٢٢٥ / ١٥٢ ، عن الضحّاك ؛ الوسيط ١ : ٢٨٣ ، عن الضحاك.

٥٢

قال تعالى :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧))

وفي هذه الآيات بيان لجملة من أحكام الصيام ، ربما كان الناس يتغافلون عنها أو يتساهلون بشأنها ، فجاء تشريعها تأكيدا على الالتزام بها ، مع شيء من التخفيف المتناسب مع روح الإسلام السهلة السمحة. فقد كان هناك مرسوم سابق (١) : الاعتزال عن النساء في ليالي الصيام ، وكذا الامتناع عن المأكل والمشرب بعد نوم العشاء.

فجاءت الآية ليقرّر جواز مباشرة النساء ما بين المغرب والفجر ، وكذلك حلّ الطعام والشراب ، وأنّ مواعيد الصوم من الفجر إلى الغروب. وبالمناسبة تطرّق إلى حكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد ، حيث كان المرسوم يومذاك الاعتكاف في العشر الأخير من رمضان. فلم تجز المباشرة في تلك الحال لا ليلا ولا نهارا.

والرّفث : العرابة وهي مغازلة النساء للتلذّذ بهنّ أيّ أنواع التلذّذ (٢) ، والمراد هنا : مداعبة النساء تمهيدا لمباشرتهنّ أو نفس المباشرة. ومن ثمّ عدّي بإلى.

قال الراغب ـ في قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ـ : جعل الرفث كناية عن الجماع ، تنبيها على جواز دعائهنّ إلى ذلك ومكالمتهنّ فيه. وعدّي بإلى ، لتضمّنه معنى

__________________

(١) حسبما يبدو من ظاهر التعبير بالسماح والتخفيف. وسنتكلّم عن ذلك.

(٢) قال الأزهري : الرفث كلمة جامعة لكلّ ما يريده الرجل من المرأة (تهذيب اللغة ١٥ : ٥٨). وسيأتي الكلام عنه ذيل الآية : ١٩٧ من سورة البقرة.

٥٣

الإفضاء.

وقال ـ في قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) ـ : يحتمل أن يكون نهيا عن تعاطي الجماع ، وأن يكون نهيا عن الحديث في ذلك ، إذ هو من دواعيه (١).

وقد وقع أنّ بعضهم لم يجد طعاما حاضرا عند أهله بعد الإفطار ، فانتظر ليحضروا له فغلبه النوم ، ثمّ صحا فلم يحلّ له الطعام والشراب ، فواصل. ثمّ جهد في النهار التالي ، وبلغ أمره إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

كما وقع أنّ بعضهم نام بعد الإفطار أو نامت امرأته ، ثمّ وجد في نفسه دفعة للمباشرة ففعل وبلغ أمره إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، وبدت المشقّة في أخذ المسلمين بهذا التكليف ، فردّهم الله إلى اليسر وتجربتهم حاضرة في نفوسهم ، ليحسّوا بقيمة اليسر وبمدى الرحمة والاستجابة.

ونزلت هذه الآية لتحلّ لهم المباشرة ما بين المغرب والفجر :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ). والرفث ـ كما قلنا ـ مقدّمات المباشرة أو المباشرة ذاتها ، وكلاهما مقصود هنا ومباح.

ولكن انظر إلى لطف التعبير القرآني هنا ، القرآن لا يمرّ على هذا المعنى دون لمسة حانية رفّافة ، تمنح العلاقة الزوجيّة شفّافيّة ورفقا ونداوة ، وتنأى بها عن غلظ المعنى الحيواني وعرامته ، وتوقظ معنى الستر في تيسير هذه العلاقة :

(هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) ، واللباس ساتر وواق ، وكذلك هذه الصلة بين الزوجين ، تستر كلّا منهما وتقيه عن العرامة والفحشاء ، والإسلام الّذي يأخذ هذا الكائن الإنساني بواقعه كلّه ، ويرتضي تكوينه وفطرته كما هي ، ويأخذ بيده إلى معارج الكمال بكلّيّته ، الإسلام وهذه نظرته يلبّي دفعة الجسد الفطريّة ، وينسم عليها هذه النسمة اللطيفة الرقيقة الروحاء ، ويدثّرها بهذا الدثار اللطيف الظريف البهيج ، كلّ هذا وذاك في آن.

