التفسير الأثري الجامع - ج ٥

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-06-7
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

للإحباط بل لما استحقّ من الثواب على اجتناب الأكبر (١).

وهذا فاسد بالضرورة من الدين ، إذ كيف يتوهّم فيمن عمد إلى قتل إنسان فلم يقتله واكتفى بقطع يده أو رجله أو فقأ عينه مثلا ، أنّ هذه الأمور مكفّرة عنه ولا يؤاخذ عليها بسبب كفّه عن القتل الّذي كان أكبر!

وبهذا اعترض الشيخ بهاء الدين على الكلام المذكور (٢).

وفي هامش البيضاوي ، اعترض الكازروني ، بأنّ التكفير في الآية معلّق على ترك الكبائر بجملتها ، وهو يستلزم ترك جميع الذنوب من أكبر الكبائر حتّى أصغرها ، حيث كلّها كبيرة على هذا الفرض ، وليس فعل كبيرة مغفورة لمجرّد ترك أكبر منها ، هذا ليس مدلول الآية (٣).

تعداد الكبائر في الأخبار

وأوسع شيء ورد في ذلك : صحيحة عبد العظيم الحسني :

[٢ / ٦٢٨٠] قال : حدّثني أبو جعفر الثاني عليه‌السلام قال : سمعت أبي يقول : سمعت أبي موسى بن جعفر عليهما‌السلام يقول : «دخل عمرو بن عبيد على أبي عبد الله عليه‌السلام فلمّا سلّم وجلس تلا هذه الآية : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ...) ثمّ أمسك. فقال له أبو عبد الله : ما أسكتك؟ قال : أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله ـ عزوجل ـ.

١ ـ فقال : نعم يا عمرو ، أكبر الكبائر ، الإشراك بالله. يقول الله : (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)(٤).

٢ ـ وبعده يأس من روح الله. لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)(٥).

٣ ـ ثمّ الأمن من مكر الله. لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)(٦).

__________________

(١) كنز العرفان ٢ : ٣٨٥. نقلا عن تفسير البيضاوي ٢ : ١٧٨ ـ ١٧٩ ، عند تفسير الآية ٣١ من سورة النساء.

(٢) في هامش كتابه الأربعين : ١٩٣.

(٣) هامش البيضاوي ٢ : ١٧٨.

(٤) المائدة ٥ : ٧٢.

(٥) يوسف ١٢ : ٨٧.

(٦) الأعراف ٧ : ٩٩.

٤٤١

٤ ـ ومنها عقوق الوالدين. لأنّ الله سبحانه جعل العاقّ جبّارا شقيّا.

٥ ـ وقتل النفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ. لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها)(١).

٦ ـ وقذف المحصنة. لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٢).

٧ ـ وأكل مال اليتيم. لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)(٣).

٨ ـ والفرار من الزحف. لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٤).

٩ ـ وأكل الربا. لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ)(٥).

١٠ ـ والسحر. لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(٦).

١١ ـ والزنا. لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً)(٧).

١٢ ـ واليمين الغموس الفاجرة. لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ)(٨).

١٣ ـ والغلول (٩). لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(١٠).

١٤ ـ ومنع الزكاة المفروضة. لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ

__________________

(١) النساء ٤ : ٩٣.

(٢) النور ٢٤ : ٢٣.

(٣) النساء ٤ : ١٠.

(٤) الأنفال ٨ : ١٦.

(٥) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٦) البقرة ٢ : ١٠٢.

(٧) الفرقان ٢٥ : ٦٨ ـ ٦٩.

(٨) آل عمران ٣ : ٧٧.

(٩) وهو الاختلاس من أموال المسلمين (الغنائم).

(١٠) آل عمران ٣ : ١٦١.

٤٤٢

وَظُهُورُهُمْ)(١).

١٥ ـ وشهادة الزور.

١٦ ـ وكتمان الشهادة. لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)(٢).

١٧ ـ وشرب الخمر. لأنّ الله ـ عزوجل ـ نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان.

١٨ ـ وترك الصلاة متعمّدا أو شيئا ممّا فرض الله ـ عزوجل ـ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من ترك الصلاة متعمّدا فقد برئ من ذمّة الله وذمّة رسوله.

١٩ ـ ونقض العهد.

٢٠ ـ وقطيعة الرحم. لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»)(٣).

قال : فخرج عمرو بن عبيد وله صراخ من بكائه وهو يقول : هلك من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم (٤).

***

وقد استفاض حصر عدد الكبائر في سبع. كما تقدّم في حديث عبيد بن زرارة عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : «هنّ في كتاب عليّ عليه‌السلام سبع ...» (٥).

لكن يحمل هذا العدد على أنّها أكبرهنّ.

[٢ / ٦٢٨١] كما في حديث أبي الصامت عن الصادق عليه‌السلام قال : «أكبر الكبائر سبع : الشرك بالله العظيم ، وقتل النفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ. وأكل أموال اليتامى. وعقوق الوالدين. وقذف المحصنات. والفرار من الزحف. وإنكار ما أنزل الله ...» (٦).

وفي ذيل الحديث ما يؤوّل هذه السبع إلى إنكار حقوقهم عليهم‌السلام فراجع.

__________________

(١) التوبة ٦ : ٣٥.

(٢) البقرة ٢ : ٢٨٣.

(٣) الرعد ١٣ : ٢٥.

(٤) الكافي ٢ : ٢٨٥ ـ ٢٨٧ / ٢٤ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبائر ؛ العلل ٢ : ٣٩١ ـ ٣٩٢ / ١ ، باب ١٣١ ؛ العيون ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٩ / ٣٣ ، باب ٢٨ ؛ البحار ٧٦ : ٦ ـ ٨ / ٦ ، باب ٦٨ ؛ الوسائل ١١ : ٢٥٢ ـ ٥٣ / ٢ ، باب ٤٦.

(٥) الوسائل ١١ : ٢٥٤ / ٤ ، باب ٤٦ ؛ الكافي ٢ : ٢٧٨ / ٨ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبائر.

(٦) الوسائل ١١ : ٢٥٨ / ٢٠ ؛ التهذيب ٤ : ١٥٠ / ٤١٧ ـ ٣٩ ، باب ٣٩.

٤٤٣

وفي حديث ابن أبي عمير عن بعض رجاله عن الصادق عليه‌السلام قال : وجدنا في كتاب عليّ عليه‌السلام الكبائر خمسة ... (١) وفي بعضها ثمان. وفي آخر : تسع (٢).

