التفسير الأثري الجامع - ج ٥

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-06-7
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

فإلى متى يتخلّف المتخلّفون عن الدخول في السلم ، وهذا الفزع الأكبر ينتظرهم؟ بل هذا الفزع الأكبر يدهمهم! والسلم قريبة منهم ؛ السلم في الدنيا والسلم في الآخرة : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً)(١). (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً)(٢). يوم يقضى الأمر. وقد قضي الأمر! (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٣).

وقفة حاسمة

هنا ، في هذه الآية الكريمة لفتة نظر : كيف يأتي الله في ظلل من الغمام؟

تعبيران ، أحدهما أكثر إبهاما من الآخر.

أوّلا : ما هو المقصود من إتيانه تعالى ، لو أريد به الحركة والانتقال من مكان إلى مكان؟!

وثانيا ـ وهو الأصعب فهما ـ : كيف يظلّه الغمام ، ولازمه التحيّز وأن تحيط به أظلّة غمام ، بعد أن كان تعالى هو محيطا بكلّ شيء؟!

قال ابن عاشور : وقوله تعالى : (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) أشدّ إشكالا من إسناد الإتيان إلى الله تعالى ، لاقتضائه الظرفيّة ، وهي مستحيلة عليه تعالى؟! (٤)

***

غير أنّ الآية لمّا كانت في سياق التهديد والوعيد ، كان مساقها مساق قوله تعالى : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)(٥). وقوله : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ)(٦). فإتيان الله إتيان أمره وبأسه ، كقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)(٧). وقوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)(٨) فإتيان الشيء كناية عن سهولة عمله بلا كلفة ولا حجاز مانع. فقوله تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ

__________________

(١) الفرقان ٢٥ : ٢٥.

(٢) النبأ ٧٨ : ٣٨.

(٣) في ظلال القرآن ١ : ٣٠٧.

(٤) التحرير والتنوير ٢ : ٢٦٩.

(٥) الحشر ٥٩ : ٢.

(٦) النحل ١٦ : ٢٦.

(٧) النحل ١٦ : ٣٣.

(٨) الأعراف ٧ : ٩٧ ـ ٩٨.

٢٨١

بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)(١). يعني : سرعان ما هدم بنيانهم ودمّره من قواعده ، فخرّ عليهم السقف بعد هدم الأساس.

ومن ثمّ جاء التكرير بلفظ (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) ، تبيينا لإتيان البنيان من القواعد والسقف.

قال الطبرسي : وقيل : هذا مثل ضربه الله سبحانه لاستئصالهم ، ولا قاعدة ولا سقف هناك والمعنى : فأتى الله مكرهم من أصله ؛ أي عاد ضرر المكر عليهم وبهم. نظير قول العرب : أتي فلان من مأمنه ، أي أتاه الهلاك من جهة مأمنه. قال : وإنّما أسند سبحانه الإتيان إلى نفسه ، من حيث كان تخريب قواعدهم من جهته تعالى (٢).

وفي قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يهود بني النضير (مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ)(٣).

فقوله : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي داهمم أمره تعالى وفاجأهم العذاب ، عذاب مفارقة الديار وتحمّل مشاقّ الجلاء عن الأوطان. فقد كان ذلك قد سجّل عليهم لا مناص لهم منه. ومن ثمّ قذف في قلوبهم الرعب فكانوا يعبثون من غير دراية. قال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أي هوانه وذلّه (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بعذاب الاستئصال ، كما فعل ببني قريظة (٤).

قال الراغب : الإتيان ، مجيء بسهولة. ويقال للمجيء بالذات وبالأمر وبالتدبير. ويقال في الخير وفي الشرّ ، وفي الأعيان والأعراض. وقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ)(٥). وقوله : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ)(٦) أي بالأمر والتدبير ، نحو (وَجاءَ رَبُّكَ)(٧).

قال : وعلى هذا النحو قول الشاعر : «أتيت المروءة من بابها». (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها)(٨)(٩).

__________________

(١) النحل ١٦ : ٢٦.

(٢) مجمع البيان ٦ : ١٥٠.

(٣) الحشر ٥٩ : ٢.

(٤) مجمع البيان ٩ : ٤٢٨.

(٥) النحل ١٦ : ١.

(٦) النحل ١٦ : ٢٦.

(٧) الفجر ٨٩ : ٢٢.

(٨) النمل ٢٧ : ٣٧.

(٩) المفردات : ٨ ـ ٩.

٢٨٢

قال الشيخ محمّد عبده : و (يَنْظُرُونَ) في الآية بمعنى ينتظرون ، وهي كثيرة الاستعمال بهذا المعنى في القرآن ، ولا سيّما في أمور الآخرة ، كقوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً)(١) وقوله : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ)(٢).

وإتيان الله تعالى ، فسّره الجلال وآخرون بإتيان أمره أي عذابه ، كقوله تعالى ـ في آية أخرى ـ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)(٣). أي فهو بمعنى ما جاء من التخويف بعذاب الآخرة في الآيات الكثيرة الموافقة لهذه الآيات في أسلوبها.

قال السيّد رشيد رضا : وأقرّ الأستاذ الإمام الجلال على ذلك ، وبيّن في الدرس أنّ هذا الاستعمال من أساليب العرب المعروفة ، من حذف المضاف وإسناد الفعل إلى المضاف إليه مجازا ، وأوضحه أتمّ الإيضاح. فهو على حدّ (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٤).

قال السيّد : ومن المفسّرين من قال : إنّ الإسناد حقيقيّ ، وإنّما حذف المفعول للعلم به من الوعيد السابق ، أي هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من الساعة والعذاب؟

قال : وعدّه آخرون من المتشابهات ، وأنّه تعالى يأتي بذاته ، لكن بلا كيف؟!

قال : وهذا لا يصحّ ، إذ لا يجعل كلّ ما أسند إليه تعالى من المتشابه الّذي لا يفهم بحال ، ولا يفسّر ولو بإجمال. هذا مع العلم بأنّه تعالى إنّما ينذر الّذين زلّوا عن صراطه وفرّقوا دينه ، بأمر معروف لهم في الجملة ، لا بشيء مجهول مطلق!

وممّا يدلّنا على أنّ المراد بالآية ما ذكرنا قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً)(٥) ، مع الآيات الكثيرة الناطقة بأنّ قيام الساعة وخراب العالم يكون (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)(٦) وانتثرت كواكبها ... وإنّما يأتي بذلك الله تعالى بتغيير هذا النظام الّذي وضعه لارتباط الكواكب وحفظ كلّ كوكب في فلكه.

