التفسير الأثري الجامع - ج ٥

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-06-7
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

العزّة بالإثم ، وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله ، فإذا لم يقبل وأخذته العزّة بالإثم قال هذا : وأنا أشري نفسي ، فقاتله ، فاقتتل الرجلان! فقال عمر : لله درّك يا ابن عبّاس! (١)

[٢ / ٥٨٤٨] وروى عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيّد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطّلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» (٢).

[٢ / ٥٨٤٩] وعن أبي أمامة أنّ رجلا قال : يا رسول الله أيّ الجهاد أفضل؟ قال : «أفضل الجهاد من قال كلمة حقّ عند سلطان جائر» (٣)!

[٢ / ٥٨٥٠] وروى الشيخ أبو جعفر الطوسي بالإسناد إلى حكيم بن جبير عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) قال : «نزلت في عليّ عليه‌السلام حين بات على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٤)!

[٢ / ٥٨٥١] وعن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «أمّا قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فإنّها أنزلت في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حين بذل نفسه لله ولرسوله ليلة اضطجع على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا طلبته كفّار قريش» (٥)!

[٢ / ٥٨٥٢] وروى الطوسي بإسناده إلى سعيد بن أوس قال : كان أبو عمرو بن العلا إذا قرئ (وَمِنَ

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٧٨ ؛ الطبري ٢ : ٤٣٥ ـ ٤٣٦ / ٣١٧٢ ، وفيه : «لله بلادك» ؛ القرطبي ٣ : ٢١ ، وفيه : «لله تلادك يا ابن عبّاس!» ؛ البغوي ١ : ٢٦٦ ؛ الثعلبي ٢ : ١٢٥ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٥٧ ، بمعناه وفي آخره : قال عمر : بارك الله عليك ، يا غوّاص غص!.

(٢) الثعلبي ٢ : ١٢٥ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٥٨ ؛ الحاكم ٣ : ١٩٥ ؛ الأوسط ٤ : ٢٣٨ / ٤٠٧٩ ، عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ مجمع الزوائد ٧ : ٢٦٦ ، عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ كنز العمّال ١١ : ٦٧٥ / ٣٣٢٦٤.

(٣) الثعلبي ٢ : ١٢٥ ؛ البغوي ١ : ٢٦٧ / ٢١٤ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٥٨ ؛ الترمذي ٣ : ٣١٨ / ٢٢٦٥ ، باب ١٢ ، عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٤) نور الثقلين ١ : ٢٠٤ ؛ الأمالي : ٤٤٦ / ٩٩٦ ـ ٢ ، المجلس ١٦ ؛ البحار ١٩ : ٥٤ ـ ٥٥ / ١٢ ، باب ٦ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣٠٦ ؛ البرهان ١ : ٤٥١ / ١.

(٥) العيّاشيّ ١ : ١٢٠ / ٢٩٣ ؛ البحار ١٩ : ٧٨ / ٣٠ ، باب ٦ ؛ البرهان ١ : ٤٥٢ / ٦ ؛ التبيان ٢ : ١٨٣ ، وزاد : وبه قال عمر بن شبه. بمعناه ؛ الصافي ١ : ٣٧١ ، بمعناه.

٢٦١

النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) قال : كرّم الله عليّا عليه‌السلام ، فيه نزلت هذه الآية (١).

[٢ / ٥٨٥٣] وبإسناده إلى أنس بن مالك قال : لمّا توجّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الغار ومعه أبو بكر أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام أن ينام على فراشه ويتغشّى ببردته ، فبات عليّ عليه‌السلام موطّنا نفسه على الموت! وجاءت رجال قريش من بطونها يريدون قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا أرادوا أن يضعوا عليه أسيافهم لا يشكّون أنّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا : أيقظوه ليجد ألم القتل ويرى السيوف تأخذه. فلمّا أيقظوه ورأوه عليّا تركوه وتفرّقوا في طلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٢).

[٢ / ٥٨٥٤] وقال عليّ بن إبراهيم قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) قال : ذاك أمير المؤمنين عليه‌السلام. ومعنى «يشري نفسه» يبذلها (٣).

[٢ / ٥٨٥٥] وروى السّدّي عن ابن عبّاس قال : نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حين هرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المشركين إلى الغار ، ونام عليّ على فراش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤).

[٢ / ٥٨٥٦] وروي أنّه لمّا نام على فراشه قام جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل ينادي : بخ بخ ، من مثلك يا ابن أبي طالب ، يباهي الله تعالى بك الملائكة (٥)!

[٢ / ٥٨٥٧] وعن ابن عبّاس قال : فدى عليّ عليه‌السلام بنفسه. لبس ثوب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ نام مكانه ، فكان المشركون يرمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فجاء أبو بكر وعليّ نائم ، وأبو بكر يحسب أنّه نبيّ الله ، فقال : أين نبيّ الله؟ فقال عليّ : إنّ نبيّ الله قد انطلق نحو بئر ميمون ، فأدرك! قال : فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار ، وجعل عليه‌السلام يرمى بالحجارة ، كما كان يرمى رسول الله وهو يتضوّر ، قد لفّ رأسه. فقالوا

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٠٤ ؛ الأمالي : ٤٤٦ / ٩٩٧ ـ ٣ ، المجلس ١٦ ؛ البحار ١٩ : ٥٥ / ١٣ ، باب ٦ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣٠٦.

