التفسير الأثري الجامع - ج ٥

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-06-7
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

حيث تمرّده وكفرانه نعم المولى معا.

الثانية : هل المثوبة والعقوبة تقتضيان الدوام والأبديّة؟ فلا مثوبة إلّا وهي دائمة ولا عقوبة إلّا وهي خالدة؟!

قالت المعتزلة : نعم! ومن ثمّ جعلوا من الفاسق خالدا في النار.

ودليلهم على ذلك هو : قياس المثوبة والعقوبة بالمدح والذمّ ، فكما أنّهما دائميّان ، كذلك لازمهما من الثواب والعقاب ؛ قالوا : ولأنّه إذا انقطع عقاب العاصي ودخل الجنّة كان ذلك تفضّلا عليه ، ولا تفضّل على المكلّفين ، وإنّما هو خاصّ بالأطفال والمجانين (١).

وبهذه الطريقة حاولوا إثبات الإحباط ، لئلّا يعود المعاقب على معصيته مثابا على طاعته ، فينتقض دوام العقاب بشأنه ، كما يكون ثوابه المتأخّر تفضّلا فيما زعموا. وهذان ممّا يتحاشونهما البتّة (٢).

قلنا : لا خلود في النار إلّا للكفّار (٣) ، أمّا العصاة من المؤمنين الّذين احتفظوا بإيمانهم حتّى الممات فمرجون لأمر الله ، إمّا يعذّبهم حسب استحقاقهم ، عذابا يتناسب مع نوعية العصيان الّذي ارتكبوه ، وإمّا يتوب عليهم والله عليم حكيم (٤).

قال تعالى ـ بشأن العصاة من المؤمنين ـ : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥). قوله : (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) اعترافا منبعثا عن إيمانهم بالله ، حيث المؤمن هو الّذي يرى من أعماله السيّئة عصيانا له تعالى ، فهو دليل على شدّة احتفاظهم بأصول الإيمان ، وإن كانوا ارتكبوا ما ارتكبوا من قبائح. الأمر الّذي وفّر عليهم من شرائط الغفران!

وأمّا قياس الثواب والعقاب بالمدح والذمّ ، ففي أصل الاستحقاق لا شكّ فيه. فمن استحقّ مدحا على عمل استحقّ ثوابا عليه ، وكذا الذمّ والعقاب. أمّا قياس دوام أحدهما على دوام الآخر

__________________

(١) شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبّار : ٦٦٦ ـ ٦٦٧.

(٢) المصدر : ٦٢٤.

(٣) قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) العنكبوت ٢٩ : ٢٣.

(٤) مقتبس من الآية الكريمة ١٠٦ من سورة براءة.

(٥) التوبة ٩ : ١٠٢.

٣٨١

فلا موضع له ، بعد أن كانت مرحلة الاستحقاق بمعزل عن مرحلة الفعليّة والوقوع. لأنّ معنى دوام الاستحقاق ، هو جواز مذمّة العاصي في أيّ وقت من الأوقات ، ولا يختصّ ذلك بالآن المباشر لظرف عصيانه. الأمر الّذي لا يعني الاستدامة في مذمّته ليل نهار على مرّ الدهور.

وهكذا العقاب ، يستحقّه العاصي في أيّ وقت من الأوقات ، فمتى ما أراد المولى عقابه صحّ ذلك منه. وهذا لا يعني جواز الإدامة من عقابه على مرّ الزمان مع الأبديّة. لأنّ ذلك عقاب فوق استحقاقه وظلم يتحاشاه عدله تعالى وحكمته المطلقة.

أمّا اختصاص تفضّله تعالى بالصغار القصّر فلم نعرف له وجها ، ولا هم أقاموا على إثباته برهانا. فضلا عن مخالفته الصريحة لنصّ الكتاب والسنّة المتواترة ، فإنّ فضله تعالى عظيم (١) ورحمته واسعة (٢) وقد وعد بغفران الذنوب جميعا (٣).

الثالثة : هل المغفرة خاصّة بالتائبين أم هي عامّة؟

زعمت المعتزلة اختصاصها بمن يموت عن توبة وندم واستغفار!

لكن في نصوص الكتاب والسنّة صراحة في عمومها لمن مات عن إيمان فإن كان تائبا فيموت مغفورا له كمن لا ذنب له ، وغيره يموت مرجوّا لأمره تعالى إمّا يعذّبه على قدر استحقاقه ثمّ يغفر له ، أو يتفضّل عليه بالغفران من أوّل أمره بلا تعذيب. وإنّ في كثير من العبادات الواجبة ، والأعمال الصالحة ، لمطهّرة للذنوب حتّى الكبائر ، فضلا عن الصغائر ، فإنّها مغفورة بذاتها إذا لم يكن هناك إصرار. بل كان قد ألمّ بها إلماما.

قال تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(٤).

[٢ / ٦٢٠٧] وقد شبّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلوات الخمس بنهر على باب الدار يغتسل فيه صاحبها

__________________

(١) قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الأنفال ٨ : ٢٩.

(٢) (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) الأعراف ٧ : ١٥٦.

(٣) (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر ٣٩ : ٥٣.

(٤) هود ١١ : ١١٤ ـ ١١٥.

٣٨٢

كلّ يوم خمس مرّات ، فقال : «أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟».

[٢ / ٦٢٠٨] قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «وهكذا مثل الصلاة مثل النهر الجاري كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب» (١).

[٢ / ٦٢٠٩] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا أتى العبد بسيّئة ، قال الملك الموكّل بحسناته لصاحب السيّئات : لا تعجل ، عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها ؛ فإنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)» (٢).

وقال تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ)(٣). واللّمم : الذنب قد يلمّ به العبد عفوا ومن غير قصد سابق ، ثمّ يتذكّر ويندم لفوره. كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ)(٤).

وقال : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)(٥).

والآيات والروايات المطلقة في هذا الباب كثيرة جدّا ، كثرة تتناسب مع سعة رحمته تعالى الشاملة. وقد تواترت الروايات (٦) بشأن المستخلصين من النار الفائزين برحمته تعالى ، جزاء على ثبات إيمانم. حيث الإيمان من أكبر الطاعات ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا. (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٧).

