التفسير الأثري الجامع - ج ٥

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-06-7
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

وكذا قوله تعالى : (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ)(١).

قالوا : وهل لا يكون ذلك إغراء بارتكاب محرّمات وقبائح نهى الله عنها ، فما موقع النهي وما فائدة التحريم والتقبيح؟!

قال الشيخ المفيد : «ليس في الذنوب صغيرة في نفسه وإنّما يكون فيها بالإضافة إلى غيره ، وهو مذهب أكثر أهل الإمامة والإرجاء (٢). وبنو نوبخت (٣) يخالفون فيه ويذهبون في خلافه إلى مذهب أهل الوعيد (٤) والاعتزال» (٥).

وقال الشيخ الطوسيّ : «والمعاصي وإن كانت كلّها عندنا كبائر ، من حيث كانت معصية لله تعالى ، فإنّا نقول : إنّ بعضها أكبر من بعض ، ففيها إذن كبير بالإضافة إلى ما هو أصغر منه. وقال ابن عبّاس : كلّ ما نهى الله عنه فهو كبير» (٦).

__________________

(١) النجم ٥٣ : ٣١ ـ ٣٢. وسنذكر أنّ الإضافة في الآيتين من قبيل إضافة البيان ، أي الكبائر الّتي هي ما تنهون عنه. والكبائر الّتي هي الإثم والفواحش. وليست من إضافة التبعيض كي يتوهّم أنّ هناك من المناهي والآثام ما هي كبائر وصغائر.

(٢) المرجئة طوائف منتسبة إلى أهل السنّة يقولون : لا تضرّ مع الإيمان معصية ، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. والمؤمن العاصي له رجاء الغفران والثواب تفضّلا. ولا يخرج بارتكاب كبيرة عن الإيمان. وإنّ مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار. وكان أبو حنيفة من أصحاب هذا الرأي. قيل : أوّل من قال بالإرجاء هو الحسن بن محمّد بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٣٩ و ١٤٦ ، الفصل الخامس : المرجئة. وراجع مقالات الإسلاميّين لأبي الحسن الأشعري ١ : ٢٣١.

(٣) نوبخت من أعاظم المنجّمين الفرس ، اعتنق الإسلام هو وابنه أبو سهل منذ بداية القرن الثاني ، وكان لأبي سهل عشرة أبناء كلّهم أفاضل علماء. وهكذا أحفادهم حتّى القرن الخامس ؛ كانوا من أبرز متكلّمي الشيعة الإماميّة. ولهم تآليف وتراجم قيّمة في مختلف العلوم والفنون ولا سيّما في الكلام والنجوم. (دهخدا ٢ : ١٦٥ ـ ١٦٦ «آل نوبخت»).

(٤) الوعيديّة ـ عدّهم الشهرستاني من الخوارج ـ يقولون بتخليد أصحاب الكبائر في النار ، لأنّ صاحب الكبيرة كافر عندهم. وقد عدّهم المفيد من فرق الاعتزال ، لأنّ هذا هو قول المعتزلة. الملل والنحل ١ : ١١٤ ، الفصل الرابع : الخوارج. (أوائل المقالات : ١٤).

(٥) أوائل المقالات : ٨٣.

(٦) التبيان ٣ : ١٨٢.

٤٢١

وقال في العدّة : «على أصولنا إنّ كلّ خطأ وقبيح ، كبير» (١).

وقال الطبرسيّ : «وإلى هذا ذهب أصحابنا ؛ فإنّهم قالوا : المعاصي كلّها كبيرة من حيث كانت قبائح. لكن بعضها أكبر من بعض ، وليس في الذنوب صغيرة. وإنّما يكون صغيرا بالإضافه إلى ما هو أكبر منه ويستحقّ العقاب عليه أكثر» (٢).

وقال ابن إدريس ـ بعد نقل كلام الشيخ في المبسوط بضرورة اجتناب الشاهد للكبائر وأن لا يكون غالب أحواله مرتكبا للصغائر (٣) ـ : «وهذا القول لم يذهب إليه ـ رحمه‌الله ـ إلّا في هذا الكتاب أعني المبسوط ، ولا ذهب إليه أحد من أصحابنا ، لأنّه لا صغائر عندنا في المعاصي إلّا بالإضافة إلى غيرها» (٤).

قال الشيخ البهائي : «لا يخفى أنّ كلام الشيخ الطبرسيّ مشعر بأنّ القول بأنّ الذنوب كلّها كبائر متّفق عليه بين علماء الإماميّة. وكفى بالشيخ ناقلا.

إذا قالت حذام فصدّقوها

فإنّ القول ما قالت حذام» (٥)

***

وبعد ، فإنّ الخطيئة إنّما تكون معصية باعتبارها مخالفة لأمره تعالى ، وخروجا عن طاعته الواجبة ، ومن ثمّ فإنّ الخطيئة لا ينظر إلى كبر حجمها ، بل إلى عظم من خالفته فيها.

[٢ / ٦٢٥٧] فقد روى الشيخ في أماليه بإسناده عن أبي ذرّ ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا ذرّ ، لا تنظر إلى صغر الخطيئة ، ولكن انظر إلى من عصيت» (٦).

[٢ / ٦٢٥٨] وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «أشدّ الذنوب عند الله ذنب استهان به راكبه» (٧).

__________________

(١) عدّة الأصول ١ : ٣٥٩. وراجع : (كتاب القضاء للمولى الكني : ٢٧٦) ؛ مفتاح الكرامة ٨ : ٢٨٣.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٧٠.

(٣) المبسوط ٨ : ٢١٧ ، كتاب الشهادات ، فصل فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل.

(٤) السرائر ٢ : ١١٧ ـ ١١٨ ، كتاب الشهادات ، صفات الشاهد.

(٥) كتاب الأربعين : ١٩٣ / ٣٠.

(٦) الأمالي : ٥٢٨ / ضمن ١١٦٢ ـ ١ ، المجلس ١٩ ؛ مكارم الأخلاق : ٤٦٠ ، الفصل الخامس ؛ البحار ٧٤ : ٧٧ / ٣.

(٧) نهج البلاغة ٤ : ٨١ ، الحكمة ٣٤٨.

٤٢٢

[٢ / ٦٢٥٩] وقال : «أعظم الذنوب ذنب صغر عند صاحبه».

[٢ / ٦٢٦٠] وقال : «تهوين الذنب أهون من ركوب الذنب» (١).

[٢ / ٦٢٦١] وروى القطب الراوندي في دعواته : «إنّ الله تعالى أوحى إلى عزير : يا عزير ، إذا وقعت في معصية فلا تنظر إلى صغرها ، ولكن انظر من عصيت» (٢).

