التفسير الأثري الجامع - ج ٥

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-06-7
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

فإن صدقوا فيما يقولون إنّني

أتوب إلى الرحمان من سنتين (١)

الأمر الّذي ينكره الوجدان السليم ويرفضه دأب العقل الرشيد ، فضلا عن منافاته لمقام عدله تعالى وحكمته في التكليف والبعث والزجر والوعد والوعيد!

وفي حديث الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام مع أحد الصوفيّة دلالة واضحة على فساد هذا المذهب العاميّ :

[٢ / ٦٢٢٠] قال عليه‌السلام : «إنّ من اتّبع هواه وأعجب برأيه ، كان كرجل سمعت غثاء العامّة تعظّمه ، فأحببت لقاءه من حيث لا يعرفني. فتبعته يوما فمرّ بخبّاز فتغفّله وسرق منه رغيفين. ثمّ مرّ بصاحب رمّان فاختطف منه رمّانتين ، فتعجّبت وقلت في نفسي : ما حاجته إلى هذه السرقة! ثمّ لم أزل أتّبعه حتّى مرّ بمريض فوضع الرغيفين والرمّانتين بين يديه!

قال الإمام عليه‌السلام : فتعرّضت له وسألته عن صنيعه ذلك؟ فقال : لعلّك جعفر بن محمّد! قلت : بلى. فقال : فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك! قلت : وما الّذي جهلت منه؟ قال : قول الله ـ عزوجل ـ : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها)(٢) ؛ وإنّي لمّا سرقت الرغيفين كانتا سيّئتين ، ولمّا سرقت الرمّانتين كانتا سيّئتين ، فهذه أربع سيّئات. فلمّا تصدّقت بكلّ واحدة منها كانت لي أربعون حسنة ، وإذا نقصت منها أربعا بقيت ستّ وثلاثون حسنة!

قال الإمام عليه‌السلام : قلت له : ثكلتك أمّك ، أنت الجاهل بكتاب الله ، أما سمعت الله ـ عزوجل ـ يقول : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(٣) ؛ إنّك لمّا سرقت الرغيفين والرمّانتين كانت أربع سيّئات ، ولمّا دفعتها إلى غير أصحابها بغير رضاهم كنت أضفت إلى سيّئاتك أربع سيّئات أخر ، ولم تصف لك الأربعون! قال : فجعل يلاحيني (٤) فانصرفت وتركته!

قال الإمام عليه‌السلام : «بمثل هذا التأويل القبيح المستكره يضلّون ويضلّون» (٥).

__________________

(١) أسرار الشهادة ـ عن مقتل أبي مخنف ـ : ٢٣٢ ؛ وتجد صدر الأبيات في كامل ابن الأثير ٣ : ٢٨٣ ؛ ومناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٢٤٨.

(٢) الأنعام ٦ : ١٦.

(٣) المائدة ٥ : ٢٧.

(٤) لاحاه : شتمه وأبغضه.

(٥) وسائل الشيعة ٩ : ٤٦٦ ـ ٤٦٨ / ٦ ؛ معاني الأخبار : ٣٣ ـ ٣٥ / ٤ ؛ تفسير الإمام : ٤٥ ـ ٤٦ ؛ احتجاج الطبرسي ٢ : ١٢٩ ـ ١٣٠.

٤٠١

إذن فلا بدّ من تأويل ما ورد في الكتاب والسنّة ما ظاهره عموم التكفير ، إمّا باختصاصه ببعض الذنوب كالصغائر مثلا ، أو بصورة ما إذا حصل من المرتكب ندم على ما فرط منه ، فإذا قام بحسنة كصلاة وصدقة في سبيل الله ، كان ذلك من موجبات قبول توبته وغفران ذنبه ، أمّا وقوع مطلق الحسنات كفّارة لمطلق السيّئات كبيرة وصغيرة ، سواء أندم عليها أم لم يندم ، وسواء أكان بانيا على تركها أم مصرّا على فعلها ، فهذا ممّا لا نستطيع الموافقة عليه ، ما دام مذهبنا يرى العدل والحكمة في أفعاله تعالى!

وإليك من الآيات ما تعرّضت لظاهرة التكفير :

١ ـ قال تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ)(١).

وربما تواترت الروايات بشأن الصلوات الخمس ، إذا قام المسلم فتوضّأ فأحسن الوضوء ، ثمّ صلّى الصلوات الخمس ، تحاتّت خطاياه كما يتحاتّ الورق من الغصن اليابس (٢).

ولنتساءل : هل هذا عامّ يشمل النادم والمصرّ؟ أو الكبائر كلّها؟ فليرتكب أصحاب الجرائم والكبائر ما بدا لهم من ذنوب وآثام ، ولا مبالاة! فإنّ صلاة واحدة من الصلوات الخمس تذهب بالسيّئات كلّها ، فليصلّها ثمّ يعود إلى جرائمه وهكذا يذنب الذنوب العظام ويعقّبها بصلاة لتكون كفّارة عن ذنوبه كلّها ومطهّرة له من الآثام ، حتّى ولو كان بانيا على العود والاقتراف على استمرار!؟

فالصحيح في تفسير الآية أحد وجهين :

الأوّل : اختصاص ذلك بالصغائر الّتي قد ترتكب عفوا ومن غير قصد غالبيّا ، الأمر الّذي نلتزم فيه بالتكفير خاصّا به. فالصغائر (٣) ـ وهي المعبّر عنها باللّمم أي الّتي قد يقع فيها المؤمن ، ثمّ يتذكّر

__________________

(١) هود ١١ : ١١٤.

(٢) انظر : مجمع البيان ٥ : ٣٤٥ ، وتحاتّ الورق من الشجر ـ بتشديد التاء ـ : تناثر وتساقط.

(٣) اختلفوا في تعيين الصغائر وتمييزها عن الكبائر ، فقيل : ما أوعد الله عليه النار أو أوجب عليه حدّا. وقيل : كلّ ما نهى الله فهي كبيرة ، لأنّ كبر الذنب إنّما هو بالقياس إلى عظم شأن المولى. وقيل : ليست في الذنوب صغيرة إلّا بالقياس إلى أكبر منها ، فبعضها أكبر وبعضها أصغر قياسا نسبيّا لا حقيقيّا. انظر : مجمع البيان ٣ : ٧٠. وفي بعض الروايات تعداد الكبائر

٤٠٢

فيئوب ـ مغفورة على شريطة الإيفاء بالصلوات الخمس تامّة كاملة. فقد وعد تعالى بغفران الصغائر ، لكن وعدا مشروطا باجتناب الكبائر (١) ومن الكبائر ترك الصلوات المفروضة أو الاستهانة بها.

[٢ / ٦٢٢١] قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «لا تنال شفاعتنا مستخفّا بصلاته» (٢). والاستخفاف بالصلاة بذاته كبيرة موبقة. فمن شرط غفران الصغائر الاهتمام بالصلاة وحسن أداءها والمحافظة على حدودها وإتمام ركوعها وسجودها وما إلى ذلك من أحكام وآداب مفروضة.

الثاني : أن تفسّر الحسنات بالتوبة والاستغفار ، كما في قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣). أي تاب بعد معصية. قال السيّد شبّر : توبة بعد ذنب (٤).