قال المحقّق نصير الدين الطوسيّ ـ قدس‌سره ـ في تجريد الاعتقاد : «وعذاب صاحب الكبيرة ينقطع ، لاستحقاقه الثواب بإيمانه ، ولقبحه عند العقلاء». قال العلّامة ابن المطهّر الحلّي ـ رحمه‌الله ـ في شرحه : «الحقّ أنّ عقاب أصحاب الكبائر منقطع ، والدليل عليه وجهان : الأوّل : أنّه يستحقّ الثواب الدائم على إيمانه ، لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)(٨). والإيمان أعظم أفعال

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١٢ ، باب ٢ ، من أبواب أعداد الفرائض.

(٢) الكافي ٢ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠ / ٤ ؛ البرهان ٤ : ١٤٥ / ٢.

(٣) النجم ٥٣ : ٣١ ـ ٣٢.

(٤) الأعراف ٧ : ٢٠١.

(٥) النساء ٤ : ٣١.

(٦) راجع : البحار ٨ : ٣٥٥ / ٨. و : ٣٦٠ ـ ٣٦٣.

(٧) البقرة ٢ : ١٤٣.

(٨) الزلزلة ٩٩ : ٧.

٣٨٣

الخير. فإذا استحقّ العقاب بالمعصية فإمّا أن يقدّم الثواب على العقاب ، وهو باطل بالإجماع ؛ لأنّ الثواب المستحقّ بالإيمان دائم. أو يقدّم العقاب على الثواب ـ وهو المطلوب ـ أو يجمع بينهما ـ وهو محال ـ الثاني : يلزم في من عبد الله تعالى مدّة عمره ثمّ يعصي بمعصية ، مع بقاء إيمانه أن يبقى مخلّدا في النار كمن أشرك بالله مدّة عمره ، وذلك محال ، لقبحه عند العقلاء» (١).

الرابعة : هل المراد بالإحباط تأثير العمل اللّاحق في بطلان العمل السابق ، بمعنى انقلابه فاسدا من الأوّل ، بعد أن كان قد وقع صحيحا؟ أم المراد إبطال أثره في المستقبل من مثوبة وغيرها من آثار كانت مترتّبة عليه لو لا الإحباط؟

لا شكّ أنّ المفروض الأوّل باطل ، إذ لا تأثير للمتأخّر في المتقدّم وجودا إلّا إذا كان بمعنى بطلان المتقدّم واقعا ، لما في علم الله : أنّ شرطه المتأخّر (وهو عدم وجود العمل اللّاحق) لا يتحقّق في ظرفه. الأمر الّذي ليس من الانقلاب الحقيقي ، وإنّما هو انكشاف للواقعيّة الّتي كانت معلومة عند الله وخافية علينا.

مثلا إذا كانت الموافاة على الإيمان شرطا في صحّة الأعمال ، فالمرتدّ الّذي يموت على الكفر ، فاقد لهذا الشرط في ظرف الواقع ، ومن ثمّ فإنّ أعماله جميعا كانت باطلة من يومها الأوّل ، وينكشف ذلك لنا عند ما يموت على الارتداد!

الخامسة : هل الفاسق مؤمن أم كافر أم وسط بين الأمرين؟

أثبتت المعتزلة للفاسق منزلة بين المنزلتين ، لا هو باق على إيمانه ولا هو مرتدّ إلى الكفر والجحود. قالوا : صاحب الكبيرة لا يسمّى مؤمنا ولا كافرا ، وإنّما يسمّى فاسقا. أمّا الأوّل ، فلأنّ مرتكب الكبيرة يستحقّ الذمّ واللعن والاستخفاف والإهانة ، ولا شيء من ذلك يصلح لشأن المؤمن الّذي يستحقّ المدح والتعظيم والموالاة. وقد سمّوا من خالفهم في هذا الرأي بالمرجئة (٢). وأمّا الثاني ، فلأنّ الكافر هو من يستحقّ العقاب العظيم ، ويختصّ بأحكام مخصوصة ، وله حالة جحود لنعم الله تعالى عليه ، الأمر الّذي لا ينطبق على مرتكب الكبيرة. وخالفهم في هذا الرأي الخوارج (٣).

__________________

(١) شرح التجريد ، المسألة الثامنة في انقطاع عذاب أصحاب الكبائر : ٢٣٣.

(٢) راجع : شرح الأصول الخمسة : ٧٠١ ـ ٧١١.

(٣) المصدر : ٧١٢.

٣٨٤

وهي ـ أيضا ـ من المسائل الّتي اختلفنا فيها مع أصحاب الاعتزال ، لزعمهم أنّ من شرط الإيمان هو العمل بالأركان (١). فأخذوا من فروع أحكام الإسلام قيدا في ثبوت أصوله ، ومن ثمّ فإنّ المشروط والمقيّد بشيء ينتفي عند فقد شرطه أو قيده. قال القاضي : لأنّ الأمّة اتّفقت على أنّ ركعتي الفجر (٢) من الدين ، وإذا ثبت أنّه من الدين ثبت أنّه من الإيمان ، لأنّ الدين والإيمان واحد! (٣).

قلت : الإيمان عندنا عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان. أمّا فعل الطاعات واجتناب المعاصي ، فهو من آثار الإيمان المترتّبة عليه مع الالتفات إليه. ويختلف حسب اختلاف درجة الإيمان وقوّته ، كالعقل حسب درجاته في الكمال يؤثّر في اتّزان الإنسان في أفعاله واجتناب القبائح. فكما لا يصحّ أن يقال لكلّ مرتكب قبيح : إنّه فاقد للعقل إطلاقا ، كذلك لا يصحّ نفي الإيمان عن مرتكب المعصية إذا لم يكن عن جحود!

ومن ثمّ فإنّ الفاسق باق على إيمانه ، وهو الّذي يدعوه إلى التوبة والاستغفار ، ولو لاه لم يتب ولم يكن يؤوب. نعم إذا كان مرتكب الكبيرة جاحدا لحرمتها بما يرجع إلى إنكار قول الرسول وجحد رسالته ـ العياذ بالله ـ لكان مرتدّا عن الإيمان وداخلا في حدّ الكفر ، وبذلك كان قد قطع حبل الله المتين ، الّذي اعتصم به عباده المؤمنون ، فلا آصرة تربطه مع الله سوى اللّجوء إلى حظيرة الإيمان.