قال : وأما «ظلل الغمام» فهي قطع السحاب وهي جمع ظلّة ـ كغرف وغرفة ـ وهي ما أظلّك. والغمام جمع غمامة ـ كسحاب وسحابة وزنا ومعنى ـ سمّي بذلك لأنّه يغمّ السماء أي يسترها.

__________________

(١) محمّد ٤٧ : ١٨.

(٢) يس ٣٦ : ٤٩.

(٣) النحل ١٦ : ٣٣.

(٤) يوسف ١٢ : ٨٢.

(٥) الفرقان ٢٥ : ٢٥.

(٦) انشقاق ٨٤ : ١.

٢٨٣

وذكر بعض المفسّرين : أنّ إتيان أمر الله أو عذابه في الغمام ، عبارة عن مجيئه من حيث ترجى الرحمة بالمطر ، وذلك أبلغ في تمثيل هول العذاب وفظاعته ، لأنّ الخوف إذا جاء من موضع الأمن كان خطبه أعظم ، والعذاب إذا فاجأ من حيث ترجى الرحمة كان وقعه آلم. كما وقع لعاد قوم هود : (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ)(١). وهذا مبنيّ على أنّ الغمام مظنّة المطر. وهو السحاب المسفّ (٢) ، لثقله بالمطر.

قال الأستاذ عبده : الحكمة في نزول العذاب في الغمام ، إنزاله فجأة من غير تمهيد ينذر به ، ولا توطئة توطّن النفوس على احتماله ، وذلك أبلغ في هوله ، وهو ذلك الغمام الّذي يحدث عن تخريب العالم فجأة ، فيأتيهم العذاب ، قبل أن يتبدّد الغمام الناشئ عن الخراب. وهذا يتّفق مع القول الأوّل ، وأقرب إلى معنى قوله تعالى في الساعة : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً)(٣).

قال السيّد : ويجب أن تكون هذه الآيات عبرة للمؤمن ، ترغّبه في المبادرة إلى التوبة ، لئلّا يفاجئه وعد الله تعالى وهو غافل ، فإن لم يفاجئه قيام الساعة ، فاجئه قيام قيامته بالموت بغتة.

قال : وإذا جرينا على هذه الطريقة ـ الّتي أرشدتنا إليها الآية الكريمة ـ فحملنا بعض الآيات على بعض ، واستخرجنا المعنى من مجموعها ، كان لنا أن نقول : إذا وقعت الواقعة ، وقرعت القارعة ، وكوّرت الشمس ، وتناثرت الكواكب ، وانشقّت السماء شقّا ، ورجّت الأرض رجّا ، وبسّت الجبال بسّا ، فكانت ـ أوّلا ـ كالعهن المنفوش ، ثمّ صارت هباء منبثّا ... فإنّ مادّة هذا الكون تعود كما كانت قبل التكوين ، أي مادّة سديميّة ، وهي ما عبّر عنه في بدء التكوين بالدخان ، وفي الحكاية عن الخراب بالغمام.

وإنّ كثيرا من علماء الهيأة ليتوقّعون خراب هذا العالم بقارعة تحدث من اصطدام بعض الكواكب ببعض ، بحيث يبطل الجذب العام ، الّذي قام به هذا النظام ، وهو ما ورد من تشقّق السماء بالغمام (٤).

***

وعن السلف هنا روايات قد تتضارب مع بعضها البعض ، ولا ترجع إلى محصّل معروف ، نذكر

__________________

(١) الأحقاف ٤٦ : ٢٤.

(٢) أسفّ السحاب : دنا من الأرض لثقله بحمل المطر.

(٣) الأعراف ٧ : ١٨٧.

(٤) المنار ٢ : ٢٦٢ ـ ٢٦٤.

٢٨٤

منها نماذج ونحيل الطالب إلى مظانّه من كتب التفسير بالمأثور.

قال أبو إسحاق الثعلبي : اختلفوا في تأويل الآية ، ففسّر الإتيان قوم على الإتيان الّذي هو الانتقال من مكان إلى مكان ، وأدخلوا بلا كيف. واستندوا إلى ظواهر أخبار وردت لم يعرفوا وجه تأويلها ، وهذا غير مرضيّ من القول ، لأنّه إثبات المكان لله ـ سبحانه ـ وإذا كان متمكّنا وجب أن يكون محدودا متناهيا ، ومحتاجا وفقيرا ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

[٢ / ٥٨٨٧] وقال بعض المحقّقين الموفّقين ، أظنّه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : «من زعم أنّ الله تعالى من شيء أو في شيء أو على شيء فقد ألحد ، لأنّه لو كان من شيء لكان محدثا ، ولو كان في شيء لكان محصورا ، ولو كان على شيء لكان محمولا» (١).

قال الثعلبي : وسكت قوم عن الخوض في معنى الإتيان ، فقالوا : نؤمن بظاهره ونقف عن تفسيره ؛ لأنّا قد نهينا أن نقول في كتاب الله تعالى ما لا نعلم ، ولم ينبّهنا الله تعالى ولا رسوله على حقيقة معناه :

[٢ / ٥٨٨٨] وقال الكلبي : هذا من العلم المكتوم الّذي لا يفسّر!

[٢ / ٥٨٨٩] وكان مكحول والزّهري ومالك والأوزاعي وابن المبارك وسفيان الثوري والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وجماعة من المشايخ يقولون فيه وفي أمثاله : «أمرّوها كما جاءت بلا كيف».

[٢ / ٥٨٩٠] وقال سفيان بن عيينة : كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره : قراءته والسكوت عنه ، ليس لأحد أن يفسّره إلّا الله تعالى ورسوله.

وزعم قوم أنّ في الآية إضمارا ، أو اختصارا ، تقديرها : إلّا أن يأتيهم أمر الله ، وهو الحساب والعذاب. دلّ عليه قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي وجب العذاب وفرغ من الحساب.

وقالت طائفة من أهل الحقائق : إنّ الله يحدث فعلا يسمّيه «إتيانا». وكما سمّاه «نزولا» ، وأفعاله بلا آلة ولا علّة.

قال الثعلبي : ويحتمل أن يكون معنى الإتيان ها هنا راجعا إلى الجزاء ، فسمّي الجزاء إتيانا ،

__________________

(١) وبهذا المعنى استفاضت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام رواها ابن بابويه الصدوق في كتاب التوحيد ، باب نفي المكان : ١٧٨ ـ ١٧٩.