(٢) نور الثقلين ١ : ٢٠٤ ـ ٢٠٥ ؛ الأمالي : ٤٤٦ ـ ٤٤٧ / ٩٩٨ ـ ٤ ، المجلس ١٦ ؛ البحار ١٩ : ٥٥ / ١٤ ، باب ٦ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧ ؛ البرهان ١ : ٤٥١ ـ ٤٥٢ / ٣.

(٣) نور الثقلين ١ : ٢٠٥ ؛ القمّي ١ : ٧١ ؛ البحار ٣٦ : ٤٠ / ١ ، باب ٣٢ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣٠٧ ؛ البرهان ١ : ٤٥٤ / ١١.

(٤) نور الثقلين ١ : ٢٠٥ ؛ مجمع البيان ٢ : ٥٧ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣٠٧ ؛ الصافي ١ : ٣٧١.

(٥) نور الثقلين ١ : ٢٠٥ ؛ مجمع البيان ٢ : ٥٧ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣٠٧ ؛ الصافي ١ : ٣٧١ ـ ٣٧٢.

٢٦٢

إنّك ...! لكنّه كان صاحبك لا يتضوّر ، قد استنكرنا ذلك (١)!

[٢ / ٥٨٥٨] وروى الشيباني أنّ هذه الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حين بات على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك أنّ قريشا تحالفوا على قتله ليلا وأجمعوا أمرهم بينهم أن ينتدب له من كلّ قبيلة شاب ، فيكبسوا عليه ليلا وهو نائم فيضربوه ضربة رجل واحد ولا يؤخذ بثأره من حيث إنّ قاتله لا يعرف بعينه ، ولا يقوم أحد منهم بذلك ، من حيث إنّ له في ذلك مماسّة ، (٢) فنزل جبرائيل عليه‌السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بذلك ، وأمره أن يبيّت ابن عمّه عليّا عليه‌السلام على فراشه ويخرج هو مهاجرا إلى المدينة ، ففعل ذلك ، وجاءت الفتية لمّا تعاهدوا عليه وتعاقدوا يطلبونه ، فكبسوا عليه البيت فوجدوا عليّا نائما على فراشه ، فتنحنح فعرفوه فرجعوا القهقرى خائبين خاسرين ونجى الله نبيّه من كيدهم ، روي ذلك عن أبي جعفر ، وأبي عبد الله عليهما‌السلام (٣).

[٢ / ٥٨٥٩] وروى الثعلبي في تفسيره ، وابن عقب في ملحمته ، وأبو السعادات في فضائل العشرة ، والغزالي في الإحياء وفي كيمياء السعادة برواياتهم عن أبي اليقظان ، وجماعة من أصحابنا ، نحو ابن بابويه وابن شاذان والكليني والطوسي وابن عقدة والبرقي وابن فيّاض والعبدلي والصفواني والثقفي ، بأسانيدهم عن ابن عبّاس ، وأبي رافع ، وهند بن أبي هالة ، أنّه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل : إنّي آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه ، فأيّكما يؤثر أخاه؟ فكلاهما كرها الموت ، فأوحى الله إليهما : ألا كنتما مثل وليّي عليّ بن أبي طالب ، آخيت بينه وبين محمّد نبييّ ، فآثره بالحياة على نفسه ، ثمّ ظلّ راقدا على فراشه ، يقيه بمهجته. اهبطا إلى الأرض جميعا واحفظاه من عدوّه. فهبط جبرائيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، وجعل جبرائيل يقول : بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب؟ والله يباهي بك الملائكة ، فأنزل الله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ)» (٤).

__________________

(١) العيّاشيّ ١ : ١٢٠ / ٢٩٤ ؛ البرهان ١ : ٤٥٣ / ٧ ؛ المناقب للخوارزمي : ١٢٦ / ١٤٠ ، الفصل ١٢ ، وفيه مكان النقط كلمة فحش ؛ البحار ١٩ : ٧٨ ـ ٧٩ / ٣١ ، باب ٦.

(٢) وفي نسخة : محارسة.

(٣) البرهان ١ : ٤٥٤ / ١٢ ؛ نهج البيان ١ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

(٤) البرهان ١ : ٤٥٤ / ١٠ ؛ الثعلبي ٢ : ١٢٦ / ١٠٣ ؛ مجمع البيان ٢ : ٥٧ ؛ شواهد التنزيل ١ : ١٢٧ ـ ١٢٨ ؛ ابن عساكر ٤٢ : ٦٨ / ١٣٥ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٦٠ ـ ١٦١ ، بمعناه. عن الصادق عليه‌السلام ؛ روضة الواعظين : ١٠٦ ـ ١٠٧ ؛ المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٣٣٩ ـ ٣٤٠ ؛ البحار ٣٦ : ٤٣ / ذيل رقم ٦ ، باب ٣٢.