أمّا استحقاقه المذمّة والإهانة على ارتكاب المعصية ، فلا يتنافى مع استحقاقه الإجلال والتعظيم على ثباته على الإيمان ، لأنّهما جهتان مترتّبتان على عنوانين لا يمسّ أحدهما الآخر ، فيذمّ على جهة ويمدح على أخرى ، كما يقبّح إنسان على قبيحة ارتكبها ، ويستحسن فعله الآخر ، إذا كانا على جهتين وبعنوانين لا صلة بينهما!

__________________

(١) الإيمان عند أبي عليّ وأبي هاشم عبارة عن أداء الطاعات ، الفرائض دون النوافل واجتناب المقبّحات. وعند أبي الهذيل عبارة عن أداء الطاعات الفرائض منها والنوافل واجتناب المقبّحات. وقد اختاره قاضي القضاة. انظر : شرح الأصول الخمسة : ٧٠٧ ـ ٧٠٨.

(٢) يعني نافلته حسب اختياره مذهب أبي الهذيل في كون النوافل من الإيمان.

(٣) شرح الأصول الخمسة : ٧٠٨.

٣٨٥

وأمّا التساوي بين الدين والإيمان فلا موضع له ، بعد أن كان الدين عبارة عن مجموعة قوانين وأنظمة لتنظيم الحياة الفرديّة والاجتماعيّة في أكمل نظام كافل لسعادة الدارين. فليس الدين سوى الطريقة المستقيمة الّتي شرّعها الله تعالى ، ويجب على المكلّفين السير عليها تأمينا لسعادتهم المنشودة.

أمّا الإيمان فهو نفس الاعتقاد بالله وحده لا شريك له ، والتصديق برسوله فيما جاء به من عند الله. وغير خفيّ أنّ التصديق غير العمل ، وكان الدين هو العمل!

فرضيّة الإحباط في خطوات

وبعد فالصحيح عندنا في مسألة الإحباط ومتفرّعاتها هو التفصيل التالي :

١ ـ صريح الكتاب العزيز : أنّ الموافاة على الإيمان شرط في قبول الأعمال الصالحة ، فلا مثوبة على حسنة مع الكفر والجحود. ولعلّ الحبط بشأن الكافر الجاحد الّذي يموت على جحوده إجماعيّ وفق نصّ الكتاب (١) :

قال تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً. وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)(٢).

ولعلّ معترضا يقول : هلّا كان ذلك ظلما وتضييعا لصالح الأعمال ، ومخالفا لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)(٣)؟!

قلنا : لا ظلم مع الاشتراط ، ويجوز عند العقل أن يكون استيفاء الأجر والمثوبة على الأعمال الحسنة ، مشروطا بوجود علائق العبوديّة بين العبد ومولاه. ولا يقطعها بالكفر والجحود والخروج ضدّ مولاه في طغيان عارم!

أمّا قوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)(٤). وقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)

__________________

(١) وهذا لا ينافي ما قدّمنا من جواز منح الكافر من مثوبات الحياة الأخرى ، إن كان مشى في حياته وفق فطرته ولم يحد عن طريقة العقل الحكيمة ، فيجازى على أعمال صالحة وحسنات قام بها من غير منّ ولا أذى.

(٢) الفرقان ٢٥ : ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) الزلزلة ٩٩ : ٧.

(٤) الكهف ١٨ : ٣٠.

٣٨٦

وغيرهما من آيات ، فتحمل على أحد وجهين :

أحدهما : تخصيص عموم هذه الآيات بغير من يموت على الجحود ، فإنّ آيات الإحباط أخصّ نسبة من هذه الآيات ، والخاصّ يصلح مخصّصا للعامّ ؛ فيصبح الكافر الجاحد محروما من الأجر إطلاقا ؛ في هذه الحياة وفي الآخرة!

ثانيهما : أن تبقى عمومات الأجر والجزاء على حالها في التعميم : «الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ» ، غير أنّ المثوبات الأخرويّة خاصّة بالمؤمنين ، فالكافر كالمؤمن يرى خير عمله ، لكن في هذه الحياة فقط. (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(١).

وهذا الوجه الثاني أوفق بعمومات الأجر ولقانون العدل والإنصاف ؛ قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ)(٢). فمن رحمته الواسعة هو عمومها للكافر والمؤمن مقيّدة بهذه الحياة الدنيا ، أمّا في الآخرة فهي خاصّة بالمؤمنين.

وقال : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا)(٣).

وقال : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ)(٤).

والخلاصة : الثابت ـ يقينا ـ من حبط أعمال الكفّار هو اندثارها هباء في دار أخرى حيث لا حظّ لهم فيها ولا نصيب!

قال تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ. مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)(٥).

وقال : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٦).

__________________

(١) القصص ٢٨ : ٨٣.

(٢) الأعراف ٧ : ١٥٦.

(٣) مريم ١٩ : ٦٣.

(٤) الحديد ٥٧ : ٢١.

(٥) الشورى ٤٢ : ١٩ ـ ٢٠.

(٦) البقرة ٢ : ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

٣٨٧

والآيات من هذا القبيل كثيرة ، دالّة على أنّ الكافر قد يكون موفّرا عليه في هذه الحياة ، وربّما جزاء على أعمال حسنة يقوم بها ، فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره ، وإنّا لا نضيع أجر من أحسن عملا. فتحقيقا لهذا العموم في الجزاء ، يجازى الكافر أيضا على حسنات يعملها ، لكن بالنظر إلى اختصاص مثوبات الحياة الأخرى بالمؤمنين ، تختصّ مثوباته بهذه الحياة الدنيا.

وهذا يتوافق مع قولنا بالاستحقاق أيضا ، كما لا يخفى.

٢ ـ إنّ السيّئة مهما بلغت حجما وعددا فإنّها تسقط بالتوبة :

[٢ / ٦٢١٠] «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (١).

