التفسير الأثري الجامع - ج ٥

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-06-7
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

[٢ / ٥٩٣٢] وقال أبو عليّ الطبرسيّ : وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «كانوا قبل نوح أمّة واحدة على فطرة الله ، لا مهتدين ولا ضلّالا فبعث الله النبيّين» (١).

قوله : «لا مهتدين ولا ضلّالا» أي كانوا على شريعة العقل ، من غير إمداد غيبيّ كي يكون سلوكهم على الحقّ تماما وعلى الكمال. ولا ضلّالا بحيث أخطأوا الطريق رأسا. وهكذا المعنى في الحديث التالي.

[٢ / ٥٩٣٣] وروى العيّاشيّ عن يعقوب بن شعيب قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً)؟ قال : «كان هذا قبل نوح أمّة واحدة ، فبدا لله ، فأرسل الرسل قبل نوح. قلت : أعلى هدى كانوا أم على ضلالة؟ قال : بل كانوا ضلّالا لا مؤمنين ولا كافرين ولا مشركين» (٢).

قوله : «فبدا لله ...» أي حان وقت عنايته تعالى ، على ما تقتضيه قاعدة اللطف. فقوله : «بدا» أي ظهر وجلا وبدت المصلحة المقتضية لبعث الرسل.

***

والقول الثالث :

[٢ / ٥٩٣٤] أنّهم كانوا على باطل. ضلّالا غير مهتدين. فجاءتهم الأنبياء لغرض الهداية إلى الحقّ ، ومن ثمّ اختلفوا في الرفض والقبول. وهذا القول منسوب إلى ابن عبّاس ـ في أحد أقواله ـ وعطاء والحسن.

واستند أصحاب هذا القول إلى الآية الكريمة من سورة الزخرف : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ ...)(٣). حيث المراد من الأمّة الواحدة هنا :

__________________

مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) إلى (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) وأنّ الله إنّما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٦ / ١٩٨٢ ؛ القرطبي ٣ : ٣٠ ، عن أبيّ بن كعب وابن زيد ؛ الثعلبي ٢ : ١٣٣ ؛ البغوي ١ : ٢٧١ ؛ التبيان ٢ : ١٩٧ ، بلفظ : قال أبيّ بن كعب والربيع : كان الناس أمّة حين استخرجوا من ظهر آدم فأقرّوا له بالعبوديّة واختلفوا فيما بعد فبعث الله النبيّين.

(١) نور الثقلين ١ : ٢٠٩ ؛ مجمع البيان ٢ : ٦٥ ، فيه : روى أصحابنا ؛ التبيان ٢ : ١٩٥ ؛ البحار ١١ : ١٠ ، كتاب النبوّة ، باب ١ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣١٧ ؛ البرهان ١ : ٤٦٢ / ٧ ؛ الصافي ١ : ٣٧٨.

(٢) نور الثقلين ١ : ٢٠٨ ؛ العيّاشيّ ١ : ١٢٣ / ٣٠٧ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣١٦ ؛ البرهان ١ : ٤٦١ / ٣ ؛ الصافي ١ : ٣٧٧.

(٣) الزخرف ٤٣ : ٣٣.

٣٠١

وحدتهم على الكفر.

لكن يناقضه ما ورد في آيات أخرى ، مرادا به الاتّحاد على الإيمان والإسلام. كقوله تعالى :

(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)(١). وقوله : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(٢). وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣). أي أمّة واحدة على الهدى ، حيث سياق الآية سياق قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ...)(٤).

[٢ / ٥٩٣٥] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عبّاس : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) قال : كفّارا! (٥)

قال أبو جعفر الطبري : وكان الدين الّذي كانوا عليه دين الحقّ ... فاختلفوا في دينهم ، فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيّين مبشّرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، رحمة منه ـ جلّ ذكره ـ بخلقه ، واعتذارا منه إليهم. وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الّذي كانوا فيه أمّة واحدة من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما‌السلام ، كما روى عكرمة عن ابن عبّاس ، وكما قاله قتادة. وجائز أن يكون كان ذلك حين عرض على آدم خلقه. وجائز أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك. ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجّة على أيّ هذه الأوقات كان ذلك ، فغير جائز أن نقول فيه إلّا ما قال الله ـ عزوجل ـ من أنّ الناس كانوا أمّة واحدة ، فبعث الله فيهم ـ لمّا اختلفوا ـ الأنبياء والرسل. ولا يضرّنا الجهل بوقت ذلك ، كما لا ينفعنا العلم به ، إذا لم يكن العلم به لله طاعة (٦).

__________________

(١) المؤمنون ٢٣ : ٥٢.

(٢) الأنبياء ٢١ : ٩٢.

(٣) النحل ١٦ : ٩٣.

(٤) الأنعام ٦ : ٣٥.

(٥) الدرّ ١ : ٥٨٣ ؛ الطبري ١٣ : ٨٧ / ٢٣٨٥٠ ، بلفظ : عن ابن عبّاس قوله (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) يقول الله سبحانه : لو لا أن أجعل الناس كلّهم كفّارا لجعلت للكفّار لبيوتهم سقفا من فضّة ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٦ / ١٩٨٣ ؛ القرطبي ٣ : ٣١ ، بلفظ : قال ابن عبّاس أيضا : كانوا أمّة واحدة على الكفر. يريد في مدّة نوح حين بعثه الله ؛ ابن كثير ١ : ٢٥٧ ؛ مجمع البيان ٢ : ٦٥ ، عن ابن عبّاس في إحدى الروايتين والحسن واختاره الجبّائي ؛ التبيان ٢ : ١٩٥ ؛ الوسيط ١ : ٣١٥.

(٦) الطبري ٢ : ٤٥٧ ـ ٤٥٨.

٣٠٢

قال تعالى :

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤))

تستهدف الآية إنشاء تصوّر إيمانيّ كامل ناصع في قلوب الجماعة المسلمة ، وتخصّ بالذات بالتوجّه إلى المؤمنين الّذين كانوا يعانون في واقعهم مشقّة الاختلاف بينهم وبين خصومهم ولا سيّما أهل الكتاب ، وما كان يجرّه هذا الخلاف من حروب ومناوشات ومتاعب وويلات ، يتوجّه إليهم بأنّ هذه هي سنّة الله القديمة ، في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا في رضوانه تعالى ، وليكونوا لذلك أهلا ، فليدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم ، وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدّة والضرّ ، وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة ، حتّى إذا ثبتوا على عقيدتهم ، ولم تزعزعهم شدّة ، ولم ترهبهم سطوة ، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتن. فعند ذلك استحقّوا نصر الله ، ولأنّهم يومئذ أمناء على دين الله ، مأمونون على ما ائتمنوا عليه ، صالحون لصيانته والذود عنه.