ولا خلاف في أنّ التوبة تذهب بالسيّئات ، أي تسقط عقابها ، حسبما وعد الله تعالى في الذكر الحكيم. قال تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)(٥). (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(٦). وغيرهما من آيات وهي كثيرة.

__________________

بالخصوص. وهي جميع الذنوب المعروفة ، وربما بلغت سبعين ذنبا تقريبا. وجاء في حديث شرائع الدين عن الإمام الصادق عليه‌السلام برواية الأعمش ، إشارة إلى كثير منها. راجع : البحار ١٠ : ٢٢٢ ـ ٢٢٩ / ١. قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «الذنوب كلّها شديدة ، وأشدّها ما نبت عليه اللحم والدم». الكافي ٢ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ / ٢ ؛ والبحار ٧٠ : ٣١٧ / ٥ ؛ وراجع الكافي : باب الكبائر ٢ : ٢٧٦ ـ ٢٨٧ ، وباب استصغار الذنوب : ٢٨٧ ، وباب الإصرار على الذنب : ٢٨٨ ، وغيرها من أبواب مناسبة. وعليه فالصغيرة عندنا هي الذنوب الّتي ترتكب عفوا وربما لا عن قصد سابق. لكن لا بمثابة أن يكون ذلك عذرا. وذلك أكثر ما يبتلى به الناس في حياتهم اليوميّة ، من دون مبالاة بالحفاظ على حقوق الإخوان وقد بحثنا في ذلك مستوفا في تعاليقنا على كتاب القضاء للمحقّق العراقي. راجع الملحق رقم ١٠. قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار» الكافي ٢ : ٢٨٨. إذ الصغيرة إنّما تقع من المؤمن المحافظ عفوا مرّة أو مرّتين. أمّا مع الإصرار فهي خطيئة كبيرة وربما ذهبت بالإيمان. الكافي ٢ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

(١) في قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) النساء ٤ : ٣١.

(٢) انظر : وسائل الشيعة ٤ : ٢٣ ـ ٢٧ ، باب تحريم الاستخفاف بالصلاة والتهاون بها.

(٣) النمل ١٦ : ١١.

(٤) تفسير شبّر : ٣٦٣.

(٥) طه ٢٠ : ٨٢.

(٦) النحل ١٦ : ١١٩.

٤٠٣

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي ـ رحمه‌الله ـ : وقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) قيل فيه وجهان : أحدهما ـ تذهب به على وجه التكفير ، إذا كانت المعصية صغيرة. والآخر ـ أنّ المراد بالحسنات التوبة ، تذهب بالسيّئة أي تسقط عقابها. لأنّه لا خلاف في سقوط العقاب بالتوبة. قال : وقد قيل : إنّ الدوام على فعل الحسنات يدعو إلى ترك السيّئات ، فكأنّها ذهبت بها (١).

وهذا الّذي ذكره الشيخ أخيرا يصلح وجها ثالثا لتفسير الآية الكريمة ليصير معنى الآية ـ والله العالم ـ : أنّ المواظبة على الأعمال الصالحة ، والإتيان بالخيرات والرغبة في الحسنات ، لممّا يزيد في التوفيق ويبعث على ترك السيّئات واجتناب الشرور والمفاسد طبعا ، إذ كلّما ازدادت رغبة الإنسان في جهة ازداد بعدا عن جهة أخرى مخالفة لها. والنفس البشريّة سريعة التعوّد على الحالة الّتي أنست بها ، والطريقة الّتي سلكته في الحياة إمّا صلاحا أو فسادا.

فالإنسان الّذي يزاول أعماله في جوّ صالح تراه لا يفكّر إلّا في خير ، ولا يتأتّى منه ارتكاب شرور حسبما ألفه من صلاح. وهكذا العكس ، الّذي يزاول أعماله في جوّ فاسد لا يفكّر إلّا في شرور وآثام. وهي طبيعة ثانويّة للإنسان تحصل على أثر المرونة والإلف.

وعليه فقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) يعني : أنّ مرتكب الحسنات المتعوّد عليها ، لتبلغ به عادته تلك الحسنة ، إلى حيث تنمحي عن حياته السيّئات فلا يرتكبها بحسب إلفه وعادته على الصلاح ، فيا لها من عادة حسنة ونعمت!

قلت : وإنّ في الصلاة ـ خصوصها ـ لأثرا تربويّا نفسيّا ليس في سائر العبادات ، إنّها تجسيد لمقام العبوديّة تجاه المعبود العظيم ؛ إنّ العبد إذا وقف بين يدي مولاه في الصلاة ، ليشعر بضآلة موقفه تجاه ربّ العالمين ، يرى من نفسه ذلك المحتاج الفقير العاجز الحقير ، واقفا بين يدي مولاه الغنيّ المقتدر العظيم ، ضارعا إليه خاشعا متواضعا ، سائلا راغبا ، طالبا عنايته ورأفته ورحمته.

ومن أمعن النظر في مقاطع سورة الفاتحة وسائر أفعال الصلاة وأذكارها ليتجلّى له هذا الموقف الخطير وتلك الصلة الوثيقة الّتي تربط العبد المؤمن إلى مولاه الكريم. ومن ثمّ كانت الصلاة معراج المؤمن!

والعبد المؤمن إذا كان يعاهد مولاه كلّ يوم خمس مرّات في تلك الخشية والخضوع ، والرغبة

__________________

(١) التبيان ٦ : ٨٠.

٤٠٤

والرهبة ، والمسألة والطلب وإبداء الحاجة والافتقار ، اعترافا بمقام ربّه العظيم وسطوته القاهرة ، لينقلع بنفسه عن ارتكاب القبائح واقتراف الذنوب ، استحياء من ربّه وخجلا أن يعود إلى ربّه ناقضا عهده نابذا اعترافه وإقراره على نفسه بالصغار والهوان!

ومن ثمّ قال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ)(١). يعني تلك الصلاة الّتي أقيمت بحدودها وشرائطها ، مع الالتفات إلى جوانب فحوى أذكارها وأفعالها ، ذات التأثير العميق في الروح وفي تربية التقوى في النفس!

إذن فالحسنات يذهبن السيّئات ، أي لا يدعن مجالا لارتكابها ، إذا كان المحسن (المصلّي) مخلصا في إحسانه (في صلاته) تجاه ربّ العالمين!

***

٢ ـ وقال تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)(٢).

أي الصغائر مغفورة على شريطة اجتناب الكبائر.

٣ ـ وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٣).

إذا كان المؤمن محافظا على دينه متّقيا ربّه في السرّ والعلن ، جعل الله له نورا يستضيء به درب الحياة ، وبصيرة في قلبه يلمس بها حقيقة الأمور. وهذا بطبعه يجتنب الكبائر من الذنوب ولا يقترفها قطّ ، فتصبح صغائره مغفورة له ، ويدخل على ربّه في كرامة وتبجيل.

٤ ـ وقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي واظبوا عليها (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) الصغائر (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٤). لأنّ مرتكب الآثام والجرائم الكبار لا يطلق عليه عنوان «عامل الصالحات». اللهمّ إلّا إذا عمل سيّئة عفوا ثمّ ندم لفوره وتاب عنها ، حيث لا خلاف في غفران ذنبه.