فالنادم على معصية إذا استغفر الله ، وقام بشرائط الإنابة إلى الله وتاب توبة نصوحا ، غفر الله له جميع ذنوبه ، (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٢). وهذا إجماع من الأمّة ، لصراحة الكتاب وتواتر السنّة القطعيّة.

نعم اختلفوا في أنّ التوبة بذاتها تسقط العقاب أم لمزيّة ثوابها على عقاب المعصية الّتي ارتكبها؟ كما اختلفوا ـ أيضا ـ في أنّ سقوط العقاب بالتوبة تفضّل أم ذاتي واجب؟

لكن لا تأثير ـ عمليّا ـ لأمثال هذه المباحث ، بعد ثبوت أصل الإسقاط ، وإن كان بحث عنها كبار أئمّة علم الكلام ، أمثال المحقّق نصير الدين الطوسيّ (٣) والقاضي عبد الجبّار (٤) وغيرهما من العلماء. وللكلام عن شروط التوبة وآدابها مجال آخر.

٣ ـ الإحباط ـ بمعنى محق الحسنات بسيّئة لا حقة ـ باطل عندنا (٥) إذ لا دليل عليه لا من العقل ولا من النقل ، فضلا عن مخالفته لعموم الكتاب والسنّة ، ومنافاته لأصول العدل والحكمة في باب المجازاة :

أوّلا : إذا كنّا نقول في باب المجازاة بالاستحقاق ـ كما عليه العدليّة ـ فما الّذي دعا بسقوط

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٣٥ / ١٠ ، باب التوبة.

(٢) الزمر ٣٩ : ٥٣.

(٣) انظر : تجريد الاعتقاد بشرح العلّامة ابن المطهّر الحلّي : ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

(٤) انظر : شرح الاصول الخمسة : ٧٩٠ ، فما بعد.

(٥) قال العلّامة المجلسي : المشهور بين متكلّمي الإماميّة بطلان الإحباط والتكفير ، بل قالوا باشتراط الثواب والعقاب بالموافاة. قال : وذهبت المعتزلة إلى ثبوتهما. البحار ٥ : ٣٣٢.

٣٨٨

مثوبات كان يستحقّها المحسن إزاء أعماله الحسنة ، بمجرّد سيّئة فرطت منه لشهوة عابرة أو أسباب أخر وافته عفوا من غير أن يكون قد أصرّ عليها أو هاتكا لحريم مولاه عن قصد خبيث!؟

نعم لو كنّا نقول بأنّ المؤمن إذا عصى خرج عن الإيمان ـ كما يقوله المعتزلة ويثبتون له منزلة بين المنزلتين ـ لكان لهذا الاحتمال الباطل مجال ، لكنّا رفضنا هذا الرأي ، وأنّ الفاسق ـ عندنا ـ باق على إيمانه ما لم يجحد أو ينكر الرسالة. ومن ثمّ فهو كما يستحقّ مذمّة وعقابا على معصيته ، كذلك يستحقّ مدحا وثوابا على ثباته على الإيمان وسائر أعماله الصالحة. ولا تنافي بين الأمرين ـ حسبما تقدّم ـ فيعاقب عقابا منقطعا ثمّ يثاب على الحسنات ، إذا لم يشمله الغفران من البدء.

ثانيا : لازم تقييد المثوبات واشتراطها بعدم لحوق سيّئة أبدا ، هو اشتراط العصمة طول العمر كما في الأنبياء والأئمّة المعصومين! وهل من العدل والحكمة أن يشترط المولى الكريم ، على عباده ـ الّذين خلقهم على درجات من ضعف وعجز تجاه نزعات ومشتهيات نفسيّة وغيرها من مغريات ـ أن لا يرتكبوا ذنبا طول حياتهم ، كي يفوزوا بثواب ما يعملون من الصالحات؟! وهل هذا ممكن؟! وهل يمكن لأحد أن يتخرّج بالإيفاء بهذا الشرط بسلام؟!

ثالثا : منافاته لعموم الكتاب والسنّة وإطلاقهما من غير ما مخصّص أو مقيّد. قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)(١). وهذا عامّ يشمل الأعمال الحسنة الّتي قام بها مرتكب السيّئة المتأخّرة أيضا.

وهكذا قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً)(٢). والعقل يرى من الظلم أن تمحق سيّئة واحدة لا حقة ، حسنات تقدّمتها ، والله لا يبخس من حسنات العباد حتّى مثقال ذرّة منها ، فكيف بالحسنات الجسام؟ بل ومن فضله ولطفه بعباده أن يضاعف حسناتهم على الإطلاق ، سواء أكانت سابقة على السيّئة أم لا حقة! هذا ما يفيده إطلاق الآية ولا مقيّد لها ، على ما سنذكر.

رابعا : منافاته لقانون التناسب بين الذنب والعقاب ، وقد قال تعالى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٣). وقال : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها)(٤). وقال :

__________________

(١) الزلزلة ٩٩ : ٧.

(٢) النساء ٤ : ٤٠.

(٣) الأنعام ٦ : ١٦٠.

(٤) يونس ١٠ : ٢٧.

٣٨٩

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها)(١). وقال : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(٢).

فإذا كان الله ـ وهو العدل الحكيم ـ يقول : جزاء سيّئة سيّئة مثلها ، فما الموجب للقول بأنّ سيّئة واحدة ، مهما كان قدرها ، تمحق حسنات جساما كانت سبقتها؟! وهل هذا إلّا ظلم وجور وحيف ، وإضاعة صريحة لمثوبات أعمال صالحة كانت خالصة لله وحده لا شريك له؟! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

عموم آيات التوفية

إنّ مراجعة عابرة لآيات التوفية في القرآن ـ وهي كثيرة جدّا ـ تجعلنا نطمئنّ بعموم الجزاء على الأعمال ، إن حسنة وإن سيّئة ، حسب الأثر المعروف : «الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ». ولا مخصّص لها فيما فحصنا فيما عدا خصوص الكفّار الجاحدين أو من يرتدّ عن دينه فيموت على جحوده. وقد تقدّم بعضها ، وإليك نماذج آخر :

قال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)(٣). وقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ)(٤). وقال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها)(٥). وقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ)(٦). وقال : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)(٧).