يقول مخاطبا لهم ـ ولعلّ فيه بعض الإيماء إلى توبيخ واستنكار لما فرط منهم بعض مظاهر الوهن في موقفهم بالذات ـ يقول مخاطبا وموبّخا :

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) حيث رضوانه تعالى : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) : وبعد لم تتجابهوا ما جابهتها الأمم من قبلكم من العنت والشدّة والمحن في سبيل العقيدة (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ). البأساء من البؤس : الفقر والمسكنة أو الفقر المدقع. أي علّتهم حالة بؤس هي شبه يأس من الحياة. والضرّاء من الضرّ ، وهو ما أضرّ بالحال أو المال وأوجب خسارة فادحة لا تتحمّل.

(وَزُلْزِلُوا) أخذتهم الرهبة والمخاوف ، حتّى كادوا يتزعزعون من مواقفهم الصلبة الحاسمة. وقد أخذت بهم المخاوف مبلغا (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ). أي أنّ حالتهم المضنية بلغت بهم حيث ألجأت الرسول والمؤمنين ، أن يتضرّعوا إلى الله ، ليتدارك حالة المؤمنين

٣٠٣

الآخذة بالانهيار. فيعجّل له بالنصر والظفر على الأعداء ، ولأن يعودوا إلى رشدهم بعد ذلك الانكسار.

فجاءهم الوعد : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ).

إنّها لتجربة عميقة جليلة ومرهوبة. وبحاجة إلى صبر ومقاومة عنيفة. ومن ثمّ فالنصر حليفهم لا محالة.

وهذا الانطلاق هو المؤهّل للدخول في الرضوان في نهاية المطاف.

وهذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى ، وللجماعة المسلمة في كلّ جيل.

وهذا هو الطريق : إيمان وجهاد متواصل ، ومحنة وابتلاء وصبر وثبات. وتوجّه إلى الله وحده ، ثمّ يجيء النصر ، ثمّ يجيء النعيم ، ويذهب البؤس والعناء.

[٢ / ٥٩٣٦] أخرج عبد الرزّاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عن قتادة في قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ ...) قال : نزلت في يوم الأحزاب ، أصاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ وأصحابه بلاء وحصر ، فكانوا كما قال تعالى : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ)(١)(٢).

[٢ / ٥٩٣٧] وأخرج عبد الرزّاق عن معمر عن الزهري قال : لمّا كان يوم الأحزاب حصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة ، حتّى خلص إلى امرئ منهم الكرب ، وحتّى قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما قال ابن المسيب ـ : «اللهمّ أنشدك عهدك ووعدك ، اللهمّ إنّك إن تشأ لا تعبد» ، فبينا هم على ذلك أرسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عيينة بن حصن بن بدر : «أرأيت إن جعلت لك ثلث تمر الأنصار ، أترجع بمن معك من غطفان ، وتخذل بين الأحزاب؟» فأرسل إليه عيينة : إن جعلت لي الشطر فعلت ، فأرسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ، فقال : «إنّي أرسلت إلى عيينة فعرضت عليه أن

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ١٠.

(٢) الدرّ ١ : ٥٨٤ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٣٢ / ٢٥٠ ؛ الطبري ٢ : ٤٦٤ / ٣٢٣٤ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٨٠ / ٢٠٠٤ ؛ الثعلبي ٢ : ١٣٤ وعن السّدّي ؛ القرطبي ٣ : ٣٣ ، بلفظ : قال قتادة والسّدّي وأكثر المفسّرين : نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدّة والحرّ والبرد وسوء العيش وأنواع الشدائد ، وكان كما قال الله تعالى : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) ؛ البغوي ١ : ٢٧٢ ، عن قتادة والسّدّي ؛ مجمع البيان ٢ : ٦٨ ؛ التبيان ٢ : ١٩٨ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٨٢.

٣٠٤

أجعل له ثلث تمركم يكون ويرجع بمن معه من غطفان ويخذل بين الأحزاب ، فأبى إلّا الشطر!» فقالا : يا رسول الله إن كنت أمرت بشيء فامض لأمر الله. قال : «لو كنت أمرت بشيء ما استأمرتكما ، ولكن هذا رأي أعرضه عليكما» ، قالا : فإنّا لا نرى أن تعطيهم إلّا السيف! قال ابن أبي نجيح قالا : فو الله يا رسول الله لقد كان يمرّ في الجاهليّة يجّر صرمه [سربه](١) في عام السنة (٢) حول المدينة ما يطيق أن يدخلها ، فالآن لمّا جاء الله بالإسلام نعطيهم ذلك!؟ (٣)

[٢ / ٥٩٣٨] وقال عبد الرزّاق : قال معمر : قال الزّهري : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فنعمّا إذا» ، فبينما هم كذلك إذ جاءهم نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمنه الفريقان جميعا ، وكان موادعا ، فقال : إنّي كنت عند عيينة وأبي سفيان إذ جاءتهم رسل بني قريظة ، أن أثبتوا فإنّا سنحالف المسلمين إلى بيضتهم (٤) فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فلعلّنا أمرناهم بذلك» ، وكان نعيم رجلا لا يكتم الحديث ، فقام بكلمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء عمر فقال : يا رسول الله ، إن كان هذا أمر من أمر الله فامضه ، وإن كان رأيا منك فشأن بني قريظة وقريش أهون من أن يكون لأحد عليك فيه مقال. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «عليّ الرّجل ردّوه» ، فردّوه. فقال : انظر الّذي ذكرناه لك فلا تذكره لأحد ، فكأنّما أغراه به ، فانطلق حتّى أتى عيينة وأبا سفيان ، فقال : هل سمعتم محمّدا يقول قولا إلّا كان حقّا ، قالوا : لا ، قال : فإنّي لمّا ذكرت له شأن بني قريظة ، قال : فلعلّنا أمرناهم بذلك ، فقال أبو سفيان : سنعلمكم بذلك إن كان مكرا. فأرسل إلى بني قريظة : إنّكم قد أمرتمونا أن نثبت ، وأنّكم ستحالفون المسلمين إلى بيضتهم ، فأعطونا بذلك رهينة ، قالوا : إنّها قد دخلت ليلة السبت وإنّا لا نقضي في السبت شيئا ، قال أبو سفيان : أنتم في مكر من بني قريظة ، فارتحلوا ، فأرسل الله عليهم الريح ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فأطفأت نيرانهم ، وقطعت أرسان (٥) خيولهم وانطلقوا منهزمين ، من غير قتال. قال : فذلك حين قال الله تعالى : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً)(٦). قال : فندب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه في طلبهم ، فطلبوهم حتّى بلغوا حمراء الأسد ، ثمّ رجعوا. قال : فوضع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه لامته واغتسل واستجمر ، فناداه جبريل :

__________________

(١) الصّرم : جماعة البيوت. والسّرب : القطيع من الإبل والبقر والشاة وغيرها.