٥ ـ وقال : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ

__________________

(١) العنكبوت ٢٩ : ٤٥.

(٢) النساء ٤ : ٣١.

(٣) الأنفال ٨ : ٢٩.

(٤) العنكبوت ٢٩ : ٧.

٤٠٥

جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ. لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) من شرك وذنوب قبل إسلامهم (١)(وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢). ولو أخذنا بإطلاق الآية فالمراد : إذا تابوا عنها. ولا شكّ أنّ الّذين يصفهم القرآن بهذا الوصف الحسن ويثني عليهم بهذا الثناء الجميل ، هم ممّن إذا فعلوا فاحشة ندموا عليها واستغفروا الله ، فوجدوا الله توّابا رحيما.

٦ ـ وهكذا قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ)(٣).

٧ ـ وقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في الكبائر (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ)(٤).

٨ ـ وقوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ)(٥).

٩ ـ وقوله : (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ)(٦)

١٠ ـ وقوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ)(٧) أي إذا اجتنبتم الكبائر.

وهكذا سائر الآيات ممّا يدلّ على تكفير السيّئات ، يكون مشروطا بالتوبة أو إذا كان مرتكبها مجتنبا للكبائر. جمعا بينها وبين ما دلّ على الاشتراط المذكور ، وإنّ الذنب ممّا يستحقّ فاعله العقاب إذا لم يندم ولم يعمل ما يكفّر عنه.

١١ ـ وقال تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٨).

هذا التبديل بالأعمال هو أثر طبيعي لتبدّل الشخص بالتوبة ، من كافر ملحد كانت أعماله واتّجاهاته في الحياة معاكسة للفطرة ، وفي مضادّة إرادة الله وتشريعه الحكيم ، إلى مؤمن صادق ، صارت أعماله واتّجاهاته موافقة للفطرة وعلى النهج المستقيم الّذي أراده الله ، وشرعه على يد أنبيائه العظام. ومن موجود طالح كان يبغي الفساد في الأرض ، إلى شخصيّة صالحة بنّاءة تزدهر

__________________

(١) هذا التفسير ينظر إلى ما بين هذه الآية وسابقتها من تقابل الشرك والإسلام وما يترتّب عليهما من آثار ونتائج.

(٢) الزمر ٣٩ : ٣٣ ـ ٣٥.

(٣) محمّد ٤٧ : ١ ـ ٢.

(٤) الطلاق ٦٥ : ٥.

(٥) التغابن ٦٤ : ٩.

(٦) الفتح ٤٨ : ٥.

(٧) التحريم ٦٦ : ٨.

(٨) الفرقان ٢٥ : ٧٠.

٤٠٦

بوجوده الحياة العامّة.

فربما كانت نفس الأعمال الّتي كان يقوم بها حال كفره ، وكان ملؤها الفساد والهدم والتخريب ، انقلبت ببركة الإسلام إلى أعمال صالحة يعمر بها وجه الأرض ، كرجل كان يضرب بالسيف قتلا ونهبا في سبيل محاربة الحقّ ونقض العدالة ، وقد أصبح ـ بعد اعتناقه الإسلام ـ مجاهدا في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمة الحقّ ، وبسط العدل على وجه الأرض!

وهكذا الإنفاق في سبيل الصدّ عن سبيل الله ، ليكون عليهم حسرة (١) ينقلب بعد الإسلام فينفق في سبيل إعلاء كلمة الله ، لتصبح تجارة رابحة لن تبور (٢).

وقد ذكروا في تفسير الآية وجوها أخر ، ذكرها الإمام الرازي (٣) والشيخ أبو عليّ الطبرسيّ (٤) وغيرهما من كبار المفسّرين ، إن شئت فراجع.

***

وهناك روايات ناصّة على أنّ اتّباع السيّئة بالحسنة يمحقها ويذهب بأثرها. ولا بدّ من تأويلها ـ كما في الآيات السالفة ـ بما إذا كانت السيّئة صغيرة أو كانت الحسنة مصحوبة بتوبة عن الذنب السابق. فإذا اقترف إنسان خطيئة وندم عليها فأراد التوبة والاستغفار ، فإنّ من آداب التوبة أن يقوم بحسنة يقدّمها إلى الله ، ثمّ يتضرّع إليه أن يغفر له ما فرط منه من ذنب. ولعلّ أكثريّة الأحاديث الواردة بهذا الشأن ناظرة إلى هذا المعنى ، وإليك منها :

[٢ / ٦٢٢٢] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اتّق الله حيث كنت ، وخالق الناس بخلق حسن وإذا عملت سيّئة فاعمل حسنة تمحوها» (٥).

[٢ / ٦٢٢٣] وقال ـ أيضا ـ : «فإذا عملت سيّئة فأتبعها بحسنة ، تمحها سريعا. وعليك بصنائع الخير ، فإنّها تدفع مصارع السوء» (٦).

[٢ / ٦٢٢٤] وقال الإمام الباقر عليه‌السلام : «ما أحسن الحسنات بعد السيّئات ، وما أقبح السيّئات بعد

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٣٦.

(٢) فاطر ٣٥ : ٢٩.

(٣) التفسير الكبير ٢٤ : ١١٢.

(٤) مجمع البيان ٥ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(٥) أمالي الطوسي ١ : ١٨٦ / ٣١٢ ؛ البحار ٦٨ : ٢٤٢ / ٣.

(٦) البحار ٦٨ : ٢٤٢ / ٢ ، عن تفسير عليّ بن إبراهيم.

٤٠٧

الحسنات» (١).

[٢ / ٦٢٢٥] وقال ـ أيضا ـ : «إنّي لم أر شيئا قطّ أشدّ طلبا ، ولا أسرع دركا ، من حسنة محدثة لذنب قديم» (٢).

[٢ / ٦٢٢٦] وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : «من عمل سيّئة في السرّ فليعمل حسنة في السرّ ، ومن عمل سيّئة في العلانية فليعمل حسنة في العلانية» (٣).

الموازنة أو المحاطّة

أمّا الموازنة الّتي ذهب إليها أبو هاشم (٤) ـ فقال بمقابلة الحسنات مع السيّئات ليسقط الأقلّ بالأكثر مقدارا ويبقى الفاضل من أحدهما يثاب عليه أو يعاقب محضا ـ فممّا لا دليل عليه في الشريعة ولا شاهد عليه في الكتاب والسنّة ، فضلا عن مخالفته لقانون المجازاة على ذوات الأعمال من غير ما صلة بين عمل وآخر في ترتّب المثوبة أو العقاب! وقد تقدّم إطلاق ما دلّ على أنّ كلّ عمل بذاته يستحقّ فاعله جزاء متماثلا لما ارتكبه من خير أو شرّ.

وعمدة ما يبطل هذا المذهب : أنّ فرضيّة التحاطّ بحاجة إلى ثبوت السنخيّة والمناسبة الذاتيّة بين المتقابلين ، ليوازن أحدهما بالآخر ويسقط الأقلّ ، كما في باب التهاتر في الديون ، فإذا كان له على صاحبه عشرة دراهم ، وكان صاحبه يطلبه أيضا دراهم ، فإنّه يحصل التهاتر إمّا قهرا أو بالمواضعة ، لأنّ كلّا من الحقّين مفروض كونهما نقدين ، لا إذا كان أحدهما نقدا والآخر عرضا. أو أحدهما مال والآخر حقّ.