وهذا الاختلاف في التعداد أيضا دليل على نسبيّة الكبيرة من كبير إلى أكبر. لا صغير وكبير. ومن ثمّ لا اختلاف حقيقة بين التعديدات الواردة في الروايات. ويشهد له التعبير في بعضها بالسبع الموبقات (٣) أو السبع الموجبات (٤) أي الموجبات للخروج عن الإيمان.

[٢ / ٦٢٨٢] كما في حديث نعمان الرازي ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «من زنى خرج من الإيمان ...» (٥) أو «سلب الإيمان» (٦) أو «فارقه روح الإيمان» (٧).

[٢ / ٦٢٨٣] قال محمّد بن الحكيم : سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام : الكبائر تخرج من الإيمان؟ فقال : نعم ، وما دون الكبائر. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يزني الزاني وهو مؤمن ...» (٨).

ولنختم المقال بما قاله الناقد الخبير بمواقع الحديث شيخ المحدّثين الصدوق (عليه الرحمة) قال : «الأخبار في الكبائر ليست بمختلفة وإن كان بعضها ورد بأنّها خمس وبعضها بسبع وبعضها بثمان وبعضها بأكثر ، لأنّ كلّ ذنب بعد الشرك كبير بالإضافة إلى ما هو أصغر منه. وكلّ صغير من الذنوب كبير بالإضافة إلى ما هو أصغر منه. وكلّ كبير صغير بالإضافة إلى الشرك بالله العظيم». (٩)

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٥٩ / ٢٧ و ٢٨ ، باب ٤٦ ؛ العلل ٢ : ٤٧٥ / ٢ ، باب ٢٢٣ ؛ الخصال : ٢٧٣ / ١٦ ، باب الخمسة.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٦١ ـ ٢٦٣ / ٣٥ و ٣٧ ، باب ٤٦ ؛ الخصال : ٤١١ / ١٥ ، باب الثمانية.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٦١ / ٣٤ ، باب ٤٦ ؛ الخصال : ٣٦٤ / ٥٧ ، باب السبعة.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٦٠ / ٣٢ ؛ ثواب الأعمال : ١٣٠ ؛ البحار ٧٦ : ١٢ / ١٤ ، باب ٦٨.

(٥) الوسائل ١١ : ٢٥٥ / ٩ ؛ الكافي ٢ : ٢٧٨ / ٥ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبائر.

(٦) الوسائل ١١ : ٢٥٥ / ١٠ و ١٥ ؛ الكافي ٢ : ٢٧٨ / ٦ و ١٢ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبائر.

(٧) الوسائل ١١ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ / ١٢ و ١٤ ؛ الكافي ٢ : ٢٧٨ / ١٠ و ١١ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبائر.

(٨) الوسائل ١١ : ٢٥٦ / ١٨ ؛ الكافي ٢ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٢١ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبائر.

(٩) الخصال : ٤١١ ـ ٤١٢ ، باب الثمانية.

٤٤٤

قال تعالى :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩))

وقع السؤال هنا عن لذّتين وقتيّتين كانت العرب ـ كسائر الأمم الجاهلة ـ ملتهية بهما غارقة فيهما ، يوم لم تكن لها اهتمامات عليا تصرف فيها نشاطها وتستغرق مشاعرها وأوقاتها.

ولعلّه لم يكن نزل تحريم الخمر والميسر لذلك الحين ، بصورة نصّ ، وأوّل ما بدء به هذا النصّ الّذي بين أيدينا ، وفيه إلماع إلى الترغيب في ترك ما يكون ضرّه أكبر من نفعه ، إنّها ملهيات ولذائذ عابرة. فمن العقل والفكر السليم ، التضحية بها دون البلوغ إلى كمال خلقي وسلامة الحياة.

وفي ذلك تلميح لطيف إلى مفاسد تستدعي التحريم ، فليدعها النابهون. وهذا النصّ كان أوّل خطوة من خطوات التحريم ، فالأشياء والأعمال ، قد لا تكون شرّا خالصا ، ولعلّ فيها بعض الخير ولو ضئيلا ، قد يبتغيها الجاهلون. غير أنّ النابهين يرون مدار الحلّ والحرمة هو غلبة الخير أو الشرّ ، فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع ، فتلك علة التحريم والمنع ، حتّى وإن لم يصرّح بتحريم ولا منع.

أمّا ولماذا لم يحرّم الخمر والميسر صريحا وبالنصّ الجليّ من أوّل الأمر؟ فهذا يعود إلى جانب المنهج التربويّ في الإسلام ؛ يتماشا مع عادات راسبة ويعمل في ضعضعتها حتّى يأتي على قلع جذورها في نهاية الأمر.

وفي ذلك يقول سيّد قطب :

«هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلاميّ القرآنيّ الربّانيّ الحكيم ؛ وهو المنهج الّذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته. ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر.

عندما يتعلّق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصوّر الإيمانيّ ، أي بمسألة اعتقاديّة ، فإنّ الإسلام يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللحظة الأولى.

٤٤٥

ولكن عند ما يتعلّق الأمر أو النهي بعادة وتقليد ، أو بوضع اجتماعيّ معقّد ، فإنّ الإسلام يتريّث به ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرّج ، ويهيّئ الظروف الواقعية الّتي تيسّر التنفيذ والطاعة.

فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك ، أمضى أمره منذ اللحظة الأولى ، في ضربة حازمة جازمة ، لا تردّد فيها ولا تلفّت ، ولا مجاملة فيها ولا مساومة ، ولا لقاء في منتصف الطريق. لأنّ المسألة هنا مسألة قاعدة أساسيّة للتصوّر ؛ لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام.

فأمّا في الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف. والعادة تحتاج إلى علاج. فبدأ بتحريك الوجدان الدينيّ والمنطق التشريعيّ في نفوس المسلمين ، بأنّ الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع. وفي هذا إيحاء بأنّ تركهما هو الأولى. ثمّ جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ)(١). والصلاة في خمسة أوقات ، معظمها متقارب ، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العمليّة لعادة الشرب ، وكسر لعادة الإدمان الّتي تتعلّق بمواعيد التعاطي ؛ إذ المعروف أنّ المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدّر في الموعد الّذي اعتاد تناوله. فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرّر هذا التجاوز فترت حدّة العادة وأمكن التغلّب عليها. حتّى إذا تمّت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢).