(٢) أي عام المجاعة.

(٣) عبد الرزّاق ١ : ٣٣٢ ـ ٣٣٣ / ٢٥١.

(٤) البيضة : أصل القوم ومجتمعهم ، والمعنى : سنضمّ إليهم ونتآلف معهم.

(٥) جمع رسن : الحبل والزمام.

(٦) الأحزاب ٣٣ : ٢٥.

٣٠٥

عذيرك من محارب! ألا أراك قد وضعت اللّامة ولم تضعها الملائكة! فقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزعا ، فقال لأصحابه : «عزمت عليكم : لا تصلّوا صلاة العصر حتّى تأتوا بني قريظة» ، فغربت الشمس قبل أن يأتوهم ، فقالت طائفة من المسلمين : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرد أن تدعوا الصلاة ، فصلّوا ، وقالت طائفة : والله إنّا لفي عزيمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما علينا بأس ، فصلّت طائفة إيمانا واحتسابا ، وتركت طائفة إيمانا واحتسابا ، فلم يعنّف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحدا من الفريقين ، وخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمرّ بمجالس بينه وبين بني قريظة ، فقال «هل مرّ بكم من أحد؟» فقالوا : مرّ علينا دحية الكلبي ، على بغلة شهباء ، تحته قطيفة ديباج. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس ذلك بدحية ولكنّه جبريل ، أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب» ، قال : فحاصرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر أصحابه أن يستروه بالحجف (١) حتّى يسمعهم كلامه ففعلوا ، فناداهم : «يا إخوة القردة والخنازير!» قالوا : يا أبا القاسم ، ما كنت فاحشا! قال : فحاصرهم حتّى نزلوا على حكم سعد بن معاذ وكانوا حلفاءه ، فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم ونساءهم ، وزعموا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أصاب الحكم (٢) وكان حييّ بن أخطب استجاش المشركين على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء إلى بني قريظة فاستفتح عليهم ليلا ، فقال سيّدهم : إنّ هذا الرجل مشئوم فلا يشئمنّكم ، فناداهم حييّ : يا بني قريظة ألا تستحيون ، ألا تلحقوني ، ألا تضيفوني ، فإنّي جائع مقرور. (٣) فقالت بنو قريظة : والله لنفتحنّ له ، فلم يزالوا حتّى فتحوا له ، فلمّا دخل معهم أطمّهم. (٤) قال : يا بني قريظة ، جئتكم في عزّ الدهر ، جئتكم في عارض برد ، لا يقوم لسبيله شيء! فقال له سيّدهم : أتعدنا عارضا بردا ، تنكشف عنّا وتدعنا عند بحر دائم ، لا يفارقنا ، إنّما تعدنا الغرور! قال : فواثقهم وعاهدهم : لئن انقضت جموع الأحزاب أن يجيء حتّى يدخل معهم أطمّهم ، فأطاعوه حينئذ في الغدر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمسلمين. فلمّا فضّ الله جموع الأحزاب انطلق حتّى إذا كان بالروحاء (٥) ذكر العهد والميثاق الّذي أعطاهم ، فرجع حتّى دخل معهم أطمّهم ، فلمّا قتلت بنو قريظة أتي به مكتوفا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال حييّ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ،

__________________

(١) نوع من الترس. تؤخذ من جلود الإبل.

(٢) أمّا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنفذ حكم سعد ، ففيه كلام ، لعلّنا نتعرّض له في مجال آخر.

(٣) المقرور : من أصابه القرّ وهو البرد.

(٤) الأطمّ : حصن مبنيّ بالحجارة.

(٥) على بعد أربعين ميلا من المدينة.

٣٠٦

ولكنّه من يخذل الله يخذل ، فأمر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضربت عنقه (١).

[٢ / ٥٩٣٩] وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عبّاس قال : أخبر الله المؤمنين أنّ الدنيا دار بلاء ، وأنّه مبتليهم فيها ، وأخبرهم أنّه هكذا فعل بأنبيائه وصفوته لتطيب أنفسهم ، فقال : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) فالبأساء الفتن ، والضرّاء السقم (وَزُلْزِلُوا) بالفتن وأذى الناس إيّاهم (٢).

[٢ / ٥٩٤٠] وأخرج أحمد والبخاري وأبو داوود والنسائي عن خبّاب بن الأرت قال : قلنا : يا رسول الله ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو الله لنا؟ فقال : «إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه ، لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشّط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ، لا يصرفه ذلك عن دينه ، ثمّ قال : والله ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلّا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنّكم تستعجلون» (٣).

[٢ / ٥٩٤١] وأخرج الحاكم وصحّحه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله ليجرّب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به ، كما يجرّب أحدكم ذهبه بالنار ، فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز ، فذلك الّذي نجّاه الله من السيّئات ، ومنهم من يخرج كالذهب دون ذلك فذلك الّذي قد افتتن!» (٤).

[٢ / ٥٩٤٢] وأخرج الثعلبي عن مصعب بن سعد عن أبيه أنّه سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي النّاس أشدّ بلاء؟ فقال : «الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل من الناس ، فيبتلي الرجل على حسب دينه ، فإن كان صلب الدين اشتدّ بلاؤه ، وإن كان في دينه رقّة فهي على حسب ذلك ، ولا يبرح البلاء عن العبد حتّى يدعه يمشي

__________________

(١) عبد الرزّاق ١ : ٣٣٣ ـ ٣٣٥ / ٢٥٢.

(٢) الدرّ ١ : ٥٨٤ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٩ / ١٩٩٩. و ٢٠٠٣ بلفظ : عن ابن عبّاس : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) فالضرّاء السقم ؛ ابن كثير ١ : ٢٥٨ ، بلفظ : قال ابن مسعود وابن عبّاس وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير ومرّة الهمداني والحسن وقتادة والضحّاك والربيع والسّدّي ومقاتل بن حيّان : (الْبَأْساءُ) : الفقر ، (وَالضَّرَّاءُ) : السقم ، وَزُلْزِلُوا خوّفوا من الأعداء زلزالا شديدا وامتحنوا امتحانا عظيما ؛ الطبري ٢ : ٥٦ / ١٩٢٩ ، ذيل الآية ١٥٥ من السورة.