ويكشف لهم عن خبيئة مشاعرهم ، وهو يكشف لهم عن رحمته بالاستجابة لهواتف فطرتهم.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ)

__________________

(١) المفردات : ١٩٩ ، والآية من سورة البقرة ٢ : ١٩٧.

(٢) انظر : الطبري ٢ : ٢٢٤ / ٢٤١١ فما بعده.

(٣) انظر : الطبري ٢ : ٢٢٥ / ٢٤١٣ و ٢٤١٤.

٥٤

وهذه الخيانة تتمثّل في الهواتف الحبيسة ، والرغبات المكبوتة ، أو تتمثّل في الفعل ذاته ، وقد ورد أنّ بعضهم أتاه (١). وفي كلتا الحالتين لقد تاب عليهم وعفا عنهم ، مذ ظهر ضعفهم وعلمه الله منهم. فأباح لهم ما كانوا يختانون فيه أنفسهم :

(فَالْآنَ) وبعد هذا البلاغ (بَاشِرُوهُنَّ).

ولكن هذه الإباحة لا تمضى دون أن تربط بالله ، ودون توجيه النفوس في هذا النشاط لله أيضا :

(وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) وليكن ابتغاؤكم ـ وراء رغبة المباشرة ـ استهداف الآثار والنتائج الّتي أرادها الله من وراء تلكم الظواهر الطبيعيّة الفطرية الّتي جبل الإنسان عليها.

إنّ من وراء عطاياه ـ سبحانه ـ حكمة ، ولها في حسابه غاية. فليست إذن مجرّد اندفاع حيوانيّ موصول بالجسد ، منفصل عن ذلك الأفق الأعلى الّذي ينبغي أن يتّجه إليه كلّ نشاط.

قال سيّد قطب : بهذا ترتبط المباشرة بين الزوجين ، بغاية هي أكبر من أنفسهما ، وأفق أرفع من الأرض ومن لحظة اللّذة بينهما. وبهذا تنظّف هذه العلامة وترقّ وترقى. قال : ومن مراجعة مثل هذه الإيحاءات في التوجيه القرآني وفي التصوّر الإسلاميّ ، ندرك قيمة الجهد المثمر الحكيم الّذي يبذل لترقية هذه البشريّة وتطويرها ، في حدود فطرتها وطاقاتها وطبيعة تكوينها.

قال : وهذا هو النهج الإسلامي للتربية والاستعلاء والنماء. المنهج الصادر من يد الخالق ، وهو أعلم بمن خلق وبما خلق ، وهو اللطيف الخبير (٢).

***

وكما أباح المباشرة أباح الطعام والشراب في الفترة ذاتها :

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ). أي حتّى ينتشر النور المنبسط على الأفق. وليس هو بدوّ بياض ، صعدا في كبد السماء ، لم يلبث أن يزول ، وهو ما يسمّى بالفجر الكاذب.

ثمّ يذكر حكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد. والاعتكاف : التحبّس في مكان واللبث فيه. والغاية منه : الخلوة مع الله في المساجد ، وعدم الخروج إلّا لضرورة قضاء الحاجة ، ويستحبّ في رمضان في الأيّام الأخيرة. وكانت سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العشر الأخير منه ، وهي

__________________

(١) الطبري ٢ : ٢٢٥ / ٢٤١٢ وما بعده.

(٢) في ظلال القرآن ١ : ٢٥٠.

٥٥

فترة التجرّد إلى الله ، ومن ثمّ امتنعت فيها المباشرة تحقيقا لهذا التجرّد الكامل الّذي تنسلخ فيه النفس من كلّ لذّاتها ويخلص فيه القلب لله من كلّ شاغل.

(وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ). سواء في ذلك فترة الإمساك وفترة الإفطار.

وفي النهاية يربط الأمر كلّه بالله ، على طريقة القرآن في توجيه كلّ نشاط وكلّ امتناع ، كلّ أمر وكلّ نهي ، كلّ حركة وكلّ سكون ، (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها). والنهي هنا عن القرب ، لتكون هناك منطقة أمان ، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه (١).

والإنسان لا يملك نفسه في كلّ وقت ، فأحرى به أن لا يعرض إرادته للامتحان ، بالقرب من المحظورات المشتهاة ، اعتمادا على نفسه أنّها تمتنع عن الارتكاب حينما يريد.

وهذا التحذير على هذا النحو له إيحاؤه بتربية النفس في التحفّظ ولزوم التقوى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ) معالم هدايته (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) والتقوى هي تعهّد النفس وتقيّدها بملازمة الحدود المضروبة دون الانصياع لملاذّ الحياة من غير هوادة.