وأمّا في الرقّ مثلا ، فقد كان الأمر أمر وضع اجتماعيّ اقتصاديّ ، وأمر عرف دوليّ وعالميّ في استرقاق الأسرى ، وفي استخدام الرقيق. والأوضاع الاجتماعيّة المعقّدة تحتاج إلى تعديل شامل لمقوّماتها وارتباطاتها قبل تعديل ظواهرها وآثارها. والعرف الدّوليّ يحتاج إلى اتّفاقات دوليّة ومعاهدات جماعيّة. ولم يأمر الإسلام بالرقّ قطّ ؛ ولم يرد في القرآن نصّ على استرقاق الأسرى! ولكنّه جاء فوجد الرقّ نظاما عالميّا يقوم عليه الاقتصاد العالميّ ، ووجد استرقاق الأسرى عرفا دوليّا ، يأخذ به المحاربون جميعا. فلم يكن بدّ أن يتريّث في علاج الوضع الاجتماعيّ القائم والنظام الدوليّ الشامل.

وقد اختار الإسلام أن يجفّف منابع الرقّ وموارده حتّى ينتهي بهذا النظام كلّه ـ مع الزمن ـ إلى

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣.

(٢) المائدة ٥ : ٩٠.

٤٤٦

الإلغاء ، دون إحداث هزّة اجتماعيّة لا يمكن ضبطها ولا قيادتها. وذلك مع العناية بتوفير ضمانات الحياة المناسبة للرقيق ، وضمان الكرامة الإنسانيّة في حدود واسعة.

بدأ بتجفيف موارد الرقّ فيما عدا أسرى الحرب الشرعيّة ونسل الأرقّاء. ذلك أنّ المجتمعات المعادية للإسلام كانت تسترقّ أسرى المسلمين حسب العرف السائد في ذلك الزمان. وما كان الإسلام يومئذ قادرا على أن يجبر المجتمعات المعادية على مخالفة ذلك العرف السائد ، الّذي تقوم عليه قواعد النظام الاجتماعيّ والاقتصاديّ في أنحاء الأرض. ولو أنّه قرّر إبطال استرقاق الأسرى لكان هذا إجراء مقصورا على الأسرى الّذين يقعون في أيدي المسلمين ، بينما الأسارى المسلمون يلاقون مصيرهم السيّىء في عالم الرقّ هناك. وفي هذا إطماع لأعداء الإسلام في أهل الإسلام. ولو أنّه قرّر تحرير نسل الأرقّاء الموجود فعلا قبل أن ينظّم الأوضاع الاقتصاديّة للدولة المسلمة ولجميع من تضمّهم لترك هؤلاء الأرقّاء بلا مورد رزق ولا كافل ولا عائل ؛ ولا أواصر قربى تعصمهم من الفقر والسقوط الخلقي الّذي يفسد حياة المجتمع الناشيء. لهذه الأوضاع القائمة العميقة الجذور لم ينصّ القرآن على استرقاق الأسرى ، بل قال : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها)(١). ولكنّه كذلك لم ينصّ على عدم استرقاقهم. وترك الدولة المسلمة تعامل أسراها حسب ما تقتضيه طبيعة موقفها. فتفادى من تفادى من الأسرى من الجانبين ، وتتبادل الأسرى من الفريقين ، وتسترقّ من تسترقّ وفق الملابسات الواقعيّة في التعامل مع أعدائها المحاربين.

وبتجفيف موارد الرقّ الأخرى ـ وكانت كثيرة جدّا ومتنوّعة ـ يقلّ العدد. وهذا العدد القليل أخذ الإسلام يعمل على تحريره بمجرّد أن ينضمّ إلى الجماعة المسلمة ويقطع صلته بالمعسكرات المعادية. فجعل للرقيق حقّه كاملا في طلب الحرّيّة بدفع فدية عنه يكاتب عليها سيّده. ومنذ هذه اللحظة الّتي يريد فيها الحرّيّة يملك حرّيّة العمل وحرّيّة الكسب والتملّك ، فيصبح أجر عمله له ، وله أن يعمل في غير خدمة سيّده ليحصل على فديته ـ أي أنّه يصبح كيانا مستقلّا ويحصل على أهمّ مقوّمات الحرّيّة فعلا ـ ثمّ يصبح له نصيبه من بيت مال المسلمين في الزكاة.

والمسلمون مكلّفون بعد هذا أن يساعدوه بالمال على استرداد حرّيّته. وذلك كلّه غير

__________________

(١) محمّد ٤٧ : ٤.

٤٤٧

الكفّارات الّتي تقتضي عتق رقبة. كبعض حالات القتل الخطأ ، وفدية اليمين ، وكفّارة الظهار. وبذلك ينتهي وضع الرقّ نهاية طبيعيّة مع الزمن ، لأنّ إلغاءه دفعة واحدة كان يؤدّي إلى هزّة لا ضرورة لها ، وإلى فساد في المجتمع أمكن اتّقاؤه.

فأمّا تكاثر الرقيق في المجتمع الإسلاميّ بعد ذلك ؛ فقد نشأ من الانحراف عن المنهج الإسلاميّ ، شيئا فشيئا. وهذه حقيقة. ولكن مباديء الإسلام ليست هي المسؤولة عنه. ولا يحسب ذلك على الإسلام الّذي لم يطبّق تطبيقا صحيحا في بعض العهود ، لانحراف الناس عن منهجه ، قليلا أو كثيرا. ووفق النظريّة الإسلاميّة التاريخيّة الّتي أسلفنا ، لا تعدّ الأوضاع الّتي نشأت عن هذا الانحراف أوضاعا إسلاميّة ؛ ولا تعدّ حلقات في تاريخ الإسلام كذلك. فالإسلام لم يتغيّر. ولم تضف إلى مبادئه مبادىء جديدة ، إنّما الّذي تغيّرهم الناس. وقد بعدوا عنه فلم يعد له علاقة بهم. ولم يعودوا هم حلقة من تاريخه!

وإذا أراد أحد أن يستأنف حياة إسلاميّة ، فهو لا يستأنفها من حيث انتهت الجموع المنتسبة إلى الإسلام على مدى التاريخ ، إنّما يستأنفها من حيث يستمدّ استمدادا مباشرا من أصول الإسلام الصحيحة.

وهذه الحقيقة مهمّة جدّا. سواء من وجهة التحقيق النظريّ ، أو النموّ الحركيّ ، للعقيدة الإسلاميّة وللمنهج الإسلاميّ. ونحن نؤكّدها مرّة بعد أخرى ، لما نراه من شدّة الضلال والخطأ في تصوّر النظريّة التاريخيّة الإسلاميّة ، وفي فهم الواقع التاريخيّ الإسلاميّ. ومن شدّة الضلال والخطأ في تصوّر الحياة الإسلاميّة الحقيقيّة والحركة الإسلاميّة الصحيحة. وبخاصّة في دراسة المستشرقين للتاريخ الإسلاميّ. ومن يتأثّرون بمنهج المستشرقين الخاطىء في فهم هذا التاريخ! وفيهم بعض المخلصين المخدوعين!» (١).