(٣) الدرّ ١ : ٥٨٤ ؛ مسند أحمد ٥ : ١٠٩ و ١١١ ؛ البخاري ٤ : ١٧٩ ـ ١٨٠ ، و ٨ : ٥٦ ؛ أبو داوود ١ : ٥٩٦ ـ ٥٩٧ / ٢٦٤٩ ، باب ١٠٧ ؛ النسائي ٣ : ٤٥٠ / ٥٨٩٣ ، باب ٣٥ ؛ كنز العمّال ١ : ٢٦٣ / ١٣٢٠ ؛ ابن كثير ١ : ٢٥٨.

(٤) الدرّ ١ : ٥٨٥ ؛ الحاكم ٤ : ٣١٤ ، كتاب الرقاق ؛ الكبير ٨ : ١٦٦ ـ ١٦٧ / ٧٦٩٨ ؛ مجمع الزوائد ٢ : ٢٩١ ؛ كنز العمّال ٣ : ٣٣٥ / ٦٨١٩ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٨٦.

٣٠٧

على الأرض وليس عليه خطيئة» (١).

[٢ / ٥٩٤٣] وأخرج أبو داوود عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لمّا خلق الله الجنّة قال لجبريل : اذهب فانظر إليها ، فذهب فنظر إليها ، ثمّ جاء ، فقال : أي ربّ وعزّتك ، لا يسمع بها أحد إلّا دخلها ، ثمّ حفّها بالمكاره ، ثمّ قال : يا جبريل اذهب فانظر إليها ، فذهب فنظر إليها ، ثمّ جاء فقال : أي ربّ وعزّتك ، لقد خشيت أن لا يدخلها أحد. قال : فلمّا خلق الله النار قال : يا جبريل اذهب فانظر إليها ، فذهب فنظر إليها ، ثمّ جاء فقال : أي ربّ وعزّتك لا يسمع بها أحد فيدخلها ، فحفّها بالشهوات ، ثمّ قال : يا جبريل فانظر إليها ، فذهب فنظر إليها ، ثمّ جاء فقال : أي ربّ وعزّتك ، لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلّا دخلها» (٢).

[٢ / ٥٩٤٤] قال الكلبي : في قوله تعالى : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) : هذا في كلّ رسول بعث إلى أمّته وأجهد في ذلك حتّى قال : متى نصر الله؟ (٣)

[٢ / ٥٩٤٥] وروى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ الأمثل فالأمثل».

[٢ / ٥٩٤٦] وعن عبد الرحمان بن الحجّاج قال : ذكر عند أبي عبد الله عليه‌السلام البلاء وما يخصّ الله ـ عزوجل ـ به المؤمن؟ فقال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أشدّ الناس بلاء في الدنيا؟ فقال : النبيّون ثمّ الأمثل فالأمثل ، ويبتلي المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله ، فمن صحّ إيمانه وحسن عمله اشتدّ بلاؤه ، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قلّ بلاؤه».

[٢ / ٥٩٤٧] وعن زيد الشحّام ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ عظيم الأجر لمع عظيم البلاء ، وما

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ١٣٦ / ١١٣ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٨٥ ؛ مسند أحمد ١ : ١٧٢ ، بلفظ : حدّثنا عبد الله : حدّثني أبي عن وكيع عن سفيان عن عاصم بن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله! أيّ الناس أشدّ بلاء؟ قال : «الأنبياء ثمّ الصالحون ثمّ الأمثل من الناس ، يبتلي الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقّة خفّف عنه ، وما يزال البلاء بالعبد حتّى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة» ؛ كنز العمّال ٣ : ٣٢٧ / ٦٧٨٣.

(٢) أبو داوود ٢ : ٤٢٢ / ٤٧٤٤ ؛ الترمذي ٤ : ٩٧ ـ ٩٨ / ٢٦٨٥ ، باب ٢٠ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٨٦.

(٣) القرطبي ٣ : ٣٥.

٣٠٨

أحبّ الله قوما إلّا ابتلاهم».

[٢ / ٥٩٤٨] وعن فضيل بن يسار ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثمّ الأوصياء ثمّ الأماثل فالأماثل».

[٢ / ٥٩٤٩] وعن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ لله ـ عزوجل ـ عبادا في الأرض من خالص عباده ، ما ينزل من السماء تحفة إلى الأرض إلّا صرفها إلى غيرهم ، ولا بليّة إلّا صرفها إليهم».

[٢ / ٥٩٥٠] وعن الحسين بن علوان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال ـ وعنده سدير ـ : «إنّ الله إذا أحبّ عبدا غتّه بالبلاء غتّا ، وإنّا وإيّاكم يا سدير لنصبح به ونمسي».

[٢ / ٥٩٥١] وعن حمّاد ، عن أبيه ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ إذا أحبّ عبدا غتّه بالبلاء غتّا وثجّه بالبلاء ثجّا ، فإذا دعاه قال : لبّيك عبدي ، لئن عجّلت لك ما سألت ، إنّي على ذلك لقادر ، ولئن ادّخرت لك ، فما ادّخرت لك فهو خير لك».

[٢ / ٥٩٥٢] وعن زيد الزرّاد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء ، فإذا أحبّ الله عبدا ابتلاه بعظيم البلاء ، فمن رضي فله عند الله الرضا ، ومن سخط البلاء فله عند الله السخط».

[٢ / ٥٩٥٣] وعن جابر بن يزيد ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّما يبتلي المؤمن في الدنيا على قدر دينه ـ أو قال : ـ على حسب دينه».

[٢ / ٥٩٥٤] وعن محمّد بن بهلول بن مسلم العبدي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان ، كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه».

[٢ / ٥٩٥٥] وعن محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «المؤمن لا يمضي عليه أربعون ليلة إلّا عرض له أمر يحزنه ، يذكّر به».

[٢ / ٥٩٥٦] وعن عبيد بن زرارة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّ المؤمن من الله ـ عزوجل ـ لبأفضل مكان ـ ثلاثا ـ (١) إنّه ليبتليه بالبلاء ثمّ ينزع نفسه عضوا عضوا من جسده وهو يحمد الله على ذلك».

__________________

(١) يعني قاله ثلاثة مرّات.

٣٠٩

[٢ / ٥٩٥٧] وعن فضيل بن عثمان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ في الجنّة منزلة لا يبلغها عبد إلّا بالابتلاء في جسده».

[٢ / ٥٩٥٨] وعن أبي يحيى الحنّاط ، عن عبد الله بن أبي يعفور قال : شكوت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام ما ألقى من الأوجاع ـ وكان مسقاما ـ (١) فقال لي : «يا عبد الله لو يعلم المؤمن ما له من الأجر في المصائب لتمنّى أنّه قرض بالمقاريض».