[٢ / ٦٢٦٢] وروى الكراجكي في كنز الفوائد ، قال : ومن كلام عليّ عليه‌السلام : «لا تنظروا إلى صغر الذنب ولكن انظروا إلى ما اجترأتم» (٣).

إذن فالجرأة على الله هي العظيمة ، ولا وقع لصغر الذنب بالقياس إلى غيره من الذنوب.

وهذا هو مقصود الشيخ في كلامه المتقدّم : «وعلى أصولنا كلّ خطأ وقبيح ، كبير». نظرا لأنّ المناط في عظم الخطيئة هو التجرّي على المولى تعالى ، وكفران نعمه ، والأخذ بضدّ مطلوبه ، الأمر الّذي يوجد في كلّ خطيئة ، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة ، بالقياس إلى غيرها.

[٢ / ٦٢٦٣] فقد روى الكليني بإسناد صحيح عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «الذنوب كلّها شديدة ، وأشدّها ما نبت عليه اللحم والدم ، لأنّه إمّا مرحوم وإمّا معذّب ، والجنّة لا يدخلها إلّا طيّب» (٤).

[٢ / ٦٢٦٤] وروى بإسناد صحيح أيضا عن الإمام الصادق عليه‌السلام بشأن الاستغفار في قنوت الوتر : «وصلّ على النبيّ واستغفر لذنبك العظيم ـ ثمّ قال ـ : وكلّ ذنب عظيم» (٥).

نعم يختلف الذنوب حجما حسب اختلاف المفاسد المترتّبة عليها كثرة وقلّة ، الأمر الّذي لا يمسّ جانب الاجتراء على الله ، وهو كبير لا محالة مطلقا. وقال تعالى : (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ.)

فكلّ ذنب كبير ، وبعضها أكبر من بعض باعتبار المفاسد العظيمة المترتّبة عليها ، أمّا أن يكون

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٢ : ٣١٥ ، باب ٤٣ (جهاد النفس) ؛ نهج البلاغة ٤ : ٨١ ، الحكمة ٣٤٨.

(٢) دعوات للرواندي : ١٦٩ / ٤٧٢ ، باب ٣ ؛ البحار ١٤ : ٣٧٩ / ٢٥ ، باب ٢٥.

(٣) كنز الفوائد : ١٣ ؛ البحار ٧٤ : ١٦٨ / ٦ ، باب ٧.

(٤) الكافي ٢ : ٢٧٠ / ٧ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الذنوب ؛ البحار ٧٠ : ٣١٧ / ٥ ، باب ١٣٧.

(٥) الكافي ٣ : ٤٥٠ / ٣١ ، كتاب الصلاة ، باب صلاة النوافل ؛ التهذيب ٢ : ١٣٠ / ٥٠٢ ـ ٢٧٠.

٤٢٣

هناك ذنب صغير يستهان به فلا بتاتا ، إذ كيف يستهان بمخالفة ربّ العالمين في أيّ أمر من أوامره الحكيمة؟!

على أنّ الاستصغار بالذنب كبيرة موبقة ، لأنّه استهانة بمقام إطاعة المولى الجليل :

[٢ / ٦٢٦٥] قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أشدّ الذنوب ما استخفّ به صاحبه» (١).

[٢ / ٦٢٦٦] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذنب الّذي لا يغفر ، قول الرجل : لا أؤاخذ بهذا الذنب ، استصغارا له» (٢).

[٢ / ٦٢٦٧] وقال الباقر عليه‌السلام : «لا تستصغرنّ سيّئة تعمل بها ، فإنّك تراها حيث يسوؤك» (٣).

[٢ / ٦٢٦٨] وفي حديث المناهي ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تحقّروا شيئا من الشرّ ، وإن صغر في أعينكم ، ولا تستكثروا شيئا من الخير ، وإن كثر في أعينكم ، فإنّه لا كبير مع الاستغفار ، ولا صغير مع الإصرار» (٤).

والمراد من الإصرار هو مجرّد ترك التوبة عقيب الارتكاب ؛ كما ورد في تفسير قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٥) ، أنّ الإصرار على الذنب هو ترك الاستغفار عقيب الارتكاب.

[٢ / ٦٢٦٩] ففي الكافي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «الإصرار ، هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدّث نفسه بتوبة ، فذلك الإصرار» (٦).

إذن فكلّ ذنب مهما كان صغيرا في نظر مرتكبه ، فإذا ترك التوبة ولم يندم على خطائه ولم يستغفر الله عليه ، فهو كبير. كما أنّه لا كبيرة موبقة مع تعقّب الندم والاستغفار!

__________________

(١) نهج البلاغة ٤ : ١١٠ ، الحكمة ٤٧٧ ؛ البحار ٧٠ : ٣٦٤ / ٩٦٠ ، باب ١٣٧.

(٢) النوادر : ١٢٩ ؛ البحار ٧٠ : ٣٦٣ / ٩٣ ، باب ١٣٧.

(٣) العلل ٢ : ٥٩٩ / ٤٩ ، باب ٣٨٥ ؛ البحار ٧٠ : ٣٥٦ / ٦٥ ، باب ١٣٧.

(٤) الأمالي للصدوق : ٥١٨ / ٧٠٧ ـ ١ ، المجلس ٦٦ ؛ الفقيه ٤ : ١٨ / ٤٩٦٨ ، باب ذكر جمل من مناهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ البحار ٧٠ : ٣٥٥ / ٦٢ ، باب ١٣٧.

(٥) آل عمران ٣ : ١٣٥.

(٦) الكافي ٢ : ٢٨٨ / ٢ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الإصرار على الذنب ؛ البحار ٨٥ : ٢٩ ـ ٣٠ ، باب ٢.

٤٢٤

وأخيرا فإنّ أصول مذهبنا ترفض إمكان وجود سيّئة هي مغفورة من غير توبة ولا استغفار. وإنّ كلّ محاولة في تفسير آية النساء بذلك هي محاولة فاشلة ومتنافية مع حكمته تعالى في التكليف!

إذ لو لا كونها سيّئة في ذاتها ومشتملة على قبح واقعيّ ثابت ، لما نهى الله عنها ولا حرّمها ، فكيف يعلّق تحريمها على ارتكاب الكبائر ؛ إنّها على هذا التقدير غير محرّمة (١) ، فلا مانع شرعيّا من ارتكابها في هذا الظرف ، وإنّما المانع يختصّ بصورة ارتكاب الكبائر أيضا. وهذا غير معقول على أصول مذهبنا بضرورة وجود مصالح ومفاسد واقعيّة ثابتة كامنة وراء الأوامر والنواهي الشرعيّة (٢).