ملاحظات

ينبغي التريث عند تعابير جاءت في آية الصيام هنا :

أوّلا قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ، قد يشي بأنّ هناك من قبل كان إتيان النساء ليلا وكذا الأكل والشرب ، محرّما على صائمي النهار. إذ لا رابطة جوهريّا بين صيام النهار والامتناع من هذه الأمور ليلا.

وقد رووا في ذلك روايات ، وحسبوها شأن النزول. وهذا رأي جمهور المفسرين وأنكر أبو مسلم الأصفهاني أن يكون هذا نسخا لشيء تقرّر في شرعنا ، وقال : هو نسخ لما كان في شريعة النصارى (٢).

نعم كانت شريعة الصوم فيما سلف تفرض الإمساك عن المشتهيات طول الليل والنهار ، من غروب الشمس فإلى غروبها في اليوم التالي. لكن بعد ما فرض الصوم على المسلمين وأبيح لهم

__________________

(١) انظر : المبسوط للسرخسي ٣ : ١٠١ ، رواه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) التفسير الكبير ٥ : ١٠٣.

٥٦

الأكل عند الغروب وعند السحور. (١) وهموا اختصاص جوازه بهذين الوقتين ، فكانوا يتحرّجون ـ فيما حسبوا ـ من الأكل وغيره فيما بين الوقتين ، فجاءت الآية دفعا لهذا التوهّم ، وأنّه جائز طول اللّيل حتّى طلوع الفجر. فلم تكن الآية نسخا لشرعة إسلاميّة ، وإنّما هي دفع لتوهّم الحظر ـ في مصطلحهم ـ وإن شئت فسمّه نسخا لجانب من شريعة الصوم فيما سلف. قال ابن عاشور : وما شرع الصوم إلّا إمساكا في النهار دون الليل ، فلا أحسب أنّ الآية إنشاء للإباحة ، ولكنّها إخبار عن الإباحة المتقرّرة في أصل توقيت الصيام بالنهار. والمقصود منها إبطال ما توهّمه بعض المسلمين ، وهو أنّ الأكل في اللّيل لا يتجاوز وقتين : الإفطار والسحور ، وجعلوا وقت الإفطار هو ما بين المغرب إلى العشاء ، لأنّهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء ، فإذا صلّوها لم يأكلوا إلّا أكلة السحور. وهكذا شأن مباشرة النساء واعتادوا جعل النوم بعد العشاء مبدأ وقت الإمساك الليلي ، فحسبوا أنّ النوم إذا حصل في غير إبانه المعتاد ، يكون أيضا مانعا من الأكل والجماع ، إلى وقت السحور ، وأنّ وقت السحور لا يباح فيه إلّا الأكل دون الجماع ؛ إذ كانوا يتأثّمون من الإصباح في رمضان على جنابة.

قال : وقد جاء في صحيح مسلم : أنّ أبا هريرة كان يرى ذلك (٢) ، يعني بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. لعلّ هذا قد سرى إليهم من أهل الكتاب ، كما يقتضيه ما رواه محمّد بن جرير من طريق السّدّي (٣). ولعلّهم التزموا ذلك ولم يسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولعلّ ذلك لم يتجاوز بعض شهر رمضان من السّنة الّتي شرع لهم فيها الصيام ، فحدثت هذه الحوادث المختلفة المتقاربة!

__________________

(١) كان الصوم والإمساك عن المآكل وسائر المشتهيات عند أهل الكتاب ذريعة لديه تعالى عند عروض النائبة ، وكانوا يواصلون الإمساك من غروب الشمس حتّى غروبها في اليوم التالي. (قاموس الكتاب المقدّس ـ جيمس هاكس : ٤٢٨). وهكذا روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السّحر». رواه أحمد (٤ : ١٩٧) والترمذي (٢ : ١٠٦ / ٧٠٣ ، باب ١٧) ومسلم (٣ : ١٣٠ ـ ١٣١) وأبو داوود (١ : ٥٢٦ / ٢٣٤٣ ، باب ١٤) والدارمي (٢ : ٦) والنسائي (٢ : ٨٠ / ٢٤٧٦) وابن أبي شيبه في المصنّف (٢ : ٤٢٦ / ٣. باب ٦) وكنز العمّال (٨ : ٥٢٧ / ٢٣٩٨٦) والقرطبي (٢ : ٣٢٩) وابن كثير (١ : ٢٢١ ، ط : البابي).