[٢ / ٥٩٥٩] وعن يونس بن رباط قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّ أهل الحقّ لم يزالوا منذ كانوا في شدّة ، أما إنّ ذلك إلى مدّة قليلة وعافية طويلة».

[٢ / ٥٩٦٠] وعن أبي أسامة ، عن حمران ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ الله ـ عزوجل ـ ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهديّة ويحميه الدنيا (٢) كما يحمي الطبيب المريض».

[٢ / ٥٩٦١] وعن محمّد بن بهلول العبدي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لم يؤمن الله المؤمن من هزاهز الدنيا (٣) ولكنّه آمنه من العمى فيها والشقاء في الآخرة».

[٢ / ٥٩٦٢] وعن ذريح المحاربي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان عليّ بن الحسين عليه‌السلام يقول : «إنّي لأكره للرجل أن يعافى في الدنيا فلا يصيبه شيء من المصائب».

[٢ / ٥٩٦٣] وعن أبي داوود المسترقّ ، رفعه قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «دعي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى طعام ، فلمّا دخل منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق حائط قد باضت فتقع البيضة على وتد في حائط فثبتت عليه ولم تسقط ولم تنكسر ، فتعجّب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها ، فقال له الرجل : أعجبت من هذه البيضة ، فو الّذي بعثك بالحقّ ما رزئت (٤) شيئا قطّ. قال : فنهض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يأكل من طعامه شيئا وقال : من لم يرزأ فما لله فيه من حاجة».

[٢ / ٥٩٦٤] وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب».

[٢ / ٥٩٦٥] وعن عثمان النوا ، عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله ـ عزوجل ـ يبتلي

__________________

(١) هذا من كلام أبي يحيى. وضمير كان عائد إلى عبد الله. والمسقام بالكسر : الكثير السقم والمرض.

(٢) من الحمية وهو الاجتناب. أي يجنّبه من الدنيا.

(٣) هزاهز الدنيا ، أي الفتن والبلايا الّتي يهتزّ فيها الناس.

(٤) على البناء للمجهول أي نقصت.

٣١٠

المؤمن بكلّ بليّة ، ويميته بكلّ ميتة ، ولا يبتليه بذهاب عقله».

[٢ / ٥٩٦٦] وعن سليمان بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّه ليكون للعبد منزلة عند الله ، فما ينالها إلّا بإحدى خصلتين ، إمّا بذهاب ماله ، أو ببليّة في جسده».

[٢ / ٥٩٦٧] وعن أبي أسامة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال الله ـ عزوجل ـ : «لو لا أن يجد عبدي المؤمن في قلبه (١) لعصّبت رأس الكافر بعصابة حديد ، لا يصدع رأسه أبدا».

[٢ / ٥٩٦٨] وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل المؤمن كمثل خامة الزرع (٢) تكفئها الرياح كذا وكذا ، وكذلك المؤمن تكفئه الأوجاع والأمراض ، ومثل المنافق كمثل الإرزبّة المستقيمة (٣) الّتي لا يصيبها شيء حتّى يأتيه الموت فيقصفه قصفا» (٤).

[٢ / ٥٩٦٩] وعن عليّ بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم وعن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما لأصحابه : «ملعون كلّ مال لا يزكّي ، ملعون كلّ جسد لا يزكّى ولو في كلّ أربعين يوما مرّة. فقيل : يا رسول الله أمّا زكاة المال فقد عرفناها ، فما زكاة الأجساد؟ فقال لهم : أن تصاب بآفة. قال : فتغيّرت وجوه الّذين سمعوا ذلك منه ، فلمّا رآهم قد تغيّرت ألوانهم قال لهم : أتدرون ما عنيت بقولي؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : بلى ، الرجل يخدش الخدشة وينكب النكبة ويعثر العثرة ويمرض المرضة ويشاك الشوكة (٥) وما أشبه هذا حتّى ذكر في حديثه اختلاج العين» (٦).

[٢ / ٥٩٧٠] وعن ابن بكير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : أيبتلي المؤمن بالجذام والبرص وأشباه هذا؟ فقال : «وهل كتب البلاء إلّا على المؤمن».

__________________

(١) أي يحزّ في نفسه ويحزن.

(٢) خامة الزرع : أوّل ما نبت على ساق. «تكفئها الرياح» بالهمزة ، أي تقلبها.

(٣) الإرزبّة بتقديم المهملة وتشديد الباء الموحدة : عصيّة من حديد.

(٤) القصف : الكسر. قصف الشيء : كسره ـ الشيء انكسر.

(٥) «ينكب النكبة» النكبة أن يقع رجله على حجارة ونحوها أو يسقط على وجهه أو أصابته بليّة خفيفة من بلايا الدهر وأمثال ذلك. و «يشاك الشوكة» يقال : شاكته الشوكة تشوكه وشيكة إذا دخلت في جسده شوكة.

(٦) والاختلاج مرض من الأمراض وقد ذكره الأطبّاء وهو حركة سريعة متواترة ، غير عادية تعرض لجزء من البدن.

٣١١

[٢ / ٥٩٧١] وعن الحلبيّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ المؤمن ، ليكرم على الله حتّى لو سأله الجنّة بما فيها أعطاه ذلك من غير أن ينتقص من ملكه شيئا ، وإنّ الكافر ليهون على الله حتّى لو سأله الدنيا بما فيها أعطاه ذلك من غير أن ينتقص من ملكه شيئا ، وإنّ الله ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الغائب أهله بالطرف وإنّه ليحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض».

[٢ / ٥٩٧٢] وعن ابن محبوب ، عن سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ في كتاب عليّ عليه‌السلام أنّ أشدّ الناس بلاء النبيّون ، ثمّ الوصيّون ، ثمّ الأمثل فالأمثل ؛ وإنّما يبتلي المؤمن على قدر أعماله الحسنة ، فمن صحّ دينه وحسن عمله اشتدّ بلاؤه ، وذلك أنّ الله ـ عزوجل ـ لم يجعل الدنيا ثوابا لمؤمن ولا عقوبة لكافر ، ومن سخف دينه وضعف عمله قلّ بلاؤه ، وإنّ البلاء أسرع إلى المؤمن التقيّ من المطر إلى قرار الأرض».