__________________

(١) وإذا كانت غير محرّمة فنستكشف عدم مفسدة فيه ، فكيف أثّر ترك الكبائر في رفع المفسدة الواقعيّة الّتي كانت موجودة حال ارتكابها؟

(٢) نظرا لأنّ الأحكام الشرعيّة ألطاف في الأحكام العقليّة. توضيحه : أنّ التكاليف الشرعيّة واقعة في سلسلة مترتّبة ترتّب العلل والمعاليل. تبتدي بمقتضيات التكليف ، وهي المصالح والمفاسد الواقعيّة ، ثمّ نفس التكليف ، وبعده الثواب والعقاب على الإطاعة والعصيان ، على الترتيب التالي :

١ ـ مصلحة واقعيّة ثابتة تستدعي تشريعا متناسبا إمّا إلزاميّا أو غير إلزاميّ.

٢ ـ أحكام شرعيّة إلزاميّة وغير إلزاميّة متناسبة مع حجم المصلحة الواقعيّة.

٣ ـ ثواب وعقاب مترتّبان على الإطاعة والعصيان.

فمن ثبوت العقاب نستكشف ثبوت التكليف بطريق «الإنّ» أي علما حاصلا من المعلول إلى العلّة.

ومن عدم العقاب نستكشف عدم التكليف ، لنفس السبب. قضيّة للتلازم.

وبالعكس نستكشف من التكليف ثبوت العقاب : ومن عدم التكليف عدم العقاب ، بطريق «اللّمّ» أي علما حاصلا من العلّة إلى المعلول.

وعلى ضوء هذا البيان يتبيّن استحالة التعليق في التكليف ، أي تعليق التكليف على أمر لا يرتبط بمصلحة الواقع ومفسدتها. كما في موضوع بحثنا الآن ، بالبيان التالي :

بناء على تفسير الآية بغفران السيّئات على تقدير اجتناب الكبائر ، يصبح ترتّب العقاب على سيّئة ثابتا على تقدير ارتكاب الكبائر ، وبالملازمة يستدعي كون النهي عنها أيضا معلّقا على الارتكاب المذكور ، وعليه فلا يرتبط التكليف بالمفسدة الواقعيّة الّتي شأنها الثبوت ، بل مرتبطا بارتكاب المكلّف للكبائر وعدمه. وهذا خروج عن مباني أصول مذهبنا في ارتباط التكاليف بالمصالح والمفاسد الواقعيّة الثابتة!

٤٢٥

وأمّا لو فرض بقاؤها على مفاسدها في هذا الظرف أيضا ، ومع ذلك رخّص في فعلها ورفع العقاب عن مرتكبها تفضّلا ، فهذا إغراء بفعل القبيح الواقعيّ من غير ما سبب معقول!

***

أمّا الآية الكريمة فإنّ لها تفسيرا وجيها غير ما زعموه :

الآية تعرّضت لجانب ضعف هذا الإنسان تجاه متطلّبات حياته المادّيّة ، ولذائذ تبتغيها شهواته النفسيّة المتراكمة (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً)(١). ومن ثمّ فإنّه غير معصوم عن الخطأ والزلل في حياته ، مهما كان جادّا في تربية نفسه وتهذيبها ، فإنّ نفسه قد تغلبه أحيانا ويرتكب أخطاء خارج إرادته العقليّة!

إنّ هذا الدين يدعو إلى الرفعة والسموّ والطهر والنظافة بما فيه من حدود وتكاليف ، لكنّه لا يتغافل في نفس الوقت ضعف هذا الإنسان وقصوره ، ولا يتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها ، ومختلف دروب حياته ومنحنياته الكثيرة ، ومن ثمّ وضع برامجه على أساس من السماح واليسر والسعة ، فكان التوازن العادل بين التكليف والطاقة ، وبين الدوافع والزواجر ، وبين الترغيب والترهيب ، وبين التهديد بالعقاب والتطميع في الثواب. الأمر الّذي تتجسّد فيه حكمته تعالى في الأمر بالطاعة والإطماع في العفو والمغفرة!

إنّه يهدّد الإنسان في اقتراف الكبائر الموبقات ، لأنّ في ارتكابها تهديدا بسلامة المجتمع ، وتلويثا لساحة هذا الإنسان ، المطلوب طهارتها ونزاهتها عن الأدناس والأرجاس!

ثمّ إنّه لا يتغافل جانب ضعف هذا الإنسان الّذي قد يستسلم لدوافع نفسه أحيانا فيرتكب ما لا ينبغي بشأنه الرفيع! الأمر الّذي لا محيص لهذا الإنسان عنه مادام قيد مباهج المادّة وزخارفها ، فسمح له بالعفو والغفران مادام صدور الخطاء منه وقع لمما (٢) ، ويندم عليه فور ارتكابه ، ممّا يشفّ عن تعهّده والتزامه تجاه أوامر الدين وزواجره.

إذن فمعنى الآية الكريمة : «إنكم أيها المؤمنون إذا ما ثبتم على تعهدكم بالدين واجتنبتم محرمات وفواحش نهيتم عنها ، فإن ما يفرط منكم من الخطايا بين آونة وأخرى ، هي مسموحة مغفورة لكم».

__________________

(١) النساء ٤ : ٢٨.

(٢) سنشرح مفهوم هذه الكلمة عند تفسير الآية التالية.

٤٢٦

وإلى هذا المعنى أيضا يشير قوله تعالى : (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ)(١). مدح تعالى المحسنين ووصفهم بتعهّد دينيّ قويم يمنعهم عن ارتكاب الجرائم والآثام ، ما عدا ما يقع منهم أحيانا (٢) عن دوافع غير إراديّة وغير جدّيّة ، وإنّما تصدر منهم صدورا. فهي مغفورة لهم تفضّلا ورحمة بجانب ضعفهم البشريّ ، وتقديرا لمكان إيمانهم القويم حيث التعهّد الدينيّ هو الّذي يزجر بهم ويدعوهم إلى الندم والاستغفار إثر ما فرط منهم من خطأ!

وبذلك جاء التصريح في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٣).

قوله : (ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا ...) تفسير لللّم.

[٢ / ٦٢٧٠] على ما جاء في حديث إسحاق بن عمّار عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «اللّمم : الرجل يلمّ بالذنب فيستغفر الله منه» (٤) كأنّه لم يرد إيقاعه وإنّما وقع منه وقوعا على خلاف طبعه ، ورغم إرادته في التعهّد الدينيّ ، ومن ثمّ يندم عليه فور ما فرط منه ويتوب إلى الله!

[٢ / ٦٢٧١] وفي حديث آخر قال عليه‌السلام : «اللّمام : العبد الّذي يلمّ الذنب بعد الذنب ليس من سليقته أي من طبيعته» (٥).

[٢ / ٦٢٧٢] وقال : «ما من مؤمن إلّا وله ذنب يهجره زمانا ثمّ يلمّ به ...» (٦).