وهنا ـ في مسألة الموازنة ـ هل يتحاطّ نفس العملين ، أحدهما خير والآخر شرّ؟ أو يتحاطّ جزاؤهما من مثوبة وعقوبة؟ مثلا إذا قام المكلّف بسيّئة هي من مقولة الأعمال كالرّبا وشرب الخمر ، أو تجاوزا بحقوق الآخرين كالغصب وضرب اليتيم ، ثمّ أتى بحسنة هي من قبيل الأذكار كالتسبيحات الأربع ، أو مزيجا من الأفعال والأذكار كنافلة الليل ، ممّا لا تناسب بينها وبين السيّئات الّتي قام بها ؛ فبماذا يتقابل العملان؟

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٣٢٥ ؛ البحار ٦٨ : ٢٤٢ / ١.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٥٩٩ / ٤٩.

(٣) معاني الأخبار : ٢٣٦ ـ ٢٣٧ / ١.

(٤) انظر : شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبّار : ٦٢٨.

٤٠٨

هل لمفسدة الربا قدر يتقدّر عليه التسبيح والتقديس؟ أم هل للصلاة مقياس ودرجات يقاس عليها الغصب وضرب اليتيم؟

ولئن زعم الزاعم أنّ الموازنة سوف تلاحظ بين مثوبات الأعمال وعقوباتها! قلنا : لو فرض أنّ عقوبة آكل مال اليتيم لدغ عشرة من الحيّات ، ينهشنه كلّ يوم عشر مرّات ، وكانت مثوبة تسبيحة واحدة سبعين من الحور العين يتلاعبن معه كلّ صباح سبعين دورا. فهل يسقط من سبعين حورا عشرة على قدر الحيّات ، وينقص من أدوار التلاعب معهنّ أيضا عشرة على قدر النهشات الّتي استحقّهنّ آكل مال اليتيم؟! وإن كانت الدقّة في المحاسبة تقتضي سقوط مقدار أقلّ!

ثمّ هل الملحوظ ـ حقيقة ـ عند التقابل والموازنة ، جانب كم القضيّة أم جانب كيفها؟ وهل يقاس حجم السيّئة مع الحسنة أم عددهما أم جانب تأثيرهما. نفسيّا أو اجتماعيّا وما إلى ذلك؟! أم ذاك موكول إلى علمه تعالى حسبما يراه من ترجيح ومقايسة؟!

كلّ ذلك ممّا لم يرد بشأنه تبيين لا في الكتاب ولا في السنّة الصحيحة. حتّى ولو فرضنا أنّ الفرضيّة أمر ممكن بالذات. لكن ليس كلّ ممكن واقعا ، ولا جاز الاعتقاد به مادام لم يبيّنه الشارع الحكيم! وإلّا فهي بدعة خاطئة في أصول عقائد الدين!

والعجب من بعض أرباب الفضيلة ، أنّه حاول تقوية مذهب أبي هاشم في الموازنة ، لمجرّد أنّها نظرية ذات إمكان! (١)

[٢ / ٦٢٢٧] نعم هناك رواية رواها أبو الفتح محمّد بن عليّ الكراجكي عن شيخه أبي عبد الله المفيد بإسناد ضعيف إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : «يوقف العبد بين يدي الله تعالى ، فيقول : قيسوا بين نعمي عليه وبين عمله ، فتسستغرق النعم العمل. فيقولون : قد استغرق النعم العمل! فيقول : هبوا له النعم ، وقيسوا بين الخير والشرّ منه ، فإن استوى العملان أذهب الله الشرّ بالخير وأدخله الجنّة ، وإن كان فضل أعطاه الله بفضله. وإن كان عليه فضل ، وهو من أهل التقوى ولم يشرك بالله تعالى واتّقى الشرك به؟ فهو من أهل المغفرة ، يغفر الله له برحمته إن شاء ، ويتفضّل عليه بعفوه» (٢).

لكنّ الرواية من جهة الإسناد غير نقيّة ، إذ المفيد يرويها عن أحمد عن أبيه الحسن بن الوليد

__________________

(١) انظر : القول السديد : ٣٩٧.

(٢) البحار ٥ : ٣٣٤ ـ ٣٣٥ ، نقلا عن كنز الفوائد للكراجكي.

٤٠٩

عن الصفّار عن عليّ بن محمّد القاساني ـ وهو مختلف فيه أو ضعيف ـ عن القاسم بن محمّد الأصبهاني ـ لم يوثّق وقد غمز فيه بعضهم ـ عن سليمان بن خالد المنقري ـ هذا العنوان مختلط ، لأنّ المنقري هو سليمان بن داوود لا ابن خالد ـ عن سفيان بن عيينة عن حميد بن زياد ـ ضعيف ـ عن عطاء بن يسار مولى ميمونة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

هذا مع الغضّ عن كونه خبرا واحدا لا يوجب علما ولا عملا (١).

وأخيرا فإنّ هذا الحديث إلى ما يخالف مذهب الحبط والموازنة أقرب من الوفاق ؛ لأنّه ينظر إلى جانب فضله تعالى ورحمته الواسعة ، «فإن استوى العملان أذهب الله الشرّ بالخير»! وهذا يخالف فرضيّة الموازنة تماما. «وإن كان عليه فضل وهو من أهل التقوى ... يغفر الله له برحمته إن شاء»! وهذا يخالف مسألة الإحباط كاملا. إلى غيرهما من شواهد.

سيّئات تمحق الإيمان

ورد بشأن كثير من المعاصي أنّها تمحق الإيمان محقا ، ومن ثمّ فهي تذهب بالحسنات ، حيث كان من شرط المثوبة هي الموافاة على الإيمان. وعليه فربما يكون مرتكبها مسلما في ظاهره ، لكنّه في قرارة نفسه كافر بالله العظيم ، ومن ثمّ فإنّ أعماله بمعرض الهباء والاندثار.

فقد ورد بشأن المتكبّر : أنّه لا يدخل الجنّة ، ومعناه أنّ سيّئة الكبر أذهبت حسناته كلّها ومنها ثواب إيمانه ، الأمر الّذي يتنافى ومذهب الإماميّة أن لا حبط في غير الكفر.

[٢ / ٦٢٢٨] ومن ثمّ استغرب محمّد بن مسلم لمّا سمع ذلك من الإمام ، قال عليه‌السلام : «لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من الكبر». فاسترجع محمّد بن مسلم! قال الإمام عليه‌السلام : مالك تسترجع؟! قال : لما سمعت منك! فقال الإمام عليه‌السلام : «ليس حيث تذهب إنّما أعني الجحود ، إنّما هو الجحود» (٢).