(٢) مسلم ٣ : ١٣٧ ، وفيه عن أبي هريرة أنّه يقول : «من أدركه الفجر جنبا فلا يصم».

(٣) الطبري ٢ : ٢٢٧ / ٢٤٢٠.

٥٧

قال : وذكر ابن العربي في «العارضة» عن ابن القاسم عن مالك : كان في أوّل الإسلام ، من رقد قبل أن يطعم ، لم يطعم من اللّيل شيئا ، فأنزل الله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) ، فأكلوا بعد ذلك (١). فقوله تعالى : (عَلِمَ اللهُ) دليل على أنّ القرآن نزل بهذا الحكم لزيادة البيان ؛ إذ علم الله ما ضيّق به بعض المسلمين على أنفسهم ، وأوحى به إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! وهذا يشير إلى أنّ المسلمين كانوا لم يفشوا ذلك ولا أخبروا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولذلك لا نجد في روايات البخاري والنسائي أنّ الناس ذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا في حديث قيس بن صرمة عند أبي داوود (٢). ولعلّه من زيادات الراوي!

قال : فأمّا أن يكون ذلك قد شرع ثمّ نسخ ، فلا أحسبه ؛ إذ ليس من شأن الدين الّذي شرع الصوم أوّل مرّة يوما في السنة (٣) ، ثمّ درّجه فشرع الصوم شهرا على التخيير بينه وبين الإطعام تخفيفا على المسلمين أن يفرضه بعد ذلك ليلا ونهارا ، فلا يبيح الفطر إلّا ساعات قليلة من اللّيل! (٤)

***

قد يقال : إنّ هذا التأويل يخالف ظاهر التعبير ، حيث قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ). وهو ظاهر في أنّه كان محرّما ثمّ أحلّ تسهيلا على الأمّة.

قال سيّدنا العلّامة الطباطبائي رحمه‌الله : لو لا حرمة سابقة ، كان حقّ الكلام أن يقال : فلا جناح عليكم أن تباشروهنّ. أو ما يؤدّي هذا المعنى.

وكذا قوله تعالى : (كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) ظاهر في تشديد سابق ، ثمّ خفّف عنهم.

قال رحمه‌الله : هذه التعابير وإن لم تكن صريحة في النسخ ، غير أنّ لها كمال الظهور في ذلك. إذ لو كان الجواز مستمرّا قبل نزول الآية وبعدها على سواء ، لم يكن لهذا التعبير وجه معقول (٥).

قلت : التعبير بأحلّ لا يشعر بسابق تحريم ، على ما تعارفه القرآن في التعبير بهذا اللفظ. فقوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ)(٦) لا يدلّ على سابق تحريم.

__________________

(١) انظر : الدرّ ١ : ٤٧٨. والطبري ٢ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ / ٢٤٢١.

(٢) أبو داوود ١ : ٥١٩ / ٢٣١٤. وفيه : «صرمة بن قيس».

(٣) كما كان في شرائع السلف.

(٤) التحرير والتنوير ٢ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٥) الميزان ٢ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٦) المائدة ٥ : ١.

٥٨

وكذا قوله : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)(١) فقد كانت الطيّبات محلّلة منذ يومها الأوّل. وهذا ليس إلّا لبيان أنّ الشرع إنّما يحلّل الطيّبات ويحرّم الخبائث. وفقا للفطرة والعقل السليم ، (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ)(٢). أي يبيّن لهم أنّ هذا حلال في ذاته وذاك حرام. والذاتي قديم في أصله ، ونظير هذا كثير في القرآن من غير أن تكون لها ولا إشارة إلى سابق حكم كان يضادّه.

نعم ، قد يأتي مثل هذا التعبير عند زعم الخلاف ، دفعا لتوهّم الحظر ، حسب مصطلحهم. ولعلّ منه قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) حيث العموم في الآية قبلها : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ومن ثمّ جاء التفصيل هنا : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ، وهذا التفصيل تبيين لذلك الإجمال في ظاهر العموم.

وهنا وفي مجال الصوم لعلّهم توهّموا الحظر ، فأخذوا بالاحتياط في الأمر. فجاءهم التنبيه على الترخيص ، وأن لا تكليف شاقّا في شريعة الإسلام.