هذه الآيات كلّها عامّة شاملة لكلتا الصورتين سواء ألحقت الحسنة سيّئة أم لم تلحقها! وفي الآية الأخيرة صراحة في هذا العموم ، حيث أشار إلى جانب غفرانه تعالى ، فالحسنات إذا كانت خالصة لله فالله يشكر عليها ويقدّرها ويغفر لصاحبها من ذنوبه سواء أتقدّمتها أم تأخّرت عنها!

وهكذا قوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)(٨) عامّ. وقوله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)(٩). وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) غافر ٤٠ : ٤٠.

(٢) الشورى ٤٢ : ٤٠.

(٣) الأنعام ٦ : ١٦٠.

(٤) النحل ١٦ : ٣٠.

(٥) النمل ٢٧ : ٨٩ ، والقصص ٢٨ : ٨٤.

(٦) الزمر ٣٩ : ١٠.

(٧) الشورى ٤٢ : ٢٣.

(٨) الكهف ١٨ : ٣٠.

(٩) آل عمران ٣ : ١٩٥.

٣٩٠

بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١).

فمقتضى رأفته تعالى ورحمته أن لا يضيع أجر الإيمان حتّى من العصاة ، حيث الإيمان من أفضل القربات.

وقوله تعالى : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٢). وقوله : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٣). وقوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٤). وقوله : (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ)(٥). وقوله : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ)(٦). وقوله : (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٧). وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)(٨).

الآيات كلّها في صياغة عموم ، بصورة تأبى عن التخصيص حسب ظاهر تعبيرها ، حيث فرضت إعفاء أيّ حسنة من حسنات العبد ظلما به ، حتّى ولو كانت ملحوقة بسيّئة ، إذ لا تجزى سيّئة إلّا بمثلها ، أمّا محق جميع الحسنات فليس جزاء بالمثل فضلا عن قبحه العقلي على ما هو معلوم!

وقال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ)(٩) وقد أسلفنا أنّ مرتكب المعصية لا يخرج من الإيمان ، فبعموم هذه الآية الكريمة تكون أعماله الصالحة جميعا المتقدّمة والمتأخّرة ، مشكورة له مثبتة في سجّل حسناته محفوظة!

وقال : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ) على الإطلاق (سَوْفَ يُرى)(١٠). وقال : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى)(١١). وقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(١٢).

ولعلّها أصرح آية في عموم التوفية ، وأن لا حبط بشأن المؤمن ، حتّى ولو كان مرتكبا لذنب ،

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٣.

(٢) آل عمران ٣ : ٢٥.

(٣) البقرة ٢ : ٢٨١ وآل عمران ٣ : ١٦١.

(٤) البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٥) إبراهيم ١٤ : ٥١.

(٦) غافر ٤٠ : ١٧.

(٧) الجاثية ٤٥ : ٢٢.

(٨) المدثّر ٧٤ : ٣٨.

(٩) الأنبياء ٢١ : ٩٤.

(١٠) النجم ٥٣ : ٣٩ ـ ٤٠.

(١١) طه ٢٠ : ١٥.

(١٢) الأحقاف ٤٦ : ١٦.

٣٩١

فإنّ ذنبه سوف يغفر وتتداركه رحمة ربّه الواسعة الّتي كتبها لعباده الّذين يتّقون أي كانت مشيتهم على التقوى عامّة حياتهم إلّا ما فرط منهم عفوا.

فقد وعد تعالى ـ في هذه الآية الكريمة ـ أن يتقبّل حسنات المؤمنين ولم يشترط عليهم العصمة من الذنوب طول الحياة ، كما هو لازم القول بالإحباط على مذهب أهل الاعتزال. والآيات من هذا القبيل كثيرة في القرآن ، وهي حسب ظاهر تعبيرها آبية عن التخصيص فضلا عن تكاثرها وتظافرها ، الأمر الّذي بحاجة إلى صارف قويّ صريح ، والمفروض فقد هذا الصارف على ما سنبيّن.

اختصاص آيات الحبط بأهل الجحود

أمّا الآيات الّتي جاء فيها ذكر الإحباط فكلّها خاصّة بالكفّار والمشركين ممّن يموت على الكفر والجحود :

قال تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ)(١).

وقال تعالى ـ إشارة إلى أمم سابقة كفرت ـ : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٢). وقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ)(٣). وقال : (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ)(٤). وقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ)(٥). وقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ)(٦). وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ)(٧). وقال : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ)(٨). وقال : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) ـ إلى قوله ـ (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٧.

(٢) التوبة ٩ : ٦٩.

(٣) الكهف ١٨ : ١٠٥.

(٤) الأحزاب ٣٣ : ١٩.

(٥) محمّد ٤٧ : ٩.

(٦) محمّد ٤٧ : ٢٨.

(٧) محمّد ٤٧ : ٣٢.

(٨) إبراهيم ١٤ : ١٨.

٣٩٢

عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)(١).

إلى نظائرها من آيات تخصّ حبط أعمال الكافر بالله ، الجاحد للنبوّة ، المكذّب لرسالة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قصد وعمد! ولا يملك القائل بعموم الحبط دليلا ذا صراحة من الكتاب العزيز أو السنّة الشريفة الثابتة. وبالتالي فإنّ العمومات المتقدّمة المصرّحة بموافاة كلّ إنسان جزاء أعماله إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ ، باقية على شمولها لأعمال مرتكب ذنب أيضا. خرج منها المعاند الجاحد وبقي الباقي ـ إطلاقا ـ تحت العموم. الأمر الّذي تقتضيه قواعد علم الأصول والبيان!

هل في آيات الحبط عموم؟

قد يزعم البعض (٢) ـ احتمالا ـ دلالة آي من الكتاب على عموم الحبط وعدم اختصاصه بمن يموت كافرا. وهو وإن لم يذكر من تلك الآيات شيئا ولا أشار إليها بالخصوص ، وإنّما ذكر ذلك تعبيرا عابرا ، ومن ثمّ فإن كانت نظرته إلى آيات الحبط المتقدّمة فهي كانت خاصّة بالكفّار الجاحدين ، وإن كانت إلى غيرها فلم يبيّن ، ونحن في عرضنا لآيات القرآن في خصوص مسألة الإحباط عثرنا على آيات لعلّها ذات دلالة ظاهريّة ـ في بدء النظر ـ على عموم الحبط ، نذكرها فيما يلي :

١ ـ قال تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٣).