٢٦٣

[٢ / ٥٨٦٠] وقال الثعلبي : ورأيت في الكتب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أراد الهجرة خلّف عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بمكّة لقضاء ديونه وردّ الودايع الّتي كانت عنده ، فأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار ، أن ينام على فراشه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له : «اتّشح ببردي الحضرمي الأخضر ، ونم على فراشي ، فإنّه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله» ، ففعل ذلك عليّ عليه‌السلام ، فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل إنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر ، فأيّكما يؤثر صاحبه بالبقاء والحياة؟ فاختار كلاهما الحياة ، فأوحى الله تعالى إليهما : أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه نفسه ويؤثره بالحياة! اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه ، فنزلا ، فكان جبرئيل عند رأس عليّ وميكائيل عند رجليه ، وجبرئيل ينادي : بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب ، فنادى الله ـ عزوجل ـ الملائكة وأنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو متوجّه إلى المدينة في شأن عليّ عليه‌السلام : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)(١).

[٢ / ٥٨٦١] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) وذلك أنّ كفّار مكّة أخذوا عمّارا وبلالا وخبّابا وصهيبا فعذّبوهم لإسلامهم حتّى يشتموا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فأمّا صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان القرشي وكان شخصا ضعيفا فقال لأهل مكّة : لا تعذّبوني ، هل لكم إلى خير؟ قالوا : وما هو؟ قال : أنا شيخ كبير لا يضرّكم إن كنت معكم أو مع غيركم ، لئن كنت معكم لا أنفعكم ، ولئن كنت مع غيركم لا أضرّكم ، وإنّ لي عليكم لحقّا لخدمتي وجواري إيّاكم! فقد علمت أنّكم إنّما تريدون مالي وما تريدون نفسي ، فخذوا مالي واتركوني وديني غير راحلة! فإن أردت أن ألحق بالمدينة فلا تمنعوني. فقال بعضهم لبعض : صدق ، خذوا ماله فتعاونوا به على عدوّكم. ففعلوا ذلك فاشترى نفسه بماله كلّه غير راحلة ، واشترط ألّا يمنع عن صلاة ولا هجرة ، فأقام بين أظهرهم ما شاء الله ، ثمّ ركب راحلته نهارا حتّى أتى المدينة مهاجرا فلقيه أبو بكر فقال : ربح البيع يا صهيب. فقال : وبيعك لا يخسر. فقال أبو بكر : قد أنزل الله فيك : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ١٢٥ ـ ١٢٦ / ١٠٣ ؛ أسد الغابة ٤ : ٢٥ ؛ شواهد التنزيل ١ : ١٢٣ / ١٣٣ ؛ مجمع البيان ٢ : ٥٧.

٢٦٤

قال عبد الله بن ثابت : سمعت أبي يقول : سمعت هذا الكتاب من أوّله إلى آخره من الهذيل أبي صالح عن مقاتل بن سليمان ببغداد درب السدرة سنة تسعين ومائة. قال (١) : وسمعته من أوّله إلى آخره قراءة عليه (٢) في المدينة في سنة أربع ومائتين وهو ابن خمس وثمانين سنة رحمنا الله وإيّاهم (٣).

[٢ / ٥٨٦٢] وأخرج ابن عساكر عن أبي بكر بن أبي خيثمة عن مصعب بن عبد الله قال : هرب صهيب من الروم ومعه مال كثير ، فنزل بمكّة فعاقد عبد الله بن جدعان وحالفه ، فلمّا هاجر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة لحقه صهيب ، فقالت له قريش : لا تلحقه بأهلك ومالك فدفع إليهم ماله ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ربح البيع». وأنزل الله في أمره : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) في أخيه مالك بن سنان (٤).

[٢ / ٥٨٦٣] وأخرج من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) قال : نزلت في صهيب بن سنان الروميّ ، وفي نفر من أصحابه ، أخذهم أهل مكّة فعذّبوهم ليردّوهم إلى الشرك بالله ، منهم : عمّار ، وسميّة أمّ عمّار وياسر أبو عمّار ، وبلال بن رباح ، وخبّاب بن الأرت ، وعابس مولى حويطب (٥).

[٢ / ٥٨٦٤] وأخرج الطبراني وابن عساكر عن ابن جريج في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) قال : نزلت في صهيب بن سنان وأبي ذرّ (٦).

[٢ / ٥٨٦٥] وأخرج ابن جرير والطبراني عن عكرمة في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ...)

الآية. قال : نزلت في صهيب بن سنان ، وأبي ذرّ الغفاري ، وجندب بن السكن أحد أهل أبي ذرّ ، أمّا أبو ذرّ فانفلت منهم ، فقدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رجع مهاجرا عرضوا له وكانوا بمرّ الظهران ، فانفلت أيضا حتّى قدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا صهيب فأخذه أهله فافتدى منهم بماله ، ثمّ خرج

__________________

(١) أي عبد الله بن ثابت نفسه.

(٢) أي على أبيه ثابت.

(٣) تفسير مقاتل ١ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٤) الدرّ ١ : ٥٧٧ ؛ ابن عساكر ٢٤ : ٢٣٠ ، باب ٢٩٠٥.

(٥) الدرّ ١ : ٥٧٧ ؛ ابن عساكر ١٠ : ٤٤٨ ، باب ٩٧٤.

(٦) الدرّ ١ : ٥٧٦ ؛ الكبير ٨ : ٢٩ / ٧٢٨٩ ؛ ابن عساكر ٢٤ : ٢٢٩ ، باب ٢٩٠٥ ؛ مجمع الزوائد ٦ : ٣١٨.