***

وربما يشهد لصحّة هذا التأويل ، التعبير الوارد في الروايات : أنّ جماعة من المسلمين كانوا امتنعوا من الرفث والمآكل ليلا ولم يرد أنّهم كانوا منعوا من ذلك ثمّ أبيح لهم!؟

[٢ / ٥١٧٨] أخرج وكيع وعبد بن حميد والبخاري وأبو داوود والترمذي والنحّاس في ناسخه وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب قال : كان أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتّى يمسي ، وإنّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما ، فكان يومه ذاك يعمل في أرضه ، فلمّا حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك ، فغلبته عينه فنام ، ولمّا جاءت امرأته ورأته نائما قالت : خيبة لك أنمت! فلمّا انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت هذه الآية : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ) إلى قوله : (مِنَ الْفَجْرِ) ففرحوا بها فرحا شديدا (٣).

__________________

(١) المائدة ٥ : ٥.

(٢) الأعراف ٧ : ١٥٧.

(٣) الدرّ ١ : ٤٧٥ ؛ البخاري ٢ : ٢٣٠ ـ ٢٣١ ؛ أبو داوود ١ : ٥١٩ / ٢٣١٤ ، باب ١ ؛ الترمذي ٤ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩ / ٤٠٤٨ ؛

٥٩

[٢ / ٥١٧٩] وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال : كان المسلمون في أوّل الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب ، إذا نام أحدهم لم يطعم حتّى يكون القابلة ، فنزلت الآية (١).

[٢ / ٥١٨٠] وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) قال : كانوا في رمضان لا يمسّون النساء ولا يطعمون ولا يشربون بعد أن يناموا حتّى الليل من القابلة ، فإن مسوهنّ قبل أن يناموا لم يروا بذلك بأسا. فأصاب رجل من الأنصار امرأته بعد أن نام ، فقال : قد اختنت نفسي! فنزل القرآن ، فأحلّ لهم النساء والطعام والشراب حتّى يتبيّن لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. قال : وقال مجاهد : كان أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصوم الصائم منهم في رمضان ، فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء ، فإذا رقد حرم عليه ذلك كلّه حتّى كمثلها من القابلة ، وكان منهم رجاله يختانون أنفسهم في ذلك. فعفا عنهم وأحلّ لهم بعد الرقاد وقبله في الليل ، فقال : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) الآية (٢).

[٢ / ٥١٨١] وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمان بن أبي ليلى قال : كانوا إذا صاموا ونام أحدهم لم يأكل شيئا حتّى يكون من الغد ، فجاء رجل من الأنصار ، وقد عمل في أرض له وقد أعيا وكلّ فغلبته عينه ونام ، وأصبح من الغد مجهودا ، فنزلت الآية (٣).

[٢ / ٥١٨٢] وأخرج وكيع وعبد بن حميد عن عبد الرحمان بن أبي ليلى قال : كانوا إذا صاموا فنام أحدهم قبل أن يطعم لم يأكل شيئا إلى مثلها من الغد ، وإذا نام قبل أن يجامع لم يجامع إلى مثلها ، فانصرف شيخ من الأنصار يقال له صرمة بن مالك ذات ليلة إلى أهله وهو صائم ، فقال : عشّوني. فقالوا : حتّى نجعل لك طعاما سخنا تفطر عليه ، فوضع الشيخ رأسه فغلبته عيناه فنام ، فجاؤوا بالطعام وقد نام فقالوا : كل فقال : قد كنت نمت ، فترك الطعام وبات ليلته يتقلّب ظهرا لبطن ، فلمّا أصبح أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكر ذلك له ، فقام عمر بن الخطّاب فقال : يا رسول الله إنّي أردت أهلي البارحة على ما يريد الرجل أهله ، فقالت : إنّها قد نامت ، فظننتها تعتلّ فواقعتها ، فأخبرتني أنّها

__________________

ـ الطبري ٢ : ٢٢٤ / ٢٤١١ ؛ البيهقي ٤ : ٢٠١ ؛ الدارمي ٢ : ٥ ؛ مسند أحمد ٤ : ٢٩٥ ؛ الثعلبي ٢ : ٧٩ ـ ٨٠ ؛ البغوي ١ : ٢٢٩ / ١٥٨ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٥٥.

(١) الدرّ ١ : ٤٧٨.

(٢) الطبري ٢ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ / ٢٤٢١.

(٣) الطبري ٢ : ٢٢٤ / ٢٤١٠.

٦٠