فإذا أرجعنا الإشارة في قوله : (أُولئِكَ) إلى خصوص الفئة الثانية ، كانت الآية ـ في بدء النظر ـ دالّة على اختصاص توفية المثوبات بهم ، وأن لا حظّ للفئة الأولى فيما اكتسبوه من الحسنات. والآية ـ بظاهرها ـ عامّة تشمل ما إذا كان من الفئة الأولى مؤمنون معتقدون بالله ومصدّقون برسالة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

__________________

(١) الفرقان ٢٥ : ٢١ ـ ٢٣.

(٢) انظر : القول السديد في شرح التجريد للسيّد الشيرازي : ٣٩٦.

(٣) البقرة ٢ : ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

٣٩٣

قلنا : لا موضع لهذه الاستفادة بعد أن كانت الآية نزلت تعريضا بشأن جاهليّة العرب كانوا إذا وقفوا بالموقف ذكروا آباءهم ونوّهوا بأمجاد جاهليّة تفاخرا على بعضهم ، وإذا سألوا الله شيئا لم يتجاوزوا مطاليب سافلة : إبلا وغنما ورقيقا وظفرا على أعداء ، ولا يسألونه الجنّة والمغفرة والرضوان ، حيث فقد العقيدة بالبعث والنشور (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)(١). ومن ثمّ ذكر تعالى : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)!

ولا شكّ أنّ الّذي لا خلاق له في الآخرة هو الكافر المحض ـ حسبما تقدّم ـ (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً). أمّا الفئة الأخرى ـ وهم المؤمنون بيوم المعاد ـ فيسألون الله تعالى خير الدنيا والآخرة والمغفرة والنجاة من النار ، فهؤلاء لهم نصيب في الآخرة : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢).

[٢ / ٦٢١١] قال ابن عبّاس : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون : اللهمّ اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن ، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا. فأنزل الله فيهم : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ). ويجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) فأنزل الله فيهم : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ).

[٢ / ٦٢١٢] وعن مجاهد : كان أهل الجاهليّة إذا اجتمعوا بالموسم ذكروا فعل آباءهم في الجاهليّة وأيّامهم وأنسابهم فتفاخروا ، فأنزل الله ... إلخ.

[٢ / ٦٢١٣] وعن ابن الزبير : كان الناس في الجاهليّة إذا وقفوا بالمشعر الحرام دعوا فقال أحدهم : اللهمّ ارزقني إبلا. وقال الآخر : اللهمّ ارزقني غنما ، فأنزل الله ... إلخ.

[٢ / ٦٢١٤] وعن السدّي : كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقامت بمنى ، لا يذكر الله الرجل منهم ، وإنّما يذكر أباه ، ويسأل أن يعطى في الدنيا (٣).

[٢ / ٦٢١٥] وعن الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام : «إنّهم كانوا يجتمعون ، يتفاخرون

__________________

(١) المؤمنون ٢٣ : ٣٧.

(٢) آل عمران ٣ : ١٧١.

(٣) الطبري ٢ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩ / ٣٠٧٥ ؛ الدرّ ١ : ٥٥٧ ؛ أسباب النزول للواحدي : ٣٩.

٣٩٤

بالآباء ، وبمآثرهم ، ويبالغون فيه» (١).

هذا فيما لو كانت الإشارة في (أُولئِكَ) إلى خصوص الفئة الثانية ، أمّا لو أرجعناها إلى كلتا الطائفتين ، كان المعنى : إنّ لكلّ نصيبه حسبما يبتغيه ، إن دنيا وإن آخرة ، نظير قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)(٢).

بل وحتّى المؤمن إذا كان همّه الدنيا كانت هي نصيبه من حظّ الحياة ، ولا حظّ له في الآخرة ، ذلك الحظّ الأوفر. حيث قصور نظره وابتذال همّته.

[٢ / ٦٢١٦] كما روي في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ)(٣) : «إنّها نزلت فيمن أخذ مالا بيمين فاجرة» (٤).

فهؤلاء ، وإن كانوا مؤمنين بحسب الظاهر ، لكنّهم في واقع باطنهم لا طمع لهم في الآخرة.

[٢ / ٦٢١٧] وكما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله يؤيّد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم» (٥). يعني المجاهدين في سبيله لأطماع دنيويّة لا عقيدة لهم راسخة ، وربما كانوا متظاهرين بالإسلام.

[٢ / ٦٢١٨] وكما روي ـ أيضا ـ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من لبس الحرير في الدنيا فلا خلاق له في الآخرة» (٦). يعني ذلك الحظّ الأوفر الّذي يناله المؤمن المعتقد المحافظ.

وعليه فقوله : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ) أي النصيب الأوفر التامّ. وأمّا غيرهم من المؤمنين القاصري النظر فإنّ نصيبهم من الآخرة قليل.

***

٢ ـ وقال تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ)(٧).

ولعلّ متشبّثا يتشبّث بالتقييد الّذي جاء في الآية الكريمة : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ ...) قيدا لقوله :

__________________

(١) التبيان ٢ : ١٧٠ ؛ مجمع البيان ٢ : ٥٠ ؛ الصافي ١ : ٣٦٤ ؛ والعيّاشيّ ١ : ١١٧ / ٢٧١.

(٢) الشورى ٤٢ : ٢٠.

(٣) آل عمران ٣ : ٧٧.

(٤) البرهان ٢ : ٥٧ / ٣ ؛ مجمع البيان ٢ : ٣٢٧ ؛ الدرّ ٢ : ٢٤٨.

(٥) التفسير الكبير ٥ : ١٨٧.

(٦) مسند أحمد ١ : ٤٦.

(٧) النجم ٥٣ : ٣١ ـ ٣٢.

٣٩٥

(وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى). فلا ينال أحدا مثوبات أعماله إلّا إذا كان مجتنبا للكبائر ، الأمر الّذي ينطبق على مذهب الإحباط ، حيث السيّئة اللّاحقة تذهب بالحسنات أدراج الرياح!