__________________

(١) النجم ٥٣ : ٣١ ـ ٣٢.

(٢) هذا هو تفسير «اللّمم». لأنّه مقاربة الشيء من غير مواقعته ، يقال : فلان يفعل كذا لمما أي حينا وآخر ، كأنّه لا يتعمّده سوى ما يفرط منه أحيانا. قال الصادق عليه‌السلام : «هو الذنب يلمّ به الرجل ، فيمكث ما شاء الله ثمّ يلمّ به بعد». وفي حديث آخر : «الهنّة بعد الهنّة» أي الذنب بعد الذنب يلمّ به العبد ، روى القمّي عن إسحاق بن عمّار قال : قال الصادق عليه‌السلام : «ما من مؤمن إلّا وله ذنب يهجره زمانا ثمّ يلمّ به ، وذلك قول الله عزوجل : إِلَّا اللَّمَمَ ... واللمم : الرجل يلمّ بالذنب فيستغفر الله منه» (الكافي ٢ : ٤٤١ ـ ٤٤٢). قال ابن عرفة : اللمم عند العرب أن يفعل الإنسان الشيء في الحين ، لا يكون له عادة. ويقال : اللمم هو ما يلمّ به العبد من ذنوب صغار بجهالة ثمّ يندم ويستغفر ويتوب فيغفر له. (مجمع البحرين ٤ : ١٤٢ ، مادّة : ل م م).

(٣) آل عمران ٣ : ١٣٥.

(٤) الكافي ٢ : ٤٤٢ / ٣ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب اللمم.

(٥) المصدر / ٥.

(٦) المصدر / ٣.

٤٢٧

وقوله : (وَلَمْ يُصِرُّوا ...) تقدّم تفسير الصادق عليه‌السلام ذلك بالمبادرة إلى الاستغفار :

[٢ / ٦٢٧٣] قال عليه‌السلام : «الإصرار هو أن يذنب فلا يستغفر الله ، ولا يحدّث نفسه بتوبة ؛ فذلك الإصرار» (١).

***

وممّا يؤكّد على أن لا صغيرة في المعاصي وأنّها جمع كلّها كبائر ، عدم وجود تحديد ضابط للكبيرة وفصلها عن الصغيرة. ولا إمكان تعديدها في عدد حاصر! الأمر الّذي تحيّر فيه القائل بالصغائر. ومن ثمّ ذهب ببعضهم إلى أنّ حكمة البارئ تعالى هي الّتي اقتضت إخفاء صغائر السيّئات وعدم ميزها عن الكبائر ، لئلّا يلزم إغراء العباد إلى ارتكاب السيّئات!

قال الفخر الرازي : ذهب أكثر العلماء إلى أنّه تعالى لم يميّز الكبائر أي جملتها عن جملة الصغائر ، لأنّه تعالى لمّا بيّن أنّ الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر ، فإذا عرف العبد ذلك وميّز بينهما ، اقتصر على اجتناب الكبائر ولم يجتنب عن الصغائر ، حيث علمه بأنّها مغفورة. فكان ذلك إغراء له بارتكاب السيّئات ، وهو قبيح لا يليق بالمولى الحكيم. فكان إخفاء الكبائر بين السيّئات نظير إخفاء الصلاة الوسطى بين الصلوات ، وليلة القدر بين ليالي شهر رمضان ، وساعة الإجابة في ساعات يوم الجمعة ، وساعة الموت في الحياة!

وأمّا ما ورد في بعض الروايات من تعداد الكبائر ، فإنّها البعض منها ومن أكبرها وليس حصرا لها حتّى يلزم المحذور (٢).

وسنذكر تحديدات القوم وتعديداتهم الناقصة الّتي لا تفي علاجا للموضوع.

هذا وقد ذهب أهل الاعتزال إلى الاعتراف بوجود صغائر الذنوب إلى جنب كبائرها ، حسبما مرّ في كلام الشيخ المفيد (٣) وهكذا صرّح به الشيخ الطوسيّ في التبيان (٤). فأصبح هذا القول شعارا للمعتزلة تجاه مذهب الإماميّة.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٨٨ / ٢ ، باب الإصرار على الذنب ؛ البحار ٦ : ٣٢ / ٤٠ ، باب ٢٠.

(٢) التفسير الكبير ١٠ : ٧٦ ـ ٧٧.

(٣) أوائل المقالات : ٥٩ ، القول ٦٤ في صغائر الذنوب.

(٤) التبيان ٣ : ١٨٢ ـ ١٨٣.

٤٢٨

نعم ذهب إليه أيضا بعض أصحابنا المتأخّرين كالفقيه البحراني (١) وصاحب الجواهر (٢) وتلميذه المولى عليّ الكني (٣) استنادا إلى ظواهر آيات وروايات حسبما يمرّ عليك.

وحيث كان أصل اختيار هذا المذهب للمعتزلة ، وهم سبقوا غيرهم في أصول الاستدلال عليه بما لم يتركوا لمن بعدهم شيئا يذكر ، كان من الواجب النظر فيما قالوه بالذات بهذا الصدد :

قال القاضي عبد الجبّار (٤) ـ هو من أكابر شيوخ الاعتزال وأوسع من تكلّم في هذا المذهب وكتب فيه الكتب الموسعة ـ :

«فإن قيل : وما تلك الدلالة الشرعيّة الّتي دلّتكم على أنّ في المعاصي ما هو كبير وفيها ما هو صغير ، أفي كتاب الله تعالى أم في سنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم في اتّفاق الأمّة؟

قيل له : أمّا اتّفاق الأمّة فظاهر على أنّ أفعال العباد تشتمل على الصغير والكبير. غير أنّا نتبرّك به ونتلو آيات فيها ذكر الصغير والكبير وما في معناه :

قال الله سبحانه وتعالى : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها)(٥)

وقال تعالى : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)(٦)

وقال : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ)(٧)

فرتّب المعاصي هذا الترتيب ، بدأ بالكفر الّذي هو أعظم المعاصي. وثنّاه بالفسق ، وختم بالعصيان. فلا بدّ من أن يكون قد أراد به الصغائر ، وقد صرّح بذكر الكفر والفسق قبله.

وقال أيضا : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ)(٨). فلا بدّ من أن يكون المراد باللّمم الصغائر ، وإلّا كان لا يكون للاستثناء معنى وفائدة ، إذ المستثنى لا بدّ من أن يكون غير المستثنى منه.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٠ : ٥٤.

(٢) جواهر الكلام ١٣ : ٣٠٥.

(٣) كتاب القضاء : ٢٧٦.