__________________

(١) المعتبر في باب أصول العقائد هو العلم القطعيّ ، فلا حجّية لأخبار الآحاد في ذاك الباب ، لأنّها لا توجب علما. وكذا المعتبر في باب الفروع الفقهيّة أن تكون الرواية ذات صلة مباشرة بعمل المكلّفين ، لأنّ الفقه بحث عن العمل إن واجبا أو حراما. فلا حجّية لروايات لا تعلّق لها بأعمال المكلّفين في هذه الحياة. لأنّها لا توجب عملا!

(٢) الكافي ٢ : ٣١٠ / ٧.

٤١٠

فقد فسّر عليه‌السلام الكبر الموجب للإحباط ، بالتكبّر على الله والجحود ولو لبعض أحكامه ، وهو الكفر محضا. فقد عرفنا أن ليس مطلق التكبّر ما حقا للحسنات والإيمان ، وإنّما هو التكبّر تجاه ربّ العالمين!

[٢ / ٦٢٢٩] سئل الإمام الصادق عليه‌السلام عن أدنى الإلحاد ، فقال : «إنّ الكبر أدناه».

[٢ / ٦٢٣٠] وقال الإمام الباقر عليه‌السلام : «الكبر رداء الله ، والمتكبّر ينازع الله رداءه» (١).

[٢ / ٦٢٣١] وهكذا ورد بشأن الغضب : «أنّه يفسد الإيمان كما يفسد الخلّ العسل» (٢). لأنّ الّذي لا يملك نفسه عند الغضب ، قد يقوم بأعمال هي تناقض الإيمان وتمحقه محقا.

[٢ / ٦٢٣٢] وقال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : «الغضب ممحقة لقلب الحكيم». وقال «من لم يملك غضبه لم يملك عقله» (٣).

ونظيره ما ورد بشأن الحسد :

[٢ / ٦٢٣٣] قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «آفة الدين الحسد والعجب والفخر» (٤).

[٢ / ٦٢٣٤] وقال عليه‌السلام : «إنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب» (٥).

والحديث التالي يكشف عن هذا السرّ :

[٢ / ٦٢٣٥] قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله ـ عزوجل ـ لموسى بن عمران عليه‌السلام : يا ابن عمران لا تحسدنّ الناس على ما آتيتهم من فضلي ، ولا تمدّنّ عينيك إلى ذلك ، ولا تتّبعه نفسك ، فإنّ الحاسد ساخط لنعمي ، صادّ لقسمي الّذي قسّمت بين عبادي ، ومن يك كذلك فلست منه وليس منّي».

[٢ / ٦٢٣٦] وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : «المؤمن يغبط ولا يحسد. والمنافق يحسد ولا يغبط» (٦).

[٢ / ٦٢٣٧] وقال الإمام الصادق عليه‌السلام بشأن التهمة : «إذا اتهّم المؤمن أخاه ، انماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء» (٧).

__________________

(١) المصدر : ٣٠٩ / ١ و ٤.

(٢) المصدر : ٣٠٢ / ١ ، من باب الغضب.

(٣) المصدر : ٣٠٥ / ١٣.

(٤) المصدر : ٣٠٧ / ٥ ، باب الحسد.

(٥) المصدر : ٣٠٦ / ٢.

(٦) المصدر : ٣٠٧ / ٦ و ٧.

(٧) المصدر : ٣٦١ / ١ ، باب التهمة وسوء الظنّ.

٤١١

[٢ / ٦٢٣٨] وقال بشأن الغيبة : «الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه» (١).

[٢ / ٦٢٣٩] وقال الإمام الباقر عليه‌السلام بشأن الكذب : «إنّ الكذب خراب الإيمان» (٢).

[٢ / ٦٢٤٠] وقال الإمام الصادق عليه‌السلام بشأن سوء الخلق : «إنّ سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل». وقال : «إنّ سوء الخلق ليفسد الإيمان كما يفسد الخلّ العسل» (٣).

والأحاديث من هذا القبيل كثيرة ومتنوّعة في التعبير ، كلّها تنمّ عن فحوى واحد ، هو أنّ من المعاصي ما يكشف عن شرك خفيّ كان صاحبه يبطنه فأظهرته تلك الخطيئة ، والعمدة هو المنكشف لا الكاشف. كما ورد بشأن قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً)(٤). قال المفسّرون : ذلك إذا كان قتله لإيمانه ، الكاشف عن كفر باطنيّ أظهره بقتل المؤمن ، معاداة مع الله ومحاربة للإيمان.

[٢ / ٦٢٤١] فقد روى العيّاشيّ عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من قتل مؤمنا على دينه ، فذلك التعمّد ... قيل : والرجل يقع بينه وبين صاحبه شيء فيقتله؟ قال : ليس ذلك المتعمّد الّذي قال الله ـ عزوجل ـ فجزاؤه جهنّم» (٥).

ولذلك كان التعبير بالكفر أو بعدم الإيمان بشأن بعض المعاصي الّتي لا توجب شركا ولا كفرا بالله ، مجازيّا يراد به غير ظاهره ، من فقده بعض درجات الإيمان لا أصله!

[٢ / ٦٢٤٢] ففي حديث الأصبغ بن نباتة ، قال : جاء رجل إلى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّ أناسا زعموا أنّ العبد لا يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن ، ولا يأكل الربا وهو مؤمن ، ولا يسفك الدم الحرام وهو مؤمن! فقد ثقل عليّ هذا ، وحرج منه صدري ، حين أزعم أنّ هذا العبد يصلّي بصلاتي ، ويدعو دعائي ، ويناكحني وأناكحه ، ويوارثني وأوارثه ، وقد خرج من الإيمان من أجل ذنب يسير أصابه!

فقال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) : صدقت. ثمّ قسّم الناس على طبقات ومنازل ، وبيّن أنواع الأرواح المودعة في مختلف الناس ، وأنّ المؤمن لا يرتكب قبيحا إلّا وقد سلب منه روح من

__________________

(١) المصدر : ٣٥٧ / ١ ، باب الغيبة والبهت.

(٢) المصدر : ٣٣٩ / ٤ ، باب الكذب.

(٣) المصدر : ٣٢١ / ١ و ٣ ، باب سوء الخلق.

(٤) النساء ٤ : ٩٣.

(٥) العيّاشيّ ١ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ / ٢٣٦ ؛ الصافي ٢ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

٤١٢

تلك الأرواح ، يعني به درجة من درجات إيمانه ، وليس بالّذي يدخل في الكفر رأسا.

[٢ / ٦٢٤٣] وقد أجمل الكلام عن ذلك الإمام الباقر عليه‌السلام قال ـ في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إذا زنى الرجل فارقه روح الإيمان» ـ : هو قوله تعالى : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) ؛ ذاك الّذي يفارقه (١).

[٢ / ٦٢٤٤] وعن مسعدة بن صدقة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يعدّد الكبائر ، فقيل له : أرأيت المرتكب للكبيرة يموت عليها ، أتخرجه من الإيمان ، وإن عذّب بها يكون عذابه كعذاب المشركين أو له انقطاع؟

قال عليه‌السلام : «يخرج من الإسلام إذا زعم أنّها حلال ، ولذلك يعذّب أشدّ العذاب ، وأمّا إن كان معترفا بأنّها كبيرة ، فإنّ عذابه أهون ، وإنّما يخرج من الإيمان ، ولا يخرج من الإسلام» (٢).