٢٨٥

كما سمّي التخويف والتعذيب في قصّة نمرود إتيانا ، فقال ـ عزّ من قائل ـ : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)(١). وقال في قصّة بني النضير : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)(٢). (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ)(٣).

قال : وإنّما احتمل الإتيان هذه المعاني ، لأنّ أصل الإتيان عند أهل اللسان هو القصد إلى المشي. فمعنى الآية : هل ينظرون إلّا أن يظهر الله خلاف ما يتوقّعونه ، فيعمد إلى مجازاتهم ويقضي بشأنهم ما هو قاض ، ويجازيهم على أعمالهم ، ويمضي فيهم ما أراد.

قال : يدلّ عليه ما رواه محمّد بن كعب القرظي عن أبي هريرة :

[٢ / ٥٨٩١] قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة ، يأتي الله ـ عزوجل ـ في ظلال من الغمام ، والملائكة ، فيتكلّم بكلام طلق ذلق ، فيقول : انصتوا ، فطالما أنصتّ لكم منذ خلقتكم ، أرى أعمالكم ، وأسمع أقوالكم ، فإنّما هي صحفكم وأعمالكم نقرأ عليكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومنّ إلّا نفسه! فيقضي الله ـ عزوجل ـ بين خلقه ، الجنّ والإنس والبهائم. فإنّه ليقتصّ يومئذ للجمّاء من القرناء» (٤).

[٢ / ٥٨٩٢] وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يجمع الله الأوّلين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما أربعين سنة ، شاخصة أبصارهم إلى السماء ، ينظرون فصل القضاء ، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسيّ» (٥).

[٢ / ٥٨٩٣] وأخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عبّاس في هذه الآية قال : يأتي الله يوم القيامة في ظلل من السحاب قد قطّعت طاقات (٦).

__________________

(١) النحل ١٦ : ٢٦.

(٢) الحشر ٥٩ : ٢.

(٣) الأنبياء ٢١ : ٤٧.

(٤) الثعلبي ٢ : ١٢٩ ـ ١٣٠. بتصحيح وتحقيق على تفسير البغوي ١ : ٢٦٩. والخازن ١ : ١٤٠. وصحّحنا الحديث الأخير على الطبري (٢ : ٤٤٩ ـ ٤٥٠ / ٣٢١١) في حديث طويل.

(٥) الدرّ ١ : ٥٨٠ ؛ الكبير ٩ : ٣٥٧ ـ ٣٥٨ / ٩٧٦٣ ؛ ابن كثير ١ : ٢٥٦.

(٦) الدرّ ١ : ٥٨٠ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٢ / ١٩٦٠ ؛ الثعلبي ٢ : ١٢٨.

٢٨٦

[٢ / ٥٨٩٤] وقال مقاتل : (هَلْ يَنْظُرُونَ) يعني ما ينظرون : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) يعني كهيئة الضبابة أبيض (وَالْمَلائِكَةُ) في غير ظلل في سبعين حجابا من نور عرشه ، والملائكة يسبّحون. فذلك قوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً)(١) يعني وليس بسحاب. ثمّ قال ـ سبحانه ـ : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) يعني وقع العذاب (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) يقول : يصير أمر الخلائق إليه في الآخرة (٢).

[٢ / ٥٨٩٥] وأخرج ابن جرير والديلمي عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال (٣) : «إنّ من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفا بالملائكة ، وذلك قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ)» (٤).

[٢ / ٥٨٩٦] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبيه عن محمّد بن الوزير الدمشقي عن الوليد قال : سألت زهير بن محمّد عن قول الله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ)؟ قال : ظلل من الغمام منظوم بالياقوت ، مكلّل بالجواهر والزبرجد (٥).

[٢ / ٥٨٩٧] وقال الحسن : في سترة من الغمام فلا ينظر إليه أهل الأرض! (٦).

[٢ / ٥٨٩٨] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عبد الله بن عمرو في هذه الآية قال : يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب ، منها النور والظلمة والماء ، فيصوّت الماء في تلك الظلمة صوتا تنخلع له القلوب (٧).

[٢ / ٥٨٩٩] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) قال : طاقات (وَالْمَلائِكَةُ) قال : الملائكة حوله! (٨)

[٢ / ٥٩٠٠] وعن الربيع قال : ذلك يوم القيامة ، تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام والملائكة

__________________

(١) الفرقان ٢٥ : ٢٥.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٨٠ ؛ الثعلبي ٢ : ١٢٨ ؛ البغوي ١ : ٢٦٩.

(٣) وحاشاه من مثل هذا الكلام. وقد ضعّفه ابن عديّ في الكامل ١ : ٢٥٢.

(٤) الدرّ ١ : ٥٨٠ ؛ الطبري ٢ : ٤٤٨ / ٣٢١٠ ؛ الثعلبي ٢ : ١٢٨.

(٥) ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٣ / ١٩٦٢ ؛ ابن كثير ١ : ٢٥٦.

(٦) الثعلبي ٢ : ١٢٨ ؛ البغوي ١ : ٢٦٩.

(٧) الدرّ ١ : ٥٨٠ ؛ الطبري ١١ : ٩ / ١٩٩٨٢ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٢ / ١٩٥٨ ؛ العظمة ٢ : ٦٩٣ / ٢٣ ؛ ابن كثير ١ : ٢٥٦.

(٨) الدرّ ١ : ٥٨٠ ؛ الطبري ٢ : ٤٤٧ / ٣٢٠٨ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٣ / ١٩٦٤.

٢٨٧

يجيئون في ظلل من الغمام ، والربّ تعالى يجيء فيما شاء (١).

[٢ / ٥٩٠١] وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي العالية قال : في قراءة أبيّ بن كعب : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ)؟ قال : تأتي الملائكة في ظلل من الغمام ويأتي الله ـ عزوجل ـ فيما يشاء. وهو كقوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً)(٢)(٣).

[٢ / ٥٩٠٢] وروى ابن بابويه الصدوق بالإسناد إلى الحسن بن عليّ بن فضال في حديث طويل قال سألت الرضا عليه‌السلام عن قول الله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) قال : «(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) بالملائكة (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) وهكذا نزلت» (٤) ، أي بهذا المعنى نزلت. وهذا يقرب من قراءة ابن مسعود.

قوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) وهنا يلتفت السياق لفتة أخرى ، فيأتي دور السؤال والاستشهاد ، فيخاطب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن كان مواجها بهذا الكلام ، ليكلّفه أن يسأل من عندهم من أهل الكتاب ، ليتأكّدوا من جدّ الأمر ، وأن لا محيد عنه أبدا. فليسألوهم ماذا كانت عاقبة أمرهم لدى تلكّآتهم في الاستجابة لله وللرسول ، حينما دعاهم إلى الرضوخ للحقّ والأخذ بالسلام؟!