***

[٢ / ٦٢٨٤] أخرج ابن جرير عن قتادة قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فذمّهما الله ولم يحرّمهما ، لما أراد أن يبلغ بهما من المدّة والأجل ، ثمّ أنزل الله في سورة النساء أشدّ منها : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ)(٢) فكانوا يشربونها ، حتّى إذا

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٣٣٣ ـ ٣٣٦.

(٢) النساء ٤ : ٤٣.

٤٤٨

حضرت الصلاة سكتوا عنها ، فكان السكر عليهم حراما. ثمّ أنزل الله ـ عزوجل ـ في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١) فجاء تحريمها في هذه الآية قليلها وكثيرها ، ما أسكر منها وما لم يسكر ، وليس للعرب يومئذ عيش أعجب إليهم منها! (٢)

[٢ / ٦٢٨٥] وقال الحسن : في الآية تحريم الخمر من وجهين : أحدهما قوله : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ) فإنّه إذا زادت مضرّة الشيء على منفعته اقتضى العقل الامتناع عنه. والثاني : أنّه بيّن أنّ فيهما الإثم ، وقد حرّم الله الإثم في آية أخرى فقال : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ)(٣)(٤).

[٢ / ٦٢٨٦] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داوود والترمذي ، وصحّحه ، والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحّاس ، في ناسخه ، وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم ، وصحّحه ، والبيهقي والضياء المقدسي ، في المختارة ، عن عمر. أنّه قال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فإنّها تذهب بالمال والعقل! فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الّتي في سورة البقرة ، فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية الّتي في سورة النساء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)(٥) فكان منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أقام الصلاة نادى أن لا يقربنّ الصلاة سكران ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية الّتي في المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فلمّا بلغ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(٦) قال عمر : انتهينا انتهينا! (٧)

__________________

(١) المائدة ٥ : ٩٠.

(٢) الطبري ٢ : ٤٩٤ / ٣٣١٢ ؛ القرطبي ٣ : ٦٠ ، بلفظ : قد قال قتادة : إنّما في هذه الآية ذمّ الخمر ، فأمّا التحريم فيعلم بآية أخرى وهي آية المائدة ، وعلى هذا أكثر المفسّرين ؛ التبيان ٢ : ٢١٣ ، بلفظ : قال قتادة : لا تدلّ الآية على تحريمهما ، وإنّما تدلّ الآية الّتي في المائدة من قوله : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى آخرها. ووجّهه قتادة على أنّه قد يكثر فيهما إثم كبير ؛ أبو الفتوح ٣ : ٢٠٦.

(٣) الأعراف ٧ : ٣٣.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٨١ ؛ التبيان ٢ : ٢١٣ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٢٠٦ ، ورجّحه على قول قتادة ، قال : وقول الحسن أصحّ.

(٥) النساء ٤ : ٤٣.

(٦) المائدة ٥ : ٩١.

(٧) المصنّف ٥ : ٤٧٤ / ٣٥ ، باب ١ ؛ مسند أحمد ١ : ٥٣ ؛ أبو داوود ٢ : ١٨٢ / ٣٦٧٠ ، باب ٢٢ ؛ الترمذي ٤ : ٣١٩ ـ ٣٢٠ /

٤٤٩

[٢ / ٦٢٨٧] وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير ، قال : لمّا نزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فكرهها قوم لقوله : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) وشربها قوم لقوله : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ، حتّى نزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) قال : فكانوا يدعونها في حين الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة ، حتّى نزلت : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ)(١) فقال عمر : ضيعة لك! اليوم قرنت بالميسر (٢).

[٢ / ٦٢٨٨] وقال البغوي : نزلت في عمر بن الخطّاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر ، فإنّهما مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فأنزل الله هذه الآية (٣).

[٢ / ٦٢٨٩] وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال : كنّا نشرب الخمر ، فأنزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ). فقلنا : نشرب منها ما ينفعنا ، فأنزلت في المائدة : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية. فقالوا : اللهمّ قد انتهينا ، فأرقناها إذ نودي : ألا إنّ الخمر قد حرّمت. (٤) قال ثابت لأنس : وما كان خمركم؟ قال : فضيخكم هذا (٥)(٦).

[٢ / ٦٢٩٠] وأخرج الخطيب في تاريخه عن عائشة قالت : لمّا نزلت سورة البقرة ، نزل فيها تحريم

__________________

٥٠٤٢ ؛ النسائي ٣ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣ / ٥٠٤٩ ، باب ١ ؛ الطبري ٥ : ٤٤ ـ ٤٥ / ٩٧٦٣ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٨٩ / ٢٠٤٦ ، و ٣٨٨ ـ ٣٨٩ / ٢٠٤٤ ؛ البيهقي ٨ : ٢٨٥ ؛ الحاكم ٢ : ٢٧٨ ؛ الدرّ ١ : ٦٠٥ ؛ ابن كثير ١ : ٢٦٢ ؛ القرطبي ٥ : ٢٠٠.

(١) المائدة ٥ : ٩٠.

(٢) الطبري ٢ : ٤٩١ / ٣٣٠٤.

(٣) البغوي ١ : ٢٧٦ / ٢٢١ ؛ الثعلبي ٢ : ١٤١ ؛ مجمع البيان ٢ : ٨١ ، وفيه : نزلت في جماعة من الصحابة أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... ؛ أبو الفتوح ٣ : ٢٠٣ ؛ أسباب نزول الآيات ، للواحدي : ٤٤ ؛ الوسيط ١ : ٣٢٢ ، وفيه : نزلت في جماعة من الصحابة أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ....

(٤) روى البخاري عن أبي النعمان ، قال : كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر ، فأمر [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] مناديا فنادى. فقال أبو طلحة : اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ فخرجت فإذا المنادي ينادي : ألا إنّ الخمر قد حرّمت (البخاري ٦ : ٦٧ ـ ٦٨ ، كتاب التفسير ، سورة المائدة).

(٥) البخاري ٦ : ٦٨ ، والفضيخ هو عصير العنب.

(٦) ابن أبي حاتم ٢ : ٣٨٩ ـ ٣٩٠ / ٢٠٤٨ ؛ الدرّ ١ : ٦٠٦.

٤٥٠

الخمر فنهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك (١).