[٢ / ٥٩٧٣] وعن يونس بن عمّار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ هذا الّذي ظهر بوجهي (١) يزعم الناس أنّ الله لم يبتل به عبدا له فيه حاجة ، قال : فقال لي : «لقد كان مؤمن آل فرعون مكنّع الأصابع (٢) فكان يقول هكذا ـ ويمدّ يديه ـ ويقول : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) ثمّ قال لي : إذا كان الثلث الأخير من الليل في أوّله فتوضّ وقم إلى صلاتك الّتي تصلّيها فإذا كنت في السجدة الأخيرة من الركعتين الأوليين فقل وأنت ساجد : يا عليّ يا عظيم ، يا رحمان يا رحيم ، يا سامع الدعوات ، يا معطي الخيرات ، صلّ على محمّد وآل محمّد وأعطني من خير الدنيا والآخرة ما أنت أهله ، واصرف عنّي من شرّ الدنيا والآخرة ما أنت أهله ، وأذهب عنّي بهذا الوجع ـ وتسمّيه ـ فإنّه قد غاظني وأحزنني. وألحّ في الدعاء. قال : فما وصلت إلى الكوفة حتّى أذهب الله به عنّي كلّه» (٣).

__________________

(١) لعلّها كانت قرحة.

(٢) الكنع : يبس وتشنّج يحصل في الجسم.

(٣) الكافي ٢ : ٢٥٢ ـ ٢٥٩.

٣١٢

قال تعالى :

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥))

قد يبدو أنّ هناك كانت أسئلة وجّهها المسلمون إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعلاما لمواضع من أحكام قد كانوا يجهلونها ، الأمر الّذي يوحي بيقظة في العقيدة الإسلاميّة واستيلائها على نفوس الجماعة ، المسلمون ، وهم في إبّان المرحلة.

كما أنّ هناك كانت أسئلة تثار بسبب حملات الكيديّة الّتي كان يشنّها اليهود والمنافقون ، حول بعض التصرّفات أو التحوّلات في الحركة الإسلاميّة الآخذة في التصاعد والاشتهار.

وهذا يصوّر جانبا من المعركة الّتي كان القرآن يخوضها تارة في نفوس المسلمين ، وأخرى في صفّ المسلمين ، ضد الكائدين والمناوئين.

وهنا وقع السؤال عن الإنفاق ، ماذا ينفقون؟

نعم كان الإنفاق في مثل تلك الظروف الّتي عاناها المسلمون آنذاك ، ضرورة لقيام الجماعة المسلمة في وجه تلك الصعاب والمشاقّ والحرب الّتي كانت تواجهها وتكتنفها ، ثمّ هو ضرورة من ناحية أخرى ، من ناحية التضامن والتكافل بين أفراد الجماعة ، وإزالة الفوارق الشعوريّة ، بحيث لا يحسّ أحد إلّا أنّه عضو في ذلك الجسد ، لا يحتجن دونه شيئا ، ولا يحتجز عنه شيئا ، وهو أمر له قيمته الكبرى في قيام الجماعة شعوريّا ، إذا كان سدّ الحاجة له قيمته في قيامها عمليّا.

وهنا يسأل بعض المسلمين ـ ولعلّهم من أثريائهم ـ : (ما ذا يُنْفِقُونَ) ، وهو سؤال عن نوع ما ينفقون ، فجاءهم الجواب : يبيّن صفة الإنفاق وأنّه لا بدّ أن يكون من صفو المال ، وليعود خيره إلى المنفق والمنفق عليه ، وبالتالي يعود خيره إلى الأمّة في حياتها الجماعيّة الآخذة في التعاضد والتضامن.

كما ويحدّد مواضع مصرفه الأولى فالأولى.

٣١٣

وهم : الوالدان والأقربون ، ثمّ اليتامى والمساكين وأبناء السبيل.

وهذا يربط بين طوائف من الناس ، بعضهم تربطه بالمنفق رابطة الرحم ، وبعضهم رابطة العصب ، وبعضهم رابطة الرحمة ، وبعضهم رابطة الإنسانيّة الكبرى.

ولكن هذا الترتيب في الآية وفي آيات أخرى ، والّذي تزيده بعض الأحاديث تحديدا ووضوحا.

[٢ / ٥٩٧٤] كالّذي رواه مسلم في الصحيح عن جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لرجل : «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا. يقول : فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك» (١).

هذا الترتيب يشيء بمنهج الإسلام الحكيم البسيط في تربية النفس الإنسانيّة وقيادتها. إنّه يأخذ الإنسان كما هو ، بفطرته وميوله الطبيعيّة واستعداداته ، ثمّ يسير به من حيث هو كائن ، ومن حيث هو واقف ، يسير به خطوة خطوة ، صعدا في المرتقى العالي : على هيّنة وفي يسر ، فيصعد وهو مستريح ، وهو يلبّي فطرته وميوله واستعداداته ، وهو ينمي الحياة معه ويرقيها ، لا يحسّ بالجهد والرهق ، ولا يكبل بالسلاسل والأغلال ليجرّ في المرتقى ، ولا تكبت طاقاته وميوله الفطريّة ليحلّق ويرفّ ، ولا يعتسف به الطريق اعتسافا ، ولا يطير به طيرانا من فوق الآكام ، إنّما يصعدها به صعودا هيّنا ليّنا ، وقدماه على الأرض وبصره معلّق بالسماء ، وقلبه يتطلّع إلى الأفق الأعلى ، وروحه موصولة بالله في علاه.

قال سيّد قطب : ولقد علم الله أنّ الإنسان يحبّ ذاته ، فأمره أوّلا بكفايتها (٢) ، قبل أن يأمره بالإنفاق على من سواها ، وأباح له الطيّبات من الرزق وحثّه على تمتيع ذاته في غير ترف ولا مخيلة. فالصدقة لا تبدأ إلّا بعد الكفاية.

[٢ / ٥٩٧٥] والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «خير الصدقة ، ما كان عن غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول» (٣).

__________________

(١) مسلم ٣ : ٧٩. باب البدأة بالنفس في الإنفاق ثمّ الأهل ثمّ القرابة.

(٢) حسبما ورد في الحديث النبويّ الآنف.

(٣) مسلم ٣ : ٩٤.

٣١٤

[٢ / ٥٩٧٦] وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : جاء رجل بمثل بيضة من ذهب ، فقال : يا رسول لله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصبت هذا من معدن ، فخذها فهي صدقة ، ما أملك غيرها. فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ أتاه وأصرّ عليه ، ورسول الله يعرض عنه. ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يأتي أحدكم بما يملك فيقول : هذه صدقة ، ثمّ يقعد يتكفّف الناس! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» (١).

وبعد ، فإنّ هذا الإنفاق بهذا الشكل الرتيب ، فضلا عن أنّه يجعل من الجماعة المسلمة أمّة متكافلة متضامنة. فإنّه يربط المنفق بالأفق الأعلى ، فيستجيش في قلبه صلة بالله فيما أنفق وفيما فعل وفيما أضمر من نيّة وشعور : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ). فهو إذن لا يضيع وسوف يعود بالخير على صاحبه وذويه وعلى الجماعة في سحب عريض.