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) ـ وهم أهل كتاب وفي جوارهم ـ (كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ)؟ أريناهم الحجج والدلائل الواضحة اللائحة بصراحة الحقّ. فكانت مغبّة تردّدهم ونكوصهم عن الاستسلام ، أن

__________________

(١) الطبري ٢ : ٤٤٨ / ٣٢٠٩ ؛ القرطبي ٣ : ٢٥ ، عن أبي العالية والربيع.

(٢) الفرقان ٢٥ : ٢٥.

(٣) الدرّ ١ : ٥٨٠ ؛ الطبري ٢ : ٤٤٥ ـ ٤٤٦ / ٣٢٠٤ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٢٧٣ / ١٩٦٣ ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٦١٠ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٦٧ ، عن أبيّ بن كعب وابن مسعود.

(٤) نور الثقلين ١ : ٢٠٧ ؛ عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١١٥ / ١٩ ، باب ١١ ؛ التوحيد : ١٦٣ / ١ ، باب ٢٠ ؛ معاني الأخبار : ١٣ / ٣ ؛ البحار ٣ : ٣١٩ / ١٥ ، باب ١٤ ، وله ـ قدس‌سره ـ هنا بيان مسهب حول الحديث ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣١٢ ـ ٣١٣ ؛ البرهان ١ : ٤٥٨ / ١.

٢٨٨

أخذتهم بارقة العذاب وأهلكتهم ، فليأخذوا منهم العبرة والعظة ، إن كانوا يشعرون. نعم (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) المتاحة لديهم ـ وهي نعمة السلم ونعمة الإيمان ـ (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) وافته (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). حيث لا مناص حينذاك من العقاب.

وما بدّلت البشريّة نعمة إلّا أصابها ذلّ الهوان ، في حياتها على الأرض قبل هوان الآخرة الدائم.

قال سيّد قطب : والتهديد بشدّة عقاب الله يجد مصداقه أوّلا في حال بني إسرائيل ، ويجد مصداقه أخيرا في المبدّلين للنعمة المتبطّرين عليها في كلّ زمان.

وها هي ذي ، البشريّة المنكودة الطالع في أنحاء الأرض كلّها تعاني العقاب الشديد ، وتجد الشقوة النكدة ، وتعاني القلق والحيرة ، ويأكل بعضها بعضا ، ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه ، ويطاردها وتطارده بالأشباح المطلقة ، وبالخواء (١) القاتل ، الّذي يحاول المتحضّرون أن يملأوه تارة بالمسكرات والمخدّرات ، وتارة بالحركات الحائرة التي يخيّل إليك معها أنّهم هاربون تطاردهم الأشباح.

ونظرة إلى صورهم في الأوضاع العجيبة المتكلّفة الّتي يظهرون بها : من مائلة برأسها ، إلى كاشفة عن صدرها ، إلى رافعة ذيلها ، إلى مبتدعة قبّعة غريبة على هيئة حيوان! إلى واضع رباط عنق رسم عليه تيتل أو فيل! إلى لابس قميص تربّعت عليه صورة أسد أو دبّ!

ونظرة إلى رقصاتهم المجنونة ، وأغانيهم المحمومة ، وأوضاعهم المتكلّفة وأزيائهم الصارخة في بعض الحفلات والمناسبات ؛ ومحاولة لفت النظر بالشذوذ الصارخ ، أو ترضية المزاج بالتميز الفاضح.

ونظرة إلى التنقّل السريع المحموم بين الأهواء والأزواج والصداقات والأزياء بين فصل وفصل ، لا بل بين الصباح والمساء!

كلّ أولئك يكشف عن الحيرة القاتلة الّتي لا طمأنينة فيها ولا سلام. ويكشف عن حالة الملل الجاثم الّتي يفرّون منها ، وعن حالة «الهروب» من أنفسهم الخاوية وأرواحهم الموحشة ، كالّذي تطارده الجنّة والأشباح.

__________________

(١) هو الفراغ والخلأ الهائل.

٢٨٩

وإن هو إلّا عقاب الله ، لمن يحيد عن منهجه ، ولا يستمع لدعوته : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً).

وإنّ الإيمان الواثق لنعمة الله على عباده ، لا يبدّلها مبدّل حتّى يحيق به ذلك العقاب. والعياذ بالله (١).

قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا)

وفي ظلّ هذا التحذير من التلكّؤ في الاستجابة ، والتبديل بعد النعمة ، يذكر حال الّذين كفروا ، وحال الّذين آمنوا ، ويكشف عن الفرق بين ميزان الّذين كفروا وميزان الّذين آمنوا للقيم والأحوال والأشخاص :

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) بأعراضها الزهيدة واهتماماتها الصغيرة ، فوقفوا عندها لا يتجاوزونها ، ولا يمدّون بأبصار إلى شيء وراءها ، ولا يعرفون قيما أخرى غير قيمها.

فالّذي يقف عنده حدود هذه الحياة الدنيا ، لا يمكن أن يسمو تصوّره إلى تلك الاهتمامات الرفيعة الّتي يحفل بها المؤمن ، ويمدّ إليها بصره في آفاقها البعيدة. إنّ المؤمن قد يحتقر أعراض هذه الحياة كلّها ، لا لأنّه أصغر منها همّة أو أضعف منها طاقة ، ولا لأنّه سلبي لا ينمي الحياة ولا يرقيها. ولكن لأنّه ينظر إليها من عل ـ مع قيامه بالخلافة فيها ، وإنشائه للعمران والحضارة ، وعنايته بالنماء والإكثار ـ فينشد من حياته ما هو أكبر من هذه الأعراض وأغلى ، ينشد منها أن يقرّ في الأرض منهجا. وأن يقود البشريّة إلى ما هو أرفع وأكمل ، وأن يركّز راية الله فوق هامات الأرض والناس ، ليتطلّع إليها البشر في مكانها الرفيع ، وليمدّوا بأبصارهم وراء الواقع الزهيد المحدود ، الّذي يحيى له من لم يهبه الإيمان رفعة الهدف ، وضخامه الاهتمام ، وشمول النظرة.

وينظر الصغار المفارقون في وحل الأرض ، المستبعدون لأهداف الأرض ، ينظرون للّذين آمنوا ، فيرونهم يتركون لهم وحلهم وسفسافهم ومتاعهم الزهيد ، ليحاولوا آمالا كبارا لا تخصّهم وحدهم ، وإنّما البشريّة جمعاء.