قلت : هذا بناء على اعتبار (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) بيانا من (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) فيكون قيدا له. لكن قد يستشكل : كيف يصلح الفعل المستقبل بيانا للفعل الماضي؟! ومن ثمّ رجّح بعضهم كونه مستأنفا به ، أي هم الّذين يجتنبون ... أو يكون الموصول مبتدأ محذوف الخبر ، مدلولا عليه بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ.)

وعلى أيّ تقدير ، ففي التحوّل من لفظ الماضي أوّلا إلى لفظ المضارع ثانيا نكتة لطيفة ، هي ملاحظة ما لجانب الفعل المضارع من دلالته على الدأب والاعتياد الحاصل بالغلبة والأكثريّة ، الأمر الّذي لا يثلمه الخروج عنه مرّة أو مرّتين مثلا. فمن كان من عادته المشي بعد الأكل عادة حاصلة بالأغلب ، يصحّ في شأنه أن يقال : إنّه يمشي بعد الأكل. ولا يضرّ بهذا الإطلاق أن لا يمشي بعد الأكل أحيانا ، إذا لم يترك عادته رأسا.

فالمؤمن المعتقد هو الّذي يلتزم على نفسه بأن يجتنب المعاصي ولا يقترفها ، ولا يضرّه الاقتراف أحيانا على خلاف المعتاد. وهذا يصدق بشأنه «إنّه يجتنب الذنوب» أي يحاول بكلّ جهده اجتنابها ، وإن كان قد تعاكسه الظروف رغم عادته. وهذا هو معنى «اللمم» أي الاقتراف أحيانا رغم دأبه في الاجتناب.

ومن ثمّ قال تعالى ـ بشأن المؤمنين فيما يخصّ جانب تركهم للمعاصي ـ : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)(١). ولم يقل : «اجتنبوا» لأنّ الماضي يدلّ على تواصل الاجتناب في الماضي ، ويثلمه التخلّف في فترة أو فترات. فمن ارتكب كبيرة مرّة أو مرّات طول حياته ، لا يصدق بشأنه أنّه اجتنبها بصيغة الماضي ، لكن يصدق بشأنه أنّه مجتنب أو يجتنب المعاصي بصيغة اسم الفاعل أو المضارع!

ولذلك لمّا جاء دور معصية خصوص الشرك ، عبّر تعالى بصيغة الماضي : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها)(٢). لأنّها معصية غير مغتفرة وليست بالّتي لا تضرّ بالإيمان أن يقترفها المؤمن في حياته أحيانا!

__________________

(١) الشورى ٤٢ : ٣٧.

(٢) الزمر ٣٩ : ١٧.

٣٩٦

والخلاصة : إنّه تعالى ذكر في الآية الكريمة أوّلا جانب الإيمان وفعل الطاعات ، وعبّر عنه بصيغة الماضي ، دلالة على الاستمرار والتواصل : (الَّذِينَ أَحْسَنُوا). ثمّ ذكر جانب ترك المعاصي واجتناب المحرّمات ، وعبّر عنه بصيغة المضارع ، دلالة على اعتبار كون المؤمن بانيا على تركها وملتزما على نفسه اجتنابها ، الأمر الّذي لا يضرّه الاقتراف أحيانا : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)(١).

ففي هذا الاختلاف في التعبير ـ ماضيا ومضارعا ـ دلالة واضحة على أنّ سيّئة واحدة لا حقة ، ليست بالّتي تمحق الحسنات السابقة بأسرها ، كما رامه القائل بالحبط! فلا مساس للآية بمسأله الإحباط رأسا.

***

٣ ـ وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٢).

ربما يزعم البعض أنّ في الآية دلالة على الحبط بشأن المؤمنين أيضا. فإنّ الامتنان والأذى معصية تمحق حسنة الصدقة السابقة ، ومن ثمّ قال تعالى في الآية قبلها : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)(٣).

قلت : إذا كان من شرط الصدقة ـ وهي عبادة ـ قصد الخلوص والقربة إلى الله ، لأنّها إنفاق في سبيل الله ، فإنّ المنّة على المتصدّق عليه مناقضة صريحة لماهيّة الصدقة ، وقلب لها من كونها قربة إلى كونها رياء وسمعة ، فضلا عن كونها أذى وهتكا لشخصيّة مسلمة كريمة.

فالصدقة مع المنّة ليست بصدقة في حقيقتها ، ومن ثمّ فلا حسنة كي تمحقها سيّئة ، فلا موضوع في الآية لمسألة الإحباط!

وهذا نظير ما كان أحد الصوفيّة يرتكبها ، كان يسرق ثمّ يتصدّق به ، زاعما أنّ الحسنة تقابل

__________________

(١) هود ١١ : ١١٤.

(٢) البقرة ٢ : ٢٦٤.

(٣) البقرة ٢ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

٣٩٧

بالعشر ، والسيّئة بواحدة! فقال له الإمام الصادق عليه‌السلام : ويلك ، أما قرأت : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(١). وسيوافيك الحديث في بحث التكفير (٢).

***

٤ ـ وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(٣).

رجّح سيّدنا الطباطبائي دلالة الآية الكريمة على الحبط ، قال : ظاهر الآية أنّ رفع الصوت فوق صوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والجهر له بالقول ، معصيتان موجبتان للحبط ، الأمر الّذي يدلّنا على أنّ غير الكفر من المعاصي ـ أيضا ـ يوجب الحبط (٤).

قلت : لا شكّ أنّ أصحابنا الإماميّة متّفقون على أن لا حبط في غير الموت على الجحود ، لأنّه ظلم وقبيح ـ حسبما أسلفنا ـ ومن ثمّ ذهبوا جميعا إلى توجيه الحبط في الآية الكريمة بما يلتئم ومذهبهم في العدل :

قال العلّامة المجلسي ـ رحمه‌الله ـ : «اعلم أنّ المشهور بين متكلّمي الإماميّة بطلان الإحباط والتكفير ، بل قالوا باشتراط الثواب والعقاب بالموافاة. بمعنى أنّ الثواب على الإيمان مشروط بأن يعلم الله منه أنّه يموت على الإيمان ، والعقاب على الكفر والفسوق مشروط بأن يعلم الله أنّه لا يسلم ولا يتوب. وبذلك أوّلوا الآيات الدالّة على الإحباط والتكفير» (٥).