[٢ / ٥٩٧٧] وقد صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «كلّ معروف صدقة» (٢).

[٢ / ٥٩٧٨] وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال : سأل المؤمنون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أين يضعون أموالهم؟ فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ ...) الآية. فذلك النفقة في التطوّع ، والزكاة سوى ذلك كلّه (٣).

[٢ / ٥٩٧٩] وعن الكلبي عن ابن عبّاس قال : نزلت هذه الآية في عمرو بن الجموح الأنصاري وكان شيخا كبيرا ، وعنده مال عظيم ، فقال : ماذا ننفق من أموالنا ، وأين نضعها؟ فنزلت هذه الآية (٤).

***

ولشيخنا الجليل أبي جعفر محمّد بن يعقوب الكليني ـ قدس‌سره ـ استعراض عريض لأحاديث جاءت في فضل الصدقة وآثارها وبركاتها في الحياة ، أوردها في كتابه «الكافي»

__________________

(١) أبو داوود ١ : ٣٧٧ / ١٦٧٣.

(٢) مسلم ٣ : ٨٢.

(٣) الدرّ ١ : ٥٨٥ ؛ الطبري ٢ : ٤٦٧ / ٣٢٣٨ ، وزاد : قال : وقال مجاهد : سألوا فأفتاهم في ذلك : ما أنفقتم من خير فللو الدين والأقربين ، وما ذكر معهما ؛ القرطبي ٣ : ٣٧ ، بلفظ : قال ابن جريج وغيره : هي ندب ، والزكاة غير هذا الإنفاق ، فعلى هذا لا نسخ فيها وهي مبيّنة لمصارف صدقة التطوّع ، فواجب على الرجل الغنيّ أن ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحهما في قدر حالهما من حاله من طعام وكسوة وغير ذلك. وقد روي عن السّدّي قوله بالنسخ هنا ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٨١ / ٢٠٠٧ ؛ ابن كثير ١ : ٢٥٩.

(٤) الثعلبي ٢ : ١٣٦ ؛ مجمع البيان ٢ : ٧٠ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٨٧.

٣١٥

الشريف ، ونحن نذكر هنا منها نماذج وسيأتي تفصيلها ذيل الآية ٢٧٤ ، إن شاء الله تعالى :

[٢ / ٥٩٨٠] روى في فضل الصدقة ، بالإسناد إلى الحسين بن يزيد النوفليّ عن السكونيّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصدقة تدفع ميتة السوء».

[٢ / ٥٩٨١] وعن إسحاق بن غالب ، عمّن حدّثه ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «البرّ والصدقة ينفيان الفقر ويزيدان في العمر ويدفعان سبعين ميتة السوء».

[٢ / ٥٩٨٢] وعن إسماعيل الجوهريّ عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لأن أحجّ حجّة أحبّ إليّ من أن أعتق رقبة ورقبة حتّى انتهى إلى عشرة ، ومثلها ومثلها حتّى انتهى إلى سبعين ، ولأن أعول أهل بيت من المسلمين أشبع جوعتهم وأكسو عورتهم وأكفّ وجوههم عن الناس أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة وحجّة حتّى انتهى إلى عشر وعشر وعشر ومثلها ومثلها حتّى انتهى إلى سبعين».

[٢ / ٥٩٨٣] وعن سهل بن زياد ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من صدّق بالخلف جاد بالعطيّة» (١).

[٢ / ٥٩٨٤] وعن عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام «داووا مرضاكم بالصدقة ، وادفعوا البلاء بالصدقة ، واستنزلوا الرزق بالصدقة ، فإنّها تفكّ من بين لحي سبعمائة شيطان ، وليس شيء أثقل على الشيطان من الصدقة على المؤمن ، وهي تقع في يد الربّ ـ تبارك وتعالى ـ قبل أن تقع في يد العبد».

[٢ / ٥٩٨٥] وعن عبد الرحمان بن زيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أرض القيامة نار ، ما خلا ظلّ المؤمن ، فإنّ صدقته تظلّه».

[٢ / ٥٩٨٦] وعن عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «الصدقة باليد تقي ميتة السوء ، وتدفع سبعين نوعا من أنواع البلاء ، وتفكّ عن لحي سبعين شيطانا ، كلّهم يأمره أن لا يفعل».

[٢ / ٥٩٨٧] وعن معاوية بن عمّار قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كان في وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير

__________________

(١) أي من صدّق بأنّ ما ينفقه في سبيل الله فهو يستخلف له ويدّخر له يوم القيامة ، سخت نفسه بالعطيّة.

٣١٦

المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه : «وأمّا الصدقة فجهدك جهدك حتّى يقال : قد أسرفت ولم تسرف».

[٢ / ٥٩٨٨] وعن ابن أبي عمير ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «يستحبّ للمريض أن يعطي السائل بيده ويأمر السائل أن يدعو له».

[٢ / ٥٩٨٩] وعن محمّد بن عمر بن يزيد قال : أخبرت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام أنّي أصبت بابنين وبقي لي بنيّ صغير! فقال : تصدّق عنه ، ثمّ قال حين حضر قيامي : «مر الصبيّ فليتصدّق بيده بالكسرة والقبضة والشيء وإن قلّ ، فإنّ كلّ شيء يراد به الله وإن قلّ ، بعد أن تصدق النيّة ، فيه عظيم. إنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(١) وقال : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ)(٢) علم الله ـ عزوجل ـ أنّ كلّ أحد لا يقدر على فكّ رقبة ، فجعل إطعام اليتيم والمسكين مثل ذلك ، تصدّق عنه».

[٢ / ٥٩٩٠] وعن أبي جميلة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تصدّقوا ولو بصاع من تمر ، ولو ببعض صاع ، ولو بقبضة ، ولو ببعض قبضة ، ولو بتمرة ولو بشقّ تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة ليّنة ، فإنّ أحدكم لاق الله فقائل له : ألم أفعل بك؟ ألم أجعلك سميعا بصيرا؟ ألم أجعل لك مالا وولدا؟ فيقول : بلى ، فيقول الله ـ تبارك وتعالى ـ : فانظر ما قدّمت لنفسك! قال : فينظر قدّامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يجد شيئا يقي به وجهه من النار!».

__________________

(١) الزلزلة ٩٩ : ٧ ، ٨.

(٢) البلد ٩٠ : ١١ إلى ١٦.