٢٦٥

مهاجرا فأدركه قنفذ بن عمير بن جدعان ، فخرج ممّا بقي من ماله وخلّي سبيله (١).

[٢ / ٥٨٦٦] وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن صهيب قال : لمّا خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة هممت بالخروج ، فصدّني فتيان من قريش ، ثمّ خرجت ، فلحقني منهم أناس بعد ما سرت ليردّوني ، فقلت لهم : هل لكم أن أعطيكم أواقي من ذهب وتخلّوا سبيلي؟ ففعلوا. فقلت : احفروا تحت أسكفة الباب فإنّ تحتها الأواقي ، وخرجت حتّى قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قباء ، قبل أن يتحوّل منها ، فلمّا رآني قال : «يا أبا يحيى ، ربح البيع» ، ثمّ تلا هذه الآية (٢).

[٢ / ٥٨٦٧] وأخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن صهيب : أنّ المشركين لمّا أطافوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأقبلوا على الغار وأدبروا قال : واصهيباه ولا صهيب لي! فلمّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخروج بعث أبا بكر مرّتين أو ثلاثا إلى صهيب ، فوجده يصلّي فقال أبو بكر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وجدته يصلّي ، فكرهت أن أقطع عليه صلاته! فقال : أصبت ، وخرجا من ليلتهما ، فلمّا أصبح خرج حتّى أتى أمّ رومان زوجة أبي بكر ، فقالت : ألا أراك هاهنا ، وقد خرج أخواك ، ووضعا لك شيئا من زادهما! قال صهيب : فخرجت حتّى دخلت على زوجتي أمّ عمرو ، فأخذت سيفي وجعبتي وقوسي حتّى أقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة فأجده وأبا بكر جالسين ، فلمّا رآني أبو بكر قام إليّ فبشّرني بالآية الّتي نزلت فيّ ، وأخذ بيدي ، فلمته بعض اللائمة ، فاعتذر وربّحني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «ربح البيع أبا يحيى!» (٣).

[٢ / ٥٨٦٨] وأخرج ابن سعد والحرث بن أبي أسامة في مسنده وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن سعيد بن المسيّب قال : أقبل صهيب مهاجرا نحو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتبعه

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٧٦ ؛ الطبري ٢ : ٤٣٧ / ٣١٧٤ ؛ الكبير ٨ : ٢٩ / ٧٢٩٠ ، بلفظ : عن ابن جريج قال : زعم عكرمة مولى ابن عبّاس أنّ صهيبا افتدى من أهله بماله ثمّ خرج مهاجرا فأدركوه بالطريق فخرج لهم ممّا بقي من ماله ؛ الحاكم ٣ : ٤٠٠.

(٢) الدرّ ١ : ٥٧٦ ؛ الكبير ٨ : ٣٢ ؛ الحاكم ٣ : ٤٠٠ ؛ الدلائل ٢ : ٥٢٢ ـ ٥٢٣ ؛ ابن عساكر ٢٤ : ٢٢٧ ، باب ٢٩٠٥ ؛ مجمع الزوائد ٦ : ٦٠ ، قال الهيثمي : رواه الطبراني وفيه جماعة لم أعرفهم.

(٣) الدرّ ١ : ٥٧٧ ؛ الكبير ٨ : ٣٦ ـ ٣٧ / ٧٣٠٨ ؛ الحلية ١ : ١٥٢ ؛ ابن عساكر ٢٤ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ، باب ٢٩٠٥ ؛ مجمع الزوائد ٦ : ٦٤ ، باب الهجرة إلى المدينة ، قال الهيثمي : رواه الطبراني وفيه محمّد بن الحسن بن زبالة وهو متروك!.

٢٦٦

نفر من قريش ، فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ، ثمّ قال : يا معشر قريش قد علمتم أنّي من أرماكم رجلا ، وأيم الله لا تصلون إليّ حتّى أرمي بكلّ سهم في كنانتي ، ثمّ أضرب بسيفي ما بقي في يدي فيه شيء ، ثمّ افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكّة وخلّيتم سبيلي! قالوا : نعم. فلمّا قدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ربح البيع ، ربح البيع!» ونزلت : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(١).

***

قلت : والآية وإن كانت عامّة في ظاهر تعبيرها ، لتشمل كلّ مجاهد في سبيل الله ، باذل نفسه في سبيل مرضاته تعالي ، غير أنّ شأن نزولها قد يخصّ مناسبة ما ، وقد رجّح أصحاب النظر أنّها حادث ليلة المبيت ، والّتي باها الله بها ملائكته.

فلا يتنافى وشمولها لمثل سريّة الرجيع وغيرها ، ممّا كان للمؤمنين موقف صلب تجاه غلواء أبناء الشياطين. ومنها موقف صهيب الشهم الجريء.

أمّا كون نزولها بشأنه بالذات ، فهذا ممّا يتنافى وظاهر تعبير الآية ، وقد استنكره أصحاب النظر من المفسّرين.