[٢ / ٦٢٩١] وأخرج البغوي عن عبد الله بن عمر قال : لمّا نزلت الآية الّتي في سورة المائدة حرّمت الخمر فخرجنا بالحباب إلى الطريق فمنّا من كسر حبّه ، ومنّا من غسله بالماء والطين ولقد غودرت أزقّة المدينة بعد ذلك حينا ، كلّما مطرت استبان فيها لون الخمر وفاحت منها ريحها (٢).

[٢ / ٦٢٩٢] وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن قالا : قال الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فنسختها الآية الّتي في المائدة ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية (٣).

قوله : نسختها أي غيّرتها من لين إلى شدّة.

[٢ / ٦٢٩٣] وأخرج عن عوف ـ هو ابن أبي جميلة ـ عن أبي القموص زيد بن عليّ العبديّ ويقال :

الجرميّ ، قال : أنزل الله ـ عزوجل ـ في الخمر ثلاث مرّات ؛ فأوّل ما أنزل قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) قال : فشربها من المسلمين من شاء منهم على ذلك ، حتّى شرب رجلان ، فدخلا في الصلاة ، فجعلا يهجران كلاما لا يدري عوف ما هو ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ فيهما : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ)(٤) فشربها من شربها منهم ، وجعلوا يتّقونها عند الصلاة ، حتّى شربها ـ فيما زعم أبو القموص ـ رجل (٥) فجعل ينوح على قتلى بدر :

تحيّي بالسّلامة أمّ عمرو

وهل لك بعد رهطك من سلام

ذريني أصطبح بكرا فإنّي

رأيت الموت نقّب عن هشام

وودّ بنو المغيرة لو فدوه

بألف من رجال أو سوام

كأيّ بالطّويّ طويّ بدر

من الشّيزى يكلّل بالسّنام

__________________

(١) الدرّ ١ : ٦٠٦ ؛ تاريخ بغداد ٨ : ٣٥٣ / ٤٤٥٧ ، باب داوود بن الزبرقان.

(٢) البغوي ١ : ٢٧٧.

(٣) الطبري ٢ : ٤٩٢ / ٣٣٠٦.

(٤) النساء ٤ : ٤٣.

(٥) سيأتي الكلام عن هذا الرجل وصاحبه ، فيما نذكره من حديث الثعلبي بهذا الشأن.

٤٥١

كأيّ بالطّويّ طويّ بدر

من الفتيان والحلل الكرام

قال : فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجاء فزعا يجرّ رداءه من الفزع حتّى انتهى إليه ، فلمّا عاينه الرجل ، فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا كان بيده ليضربه ، قال : أعوذ بالله من غضب الله ورسوله ، والله لا أطعمها أبدا! فأنزل الله تحريمها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال عمر بن الخطّاب : انتهينا انتهينا! (١).

[٢ / ٦٢٩٤] وأخرج عن السّدّي ، قال : نزلت هذه الآية : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) فلم يزالوا بذلك يشربونها ، حتّى صنع عبد الرحمان بن عوف طعاما ، فدعا ناسا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم عليّ بن أبي طالب ، فقرأ (٢) : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ولم يفهمها ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ يشدّد في الخمر : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ)(٣) فكانت لهم حلالا ، يشربون من صلاة الفجر حتّى يرتفع النهار أو ينتصف ، فيقومون إلى صلاة الظهر وهم مصحون (٤) ، ثمّ لا يشربونها حتّى يصلّوا العتمة وهي العشاء ، ثمّ يشربونها ، حتّى ينتصف الليل وينامون ، ثمّ يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا. فلم يزالوا بذلك يشربونها ، حتّى صنع سعد بن أبي وقّاص طعاما ، فدعا ناسا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم رجل من الأنصار ، فشوى لهم رأس بعير ثمّ دعاهم عليه ، فلمّا أكلوا وشربوا من الخمر سكروا وأخذوا في الحديث ، فتكلّم سعد بشيء ، فغضب الأنصاري ، فرفع لحي (٥) البعير فكسر أنف سعد ، فأنزل الله نسخ الخمر وتحريمها وقال : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(٦).

قلت : زعم بعض أصحاب الحقائد أنّ الّذي قرأ ، هو الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. ونسب الحاكم النيسابوري هذا الزعم إلى الخوارج ، الحاقدين على الإمام.

[٢ / ٦٢٩٥] أخرج بالإسناد إلى أبي نعيم وقبيصة ، قالا : حدّثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن

__________________

(١) الطبري ٢ : ٤٩٢ ـ ٤٩٣ / ٣٣٠٧ ؛ الثعلبي ٢ : ١٤٢ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٢) سنتكلّم عن مرجع الضمير في «قرأ». وأنّه ابن عوف صاحب الدعوة. الطبري ٥ : ٦١.

(٣) النساء ٤ : ٤٣.

(٤) صحى السكران : ذهب سكره.

(٥) اللّحى : عظم الحنك.

(٦) الطبري ٢ : ٤٩٣ ـ ٤٩٤ / ٣٣٠٩ ؛ أبو الفتوح ٣ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٤٥٢

أبي عبد الرحمان السّلمي عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، قال : دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر ، فحضرت صلاة المغرب ، فتقدّم رجل فقرأ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) فالتبس عليه. فنزلت : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ).

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد. قال : وفي هذا الحديث فائدة كثيرة ، وهي : أنّ الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام دون غيره ، وقد برّأه الله منها ، فإنّه عليه‌السلام راوي الحديث! ووافقه الذهبي على تصحيح الحديث (١).

هذا وقد أخرج ابن جرير وغيره : أنّ الّذي صلّى بهم فخلط هو عبد الرحمان بن عوف (٢) والروايات في ذلك متضاربة جدّا ، الأمر الّذي يبدو عليها أثر الوضع والاختلاق بوضوح.

على أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام كما لم يعبد صنما ، كذلك لم يقترب الكبائر والآثام ، حيث طهّره الله من كلّ رجس :

قال تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٣) أجمعت الروايات عن كبار الصحابة وكذا عن أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّ سلمة وعائشة وزينب ، أنّها نزلت في الخمسة آل العباء (٤).

ولا شكّ أنّ الخمر رجس بنصّ قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ)(٥). كما لا سلطان لإبليس في الاستحواذ على عباد الله المخلصين ، وأخلصهم هم أصحاب الكساء.

[٢ / ٦٢٩٦] قال عليّ عليه‌السلام : «لو وقعت قطرة في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذّن عليها ، ولو وقعت في بحر ثمّ جفّ ونبت فيه الكلأ لم أرعه» (٦).