٣١٧

قال تعالى :

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦))

وبعد أن كان عمل الخير كلّه محبّبا لديه تعالى ، ولا سيّما إذا كان عن نيّة صادقة وخالصة لوجهه الكريم ، جاء دور الكلام عن القتال في سبيله تعالى ، وأنّه من أحسن القرب ، وأن لا فضيلة فوق فضيلة الجهاد والتضحية في سبيل إعلاء كلمة الإسلام. نعم إنّه إيثار بالنفس ، ويفوق الإيثار بالمال والإنفاق الّذي مرّ الكلام عنه.

قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) إنّ القتال في سبيله تعالى فريضة شاقّة. ولكنّها فريضة فيها خير كثير يعود بعائدته على الفرد والجماعة بل على البشريّة جمعاء. حيث الإسلام دين السّلام العامّ.

(وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) في ظاهره (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في واقعه (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً) حسب شكليّته (وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) في حقيقته (وَاللهُ يَعْلَمُ) خيركم وصلاحكم في الصميم (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

وهذا الإيحاء الّذي يحمله النصّ القرآني ، لا يقف عند حدّ القتال والتضحية بالنفس ، فالقتال ليس إلّا مثلا لما تكرهه النفوس ، في بادىء نظرها ، وهو في واقعه ومن ورائه الخير كلّه. إنّ هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلّها ، ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها. إنّ الإنسان لا يدري أين يكون الخير في واقعه الأصيل ، وأين يكون الشرّ في مكمنه الهزيل.

لقد كان المؤمنون الّذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها ، ويرجون أن تكون الفئة الّتي وعد الله إيّاها هي فئة العير والتجارة (١) لا فئة الحامية المقاتلة من قريش. ولكنّ الله جعل القافلة تفلت ، ولقّاهم المقاتلة من قريش! وكان النصر الّذي دوّى في الجزيرة ورفع راية الإسلام.

__________________

(١) (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (الأنفال ٨ : ٧ ـ ٨).

٣١٨

فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الّذي أراده الله للمسلمين؟! وأين يكون اختيار الناس لأنفسهم من اختيار الله لهم؟! (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

وكلّ إنسان ـ في تجاربه الخاصّة ـ يستطيع حين يتأمّل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم ، ولذّات كثيرة كان من ورائها الشرّ العظيم. وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته ، ثمّ تبيّن له بعد فترة أنّه كان إنقاذا من الله أن فوّت عليه هذا المطلوب في حينه. وكم من محنة تجرّعها الإنسان لاهثا يكاد يتقطّع لفظاعتها ، ثمّ ينظر بعد فترة فإذا هي تنشئ له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل.

إنّ الإنسان لا يعلم ، والله وحده يعلم ، فماذا على الإنسان لو يستسلم؟! إنّ هذا هو المنهج التربويّ الّذي يأخذ القرآن به النفس البشريّة ، لتؤمن وتسلّم وتستسلم في أمر الغيب المخبوء ، بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)(١).

فلا بذخ عند الرفاه ، ولا يأس عند الشدائد. بعد أن كان الأمر بيد الله. والله يفعل ما يشاء وهو الحكيم الخبير.

[٢ / ٥٩٩١] أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال : إنّ الله أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين بمكّة بالتوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن يكفّوا أيديهم عن القتال ، فلمّا هاجر إلى المدينة نزلت سائر الفرائض وأذن لهم في القتال ، فنزلت : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) يعني فرض عليكم ، وأذن لهم بعد ما كان نهاهم عنه (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) يعني القتال وهو مشقّة لكم (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) يعني الجهاد قتال المشركين (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ويجعل الله عاقبته فتحا وغنيمة وشهادة (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً) يعني القعود عن الجهاد (وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) فيجعل الله عاقبته شرّا فلا تصيبوا ظفرا ولا غنيمة! (٢)

[٢ / ٥٩٩٢] وأخرج الثعلبي عن الحسن قال في معنى الآية : لا تكرهوا الملمّات الواقعة ، فلربّ أمر تكرهه ، فيه نجاتك ، ولربّ أمر تحبّه ، فيه عطبك.

__________________

(١) الحديد ٥٧ : ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) الدرّ ١ : ٥٨٦ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ / ٢٠١٢ و ٢٠١٦ و ٢٠١٨ و ٢٠٢٠.

٣١٩

وأنشد أبو سعيد الضرير :

بّ أمر تتّقيه

جرّ أمرا ترتضيه

خفي المحبوب منه

وبدا المكروه فيه

وأنشد محمّد بن عرفة لعبد الله بن المعتزّ :

لا تكره المكروه عند نزوله

إنّ الحوادث لم تزل متباينة

كم نعمة لا تستقلّ بشكرها

لله في درج الحوادث كامنة

قال الثعلبي : أنشدني الحسن بن محمّد ، قال : أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمّد بن رميح ، قال : أنشدني محمّد بن فرحان :

كم فرحة مطويّة لك بين أثناء النوائب

ومضرّة قد أقبلت من حيث تنتظر المصائب

وقال أبو عبد الله الواضحي :

ربما خيّر الفتى وهو للخير كاره

ثمّ يأتي السرور من حيث تأتي المكاره (١).

[٢ / ٥٩٩٣] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال : كنت رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «يا ابن عبّاس ، ارض عن الله بما قدّر ، وإن كان خلاف هواك ، فإنّه مثبت في كتاب الله. قلت : يا رسول الله فأين وقد قرأت القرآن؟ قال : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)» (٢).

فضيلة الجهاد

[٢ / ٥٩٩٤] أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والبيهقي في الشعب عن أبي ذرّ أنّ رجلا قال : يا رسول الله أيّ الأعمال أفضل؟ قال : «إيمان بالله ، وجهاد في سبيل الله ، قال : فأيّ العتاقة أفضل؟ قال : أنفسها. قال : أفرأيت إن لم أجد؟ قال : فتعين الصانع وتصنع لا خرق. قال : أفرأيت إن لم أستطع؟ قال : تدع الناس من شرك ، فإنّها صدقة تصدّق بها على نفسك» (٣).

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ١٣٨ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٩٢ ؛ القرطبي ٣ : ٣٩.

(٢) الدرّ ١ : ٥٨٧ ؛ الطبري ٢ : ٤٧٠ / ٣٢٤٨ ؛ الثعلبي ٢ : ١٣٨ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٩٢.

(٣) الدرّ ١ : ٥٨٧ ـ ٥٨٨ ؛ مسند أحمد ٥ : ١٦٣ ؛ البخاري ٣ : ١١٧ ، وفيه : «... وجهاد في سبيله ، قلت : فأيّ الرقاب أفضل؟

٣٢٠