قال الشيخ أبو الفتوح الخزاعي الرازي : وهذا لا يصحّ ، لأنّ التعبير ب (يَشْرِي نَفْسَهُ) يفيد معنى «يبذل نفسه» المتّفق مع حادث المبيت ، حيث بذل علي عليه‌السلام نفسه في سبيل مرضاة الله. أمّا صهيب فقد ابتاع نفسه وافتداه بالمال. فقد بذل ماله لخلاص نفسه ، وهذا وإن كان عملا جميلا وجليلا ، لكنّه غير مفاد الآية الكريمة بالذات (٢).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٧٥ ـ ٥٧٦ ؛ الطبقات الكبرى ٣ : ٢٢٨ ؛ بغية الباحث للحارث بن أبي أسامة : ٢١٤ / ٦٧٧ ، باب ٢ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩ / ١٩٣٩ ، وزاد : وروي عن أبي العالية والربيع بن أنس ، نحو ذلك ؛ الحلية ١ : ١٥١ ؛ ابن عساكر ٢٤ : ٢٢٨ ، باب ٢٩٠٥ ؛ أسباب النزول للواحدي : ٣٩ ؛ القرطبي ٣ : ٢٠ ؛ ابن كثير ١ : ٢٥٤ ؛ الثعلبي ٢ : ١٢٥ عن سعيد بن المسيب وعطاء ؛ البغوي ١ : ٢٦٦ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) أبو الفتوح ٣ : ١٥٨.

٢٦٧

قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩))

وفي ظلال هاتين اللوحتين ـ اللتين عرضهما القرآن ـ لنموذج الإيمان الخالص ونموذج النفاق الفاجر ، يهتف بالجماعة المسلمة ، باسم الإيمان الّذي تعرف به ، للدخول في السلم كافّة ، فيستسلموا ذلك الاستسلام الّذي لا تبقى بعده بقيّة ناشزة ، من تصوّر أو شعور ، ومن نيّة أو عمل ، ومن رغبة أو رهبة ، لا تخضع لله ولا ترضخ لحكمه وقضائه ، استسلام الطاعة الواثقة المطمئنّة الراضية.

والمسلم حينما يستجيب هذه الاستجابة ، يدخل في عالم كلّه سلم وكلّه سلام ، عالم كلّه ثقة واطمئنان ، وكلّه رضى واستقرار ، لا حيرة ولا قلق ، ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير ، سلام مع العقل والمنطق ، سلام مع الناس والأحياء ، سلام مع الوجود كلّه ومع كلّ موجود ، سلام يرفّ في حنايا السرائر ، وسلام يظلّل الحياة والمجتمع ، سلام في الأرض وسلام في السماء.

قال سيّد قطب :

«وأوّل ما يفيض هذا السّلام على القلب ، يفيض من صحّة تصوّره لله ربّه ، ونصاعة هذا التصوّر وبساطته ، إنّه إله واحد. يتّجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقرّ عليها قلبه ؛ فلا تتفرّق به السّبل ، ولا تتعدّد به القبل ؛ ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك ـ كما كان في الوثنيّة والجاهليّة ـ إنّما هو إله واحد يتّجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح.

وهو إله قويّ قادر عزيز قاهر. فإذا اتّجه إليه المسلم فقد اتّجه إلى القوّة الحقّة الوحيدة في هذا الوجود. وقد أمن كلّ قوّة زائفة واطمأنّ واستراح. ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئا ، وهو يعبد الله القويّ القادر العزيز القاهر. ولم يعد يخشى فوت شيء. ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء.

٢٦٨

وهو إله عادل حكيم ، فقوّته وقدرته ضمان من الظلم ، وضمان من الهوى ، وضمان من البخس. وليس كآلهة الوثنيّة والجاهليّة ذوات النزوات والشهوات. ومن ثمّ يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد ، ينال فيه العدل والرعاية والأمان.

وهو ربّ رحيم ودود. منعم وهّاب. غافر الذنب وقابل التوب. يجيب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السوء. فالمسلم في كنفه آمن آنس ، سالم غانم ، مرحوم إذا ضعف ، مغفور له متى تاب.

وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربّه الّتي يعرّفه بها الإسلام ؛ فيجد في كلّ صفة ما يؤنس قلبه ، وما يطمئنّ روحه ، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزّة والمنعة والاستقرار والسّلام.

كذلك يفيض السّلام على قلب المسلم من صحّة تصوّر العلاقة بين العبد والربّ. وبين الخالق والكون. وبين الكون والإنسان. فالله خلق هذا الكون بالحقّ ؛ وخلق كلّ شيء فيه بقدر وحكمة. وهذا الإنسان مخلوق قصدا ، وغير متروك سدى ، ومهيّأ له كلّ الظروف الكونيّة المناسبة لوجوده ، ومسخّر له ما في الأرض جميعا. وهو كريم على الله ، وهو خليفته في أرضه. والله معينه على هذه الخلافة. والكون من حوله صديق مأنوس ، تتجاوب روحه مع روحه ، حين يتّجه كلاهما إلى الله ربّه. وهو مدعوّ إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملّاه ويأنس به. وهو مدعوّ للتعاطف مع كلّ شيء ومع كلّ حيّ في هذا الوجود الكبير ، الّذي يعجّ بالأصدقاء المدعوّين مثله إلى ذلك المهرجان! والّذين يؤلّفون كلّهم هذا المهرجان!