(٤) استدعاه الوزير الصاحب بن عبّاد في دولة آل بويه إلى الرّي وولّاه قاضيا لقضاتها في سنة ٣٦٧ ه‍. وشملت رئاسته القضاء في الرّي وقزوين وزنجان وقم ودماوند. ثمّ أضيف إليه قضاء جرجان وطبرستان. وقد كان موضع إعجاب الوزير العظيم الشأن.

(٥) الكهف ١٨ : ٤٩.

(٦) القمر ٥٤ : ٥٣.

(٧) الحجرات ٤٩ : ٧.

(٨) النجم ٥٣ : ٣٢.

٤٢٩

وقال أيضا : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)(١). وأراد به الصغيرة ، على ما شرحه المفسّرون.

فبهذه الوجوه الّتي ذكرناها علم أنّ في المعاصي صغيرا كما أنّ فيها كبيرا ، وإلّا فلو خلّينا وقضيّة العقل لكنّا نقطع على أنّ الكلّ كبير ...» (٢).

وزاد في الجواهر الاستشهاد بروايات تعداد الكبائر ، وبما ورد من التصريح بالصغائر ، وأنّها مغفورة عند اجتناب الكبائر أو بالأعمال الصالحة (٣).

***

لكن لا موضع في الآيات ولا في الروايات للاستدلال بها على إثبات الصغائر بإزاء الكبائر ، اللهمّ إلّا بالنسبة وباعتبار الإضافة.

أمّا آية الكهف (٤٩) فالاستشهاد بها موقوف على إرادة صغائر السيّئات وكبائرها. في حين أنّ المقصود جزئيّات الأمور وكلّيّاتها ، (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(٤).

وهذا كقوله تعالى : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ)(٥). وقوله : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ)(٦). وقوله : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٧).

ومن ثمّ تعقّبت الآية بقوله : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً)(٨).

وهكذا آية القمر : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)(٩).

وأمّا آية الحجرات (١٠) فالكفر هو جحود الحقّ ، والفسوق هو الخروج عن القصد والاعتدال ، والعصيان هو التمرّد على المولى الكريم (١١). وليست الثلاثة مانعة الجمع ، بعد قابليّة انطباق بعضها

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٨.

(٢) شرح الأصول الخمسة ، للقاضي عبد الجبّار : ٦٣٣ ـ ٦٣٤.

(٣) جواهر الكلام ١٣ : ٣٠٦.

(٤) سورة ق ٥٠ : ١٨.

(٥) البقرة ٢ : ٢٨٢.

(٦) التوبة ٩ : ١٢١.

(٧) يونس ١٠ : ٦١.

(٨) الكهف ١٨ : ٤٩.

(٩) القمر ٥٤ : ٥٢ ـ ٥٣.

(١٠) يونس ١٠ : ٦١.

(١١) والفرق بين الثلاثة : أنّ الأوّل إنكار مطلق. والثاني انحراف عمليّ. والثالث انحراف في القصد والنيّة المعبّر عنه بخبث باطنيّ.

٤٣٠

على بعض وتصادقها جميعا ، كما صحّ الافتراق في البعض. فهذه عناوين سيّئة لا يرتضيها ربّ العالمين لعباده الأكرمين ، سواء تصادقت كما في الكافر الاصطلاحيّ ، جاحد وفاسق وعاص. أم تفارقت ، كما في المؤمن العاصي بالإصرار على الذنوب أو الفاسق بارتكاب حرام.

وقد سبق تفسير اللّمم من آية النجم. وكذلك آية النساء (٤٨) كانت بيانا للفارق الكبير بين معصية الإشراك وغيره ، فإنّها معصية لا تغفر أبدا إذا مات صاحبها عليها.

أمّا غيرها من المعاصي فقابلة للغفران مهما كان كبيرا أو عظيما.

وأمّا روايات التعداد ، فسنأتي عليها. وكذا ما ورد من التصريح بالصغائر في بعض الروايات ، فإنّها صغائر نسبيّة حسبما مرّ اعتبارها في كلمات المحقّقين.

وأمّا الإضافة في قوله تعالى : (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ)(١) وقوله : (كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ)(٢) المشعر ذلك بالتنويع وأنّ هناك مآثم ومناهي كبيرة وأخرى صغيرة ، فقد نبّهنا أنّ الإضافة في مثل ذلك تبيينيّة ، لغرض بيان أنّ الكبائر هي المناهي والمآثم ، لأنّ المناهي والمآثم هي ما كبر مقتا عند الله وكانت خطيئة موبقة لديه سبحانه.

وهذا في كلّ مورد كان المضاف عنوانا عامّا للمضاف إليه. كقولنا : خطيئة الرّشا ، وجناية القتل ، وجريمة الذنب وما إلى ذلك. ومثله : وادي سيناء وجبل الطور ومدينة بغداد. وكذا يوم الجمعة ويوم العيد وشهر رجب. ونحو ذلك.

فمعنى (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) و (كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) : كبائر هي ما تنهون عنه ، كبائر هي الإثم والفواحش.

على أنّا لو أعفينا ذلك ، كان لنا أن نقول : حتّى لو دلّت الإضافة على التنويع ، فما وجه حمله على إرادة التقابل الذاتيّ ، فلعلّه التقابل النسبيّ ، وهو المطلوب.

تحديدات للكبائر

وعلى فرض وجود صغائر بالذات بإزاء الكبائر ، فهل نستطيع تحديد هذه الكبائر وتمييزها عن الصغائر بحيث يمكننا وضع اليد على واحدة واحدة من المعاصي فنقول : هذه صغيرة مغفورة ،

__________________

(١) النساء ٤ : ٣١.

(٢) النجم ٥٣ : ٣٢.

٤٣١

وتلك كبيرة مغلّظ تحريمها؟

١ ـ وأحسن تحديد ضابط ورد بهذا الشأن ، ما جاء في صحيحة الحلبيّ عن الإمام الصادق عليه‌السلام في ذيل آيه النساء (٣١) قال : «الكبائر ، الّتي أوجب الله ـ عزوجل ـ عليها النار» (١).

هذا هو المعروف في لسان روايات أهل البيت عليهم‌السلام (٢) وعليه أكثر الفقهاء والمتأخّرين في مصنّفاتهم الفقهيّة (٣).

لكن هل هذا تحديد للكبيرة بحيث يفصلها عن الصغيرة ويميّزها عنها بين السيّئات ، كي نستطيع بعدها تنويع السيّئات إلى قسمين ، فنقول : هذه صغيرة وتلك كبيرة؟!

أو ليس قد أوعد الله على جميع المعاصي نار جهنّم : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً)(٤).

إذن فكلّ معصية هي تستوجب نارا وقد أوعد الله عليها النار ، فقد اتّحد هذا التعريف مع المأثور عن ابن عبّاس : «كلّ ما نهى الله عنه فهو كبيرة» (٥).