ومن ثمّ (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) : كيف تركوا الخير العاجل لخير آجل. وزهدوا فيما

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

٢٩٠

بأنفسهم رغبة في النفع العام.

لكن الميزان الّذي يزن به الكافر ، ليس هو الميزان. إنّه ميزان الأرض ، ميزان الكفر والنكران ، ميزان الجاهليّة العمياء. أمّا الميزان الحقّ فهو ميزان العقل الرشيد ، ميزان الله الّذي يزن الأمور وفق واقعها الثمين ، وفي آفاقها الفسيح. وبهذا الميزان جاء توزين القيم عند الله.

ومن ثمّ (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) كان التقوى رائدهم في الحياة (فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فعند ذاك ترفع الستائر وتنكشف الحقائق ، فيعلم للذين آمنوا قيمتهم الحقيقيّة ، فليمضوا في طريقهم ، لا يحفلون سفاهة السفهاء.

(وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) والله يدّخر لهم ما هو خير وما هو أوسع من الرزق ، يهبهم إيّاه حيث يختار ، في الدنيا أو في الآخره أو في الدارين ، وفق ما يرى أنّه خير لهم ، وهو المانح الوهّاب ، يمنح من يشاء ، ويفيض على من يشاء ، لا خازن لعطاياه ولا بوّاب يمنع المتقاضين. وهو قد يعطي الكافر زينة الحياة الدنيا ، لحكمة منه ، وليس له فضل فيما أعطي. وهو يعطي المختارين من عباده ما يشاء دنيا وآخرة ، لا شيء يحدّه أو يحجزه في عطاياه. فالعطاء كلّه من عنده ، واختياره للأخيار هو الأعلى والأبقى ، بلا أمد محدّد وإنّما هو حسبما يراه الله ويختار.

[٢ / ٥٩٠٣] أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) قال : الكفّار يبتغون الدنيا ويطلبونها (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) في طلبهم الآخرة. قال ابن جريج : لا أحسبه إلّا عن عكرمة قال : قالوا : لو كان محمّد نبيّا لاتّبعه ساداتنا وأشرافنا ، والله ما اتّبعه إلّا أهل الحاجة مثل ابن مسعود وأصحابه (١).

[٢ / ٥٩٠٤] وقال مقاتل بن سليمان : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) وما بسط لهم فيها من الخير ، نزلت في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) في أمر المعيشة بأنّهم فقراء ، نزلت في عبد الله بن ياسر المخزومي ، وصهيب بن سنان من بني تيم بن مرّة ، وبلال بن رباح مولى أبي بكر وخبّاب بن الأرت مولى ابن أمّ بهار الثقفي حليف بني زهرة ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي هريرة الدوسي ، وفي نحوهم من الفقراء. يقول الله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك يعني هؤلاء النفر (فَوْقَهُمْ) يعني فوق

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٨١ ؛ الطبري ٢ : ٤٥٤ / ٣٢١٧ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٤ ـ ٣٧٥ / ١٩٧٣ ـ ١٩٧٥.

٢٩١

المنافقين والكافرين (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) حين يبسط للكافرين الرزق ويقدر على المؤمنين ، يقول : ليس فوقي ملك يحاسبني أنا الملك أعطي من شئت بغير حساب حين أبسط للكافرين في الرزق وأقتر على المؤمنين (١).

[٢ / ٥٩٠٥] وقال عطاء : نزلت في رؤساء اليهود من بني قريظة والنضير وبني قينقاع ، سخروا من فقراء المهاجرين (٢).

[٢ / ٥٩٠٦] وقال مقاتل : نزلت في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه كانوا يتنعّمون في الدنيا ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين ، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الّذين يزعم محمّد أنّه يغلب بهم! (٣)

[٢ / ٥٩٠٧] وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) قال : هي همّهم وسدمهم (٤) وطلبتهم ونيّتهم (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ويقولون : ما هم على شيء ، استهزاء وسخرية (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) هناكم التفاضل! (٥).

[٢ / ٥٩٠٨] وروى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى محمّد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ الله ليدفع بالمؤمن الواحد عن القرية الفناء».

[٢ / ٥٩٠٩] وعن عبد الله بن سنان ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أيضا قال : «لا يصيب قرية عذاب وفيها سبعة من المؤمنين».

[٢ / ٥٩١٠] وعن ابن أبي عمير ، عن غير واحد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قيل له في العذاب إذا نزل بقوم ، يصيب المؤمنين؟ قال : نعم ولكن يخلصون بعده» (٦).

***

[٢ / ٥٩١١] وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : سألت ابن عبّاس عن هذه الآية (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) فقال : تفسيرها : ليس على الله رقيب ولا من يحاسبه (٧).

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١٨١ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٧٢.

(٢) الثعلبي ٢ : ١٣١.

(٣) الثعلبي ٢ : ١٣١ ؛ البغوي ١ : ٢٧٠.

(٤) السّدم : الهمّ مع الندم.

(٥) ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٤ و ٣٧٥ / ١٩٧٢ و ١٩٧٤ و ١٩٧٧ ؛ الدرّ ١ : ٥٨١.

(٦) الكافي ٢ : ٢٤٧.

(٧) الدرّ ١ : ٥٨١ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٥ / ١٩٧٨.

٢٩٢

[٢ / ٥٩١٢] وعنه أيضا قال : يعني كثيرا بغير مقدار ، لأنّ كلّ ما دخل عليه الحساب فهو قليل. يريد : يوسّع على من يشاء ويبسط لمن يشاء من عباده (١).

[٢ / ٥٩١٣] وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس (بِغَيْرِ حِسابٍ) قال : لا يخرجه بحساب يخاف أن ينقص ما عنده ، إنّ الله لا ينقص ما عنده! (٢)

[٢ / ٥٩١٤] وأخرج عن ميمون بن مهران (بِغَيْرِ حِسابٍ) قال : غدقا! (٣)

[٢ / ٥٩١٥] وروى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى أبي الحكم الخثعمي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المؤمن مؤمنان : فمؤمن صدّق بعهد الله ووفى بشرطه ، وذلك قول الله ـ عزوجل ـ : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ)(٤) فذلك الّذي لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة ، وذلك ممّن يشفع ولا يشفع له. ومؤمن كخامة الزرع (٥) ، تعوجّ أحيانا وتقوم أحيانا ، فذلك ممّن تصيبه أهوال الدنيا وأهوال الآخرة ، وذلك ممّن يشفع له ولا يشفع».