قال أبو جعفر رشيد الدين ابن شهر آشوب : من خصائص عليّ عليه‌السلام أنّه لم يشرب الخمر قطّ ، كما لم يعبد وثنا ولا أكل ممّا ذبح على النصب وغير ذلك من الفسوق ، وقد كانت قريش بأسرها ملوّثة بها. نعم كان عليه‌السلام ممّن شمله دعاء إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، حيث قوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ

__________________

(١) الحاكم ٢ : ٣٠٧ ، كتاب التفسير.

(٢) الطبري ٤ : ١٣٣ / ٧٥٥٤ ؛ الدرّ ٢ : ٥٤٥.

(٣) الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

(٤) راجع : الطبري ١٢ : ٩ ـ ١٢.

(٥) المائدة ٥ : ٩٠.

(٦) الكشّاف ١ : ٢٦٠ ـ ٢٦١.

٤٥٣

الْأَصْنامَ)(١). وقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)(٢)(٣).

[٢ / ٦٢٩٧] وجاء فيما كتب الرضا عليه‌السلام إلى المأمون : «من دين أهل البيت تحريم الخمر قليلها وكثيرها ...» (٤).

هذا وعليّ عليه‌السلام الرأس والسنام لهذا البيت الرفيع ، فيا ترى كيف يقارف كبيرة ما بعث الله نبيّا إلّا بتحريمها. كما جاء في حديث الرضا عليه‌السلام (٥).

[٢ / ٦٢٩٨] ولا سيّما نبيّ الإسلام ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ أوّل ما نهاني عنه ربّي عزوجل : عبادة الأوثان وشرب الخمر ...» (٦).

وكان عليّ عليه‌السلام تربية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ نعومة أظفاره ، فكان تربّي في أحضانه وعلى منهجه في الاستقامة والخلق السويّ.

[٢ / ٦٢٩٩] قال عليه‌السلام : «ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة وأنا ثالثهما ؛ أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوّة» (٧).

أفهل ترى من هذه سمته وتربيته منذ طفولته ، كيف يتخلّف المنهج السويّ الّذي رسمه الله لأوليائه المصطفين الأخيار؟!

نعم قاتل الله الضغائن وأحقاد بدر وحنين.

***

[٢ / ٦٣٠٠] قال أبو إسحاق الثعلبي : قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) نزلت في عمر بن الخطّاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله افتنا في الخمر والميسر ، فإنّها مذهبة للعقل ، مسلبة للمال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

__________________

(١) إبراهيم ١٤ : ٣٥.

(٢) البقرة ٢ : ١٢٨.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٢٦ ؛ البحار ٣٨ : ٦٤.

(٤) عيون الأخبار ٢ : ١٣٤ ؛ البحار ٦٣ : ٤٨٤ / ٧.

(٥) عيون الأخبار ٢ : ١٧ / ٣٣ ؛ البحار ٤ : ٩٧ / ٣.

(٦) الأمالي للصدوق : ٥٠٢ / ٦٨٨ ؛ البحار ٢ : ١٢٧ / ٤.

(٧) نهج البلاغة ٢ : ١٥٧ ، الخطبة ١٩٢.

٤٥٤

وجملة القول : إنّ تحريم الخمر على أقوال المفسّرين والحفّاظ ، مختلفة وبعضها متّفقة ، هي أنّ الله أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكّة : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً)(١) وهو المسكر ، وكان المسلمون يشربونها وهي لهم يومئذ حلال ، ونزلت في مسألة عمر ومعاذ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فلمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ ربّكم تقدّم في تحريم الخمر» (٢). فتركها قوم لقوله : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) وقالوا : لا حاجة لنا في شيء فيه إثم كبير لقوله : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ!) وكانوا يتمتّعون بمنافعها ويجتنبون آثامها ، إلى أن صنع عبد الرحمان بن عوف طعاما فدعا ناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمامهم الخمر فشربوا وسكروا ، وحضرت صلاة المغرب فقدّموا بعضهم ليصلّي بهم فقرأ : «قل يا أيّها الكافرون. أعبد ما تعبدون» إلى آخر السورة فحذف «لا» فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) فحرّم المسكر في أوقات الصلاة فقال عمر : إنّ الله يقارب في النهي عن شرب الخمرة ، فلا أراه إلّا وسيحرّمها ، فلمّا نزلت ، تركها قوم وقالوا : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة. وكان قوم يشربونها ويجلسون في بيوتهم ، وكانوا يتركونها أوقات الصلاة ، ويشربونها في غير حين الصلاة إلى أن شربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر ويقول :

تحيّي بالسّلامة أمّ بكر

وهل لك بعد رهطك من سلام؟

ذريني أصطبح بكرا فإنّي

رأيت الموت نقّب عن هشام

وودّ بنو المغيرة لو فدوه

بألف من رجال أو سوام

كأنّي بالطويّ طويّ بدر

من الشّيزي يكلّل بالسّنام

كأنّي بالطويّ طويّ بدر

من الفتيان والحلل الكرام

فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج مسرعا يجرّ رداءه حتّى انتهى إليه ورفع شيئا كان بيده ليضربه ، فلمّا عاينه الرجل قال : أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله ، والله لا أطعمها أبدا (٣).

__________________

(١) النحل ١٦ : ٦٧.

(٢) انظر : الطبري ٢ : ٤٩٤ / ٣٣١٣.

(٣) الثعلبي ٢ : ١٤١ ـ ١٤٢.

٤٥٥

قلت : اختلفوا في المعنيّ بهذا الرجل :

[٢ / ٦٣٠١] أورد ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس : أنّ أبا بكر وعمر كانا فيهم. واستغرب ابن حجر ذلك فحسبه غلطا ، مع نظافة سنده. قال : ويحتمل ـ إن كان محفوظا ـ أن يكون أبو بكر وعمر زارا أبا طلحة في ذلك اليوم ، ولم يشربا معهم.

[٢ / ٦٣٠٢] وقال ابن حجر : ووجدت عند البزّار من وجه آخر عن أنس ، قال : كنت ساقي القوم ، وكان في القوم رجل يقال له : أبو بكر ، فلمّا شرب أنشد الأبيات. فدخل علينا رجل من المسلمين وأخبر بنزول تحريم الخمر. قال ابن حجر : وأبو بكر هذا يقال له : ابن شعوب ، فظنّ بعضهم أنّه الصدّيق. قال : لكن قرينة ذكر عمر تدلّ على عدم الغلط في وصف الصدّيق (١).

وابن شعوب هذا هو شدّاد بن الأسود ، وأمّا شعوب فهي أمّه. ووقع في البخاري أنّها كلبيّة.