والعقيدة الّتي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة ، وهي توحي إليه أنّ أجرا حين يرويها من عطش ، وحين يعينها على النماء ، وحين يزيل من طريقها العقبات. هي عقيدة جميلة فوق أنّها عقيدة كريمة. عقيدة تسكب في روحه السّلام ؛ وتطلقه يعانق الوجود كلّه ويعانق كلّ موجود ؛ ويشيع من حوله الأمن والرفق ، والحبّ والسّلام.

والاعتقاد بالآخرة يؤدّي دوره الأساسي في إفاضة السّلام على روح المؤمن وعالمه ؛ ونفي القلق والسخط والقنوط. إنّ الحساب الختامي ليس في هذه الأرض ؛ والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة. إنّ الحساب الختامي هناك ؛ والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب. فلا ندم على

٢٦٩

الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقّق في الأرض أو لم يلق جزاءه. ولا قلق على الأجر إذا لم يوفّ في هذه العاجلة بمقاييس الناس ، فسوف يوفّاه بميزان الله. ولا قنوط من العدل إذا توزّعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد ، فالعدل لا بدّ واقع. وما الله يريد ظلما للعباد.

والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الّذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات. بلا تحرّج ولا حياء. فهناك الآخرة فيها عطاء ، وفيها غناء ، وفيها عوض عمّا يفوت. وهذا التصوّر من شأنه أن يفيض السّلام على مجال السباق والمنافسة ؛ وأن يخلع التجمّل على حركات المتسابقين ؛ وأن يخفّف السعار الّذي ينطلق من الشعور بأنّ الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود!

ومعرفة المؤمن بأنّ غاية الوجود الإنساني هي العبادة ، وأنّه مخلوق ليعبد الله. من شأنها ـ ولا شكّ ـ أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء. ترفع شعوره وضميره ، وترفع نشاطه وعمله ، وتنظّف وسائله وأدواته. فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله ؛ وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه ؛ وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها. فأولى به ألّا يغدر ولا يفجر ؛ وأولى به ألّا يغشّ ولا يخدع ؛ وأولى به ألّا يطغى ولا يتجبّر ؛ وأولى به ألّا يستخدم أداة مدنّسة ولا وسيلة خسيسة. وأولى به كذلك ألّا يستعجل المراحل ، وألّا يعتسف الطريق ، وألّا يركب الصعب من الأمور. فهو بالغ هدفه من العبادة بالنيّة الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة. ومن شأن هذا كلّه ألّا تثور في نفسه المخاوف والمطامع ، وألّا يستبدّ به القلق في أيّة مرحلة من مراحل الطريق. فهو يعبد في كلّ خطوة ؛ وهو يحقّق غاية وجوده في كلّ خطرة. وهو يرتقي صعدا إلى الله في كلّ نشاط وفي كلّ مجال.

وشعور المؤمن بأنّه يمضي مع قدر الله ، في طاعة الله ، لتحقيق إرادة الله. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسّلام والاستقرار ؛ والمضيّ في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاقّ ؛ وبلا قنوط من عون الله ومدده ؛ وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء. ومن ثمّ يحسّ بالسلام في روحه حتّى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه. فهو إنّما يقاتل لله ، وفي سبيل الله ، ولإعلاء كلمة الله ؛ ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض مّا من أعراض هذه الحياة.

وكذلك شعوره بأنّه يمضي على سنّة الله مع هذا الكون كلّه. قانونه قانونه ، ووجهته وجهته. فلا

٢٧٠

صدام ولا خصام ، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطّاقة. وقوى الكون كلّه تتجمّع إلى قوّته ، وتهتدي بالنور الّذي يهتدي به ، وتتّجه إلى الله وهو معها يتّجه إلى الله.

والتكاليف الّتي يفرضها الإسلام على المسلم كلّها من الفطرة ولتصحيح الفطرة. لا تتجاوز الطاقة ؛ ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ؛ ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ؛ ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبّيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء. ومن ثمّ لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه. يحمل منها ما يطيق حمله ، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام.

والمجتمع الّذي ينشئه هذا المنهج الربّاني ، في ظلّ النظام الّذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة ، والضمانات الّتي يحيط بها النفس والعرض والمال. كلّها ممّا يشيع السلم وينشر روح السّلام.

هذا المجتمع المتوادّ المتحابّ المترابط المتضامن المتكافل المتناسق. هذا المجتمع الّذي حقّقه الإسلام مرّة في أرقى وأصفى صوره. ثمّ ظلّ يحقّقه في صور شتّى على توالي الحقب ، تختلف درجة صفائه ، ولكنّه يظلّ في جملته خيرا من كلّ مجتمع آخر صاغته الجاهليّة في الماضي والحاضر ، وكلّ مجتمع لوّثته هذه الجاهليّة بتصوّراتها ونظمها الأرضية!

هذا المجتمع الّذي تربطه آصرة واحدة ـ آصرة العقيدة ـ حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان ، واللّغات والألوان ، وسائر هذه الأواصر العرضيّة الّتي لا علاقة لها بجوهر الإنسان.

هذا المجتمع الّذي يسمع الله يقول له : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(١).

[٢ / ٥٨٦٩] والّذي يرى صورته في قول النبيّ الكريم : «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (٢).