[٢ / ٥٩١٦] وعن خضر بن عمرو ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «المؤمن مؤمنان : مؤمن وفى لله بشروطه الّتي شرطها عليه ، فذلك مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، وذلك من يشفع ولا يشفع له ، وذلك ممّن لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة. ومؤمن زلّت به قدم ، فذلك كخامة الزرع كيفما كفئته الريح انكفأ ، وذلك ممّن تصيبه أهوال الدنيا والآخرة ، ويشفع له ، وهو على خير».

[٢ / ٥٩١٧] وعن أبي مريم الأنصاري ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قام رجل بالبصرة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الإخوان؟ فقال : «الإخوان صنفان : إخوان الثقة وإخوان المكاشرة (٦) ، فأمّا إخوان الثقة فهم الكفّ والجناح والأهل والمال ، فإذا كنت من أخيك على حدّ الثقة فابذل له مالك وبدنك وصاف من صافاه وعاد من عاداه ، واكتم سرّه وعيبه ، وأظهر منه

__________________

(١) البغوي ١ : ٢٧١.

(٢) الدرّ ١ : ٥٨١ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٦٢٨ / ٣٣٧٣.

(٣) الدرّ ١ : ٥٨١ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٥ / ١٩٨٠ ، وزاد : وروي عن الوليد بن قيس نحو ذلك.

(٤) الأحزاب ٣٣ : ٢٣.

(٥) الخامة من الزرع : أوّل ما ينبت على ساق أو اللطافة الغضة منه أو الشجرة الغضة منه.

(٦) الكشر : ظهور الأسنان في الضحك ، وكاشره إذا ضحك في وجهه وباسط ، والاسم الكشرة كالعشرة.

٢٩٣

الحسن ؛ واعلم أيّها السائل أنّهم أقلّ من الكبريت الأحمر ، وأمّا إخوان المكاشرة فإنّك تصيب لذّتك منهم ، فلا تقطعنّ ذلك منهم ، ولا تطلبنّ ما وراء ذلك من ضميرهم ، وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان» (١).

[٢ / ٥٩١٨] وروى الثعلبي بالإسناد إلى الإمام عليّ بن الحسين عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من استذلّ مؤمنا أو مؤمنة أو حقّره لفقره وقلّة ذات يده ، شهّره الله يوم القيامة ثمّ فضحه. ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه ، أقامه الله على تلّ من نار ، حتّى يخرج ممّا قال فيه. وإنّ المؤمن أعظم عند الله وأكرم عليه من ملك مقرّب ، وليس شيء أحبّ إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة. وإنّ الرجل المؤمن ليعرف في السماء كما يعرف الرجل أهله وولده» (٢).

[٢ / ٥٩١٩] وروى محمّد بن يعقوب الكليني بالإسناد إلى عثمان بن عيسى عمّن ذكره عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «جاء رجل موسر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقيّ الثوب فجلس إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثمّ جاء رجل معسر درن الثوب فجلس إلى الموسر ، فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه! فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخفت أن يمسّك من فقره شيء؟ قال : لا. قال : فخفت أن يصيبه من غناك شيء؟ قال : لا. قال : فخفت أن يوسّخ ثيابك؟ قال : لا. قال : فما حملك على ما صنعت؟ فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ لي قرينا (يعني نفسه العاتية) يزيّن لي كلّ قبيح ، ويقبّح لي كلّ حسن. وقد جعلت له نصف مالي! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمعسر : أتقبل؟ قال : لا. فقال له الرجل : لم؟ قال : أخاف أن يدخلني ما دخلك؟!» (٣)

وروى الثعلبي نحوا من ذلك عن إبراهيم بن أدهم رواية عن عبّاد بن كثير بن قيس (٤).

[٢ / ٥٩٢٠] وروى ابن بابويه الصدوق ـ في باب مناهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّه قال : «ألا ومن استخفّ بفقير مسلم فقد استخفّ بحقّ الله ، والله يستخفّ به يوم القيامة ، إلّا أن يتوب».

[٢ / ٥٩٢١] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أكرم فقيرا مسلما لقى الله يوم القيامة وهو عنه راض» (٥).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

(٢) الثعلبي ٢ : ١٣١ ـ ١٣٢ / ١٠٩ ؛ القرطبي ٣ : ٢٩ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٧٣.

(٣) الكافي ٢ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣ / ١١ ؛ البحار ٦٩ : ١٣ / ١٣.

(٤) الثعلبي ٢ : ١٣٢ / ١١٠ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٧٣ ـ ١٧٤.

(٥) الأمالي : ٥١٤ / ٧٠٧ ؛ البحار ٦٩ : ٣٧ ـ ٣٨ / ٣٠.

٢٩٤

[٢ / ٥٩٢٢] وعن محمّد بن أحمد المدائني عن فضل بن كثير عن الرضا عليه‌السلام قال : «من لقي فقيرا مسلما فسلّم عليه خلاف سلامه على الغنيّ ، لقى الله ـ عزوجل ـ يوم القيامة وهو عليه غضبان» (١).

[٢ / ٥٩٢٣] وجاء في حديث الأربعمائة ، عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «لا تحقّروا ضعفاء إخوانكم ، فإنّه من احتقر مؤمنا لم يجمع الله ـ عزوجل ـ بينهما في الجنّة إلّا أن يتوب» (٢).

[٢ / ٥٩٢٤] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من استذلّ مؤمنا أو مؤمنة ، أو حقّره لفقره وقلّة ذات يده ، شهّره الله يوم القيامة ثمّ يفضحه» (٣).

[٢ / ٥٩٢٥] وقال الصادق عليه‌السلام : «من استذلّ مؤمنا لقلّة ذات يده ، شهّره الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق لا محالة» (٤).

[٢ / ٥٩٢٦] وقال : «من حقّر مؤمنا مسكينا لم يزل الله له حاقرا (٥) ماقتا ، حتّى يرجع عن محقرته إيّاه» (٦).

__________________

(١) الأمالي : ٥٢٧ / ٧١٤ ؛ البحار ٦٩ : ٣٨ / ٣١.

(٢) الخصال : ٦١٤ / ١٠ ؛ البحار ٦٩ : ٤٢ / ٤٥.

(٣) روضة الواعظين للفتال : ٤٥٤ ؛ البحار ٦٩ : ٤٦ / ٥٧.

(٤) البحار ٦٩ : ٥٠ / ٦٣.

(٥) يقال : حقّره أي استصغره وهوّن قدره.

(٦) المصدر : ٥٢ / ٧٨.