[٢ / ٦٣٠٣] وأخرج من طريق يونس عن الزّهري عن عروة عن عائشة : أنّ أبا بكر تزوّج امرأة من كلب ، فلمّا هاجر طلّقها فتزوّجها ابن عمّها هذا الشاعر (ابن شعوب) الّذي قال هذه القصيدة يرثي بها قتلى بدر :

تحيّي بالسلامة أمّ بكر

وهل لي بعد قومي من سلام

فماذا بالقليب قليب بدر

من القينات والشّرب الكرام ... إلخ (٢).

قالت عائشة ـ وهي تدافع عن أبيها في نسبة هذه القصيدة إليه ـ : ما قال أبو بكر شعرا في جاهليّة ولا في إسلام.

[٢ / ٦٣٠٤] وأخرج الحكيم الترمذي ـ في نوادر الأصول ـ من طريق الزبيديّ عن الزّهريّ عن عروة عن عائشة : أنّها كانت تدعو على من يقول : إنّ أبا بكر الصدّيق قال هذه القصيدة. وتقول : والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهليّة ولا في الإسلام! ولكن تزوّج امرأة من بني كنانة ثمّ بني عوف ، فلمّا هاجر طلّقها ، فتزوّجها ابن عمّها هذا الشاعر. فتحامى الناس أبا بكر من أجل المرأة الّتي طلّقها ، وإنّما هو أبو بكر بن شعوب.

[٢ / ٦٣٠٥] قال ابن حجر : وكانت عائشة أشارت إلى الحديث الّذي أخرجه الفاكهي في كتاب

__________________

(١) فتح الباري ١٠ : ٣١.

(٢) راجع : السيرة لابن هشام ٣ : ٣٠.

٤٥٦

مكّة ، عن يحيى بن جعفر عن عليّ بن عاصم عن عوف بن أبي جميلة عن أبي القموص (١) ، قال : شرب أبو بكر الخمر في الجاهليّة ، فأنشأ يقول ـ وذكر الأبيات ـ فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقام يجرّ إزاره حتّى دخل ، فتلقّاه عمر ، وكان مع أبي بكر ، فلمّا نظر إلى وجهه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محمرّا قال : نعوذ بالله من غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله ما يلج لنا رأسا أبدا ، فكان (أي عمر) أوّل من حرّمها على نفسه.

قال ابن حجر : واعتمد نفطويه هذه الرواية ، فقال : شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرّم ، ورثى قتلى بدر من المشركين. وقد ذكر ابن هشام في السيرة أنّ ابن شعوب المذكور ، كان أسلم ثمّ ارتدّ (٢).

***

رجع الحديث إلى ما ذكره الثعلبي في التفسير ، قال :

[٢ / ٦٣٠٦] قالوا : واتّخذ عتبان بن مالك طعاما فدعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقّاص وكان قد شوى لهم رأس بعير ، فأكلوا وشربوا الخمر حتّى أخذت منهم ، ثمّ إنّهم افتخروا عند عتبان وانتسبوا وتناشدوا الأشعار ، فأنشد سعد قصيدة فيها هجو الأنصار وفخر لقومه ، فقام رجل من الأنصار وأخذ لحيي البعير فضرب به رأس سعد فشجّه شجّة ، فانطلق سعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشكا إليه الأنصاري ، فقال عمر : اللهمّ بيّن لنا رأيك في الخمر بيانا وافيا ، فأنزل الله تحريم الخمر في سورة المائدة : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله (يَنْتَهُونَ) وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيّام ، فقال عمر : انتهينا يا ربّ.

[٢ / ٦٣٠٧] قال أنس : حرّمت ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها إليهم يوم حرّمت عليهم ، ولم يكن شيء أثقل عليهم من تحريمها. قال : فأخرجنا الحباب إلى الطريق فصببنا ما فيه ، فمنّا من كسر حبّه ، ومنّا من غسله بالماء والطين ، ولقد غدت أزقّة المدينة بعد ذاك الحين كلّما مطرت استبان بها لون الخمر وفاحت ريحها.

قال الثعلبي : فأمّا ماهيّة الخمر فاختلف الفقهاء فيها ، فقال بعضهم : هو خاصّ فيما اعتصر من

__________________

(١) مرّ الحديث عنه وهو زيد بن عليّ العبديّ. قوله : شرب الخمر في الجاهليّة ، أي اعتاد شربها منذ أيّام الجاهليّة حتّى جاء تحريمها في الإسلام.

(٢) الإصابة في معرفة الصحابة ٤ : ٢٢ ـ ٢٣ ؛ السيرة لابن هشام ٣ : ٣١.

٤٥٧

العنبة والنخلة فغلي بطبعه دون عمل النار فيه ، فإنّ ما سوى ذلك ليس بخمر ، وهذا مذهب سفيان الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف وأكثر أهل الرأي ، ثمّ اختلفوا في المطبوخ فقالوا : كلّ عصير طبخ حتّى يذهب ثلثاه فهو حلال إلّا أنّه يكره ، فإن طبخ حتّى يذهب ثلثاه وبقي ثلثه فهو حلال مباح شربه وبيعه إلّا أنّ المسكر منه حرام.

[٢ / ٦٣٠٨] واحتجّوا في ذلك بما روى أبو كثير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة» (١).

واختلفوا في المطبوخ بالمشمش ونحوه.

[٢ / ٦٣٠٩] روى نباتة عن سويد بن غفلة قال : كتب عمر بن الخطّاب إلى بعض عمّاله : أنّ رزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه (٢).

[٢ / ٦٣١٠] وعن ابن سيرين أنّ عبد الله بن سويد الخطمي قال : كتب إلينا عمر بن الخطّاب : أمّا بعد فاطبخوا شرابكم حتّى يذهب منه نصيب الشيطان فإنّ له اثنين ولكم واحد (٣).

[٢ / ٦٣١١] وعن أنس بن سيرين قال : سمعت أنس بن مالك يقول : إنّ نوحا عليه‌السلام نازعه الشيطان في عود الكرم وقال : هذا لي فاصطلحا على أنّ لنوح ثلثها وللشيطان ثلثيها (٤).

[٢ / ٦٣١٢] وعن ابن أبيّ وأبيّ عن داوود قال : سألت سعيد بن المسيّب : ما الرّب الّذي أحلّه عمر؟ قال : الّذي يطبخ حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه.

[٢ / ٦٣١٣] وعن قيس بن أبيّ حدّث عن موسى الأموي أنّه كان يشرب من الطلاء (٥) ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه.

[٢ / ٦٣١٤] وعن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب قال : إذا طبخ الطلاء على الثلث فلا بأس ، وبه قال المسوّر.