وقال شيخ الطائفة ـ قدس‌سره ـ في تفسير الآية : «ثمّ أمرهم ـ ثانيا ـ بأن قال : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) على وجه الاستخفاف به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٢ / ٦٢١٩] فإنّ مجاهدا وقتادة قالا : جاء أعراب أجلاف من بني تميم فجعلوا ينادون من وراء الحجرات : يا محمّد ، اخرج إلينا.

قال : ولو أنّ إنسانا رفع صوته على صوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وجه التعظيم له والإجابة لقوله ، لم يكن مأثوما. وقد فسّر ذلك بقوله : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) فإنّ العادة جارية أنّ

__________________

(١) المائدة ٥ : ٢٧.

(٢) راجع : معاني الأخبار للصدوق : ٣٣ ـ ٣٥ / ٤.

(٣) الحجرات ٤٩ : ٢.

(٤) الميزان ١٨ : ٣٣٥.

(٥) البحار ٥ : ٣٣٢.

٣٩٨

من كلّم غيره ورفع صوته فوق صوته ، أنّ ذلك على وجه الاستخفاف به ، فلذلك نهاهم عنه» (١).

وبعد فلعلّ الآية بذاتها ظاهرة فيما نقوله ، وأنّ الحبط فيها يمسّ جانب رذيلة الاستخفاف بمقام النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، المفضي في نهاية الأمر إلى الاستهانة بشأنه الرفيع ، وإن كان صاحبه لا يشعر بذلك ، حيث التعوّد عليه في متعارفهم الهابط!

ذلك أنّ الإنسان إذا ارتكب رذيلة ممّا لم يرتكبها من قبل ، ندم عليها أشدّ الندم ، لكنّه إذا ارتكبها مرارا فإنّ خشيته تقلّ وخوفه يتضاءل ، ولا يندم كندمه في البدء ، وربما أوجب التكرار عادة يعتادها الإنسان من غير أن يحسّ بقبحها تدريجيّا! فعلى الإنسان النابه السائر في طريق التهذيب والكمال أن يسدّ على نفسه خلل المعاصي منذ البدء ، حيث الانقلاع في بدء الأمر هيّن وفي الغضون صعب. وربما ينتهي الأمر إلى ما لا يراه مستنكرا ولا قبيحا فيما بعد.

وعليه فلا شكّ أنّ رفع الصوت فوق صوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والجهر له بالكلام بما يشبه الصياح ، خلاف الأدب ، واستهانة بمقامه الكريم ، وهي رذيلة قبيحة تؤدّي بصاحبها تدريجيّا ـ إذا أصرّ عليها ـ إلى الاستخفاف به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستحقاره والتنزّل بمقامه السامي الرفيع ـ العياذ بالله ـ الأمر الّذي ينتهي في نهاية المطاف إلى استصغار مقام النبوّة ، وربما إلى إنكارها ، واعتبار النبيّ كأحدهم من سائر الناس ، لا مزيّة له ولا منزلة شامخة ، وهو على حدّ الكفر والارتداد وربما بلغه المرتكب لا عن شعوره.

يدلّ على ذلك شواهد من السورة نفسها :

أوّلا ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ)(٢). كان أحدهم قد يتقدّم على رسول الله في مشيه استكبارا بنفسه واستعظاما لزعامته على أفراد قبيلته ، كان يحسبهم كثرة ذوي عزّة ، تجاه قبيلة النبيّ ذات قلّة في نظرهم. وهي إهانة بمقام النبيّ العظيم بلا شكّ. ومن ثمّ حذّرهم تعالى بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي احذروا نكال هذه الرذيلة السيّئة وهذا الذنب الخطير.

ثانيا ـ قوله : (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)(٣) يدلّ على أنّهم كانوا يحسبون من شموخ مقامه

__________________

(١) التبيان ٩ : ٣٤٠.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١.

(٣) الحجرات ٤٩ : ٢.

٣٩٩

المنيع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متماثلا معهم وفي مستواهم الهابط ، الأمر الّذي كان إزراء بشأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

ثالثا ـ قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى)(١) تعريض بأنّ الّذين يخالفون هذا الأدب الإسلامي الرفيع ، هم ذووا قلوب جافية قاسية لم ترضخ لشريعة الله ، ومن ثمّ فلم تتمرّن على التقوى والخشية الّتي هي من لين القلوب ، فهم إلى العتوّ والاستكبار أقرب منهم إلى الخضوع والاستسلام!

رابعا ـ قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(٢). أي تمكّن الجهل والعماء من قلوبهم فلم يستعدّوا بأنفسهم لقبول تعاليم الإسلام القيّمة!

وأخيرا ـ فقوله : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(٣) يعني : إنّ سوء الأدب بمقام النبوّة سوف يؤدّي إلى الانحطاط الفظيع ، من غير أن تشعروا بالسقوط تدريجيّا إلى مهواه السحيق.

التكفير بين العموم والخصوص

أمّا تكفير الحسنات للسيّئات ـ إجماليّا ـ فممّا لا شكّ فيه ، نظرا لصراحة القرآن المجيد والسنّة المتواترة في ذلك. لكن هل هذا التكفير عامّ في جميع الحسنات وبالنسبة إلى جميع السيّئات إطلاقا ، أم هناك شروط وقيود وتفاصيل؟

لا نستطيع ـ ونحن نرى العدل والحكمة في ذاته تعالى المقدّسة ـ أن نلتزم بعموم التكفير بصورة مطلقة ، إذ أقلّ نتيجة لهذا الالتزام هو اجتراء أهل الكبائر على اقتراف الذنوب والآثام من غير مبالاة. فليرتكب المذنب ما ترغب إليه نفسه الخبيثة بصورة مستمرّة عبر الأيّام ، مقتنعا بنفسه أنّه ملتزم بالصلاة والصدقات ، لقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)!

ولعلّ عمر بن سعد ـ مع اعترافه بمآ ثم قتل ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ممّن يميل إلى هذا المذهب المنحرف في قوله :

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ٣.

(٢) الحجرات ٤٩ : ٤.

(٣) الحجرات ٤٩ : ٢.

٤٠٠