والخلاصة : أنّ جميع ما ورد بشأن بعض المعاصي أنّها تمحق الحسنات أو تذهب بالإيمان ، لا بدّ من تأويلها إلى كونها من المعاصي الّتي تقطع رابطة العبد مع مولاه ، وتجعله في حالة جحود مع ربّه ، ولو في باطن أمره.

أو تكون معصية يكون عدمها شرطا في صحّة العمل السابق كالرياء والسمعة والإيذاء والامتنان ، إذا وجدت ذهبت بأثر العمل هباء!

وأمّا ما عدا ذلك فإنّه مخالف صريح لقانون التماثل في العقاب ومتناف مع حكمته تعالى وعدله ، ولقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)(٣).

كلام عن الارتداد

قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

هناك بين الفقهاء اختلاف في تحديد الارتداد وأحكامه المترتّبة عليه وفي قبول التوبة منه.

قال المحقّق ـ صاحب الشرائع ـ : هو الّذي يكفر بعد الإسلام. وهو قسمان : الأوّل من ولد على

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٨٠ ـ ٣٨١ / ١٦ و ١١.

(٢) المصدر : ٣٨٠ / ١٠ ، قوله : يخرج من الإيمان أي ينحطّ من إيمانه بعض الدرجات.

(٣) الزلزلة ٩٩ : ٧.

٤١٣

الإسلام ، وهذا لا يقبل توبته ، ويتحتّم قتله ، وتبين منه زوجته ، وتقسّم تركته ، حتّى ولو لجأ إلى بلاد الكفر.

قال : ولا تقتل المرأة بالارتداد ، بل تحبس ويشتدّ عليها وتعذّب أوقات الصلوات.

والقسم الثاني : من أسلم عن كفر ثمّ ارتدّ ، فهذا يستتاب ، فإن امتنع قتل.

وأقرّه عليه صاحب الجواهر ، وادّعى الإجماع على الأحكام المذكورة وذكر المستندات (١).

ولأبي محمّد عليّ بن أحمد ، ابن حزم الأندلسي ـ هنا ـ بسط في الكلام عن المرتدّ واختلاف الفقهاء بشأنه ، قال : كلّ من صحّ عنه أنّه كان مسلما متبرّءا من سائر الأديان ، ثمّ ثبت عنه أنّه ارتدّ عن الإسلام وخرج إلى دين كتابيّ أو غير كتابيّ أو إلى غير دين ، فإنّ الناس اختلفوا في حكمه :

١ ـ فقالت طائفة : لا يستتاب. (وهم على قسمين ، حسبما يأتي).

٢ ـ وقالت طائفة : يستتاب. (وهم على ستّة أقسام).

٣ ـ وفرّقت طائفة بين من أسرّ ردّته ، وبين من أعلنها. (وهم على أربعة أقسام).

٤ ـ وفرّقت طائفة بين من ولد في الإسلام ثمّ ارتدّ ، وبين من أسلم بعد كفره ثمّ ارتدّ.

قال : فأمّا من قال : لا يستتاب ، فانقسموا قسمين :

فقالت طائفة : يقتل المرتدّ تاب أو لم يتب. راجع الإسلام أو لم يراجع.

وقالت طائفة : إن بادر فتاب قبلت منه توبته وسقط عنه القتل ، وإن لم تظهر توبته أنفذ عليه القتل.

وأمّا من قال : يستتاب ، فإنّهم انقسموا أقساما :

فطائفة قالت : نستتيبه ، فإن تاب وإلّا قتلناه.

وطائفة قالت : نستتيبه ثلاث مرّات ، فإن تاب وإلّا قتلناه.

وطائفة قالت : نستتيبه شهرا ، فإن تاب وإلّا قتلناه.

وطائفة قالت : نستتيبه ثلاثة أيّام ، فإن تاب وإلّا قتلناه.

وطائفة قالت : نستتيبه مائة مرّة ، فإن تاب وإلّا قتلناه.

وطائفة قالت : يستتاب أبدا ولا يقتل.

__________________

(١) جواهر الكلام ٤١ : ٦٠٠ ـ ٦٣٠.

٤١٤

قال : وأمّا من فرّق بين المسرّ والمعلن ، فمنهم من قال : من أسرّ ردّته قتلناه دون استتابة ولم نقبل توبته. ومن أعلن ردّته قبلنا توبته.

ومنهم من قال : إن أقرّ المسرّ وصدق النيّة قبلنا توبته ، وإن لم يقرّ ولا صدق النيّة قتلناه ولم نقبل توبته. وأمّا المعلن فتقبل توبته.

وقالت طائفة : لا فرق بين المسرّ والمعلن في شيء من ذلك ، فمنهم من قبل توبتهما معا أقرّ المسرّ أو لم يقرّ ، ومنهم من قال : لم تقبل توبة مسرّ ولا معلن.

قال ابن حزم : واختلفوا أيضا في الكافر الذمّيّ أو الحربيّ يبدّل دينه من كفر إلى كفر ، فقالت طائفة : يترك على ذلك. وقالت طائفة : لا يترك. فمنهم من قال : إن رجع الذمّيّ إلى دينه الأوّل ترك وإلّا قتل. ومنهم من قال : لا يقبل منه شيء غير الإسلام ، وإلّا قتل ، ولا يترك على الدين الّذي خرج إليه ، ولا يترك أيضا أن يرجع إلى الّذي خرج عنه. لكن إن أسلم ترك وإلّا قتل (١).

ثمّ أخذ في بيان المستندات ، وذكر روايات أكثرها متناقضة أو ضعاف الإسناد ، وناقشها على أسلوبه مناقشة فنّيّة وفي إسهاب (٢). ولعلّه من أوسع من تكلّم في هذا المجال ، ولكن من غير أن ينتهي إلى محصّل ملموس.

ومن ظريف ما ذكر في المقام : أنّ القائل بالاستتابة مرّة ، استند إلى عموم قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(٣). وقوله تعالى : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ)(٤). وقوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)(٥). فكانت الاستتابة فعل خير ودعاء إلى سبيل ربّنا بالحكمة والموعظة الحسنة ، ودعاء إلى الخير وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ، فكان واجبا ، وكان فاعله مصلحا.

[٢ / ٦٢٤٥] وقد صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لعليّ عليه‌السلام : «لأن يهدي الله بهداك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم». وهذا لا ينبغي أن يزهد فيه (٦).

غير أنّ هذا الدليل حجّة لجواز الاستتابة حيث ترجى حتّى تظهر أمارات اليأس ولا يخصّ

__________________

(١) المحلّى لابن حزم ١١ : ١٨٨ ـ ١٨٩ المسألة ٢١٩٥.

(٢) المصدر : ١٨٩ ـ ١٩٧.

(٣) النحل ١٦ : ١٢٥.

(٤) الحجّ ٢٢ : ٧٧.

(٥) آل عمران ٣ : ١٠٤.

(٦) المحلّى ١١ : ١٩٢.

٤١٥

مرّة أو مرّات معيّنة. ولا بأس به.