٢٩٥

قال تعالى :

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣))

وبعد أن ذكر القيم والموازين الّتي ترفع أو تضع من شأن بني الإنسان ، حسب تصوّراتهم وتصرّفاتهم في الحياة ينتقل السياق إلى قصّة الاختلاف بين الناس في التصوّرات والعقائد ، والموازين والقيم ، وينتهي بتقرير الأصل الّذي ينبغي أن يرجع إليه المختلفون ، وإلى الميزان الأخير الّذي يحكم فيما هم فيه مختلفون :

(كانَ النَّاسُ) في عهدهم الأوّل ، ولعلّه إشارة إلى حالة المجموعة البشريّة الأولى الصغيرة ، من أسرة آدم وحوّاء وذراريهم ، وقد كانت متطلّبات حياتهم آنذاك على بساطتها الأولى ، محدودة وفي قناعة ذاتيّة لا تستدعي تجاوزا ولا تناحرا ولا تكاثرا في المتطلّبات.

فالبشريّة الآن ـ على توسّع نطاقها وانتشارها في الأرض ـ إنّما هي منحدرة عن أصل واحد ، وعن نتاج أسرة واحدة متكاتفة ، وهادئة إلى حدّ بعيد. فلتنظر الآن إلى سابق حياتها الأولى ، ولتعتبر بتلك الحياة السعيدة الهانئة. ولتنتهي عن هذا الاختلاف الفاحش المهدّد لسلامة الحياة وسعادتها المنشودة.

نعم ، كان الناس أمّة واحدة هادئة مطمئنّة ، ولكن في مجموعة صغيرة وفي نطاق محدود ، حتّى نمّت وتوسّعت وأخذت في التكثّر والتفرّق ، كما أخذت في التطوّر والازدهار ، ببروز الاستعدادات الكامنة في وجودها ، والّتي فطرهم الله عليها ، لحكمة يعلمها ، ويعلم ما وراءها من خير للحياة ، في التنوّع في الاستعدادات والطاقات والاتّجاهات.

وعندئذ اختلفت التصوّرات وتباينت وجهات النظر ، وتنوّعت المعتقدات وتعدّدت المناهج ، بطبيعة الحال.

٢٩٦

وعندئذ وبمقتضى قاعدة اللطف (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) نصوص الشرائع الإلهية الغرّاء ، والّتي هي بدورها القول الفصل (لِيَحْكُمَ) ليفصل (بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) من مهامّ شؤونهم في الحياة.

ولكن ، إن كان هناك من العوامل الّتي تبعث على الجدل والتناحر ، هو الانحراف عن جادّة الحقّ ـ مهما كان واضحا ـ حيث غلبة الهوى واتّباع الشهوات وحبّ الذات في صورها الإفراطيّة الباعثة على التطاول والتجاوز وحبّ التكاثر المقيت.

وكان من هذه العوامل ما ظلّت كامنة في جبلّة الإنسان ، من غير أن تزول بسهولة ، لو لا الارتياض على التقوى وحبّ الصلاح.

تلك رواسب كمنت في واقع الإنسان ، فأنّى قلعها والانفلات منها لو لا تداوم القرع العنيف بمهميز التبشير القاطع والإنذار القامع.

نعم ، إنّ من تلك الرواسب ما بقيت منها بقيّة ، ومن ثمّ كانت السبب في عودة الاختلاف ، حتّى بعد أن جاءهم الهدى وواجهتهم الآيات والبيّنات.

(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) اختلفوا في تفسير الحقّ الّذي جاءهم (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) ولمسوه ووجدوه حقّا ، لو لا التنافس على المطامع والرغائب. اختلافا (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).

فقد جاءهم الكتاب. ومع ذلك كان الهوى يغلب الناس من هنا وهناك ، وكانت المطامع والرغائب والمخاوف والضلالات تجعل من الناس تبتعد عن قبول الحقّ وعن الانصياع لحكم الكتاب.

(بَغْياً بَيْنَهُمْ) والبغي هو الحسد والحرص على المطامع والرغائب ، هو الّذي قاد الناس إلى المضيّ في الاختلاف وفي التفرّق واللجاج والعناد.

وهذه حقيقة ، فما يختلف اثنان على أصل الحقّ الواضح اللائح في الكتاب ، إلّا وفي نفس أحدهما أو كلاهما بغي وهوى وزلّة عن الفطرة المستقيمة.

فأمّا حينما يكون هناك إيمان وعقيدة صادقة ، فلا بدّ من التفاهم والاتّفاق والالتقاء على منهج الحقّ.

(فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ). حيث كان النفوس مستعدّة لقبول الحقّ ، والحكمة ضالّة المؤمن أخذها حيث وجدها. (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) من عباده المؤمنين (إِلى

٢٩٧

صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، بحيث لا ينحرفون ولا ينجرفون عبر الأبد!

نظرة في مختلف الآراء حول الآية

اختلف المفسّرون في تفسير الآية ، ماذا يكون المراد من هذا التوحّد الجماعي في سابق حياة الإنسان ، هل كانوا اجتمعوا على هداية شاملة أم على ضلال مطبق. وممّ حدث اختلافهم فيما بعد ، حتّى دعت الحاجة إلى تشريع دعوة الجمع والائتلاف من جديد؟

ذهب أكثر المحقّقين إلى أنّ الناس في عهدهم الأوّل كانوا على سذاجة من العيش وعلى بساطة من الحياة الاجتماعيّة يومذاك ، يعيشون وفق فطرتهم الأولى ، سليمة ومتآلفة ، وفي تعاضد وتكافل جماعيّ هنيء. حيث قلّة الجماعة ووفرة وسائل المعيشة على وجه البسيطة. فلا موجب للتنازع والتكالب على معايش الحياة.

لكن بعد أن تعقّدت الحياة وتنوّعت المآرب وأخذت تزدحم المطامع والرغبات ، فعند ذلك جعلت حسكة الشقاق والافتراق تأخذ مساربها في الوجود ، وتنمو وتغلظ جذورها في الأعماق.

الأمر الّذي دعا بساحة لطفه تعالى أن يعود عليهم بالإشفاق والإرفاق ، لتشملهم عنايته الخاصّة ، بإيقافهم على معالم السعادة في الحياة ، وليأخذوا طريقهم من جديد إلى مناهج السلم والسّلام.

فتقدير الآية : أنّ الناس كانوا في عهدهم الأوّل عائشين في وحدة متكافلة ، وفي ظلّ فطرتهم الأولى سالمين غانمين ، ثمّ اختلفوا ، على أثر التوسّع في الحياة وتعقّد مآربها. ومن ثمّ وقعت الحاجة إلى إمدادهم من الغيب ، لغرض أوبتهم إلى فطرتهم الأولى من جديد.