وقال الثعلبي : والّذي عندي أنّ هذه الأخبار وردت في ثلث غير مسكر. يدلّ عليه ما :

[٢ / ٦٣١٥] روى سويد بن نصير عن عبد الله بن عبد الملك بن الطفيل الجزري قال : كتب إلينا

__________________

(١) المصنّف لعبد الرزّاق ٩ : ٢٣٤ / ١٧٠٥٣.

(٢) النسائي ٣ : ٢٤٠ / ٥٢٢٤.

(٣) المصدر / ٥٢٢٧.

(٤) ابن عساكر ٦٢ : ٢٥٩.

(٥) الطلاء : هو ما طبخ من العصير حتّى يغلظ ، وشبّه بطلاء الإبل وهو القطران الّذي يطلى به الجرب.

٤٥٨

عمر بن عبد العزيز : لا تشربوا من الطلاء حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ، كلّ مسكر حرام ، وقال قوم : إذا طبخ العصير أدنى طبخ فصار طلاء وهو قول إسماعيل بن عليّة وجماعة من أهل العراق.

[٢ / ٦٣١٦] وروي عن عيسى بن إبراهيم أنّه لا يحرّم شيئا من الأنبذة لا النيّ منها ولا المطبوخ إلّا شراب واحد وهو عصير العنب النيّ الشديد الّذي لم يدخله ماء وتغيّرات من الخمر فقط.

[٢ / ٦٣١٧] واستدلّ بما روى ابن الأحوص عن سماك عن القاسم بن عبد الرحمان عن أبيه عن أبي بردة بن سهل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اشربوا في الظروف ولا تسكروا» قال أبو عبد الرحمان السدّي : الحديث منكر ، غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم ، لا نعلم أحدا كان يعوّل عليه من أصحاب سماك ، وسماك أيضا ليس بقويّ ، وكان يقبل التلقين (١).

قال أحمد : قيل : كان أبو الأحوص غلى في هذا الحديث. خالفه شريك في إسناده ولفظه.

[٢ / ٦٣١٨] رواه شريك عن سماك بن حرب عن أبي بريدة عن أبيه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الدّيّا والحنتم والنقير والمزفت.

وأجمعوا أيضا بما أسندوا إلى سماك عن قرصافة امرأة منهم عن عائشة قالت : اشربوا ولا تسكروا.

قال الإمام أبو عبد الرحمان السدّي : هذا غير ثابت ، وقرصافة لا ندري من هي (٢).

[٢ / ٦٣١٩] والمشهور عن عائشة ما روى سويد بن نصر عن عبد الله عن قدامة العامريّ أنّ جسرة بنت دجاجة العامريّة حدّثتنا قالت : سمعت عائشة سألها أياس عن النبيذ قالوا : ننبذ الخمر غدوة ونشربه عشيّا ، وننبذه عشيّا ونشربه غدوة ، قالت : لا أحلّ مسكرا وإن كان خبزا ، قالوا : قالته ثلاث مرّات (٣).

[٢ / ٦٣٢٠] واعتلّوا بما روى هشيم عن ابن شبرمة قال : حدّثني الثقة عن عبد الله بن شدّاد عن ابن عبّاس قال : حرّمت الخمر منها ، قليلها وكثيرها ، والمسكر من كلّ شراب.

[٢ / ٦٣٢١] وهذا أولى بالصواب ، لما روى سفيان عن أبي الجويرية الجرمي قال : سألت ابن عبّاس عن الباذق قال : ما أسكر فهو حرام.

__________________

(١) انظر : النسائي ٣ : ٢٣٢.

(٢) راجع : المحلّى ٧ : ٤٨٦.

(٣) النسائي ٣ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣ / ٥١٩٠.

٤٥٩

[٢ / ٦٣٢٢] وعن شعبة عن سلمة بن كميل قال : سمعت أبا الحكم يحدّث قال : قال ابن عبّاس : من سرّه أن يحرّم ما حرّم الله ورسوله فليحرّم النبيذ.

واعتلّوا أيضا بما :

[٢ / ٦٣٢٣] أسندوه إلى عبد الملك بن نافع قال : رأيت ابن عمر قال : رأيت رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقدح فيها نبيذ وهو عند الركن ، فدفع إليه القدح فرفعه إلى فيه فوجده شديدا فردّه إلى صاحبه ، فقال له رجل من القوم : يا رسول الله أحرام هو؟ قال : عليّ بالرجل. فأتي به فأخذ منه القدح ، ثمّ دعاهما فصبّه فيه ثمّ رفعه إلى فيه فصبّه ، ثمّ دعاهما أيضا فصبّه فيه ثمّ قال : «أمّا إذا عملت فيكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء».

[٢ / ٦٣٢٤] قال أبو عبد الرحمان : عبد الملك بن رافع هو مشهور ، ولكن حدّثنيه وأخبرنا عن الزبير خلاف حكاية ما روى وهب بن هارون عن محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ مسكر حرام ، وكلّ مسكر خمر» (١).

[٢ / ٦٣٢٥] وروى ابن سيرين عن ابن عمر قال : المسكر قليله وكثيره حرام.

[٢ / ٦٣٢٦] وروى أبو عوانة عن زيد بن عمر قال : سألت ابن عمر عن الأشربة؟ فقال : اجتنب كلّ شيء فيه شيء مسكر.

واحتجّوا أيضا بما :

[٢ / ٦٣٢٧] أسندوه إلى يحيى بن يمان عن سفيان عن منصور عن مخلد بن سعيد عن ابن مسعود قال : عطش النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حول الكعبة فاستسقى فأتي بنبيذ من السقاية فشمّه وقطب وقال : «عليّ بذنوب من زمزم» فصبّه عليه ثمّ شرب فقال رجل : أحرام هو يا رسول الله؟ قال : «لا» (٢).

قال أبو عبد الرحمان : هذا خبر ضعيف لأنّ يحيى بن يمان انفرد به دون أصحاب سفيان ، ويحيى بن يمان لا يحتجّ بحديثه ، لكثرة خطئه وسوء حفظه.

[٢ / ٦٣٢٨] وعن زيد بن واقد عن خالد بن الحسين قال : سمعت أبا هريرة يقول : علمت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصوم في بعض الأيّام الّتي كان يصومها ، فتحيّنت فطره بنبيذ صنعته في دباء ، فلمّا كان المساء جئته أحملها إليه ، فقلت : يا رسول الله إنّي علمت أنّك تصوم في هذا اليوم ، فتحيّنت

__________________

(١) مسند أحمد ٢ : ١٦ و ٢٩.

(٢) النسائي ٣ : ٢٣٧ / ٥٢١٢.

٤٦٠