***

والعمدة ملاحظة النصوص الواردة بهذا الشأن :

[٢ / ٦٢٤٦] روى ابن حزم بإسناده إلى أبي عمرو الشيباني ، قال : «أتي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بشيخ كان نصرانيّا فأسلم ثمّ ارتدّ عن الإسلام ، فقال له عليّ : لعلّك إنّما ارتددت لأن تصيب ميراثا ثمّ ترجع إلى الإسلام؟ قال : لا. قال : فلعلّك خطبت امرأة فأبوا أن يزوّجكوها فأردت أن تزوّجها ثمّ تعود إلى الإسلام؟ قال : لا. قال : فارجع إلى الإسلام! قال : لا ، حتّى ألقى المسيح! فأمر به عليّ فضربت عنقه ، ودفع ميراثه إلى ولده المسلمين» (١).

[٢ / ٦٢٤٧] وعن عبد الرزّاق أسنده إلى أبي عثمان النهدي : أنّ عليّا عليه‌السلام استتاب رجلا كفر بعد إسلامه شهرا فأبى ، فقتله (٢).

[٢ / ٦٢٤٨] وعن أبي عمرو الشيباني : أنّ رجلا من بني عجل تنصّر ، فكتب بذلك عيينة بن فرقد السّلمي إلى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. فكتب أن يؤتى به ، فجيء به ، فكلّمه عليّ فأطال كلامه ، وهو ساكت ، فقال : لا أدري ما تقول ، غير أنّي أعلم أنّ عيسى ابن الله! فلمّا قالها ، قام إليه عليّ فقتله (٣).

[٢ / ٦٢٤٩] وروى من طريق عبد الرزّاق عن معمر عن أيّوب عن حميد بن هلال عن أبي بردة ، قال : قدم على أبي موسى الأشعري معاذ بن جبل ـ كان أرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردفا لأبي موسى باليمن ـ وإذا برجل موثّق عنده ، فقال : ما هذا؟ قال : كان يهوديّا فأسلم ثمّ تهوّد ، ونحن نريده على الإسلام منذ شهرين ـ وفي رواية أربعين يوما ـ فقال معاذ : لا أجلس حتّى يقتل ، قضاء الله ورسوله. قاله ثلاث مرّات ، فأمر به فقتل (٤).

[٢ / ٦٢٥٠] وأيضا من طريق عبد الرزّاق عن ابن جريج رفعه إلى عليّ عليه‌السلام ، في يهوديّ أو نصرانيّ تزندق ، قال عليه‌السلام : «دعوه يجول من دين إلى دين» (٥).

وكان قد ذكر قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما وأبي ثور : أنّ الكافر إذا تنقّل من دين إلى دين

__________________

(١) المصدر : ١٩٠.

(٢) المصدر : ١٩١.

(٣) المصدر : ١٩٠.

(٤) المصدر : ١٨٩ ـ ١٩١.

(٥) المصدر : ١٩٦.

٤١٦

غير الإسلام ، يقرّ على ذلك ولا يعترض عليه (١). ثمّ أخذ في مناقشتهم على عادته.

[٢ / ٦٢٥١] وروى البخاري وأصحاب السنن ، واللفظ لأحمد ، بالإسناد إلى عكرمة : أنّ عليّا عليه‌السلام حرّق ناسا ارتدّوا عن الإسلام فبلغ ذلك ابن عبّاس ، فقال : لم أكن لأحرقهم بالنار ، وإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا تعذّبوا بعذاب الله ، وكنت قاتلهم ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من بدّل دينه فاقتلوه» ، فبلغ ذلك عليّا عليه‌السلام فقال : «ويح ابن أمّ ابن عبّاس!» (٢).

قلت : هذا الحديث بهذه الصورة مستنكر عندنا. وقضيّة إحراق الإمام عليه‌السلام ناسا ارتدّوا ، موضوعة مفتعلة ، وضعتها أياد أثيمة أرادت الحطّ من شأن أعلم الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقضاهم وأفضلهم على الإطلاق. وما علم ابن عبّاس إلى جنب علم عليّ عليه‌السلام إلّا كقطرة من بحر ، بل هو مستقاة فكيف يفضل عليه؟!

هذا وقد عقد البخاري بابا جوّز فيه حرق المرتدّ.

[٢ / ٦٢٥٢] أخرج عن أبي قلابة عن أنس بن مالك : أنّ رهطا من عكل (٣) ثمانية قدموا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاجتووا المدينة (٤) ، فقالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبغنا رسلا (٥)!

فقال : ما أجد لكم إلّا أن تلحقوا بالذود (٦) ، فانطلقوا فشربوا من أبوالها وألبانها حتّى صحّوا وسمنوا (٧) ، وقتلوا الراعي ، واستاقوا الذّود ، وكفروا بعد إسلامهم. فأتى الصّريخ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعث الطلب ، فما ترجّل النهار (٨) حتّى أتى بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، ثمّ أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها ، وطرحهم بالحرّة يستسقون فما يسقون حتّى ماتوا.

قال أبو قلابة : قتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا (٩).

__________________

(١) المصدر : ١٩٤.

(٢) مسند أحمد ١ : ٢١٧ و ٢٨٣ و ٥ : ٢٣١ ؛ البخاري ٤ : ٧٥ و ٩ : ١٣٨ ؛ الترمذي ٤ : ٥٩ / ١٤٥٨ ؛ الدار قطني ٣ : ١٠٨ و ١١٣ ؛ أبو داوود ٤ : ١٢٦ ؛ النسائي ٧ : ١٠٤ ـ ١٠٥ ؛ ابن ماجة ٢ : ٨٤٨ ؛ البيهقي ٨ : ١٩٥ و ٢٠٢ و ٢٠٥ و ٩ : ٧١ ؛ الحاكم ٣ : ٥٣٨ ؛ مجمع الزوائد ٦ : ٢٦١.

(٣) في مسند أحمد (٣ : ١٠٧) وغيره : «من عرينة».

(٤) أي كرهوا المقام بالبلد.

(٥) أي أعنّا على رسل وهو : الدرّ من اللبن.

(٦) الذّود : القطيع من الإبل في أقلّ من عشرة.

(٧) وهل يصحّ ويسمن أحد من شرب الأبوال؟

(٨) ما نزل عن ركوبته.

(٩) البخاري ٤ : ٧٥ ؛ فتح الباري ٦ : ١٠٧ ـ ١٠٨. ورواه مسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد.

٤١٧

وهذا كالحديث قبله مستنكر من وجوه بما لا يتناسب وخلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكريم!

[٢ / ٦٢٥٣] ونظيره ما رواه بالإسناد إلى أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «قرصت نملة نبيّا من الأنبياء ، فأمر بقرية النمل فأحرقت (١). فأوحى الله إليه : أن قرصتك نملة أحرقت أمّة من الأمم تسبّح؟!» (٢)

قلت : ولعلّه من إسرائيليّات أملاه عليه كعب الأحبار ، فوهم أبو هريرة فأسنده إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) وحاشاه من أن يتفوّه بأمثال هذه المخاريق. وحاشا الأنبياء ـ وهم عباد الله المكرمون ـ أن يقوموا بعمل الجبّارين!