ويتأيّد هذا التقدير بالتصريح به في آية أخري : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا)(١).

قال الإمام الرازي : وهذا يقتضي أنّ الأنبياء عليهم‌السلام إنّما بعثوا حين الاختلاف. وكانت الآية الثانية شاهدة عليه. كما يتأكّد ذلك بقراءة ابن مسعود ـ وأكثرها لغرض التفسير والتبيين ـ : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) ـ إلى قوله ـ (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)(٢). فكانت زيادة (فَاخْتَلَفُوا) لبيان أنّ البعث وقع بعد الاختلاف.

__________________

(١) يونس ١٠ : ١٩.

(٢) التفسير الكبير ٦ : ١١.

٢٩٨

قال : وتدلّ الآية على أنّ الناس كانوا في عهدهم الأوّل على طريقة الحقّ ـ وفق فطرتهم الأولى ـ ثمّ حصل شقاق واختلاف ، فجاء الأنبياء للفصل بين هذا الاختلاف والقضاء على ذاك التخاصم العارض.

قلت : وكما يدلّ عليه قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ)(١).

أي ولو شاء ربّك أن يجعل بني الإنسان كسائر الأحياء ، ماضين على وتيرة واحدة ، من غير تطوّر ولا تحوّل في الحياة ، عائشين على ما فطرهم الله عليه من التصرّف المحدود ، المخطّط لهم في جبلّتهم ، كعيشة النحل والنمل وسائر الأحياء غير الإنسان ، لكان الإنسان كغيره ذا محدوديّة في الحياة من غير إبداع أو تحوّل أو تغيير.

ولكن أين ذلك وبروز الاستعدادات والطاقات الكامنة في وجود هذا الكائن ، المتجهّز بأجهزة الرقيّ والكمال. والّذي جاء ليعمر الأرض ويتسخّر كلّ طاقات الوجود ، الأعمّ من السفليّة والعلويّة ، والتطلّع إلى آفاق الفضاء.

ومن كان على هذا الوصف ، فلا بدّ أن يحدث في حياته وفي معايشه مع الآخرين بعض الاختلاف والتنازع والتشاجر في الأخذ والعطاء.

نعم ، سوى من أنعم الله عليه بهدايته على يد أنبيائه العظام ، ولذلك العطف والإشفاق خلقهم ليرحمهم وليمدّهم بيد غيبيّة ويهديهم إلى سبل السّلام.

***

والقول الثاني : أنّ الناس ـ على عهدهم الأوّل ـ كانوا على منهج الفطرة وطريقة العقل السليم ، وكان الاعتراف بوجود الصانع تعالى رائدهم ، والعمل بوظائف العبوديّة ، اداء للشكر الواجب عليهم ، قائدهم. كانوا يجتنبون القبائح ويبتعدون عن الرذائل ، انبعاثا من صميم ذاتهم وسلامة طبعهم ، انبعاثا من داخل الضمير.

قال الإمام الرازي : وهذا هو اختيار أبي مسلم والقاضي : كان الناس أمّة واحدة في التمسّك بالشرائع العقليّة ، وهي الاعتراف بوجود الصانع وصفاته ، والاشتغال بخدمته وشكر نعمته ،

__________________

(١) هود ١١ : ١١٨ ـ ١١٩.

٢٩٩

والاجتناب عن القبائح العقلية ، كالظلم والكذب والفحش والعبث وأمثالها.

قال القاضي : ولأنّ الآية تفيد أنّ شرعة الأنبياء بدأت بعد ذلك الاختلاف ، فلا بدّ أنّهم (أي الناس) كانوا قبل ذلك على شرعة ـ غير شرعة الأنبياء ـ وليست سوى شرعة العقل الرشيد الباقي على سلامته الأولى (١).

قلت : وهذا القول يقرب من القول الأوّل ، ولا يبتعد عنه كثيرا.

[٢ / ٥٩٢٧] وهكذا روى ابن أبي حاتم بالإسناد إلى قتادة ، قال : كانوا على شريعة من الحقّ كلّهم (٢).

[٢ / ٥٩٢٨] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو يعلى والطبراني وابن مردويه بسند صحيح عن ابن عبّاس قال : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) قال : على الإسلام كلّهم (٣).

[٢ / ٥٩٢٩] وعن السّدّي : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) يقول : دينا واحدا على دين آدم ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين (٤).

[٢ / ٥٩٣٠] وعن قتادة في قوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) قال : كانوا على الهدى جميعا ، فاختلفوا (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) فكان نوح أوّل نبيّ بعث (٥).

[٢ / ٥٩٣١] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب قال : كانوا أمّة واحدة حيث عرضوا على آدم ، ففطرهم الله على الإسلام وأقرّوا له بالعبودية ، فكانوا أمّة واحدة مسلمين ، ثمّ اختلفوا من بعد (٦).

__________________

(١) التفسير الكبير ٦ : ١٥.

(٢) ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٢ / ١٩٨٧ ؛ مجمع البيان ٢ : ٦٥ بلفظ : قال آخرون : إنّهم كانوا على الحقّ ، وهو المرويّ عن قتادة ومجاهد وعكرمة والضحّاك وابن عبّاس ، في الرواية الأخرى.

(٣) الدرّ ١ : ٥٨٢ ؛ أبو يعلى ٤ : ٤٧٣ / ٢٦٠٦ ؛ الكبير ١١ : ٢٤٥ / ١١٨٣٠ ؛ الحاكم ٢ : ٤٤٢ ، كتاب التفسير ، سورة الشورى ؛ مجمع الزوائد ٦ : ٣١٨ ـ ٣١٩ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٧٦ ؛ الثعلبي ١ : ١٣٣ ؛ البغوي ١ : ٢٧١.

(٤) الطبري ٢ : ٤٥٧ / ٣٢٢٦ ؛ التبيان ٢ : ١٩٧.

(٥) الطبري ٢ : ٤٥٥ / ٣٢٢٠ ؛ ابن كثير ١ : ٢٥٧ ، وزاد : هكذا قال مجاهد كما قال ابن عبّاس أوّلا ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٣٠ / ٢٤٤ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٦ / ١٩٨٥.

(٦) الدرّ ١ : ٥٨٢ ؛ الطبري ٢ : ٤٥٦ / ٣٢٢٣ ، وزاد : فكان أبيّ يقرأ : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فاختلفوا فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ

٣٠٠