وعليه فكلّ معصية هي كبيرة كما هو مذهب أصحابنا الإماميّة المحقّقين. كما اتّحدت روايات أهل البيت في تفسير الكبيرة وتعميمها ، مع مذهب الأصحاب حسبما عرفت.

وربما فهم بعضهم من قوله عليه‌السلام : «الّتي أوجب الله عليها النار» أو «أوعد الله عليها النار» (٦) ، الإيعاد عليها بالخصوص (٧) ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)(٨).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٧٦ / ١ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبائر.

(٢) راجع : الوسائل ١١ : ٢٥١ ، باب ٤٦ (تعيين الكبائر) ، من جهاد النفس.

(٣) راجع : مفتاح الكرامة ٨ : ٢٨٥.

(٤) الجنّ ٧٢ : ٢٣.

(٥) مجمع البيان ٣ : ٧٠ ؛ الكبير ١٨ : ١٤٠.

(٦) كما في صحيحة ابن محبوب ، راجع : الكافي ٢ : ٢٧٦ / ٢ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبائر ؛ الوسائل ١١ : ٢٥٢ / ١ ، باب ٤٦.

(٧) كما في مجمع البرهان واختاره الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء (مفتاح الكرامة ٨ : ٢٨٥).

(٨) النساء ٤ : ١٠.

٤٣٢

لكن لا وجه لهذا التخصيص بعد عموم اللفظ ، وكون كلّ معصية ممّا أوعد الله عليها النار ، فكان الغرض تعميم الكبائر لجميع المعاصي فلا صغيرة فيها.

هذا مضافا إلى النقض بكثير من الكبائر لم يتوعّد عليها بالنار بالخصوص كاللواط ، والمساحقة ، وشرب الخمر وترك صوم رمضان ، وشهادة الزور ، وإيواء عين المشركين ، والتجسّس لهم ، والقيادة ، وأكل لحم الخنزير ، وما أهلّ به لغير الله ، إلى كثير من أشباه ذلك ممّا ورد على أكثرها حدّ شرعيّ!

وأضعف من ذلك تخصيص بعضهم ذلك بورود التوعيد عليه في خصوص الكتاب العزيز (١).

٢ ـ وقيل : كلّ ذنب كان له حدّ شرعيّ. لكن لا مستند له مع كثرة النقوض عليه.

٣ ـ وقيل : كلّ ذنب علمت حرمته بدليل قاطع. وهي جميع الذنوب المعروفة.

٤ ـ وقيل : كلّ معصية تؤذن بقلّة اكتراث فاعلها بالدين. هذا في كلّ المعاصي على سواء.

٥ ـ وقيل : كلّ معصية عدّها أهل الشرع كبيرة. وهو إيكال إلى فهم المتشرّعة ، وهو دوريّ!

٦ ـ وقالت المعتزلة : الكبيرة ما يكون عقاب فاعله أكثر ممّا فعله من المثوبات. والصغيرة ما كان ثواب فاعله أكثر من العقاب الّذي ترتّب على تلك المعصية (٢).

وهذا رجم بالغيب وإيكال إلى مجهول مختلف الأحوال بالنسبة إلى الأشخاص.

وقد تخلّص المحقّق الأنصاري بنفسه ، فجعل من مجموع هذه التعاريف ، تعريفا واحدا ، بحجّة أنّ كلّ واحد يبيّن طرفا من الكبائر. قال : يثبت كون المعصية كبيرة بأمور :

الأوّل ـ النصّ المعتبر على أنّها كبيرة.

الثاني ـ النصّ على أنّها ممّا أوجب الله عليها النار.

الثالث ـ النصّ على ثبوت العقاب عليه بالخصوص.

الرابع ـ دلالة العقل والنقل على كونه شديدا كبيرا.

الخامس ـ ورود النصّ بترتّب آثار الفسق على مرتكبه.

__________________

(١) كما في الكفاية والذخيرة والدروس والروض. (مفتاح الكرامة ٨ : ٢٨٥).

(٢) شرح الأصول الخمسة : ٦٣٣.

٤٣٣

فمن أحد هذه الأمور يعرف كون معصية مّا كبيرة (١).

وقد ناقشه المحقّق الهمدانيّ على واحدة واحدة من هذه الأمور ، فراجع (٢).

ومن ثمّ فلا تحديد ضابطا للكبائر وميزها عن الصغائر.

قال صاحب المفاتيح : اختلف الفقهاء في الكبائر اختلافا لا يرجى زواله ، وكأنّ المصلحة في إبهامها ، اجتناب المعاصي كلّها مخافة الوقوع فيها (٣).

وقد عرفت شرح هذا الكلام فيما نقلناه عن الفخر الرازي في تفسيره الكبير.

لكن الصحيح عدم وجود صغائر بالذات بإزاء الكبائر ، ومن ثمّ فلا واقع لها كي يمكن تحديدها.

تعديدات للكبائر

وبعد أن عجز القوم عن تحديد الكبائر تحديدا ضابطا ، لجأوا إلى تعديدها ، لكن من غير جدوى ، إذ ليس التعداد للكبائر أحسن حظّا من تحديدها ، بعيدا عن الاختلاف والاضطراب :

١ ـ إنّهنّ أربع :

[٢ / ٦٢٧٤] الإشراك بالله ، والأياس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله. روي ذلك عن عبد الله بن مسعود (٤).

[٢ / ٦٢٧٥] وهكذا روى عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «إنّ من الكبائر عقوق الوالدين ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله». وقد روي «أنّ أكبر الكبائر الشرك بالله» (٥).

٢ ـ إنّهنّ سبع :

__________________

(١) رسائل فقهيّة : ٤٤ ـ ٤٨ ، رسالة في العدالة ، وهذا الرأي اختاره سيّدنا الأستاذ الإمام الخميني طاب ثراه في تحرير الوسيلة ١ : ٢٧٤ ، في شرائط إمام الجماعة. وقبله السيّد صاحب العروة الوثقى (٣ : ١٨٩ ـ ١٩٠) في نفس الباب ، المسئلة ١٣.

(٢) مصباح الفقيه ٢ : ٦٧٤ ـ ٦٧٥ ، كتاب الصلاة.

(٣) مفاتيح الشرايع ٢ : ١٧. في تعريف المعصية ؛ مفتاح الكرامة ٨ : ٢٨٨.

(٤) الطبري ٤ : ٥٧ / ٧٢٩١ و ٧٢٩٢.

(٥) الكافي ٢ : ٢٧٨ / ٤ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبائر.

٤٣٤

[٢ / ٦٢٧٦] روى الطبري عن عليّ عليه‌السلام قال : «أيّها الناس ، الكبائر سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس الّتي حرّم الله ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة» (١).