***

[٢ / ٦٢٥٤] وروى أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني بإسناده الصحيح عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت الإمام أبا جعفر الباقر عليه‌السلام عن المرتدّ؟ فقال : «من رغب عن الإسلام وكفر بما أنزل على محمّد ، بعد إسلامه ، فلا توبة له ، وقد وجب قتله ، وبانت منه امرأته ، ويقسّم ما ترك على ولده» (٤).

[٢ / ٦٢٥٥] وعن عمّار الساباطي ـ في الصحيح ـ قال : سمعت الإمام أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام يقول : «كلّ مسلم بين مسلمين ارتدّ عن الإسلام وجحد محمّدا نبوّته وكذّبه ، فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلك منه ـ إلى أن قال ـ وعلى الإمام أن يقتله ولا يستتيبه» (٥).

[٢ / ٦٢٥٦] وروى أبو جعفر ابن بابويه الصدوق بإسناده الصحيح عن محمّد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «عورة المؤمن على المؤمن حرام. ومن اطّلع على مؤمن في منزله فعيناه مباحتان للمؤمن في تلك الحال. ومن دمر (٦) على مؤمن في منزله بغير إذنه فدمه مباح للمؤمن في

__________________

(١) البخاري ٤ : ٧٥ ـ ٧٦.

(٢) فتح الباري ٦ : ١٠٨. قال ابن حجر : هذا التوبيخ ورد في بعض أسناد الحديث.

(٣) كان ذلك من عادته ، كما سجّله عليه التاريخ. راجع : ابن كثير ٣ : ١٠٤ ـ ١٠٥ ؛ أضواء على السنّة المحمّديّة : ٢٠٨ ؛ تاريخ آداب العرب للرافعي ١ : ٢٧٨ ؛ التمهيد في علوم القرآن ١٠ : ١٠٦ ـ ١١٠.

(٤) الكافي ٧ : ٢٥٦ / ١ ؛ الوسائل ٢٨ : ٣٢٣ ـ ٣٢٤ ؛ التهذيب ١٠ : ١٣٦ / ٥٤٠ ؛ الاستبصار ٤ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣ / ٩٥٦.

(٥) الكافي ٧ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨ / ١١ ؛ الوسائل ٢٨ : ٣٢٤ ؛ الفقيه ٣ : ١٤٩ ؛ التهذيب ١٠ : ١٣٦ ـ ١٣٧ / ٥٤١.

(٦) دمر عليه : دخل بدون إذن. هجم هجوم الشرّ.

٤١٨

تلك الحال.

قال : ومن جحد نبيّا مرسلا نبوّته وكذّبه فدمه مباح» (١).

قلت : وعمدة الباب هي هذه الأحاديث الثلاثة الصحاح ، ومحصّلها : أنّ من جحد نبيّا نبوّته وكذّبه علانية وعلى رؤوس الأشهاد ، فهذا منابذ للدين ومحارب للإسلام محاربة عارمة. فلا يجوز إمهاله كي يتّسع الخرق.

وهذا غير الّذي حصلت شبهة ، أو كان تركه للإسلام لرغبة سافلة وليس عن حجّة قاطعة أو شبهة حاصلة. كالّذي مرّ في أبي عمرو الشيباني في شيخ تنصّر. فجعل عليّ عليه‌السلام يعالجه بشتّي احتمالات تبرء ذمّته (٢).

ولعلّ سابقة الإسلام هي من أقوى الشواهد على أنّ تركه للإسلام كان عن عناد ولجاج مع الحقّ ، وليس عن شبهة دارئة. إذ الّذي لمس الحقّ لا يستطيع جحده إلّا معاندة ظاهرة.

أمّا حديث ابن عبّاس «من بدّل دينه فاقتلوه» ، فقد عرفت أنّ أصل الحديث مختلق في فحواه وفي مدلوله ذلك الغريب. فضلا عن أنّ الحديث بهذا الإطلاق ، لم يأخذ به أحد من الفقهاء. إذ يشمل من بدّل دينه من كتابيّ إلى كتابيّ ، ومن كفر إلى كفر ، ومن زندقة إلى إلحاد ، ومن إسلام إلى غير دين ، لشبهة واقعة أو لغير شبهة.

وغير ذلك من فروع المسألة ، الأمر الّذي لا يلتزم به فقيه البتّة.

وعليه فالحديث بمدلوله هذا الوسيع غير حجّة عندنا ، ولا سيّما مع ضعف الإسناد حسب أصولنا.

فهذا حديث أبي قلابة عن أنس ، ذكره البخاري ـ وهو حديث فرد غريب كما سلف ـ غير أنّ أبا قلابة ـ وهو عبد الله بن زيد بن عمرو ـ قال ابن حجر في التقريب : فيه نصب يسير! وقال في تهذيب التهذيب : كان أبو قلابة يحمل على عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم يرو عنه شيئا. لكنّه روى عن سمرة وأمثاله الكثير في كثير!!

وذكر ابن التين شارح البخاري ـ في الكلام على القسامة ، بعد أن نقل قصّة أبي قلابة مع عمر بن عبد العزيز ـ : العجب من عمر ، على مكانه من العلم ، كيف لم يعارض أبا قلابة في قوله ، وليس

__________________

(١) الفقيه ٤ : ١٠٤ / ٥١٩٢ ؛ الوسائل ٢٨ : ٣٢٣ / ١.

(٢) راجع : المحلّى ١١ : ١٩٠.

٤١٩

أبو قلابة من فقهاء التابعين ، وهو عند الناس معدود في البله!! (١)

وهل تقبل توبة المرتدّ؟

ظاهر الآية الكريمة هو القبول : قال تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢). وعليه فإن تاب وأصلح ، فإنّ عموم الغفران يشمله بلا ريب.

نعم كان الّذي ارتدّ محاربا للإسلام ، وقبض عليه قبل أن يتوب ، فإنّ توبته حينذاك لا تسقط عنه الحدّ ، قال تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)(٣).

وعلى ذلك يحمل ما ورد من عدم قبول توبته أو عدم استتابته. أي بعد القبض عليه. وتفصيل الكلام موكول إلى مجاله في الفقه.

كلام عن الكبائر

قوله تعالى : (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)

وهل هناك صغائر بالذات بإزاء الكبائر؟

البحث عن الكبائر وتحديدها وتعديدها بسبع أو بسبعين (٤) ، بحث كلاميّ قبل أن يكون بحثا فقهيّا وتفسيريّا. فقد اختلف المتكلّمون في وجود صغائر بالذات ممتازة عن الكبائر ؛ وهل يحسن في التكليف الزجر عن سيّئات لا عقاب عليها؟ حسبما يدّعيه القائل بوجود صغائر هي مغفورة ، استنادا إلى ظاهر قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)(٥).

__________________

(١) راجع : تقريب التهذيب ١ : ٤١٧ / ٣١٩ وتهذيب التهذيب ٥ : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(٢) البقرة ٢ : ٢١٧.

(٣) النساء ٤ : ١٨.

(٤) سيأتي في كلام ابن عبّاس : «هنّ إلى سبعين أو سبعمأة أقرب منها إلى سبع». الطبري ٤ : ٥٩ / ٧٢٩٧ و ٧٢٩٨.

(٥) النساء ٤ : ٣١.

٤٢٠