[٢ / ٦٢٧٧] وقال عبيد بن زرارة : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكبائر ، فقال : «هنّ في كتاب عليّ عليه‌السلام سبع : الكفر بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا بعد البيّنة ، وأكل مال اليتيم ظلما ، والفرار من الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة». قال : قلت : «هذا أكبر المعاصي؟ قال : نعم» (٢).

٣ ـ إنهنّ تسع :

[٢ / ٦٢٧٨] بإضافة السحر والإلحاد بالبيت ، كما في رواية عن عبد الله بن عمر (٣).

٤ ـ إنّهنّ خمس : كما في رواية العلل والخصال (٤).

لكن يبدو من الروايات أنّ هذه السبع أو الخمس أو الأربع هنّ أكبر الكبائر كما في حديث أبي الصامت عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أكبر الكبائر سبع ..» (٥).

[٢ / ٦٢٧٩] ٥ ـ وروي عن ابن مسعود ـ بطرق عديدة ـ أنّه قال : الكبائر ، هي المعاصي الّتي ذكرهنّ الله تعالى من مفتتح سورة النساء إلى رأس آية الثلاثين الّتي جاء فيها ذكر الكبائر (٦).

٦ ـ وقيل : إنّها عشرة.

٧ ـ وقيل : اثنتا عشرة.

٨ ـ وقيل : عشرون.

٩ ـ وقيل : أربع وثلاثون (٧).

١٠ ـ قال السيّد بحر العلوم في مصابيحه : يستفاد من مجموع الروايات الواردة في تعداد

__________________

(١) الطبري ٤ : ٥٣ ـ ٥٤ / ٧٢٨٣.

(٢) الكافي ٢ : ٢٧٨ / ٨ ؛ الوسائل ١١ : ٢٥٤ / ٤.

(٣) الطبري ٤ : ٥٦ / ٧٢٨٩ ؛ الحدائق الناضرة ١٠ : ٤٦.

(٤) العلل ٢ : ٤٧٥ / ٢ ، باب ٢٢٣ ؛ الخصال : ٢٧٣ / ١٦. باب الخمسة ؛ البحار ٧٦ : ٤ / ٤ ، باب ٦٨ ؛ الوسائل ١١ : ٢٥٩ / ٢٧ و ٢٨ ، باب ٤٦.

(٥) التهذيب ٤ : ١٥٠ / ٤١٧ ـ ٣٩ ، باب ٣٩ ؛ الوسائل ١١ : ٢٥٨ / ٢٠ ، باب ٤٦.

(٦) الطبري ٤ : ٥٢ ـ ٥٣ / ٧٢٨١ و ٧٢٨٢.

(٧) راجع : مفتاح الكرامة ٨ : ٢٨٧.

٤٣٥

الكبائر ، والنصوص الواردة في بعض المعاصي على الخصوص ، بعد إسقاط المكرّرات منها ، أنّ الكبائر أربعون :

١ ـ الكفر بالله. ٢ ـ إنكار ما أنزل الله. ٣ ـ اليأس من روح الله. ٤ ـ الأمن من مكر الله. ٥ ـ الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأوصياء أو مطلق الكذب. ٦ ـ المحاربة لأولياء الله. ٧ ـ قتل النفس المحترمة. ٨ ـ معونة الظالمين والركون إليهم. ٩ ـ الكبر. ١٠ ـ عقوق الوالدين. ١١ ـ قطيعة الرحم. ١٢ ـ الفرار من الزحف. ١٣ ـ التعرّب بعد الهجرة. ١٤ ـ السحر. ١٥ ـ شهادة الزور. ١٦ ـ كتمان الشهادة. ١٧ ـ اليمين الغموس. ١٨ ـ نقض العهد. ١٩ ـ الجنف في الوصيّة. ٢٠ ـ أكل مال اليتيم ظلما. ٢١ ـ أكل الربا بعد البيّنة. ٢٢ ـ أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله. ٢٣ ـ أكل السحت. ٢٤ ـ الخيانة. ٢٥ ـ الغلول أو مطلق السرقة. ٢٦ ـ البخس في المكيال والميزان. ٢٧ ـ حبس الحقوق من غير عسر. ٢٨ ـ الإسراف والتبذير. ٢٩ ـ الاشتغال بالملاهي. ٣٠ ـ القمار. ٣١ ـ شرب الخمر. ٣٢ ـ الغنا. ٣٣ ـ الزنا. ٣٤ ـ اللّواط. ٣٥ ـ قذف المحصنات. ٣٦ ـ ترك الصلاة. ٣٧ ـ منع الزكاة. ٣٨ ـ الاستخفاف بالحجّ. ٣٩ ـ ترك شيء ممّا فرض الله. ٤٠ ـ الإصرار على الذنوب (١).

ثمّ قال : ويشكل الحكم بكون جميع هذه المذكورات كبائر ، لانتفاء الوعيد بالنار في بعضها ، كما ربما تحقّق الوعيد بالنار في بعض المعاصي ولم تذكر منها!

ثمّ قال ـ رحمه‌الله ـ : وجملة المعاصي الّتي وجد فيها الوعيد بالنار في الكتاب صريحا أربعة عشر :

الأوّل ـ الكفر بالله العظيم ؛ قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢).

الثاني ـ الإضلال عن سبيل الله. قال تعالى : (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ)(٣).

الثالث ـ الكذب على الله والافتراء عليه. قال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ

__________________

(١) مفتاح الكرامة ٨ : ٢٩٢.

(٢) البقرة ٢ : ٢٥٧.

(٣) الحجّ ٢٢ : ٩.

٤٣٦

وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ)(١).

الرابع ـ قتل النفس المحترمة. قال تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها)(٢).

الخامس ـ الظلم. قال تعالى : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً)(٣).

السادس ـ الركون إلى الظالمين. قال تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(٤).

السابع ـ الكبر. قال تعالى : (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)(٥).

الثامن ـ ترك الصلاة. قال تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)(٦).

التاسع ـ منع الزكاة. قال تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ)(٧).

العاشر ـ التخلّف عن الجهاد. قال تعالى : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) إلى قوله (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ)(٨).

الحادي عشر ـ الفرار من الزحف. قال تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) إلى قوله (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٩).

الثاني عشر ـ أكل الربا بعد البيّنة. لقوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) إلى قوله (وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١٠).

الثالث عشر ـ أكل مال اليتيم ظلما. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)(١١).

الرابع عشر ـ الإسراف. لقوله تعالى : (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ)(١٢).

__________________

(١) الزمر ٣٩ : ٦٠.

(٢) النساء ٤ : ٩٣.

(٣) الكهف ١٨ : ٢٩.

(٤) هود ١١ : ١١٣.

(٥) النحل ١٦ : ٢٩.

(٦) المدثّر ٧٤ : ٤٢ ـ ٤٣.

(٧) التوبة ٩ : ٣٤ ـ ٣٥.

(٨) التوبة ٩ : ٨١.

(٩) الأنفال ٨ : ١٦.

(١٠) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(١١) النساء ٤ : ١٠.

(١٢) غافر ٤٠ : ٤٣.

٤٣٧

قال : وأمّا المعاصي الّتي وقع التصريح فيها بالعذاب دون النار فهي أيضا أربعة عشر :

الأوّل ـ كتمان ما أنزل الله. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) إلى قوله (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ)(١).

الثاني ـ الإعراض عن ذكر الله. قال تعالى : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً)(٢).

الثالث ـ الإلحاد في بيت الله. قال تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)(٣).

الرابع ـ المنع من مساجد الله. قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) إلى قوله (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٤).

الخامس ـ إيذاء الرسول. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً)(٥).

السادس ـ الاستهزاء بالمؤمنين. قال تعالى : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) إلى قوله (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٦).

السابع والثامن ـ نقض العهد واليمين. قال تعالى : (الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ) إلى قوله (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٧).

التاسع ـ قطع الرحم. قال تعالى : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) إلى قوله (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(٨).

العاشر ـ المحاربة وقطع السبيل. قال تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ) إلى قوله (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٩).

الحادي عشر ـ الغناء. قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) إلى قوله (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(١٠).

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٧٤.

(٢) طه ٢٠ : ١٠٠.

(٣) الحجّ ٢٢ : ٢٥.

(٤) البقرة ٢ : ١٠٨.

(٥) الأحزاب ٣٣ : ٥٧.

(٦) التوبة ٩ : ٧٩.

(٧) آل عمران ٣ : ٧٧.

(٨) الرعد ١٣ : ٢٥.

(٩) المائدة ٥ : ٣٣.

(١٠) لقمان ٣١ : ٦.

٤٣٨

الثاني عشر ـ الزنا. قال تعالى : (وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(١).

الثالث عشر ـ إشاعة الفحشاء. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢).

الرابع عشر ـ قذف المحصنات. قال تعالى : (الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) إلى قوله (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٣).

قال : وأمّا المعاصي الّتي يستفاد من الكتاب العزيز وعيد النار عليها ضمنا ولزوما فهي ستّة :

الأوّل ـ الحكم بغير ما أنزل الله. قال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(٤).

الثاني ـ اليأس من روح الله. قال تعالى : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)(٥).

الثالث ـ ترك الحجّ. قال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(٦).

الرابع ـ عقوق الوالدين. قال تعالى : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا)(٧). مع قوله تعالى : (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ)(٨). وقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ)(٩).

الخامس ـ الفتنة. قال تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)(١٠).

السادس ـ السحر. قال تعالى : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)(١١).

قال ـ رحمه‌الله ـ : فهذه جملة الكبائر المستنبطة من الكتاب العزيز ، وهي أربع وثلاثون. بناء

__________________

(١) الفرقان ٢٥ : ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) النور ٢٤ : ١٩.

(٣) النور ٢٤ : ٢٣.

(٤) المائدة ٥ : ٤٤.

(٥) يوسف ١٢ : ٨٧.

(٦) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٧) مريم ١٩ : ٣٢.

(٨) إبراهيم ١٤ : ١٥ ـ ١٦.

(٩) هود ١١ : ١٠٦.

(١٠) البقرة ٢ : ١٩١.

(١١) البقرة ٢ : ١٠٢.

٤٣٩

على تفسير الكبيرة بأنّها المعاصي الّتي أوجب الله ـ سبحانه ـ عليها النار.

ثمّ قال : وللنّظر في بعضها مجال والله أعلم بحقيقة الحال (١).

وعقّب صاحب الجواهر على هذا التفصيل ، بأنّ حصر الكبائر في هذا العدد يلزم أن يكون ما عداها صغائر بحيث لا تقدح في العدالة بل تقع مكفّرة بلا توبة ولا استغفار ، فمثلا معصية اللواط وشرب الخمر وترك صوم يوم من شهر رمضان وشهادة الزور ، تكون من الصغائر الّتي لا تضرّ بعدالة الشاهد والإمام ، فإذا شهد إنسان شهادة زور فقام لفوره بلا توبة في محراب الإمامة أو في مقام أداء الشهادة ، صحّت إمامته وقبلت شهادته ، وهو واضح الفساد. كيف وقد ورد في رواية ابن أبي يعفور : «أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واللسان ...» (٢). بل في ذلك إغراء للناس في كثير من المعاصي ، فإنّه قلّ من يترك المعصية لقبحها ، وإنّما يتركها خوفا من العقاب عليها (٣).

الأمر الّذي دعى ببعض المتأخّرين إلى القول بالتفصيل ، بأنّ ارتكاب الصغيرة بلا إصرار عليها ، وإن كان لا عقاب عليها ، لكنّها تضرّ بالعدالة وتوجب الفسق. فالصغيرة من جهة إيجابها للفسق لا فرق بينها وبين الكبيرة ، وإن كانت تفترق عنها في إيجابها العقاب (٤).

لكن عرفت فيما سبق أنّ في الإعلام بعدم العقاب ، دليلا على أن لا نهي هناك ، وإذا لم يكن نهي فهو غير محرّم ، فلا يوجب ارتكابه فسقا. لأنّ الفسق هو الخروج عن طاعة الله فيما أمر ونهى ، لا مجرّد فعل القبيح ولو كان غير منهيّ عنه!

وأغرب من ذلك ما جاء في كلام الفاضل السيوري على تقدير كون الصغر والكبر نسبيّين. قال : وإنّما صغر الذنب وكبره بالإضافة إلى ما فوقه وما تحته ، فأكبر الكبائر الشرك بالله ، وأصغر الصغائر حديث النفس ، وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران. فالقبلة بالنسبة إلى الزنا صغيرة وبالنسبة إلى النظر كبيرة. قال : فمعنى تكفير الصغائر في الآية (النساء ٤ : ٣١) أنّ المكلّف إذا دعته نفسه إلى معاصي بعضها أكبر من بعض ، فترك الأكبر وارتكب الأصغر لم يعاقب على الأصغر ، لا

__________________

(١) مفتاح الكرامة ٨ : ٢٩٣ ـ ٢٩٨.

(٢) الفقيه ٣ : ٣٨ / ٣٢٨٠ ، باب العدالة.

(٣) جواهر الكلام ١٣ : ٣١٦ ـ ٣١٧.

(٤) منهاج الصالحين ١ : ١٠ ، المسئلة ٢٩ و : ١٣ ، المسئلة ٣٠ ؛ تحرير الوسيلة ١ : ٢٧٤.

٤٤٠