هذا المجتمع الّذي من آدابه : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها)(٣). (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)(٤). (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ١٠.

(٢) مسند أحمد ٤ : ٢٧٠ ؛ مسلم ٨ : ٢٠.

(٣) النساء ٤ : ٨٦.

(٤) لقمان ٣١ : ١٨.

٢٧١

الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(١). (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٢). (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)(٣).

هذا المجتمع الّذي من ضماناته : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(٤). (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا)(٥). (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها)(٦).

[٢ / ٥٨٧٠] و «كلّ المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله» (٧).

ثمّ هذا المجتمع النظيف العفيف الّذي لا تشيع فيه الفاحشة ؛ ولا يتبجّح فيه الإغراء ، ولا تروج فيه الفتنة ، ولا ينتشر فيه التبرّج ، ولا تتلفّت فيه الأعين على العورات ، ولا ترفّ فيه الشهوات على الحرمات ، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللّحم والدّم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا. هذا المجتمع الّذي تحكمه التوجيهات الربّانية الكثيرة ، والّذي يسمع الله ـ سبحانه ـ يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٨). (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٩). (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(١٠). (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما

__________________

(١) فصلت ٤١ : ٣٤.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١١.

(٣) الحجرات ٤٩ : ١٢.

(٤) الحجرات ٤٩ : ٦.

(٥) الحجرات ٤٩ : ١٢.

(٦) النور ٢٤ : ٢٧.

(٧) مسلم ٨ : ١١ ؛ مسند أحمد ٢ : ٢٧٧.

(٨) النور ٢٤ : ١٩.

(٩) النور ٢٤ : ٢.

(١٠) النور ٢٤ : ٤.

٢٧٢

يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١). والّذي يخاطب فيه نساء النبيّ ـ وهنّ في أطهر بيت ، في أطهر بيئة ـ : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٢).

وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها ، ويأمن الزوج على زوجته ، ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم ، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم. حيث لا تقع العيون على المفاتن ، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم. فإمّا الخيانة المتبادلة حينذاك وإمّا الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب. بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن ، ترفّ عليه أجنحة السلم والطهر والأمان!

وأخيرا إنّه ذلك المجتمع الّذي يكفل لكلّ قادر عملا ورزقا ، ولكلّ عاجز ضمانة للعيش الكريم ، ولكلّ راغب في العفّة والحصانة زوجة صالحة ، والّذي يعتبر أهل كلّ حيّ مسؤولين مسؤوليّة جنائيّة لو مات فيهم جائع ؛ حتّى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالديّة.

والمجتمع الّذي تكفل فيه حرّيات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع ، بعد كفالتها بالتوجيه الربّاني المطاع. فلا يؤخذ واحد فيه بالظنّة ، ولا يتسوّر على أحد بيته ، ولا يتجسّس على أحد فيه متجسّس ، ولا يذهب فيه دم هدرا والقصاص حاضر ؛ ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهبا والحدود حاضرة.

__________________

(١) النور ٢٤ : ٣٠ ـ ٣١.

(٢) الأحزاب ٣٣ : ٣٢ ـ ٣٣.

٢٧٣

المجتمع الّذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون. كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة الّتي يشعر معها كلّ أحد أنّ حقّه منوط بحكم شريعة الله ، لا بإرادة حاكم ، ولا هوى حاشية ، ولا قرابة كبير.

وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية ، الّذي لا يخضع البشر فيه للبشر. إنّما يخضعون حاكمين ومحكومين لله ولشريعته ؛ وينفّذون حاكمين ومحكومين حكم الله وشريعته. فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقيّة أمام الله ربّ العالمين وأحكم الحاكمين ، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين.

هذه كلّها بعض معاني السلم الّذي تشير إليه الآية وتدعو الّذين آمنوا للدخول فيه كافّة. ليسلموا أنفسهم كلّها لله ؛ فلا يعود لهم منها شيء ، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظّ ؛ إنّما تعود كلّها لله في طواعيّة وفي انقياد وفي تسليم.

ولا يدرك معنى هذا السلم حقّ إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس الّتي لا تطمئنّ بالإيمان ، في المجتمعات الّتي لا تعرف الإسلام ، أو الّتي عرفته ثمّ تنكّرت له ، وارتدّت إلى الجاهليّة ، تحت عنوان من شتّى العنوانات في جميع الأزمان. هذه المجتمعات الشقيّة الحائرة على الرغم من كلّ ما قد يتوافر لها من الرخاء المادّي والتقدّم الحضاري ، وسائر مقوّمات الرقي في عرف الجاهليّة الضالّة التصوّرات المختلّة الموازين.

وحسبنا مثل واحد ممّا يقع في بلد أروبّي من أرقى بلاد العالم كلّه وهو «السويد». حيث يخصّ الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام. وحيث يستحقّ كلّ فرد نصيبه من التأمين الصحّي وإعانات المرض الّتي تصرف نقدا والعلاج المجّاني في المستشفيات. وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجّان ، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوّقين وحيث تقدّم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت. وحيث وحيث من ذلك الرخاء الماديّ والحضاري العجيب.

ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادّي والحضاري وخلوّ القلوب من الإيمان بالله؟

إنّه شعب مهدّد بالانقراض ، فالنسل في تناقص مطّرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق

٢٧٤

بمعدّل طلاق واحد لكلّ ستّ زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرّج الفتن وحرّية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكّرات والمخدّرات ؛ ليعوّض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة. والأمراض النفسيّة والعصبيّة ، والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب. ثمّ الانتحار. والحال كهذا في أمريكا. والحال أشنع من هذا في روسيا.

إنّها الشقوة النكدة المكتوبة على كلّ قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة. فلا يذوق طعم السلم الّذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافّة ، ولينعموا فيه بالأمن والظلّ والراحة والقرار : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

ولمّا دعا الله الّذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافّة ، حذّرهم أن يتّبعوا خطوات الشيطان. فإنّه ليس هناك إلّا اتّجاهان اثنان : إمّا الدخول في السلم كافّة ، وإمّا اتّباع خطوات الشيطان. إمّا هدى وإمّا ضلال. إمّا إسلام وإمّا جاهليّة. إمّا طريق الله وإمّا طريق الشيطان. وإمّا هدى الله وإمّا غواية الشيطان. وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه ، فلا يتلجلج ولا يتردّد ولا يتحيّر بين شتّى السبل وشتّى الاتّجاهات.

إنّه ليست هنالك مناهج متعدّدة للمؤمن أن يختار واحدا منها ، أو يخلط واحدا منها بواحد. كلّا! إنّه من لا يدخل في السلم بكلّيته ، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته ، ومن لا يتجرّد من كلّ تصوّر آخر ، ومن كلّ منهج آخر ، ومن كلّ شرع آخر. إنّ هذا في سبيل الشيطان ، سائر على خطوات الشيطان. ليس هنالك حلّ وسط ، ولا منهج بين بين ، ولا خطّة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنّما هناك حقّ وباطل. هدى وضلال. إسلام وجاهليّة. منهج الله أو غواية الشيطان. والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافّة ؛ ويحذّرهم في الثانية من اتّباع خطوات الشيطان. ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم ، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم ، تلك العدواة الواضحة البيّنة ، الّتي لا ينساها إلّا غافل. والغفلة لا تكون مع الإيمان.

ثمّ يخوّفهم عاقبة الزلل بعد البيان : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

٢٧٥

وتذكيرهم بأنّ الله (عَزِيزٌ) يحمل التلويح بالقوّة والقدرة والغلبة ، وأنّهم يتعرّضون لقوّة الله حين يخالفون عن توجيهه. وتذكيرهم بأنّه (حَكِيمٌ). فيه إيحاء بأنّ ما اختاره لهم هو الخير ، وما نهاهم عنه هو الشرّ ، وأنّهم يتعرّضون للخسارة حين لا يتّبعون أمره ولا ينتهون عمّا نهاهم عنه. فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في هذا المقام» (١).

***

[٢ / ٥٨٧١] أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) كذا قرأها بالنصب (٢) يعني مؤمني أهل الكتاب ، فإنّهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمر التوراة والشرائع الّتي أنزلت فيهم يقول : ادخلوا في شرائع دين محمّد ولا تدعوا منها شيئا ، وحسبكم بالإيمان بالتوراة وما فيها (٣).

[٢ / ٥٨٧٢] وأخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) قال : نزلت في ثعلبة وعبد الله بن سلام ، وابن يامين ، وأسد وأسيد ابني كعب ، وسعيد بن عمرو ، وقيس بن زيد ، كلّهم من يهود قالوا : يا رسول الله ، يوم السبت يوم كنّا نعظّمه ، فدعنا فلنسبت فيه ، وأنّ التوراة كتاب الله ، فدعنا فلنقم بها باللّيل ، فنزلت (٤).

[٢ / ٥٨٧٣] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : السلم الإسلام ، والزلل ترك الإسلام (٥).

[٢ / ٥٨٧٤] وعن الربيع في قوله : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) يقول : ادخلوا في الطاعة (٦).

[٢ / ٥٨٧٥] وقال قتادة (فِي السِّلْمِ) يعني الموادعة (٧).

[٢ / ٥٨٧٦] وروى العيّاشيّ عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٢٩٩ ـ ٣٠٦.

(٢) يعني : بفتح السّين من السّلم أي السّلام والإسلام.

(٣) الدرّ ١ : ٥٧٩ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٦٩ ـ ٣٧٠ / ١٩٩٤ ـ ١٩٤٥ ؛ ابن كثير ١ : ٢٥٥.

(٤) الدرّ ١ : ٥٧٩ ؛ الطبري ٢ : ٤٤٢ / ٣١٨٨ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٦٣ ـ ١٦٤ ، عن قتادة والضحّاك والسّدّي.

(٥) الدرّ ١ : ٥٧٩ ؛ الطبري ٢ : ٤٣٩ / ٣١٨٣ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٠ و ٣٧١ / ١٩٤٧ و ١٩٥٤.

(٦) الطبري ٢ : ٤٤٠ / ٣١٨٧.

(٧) ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٠ / ١٩٤٩.

٢٧٦

ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) قال : «السلم هم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الله بالدخول فيه» (١).

[٢ / ٥٨٧٧] وأيضا روى عنه عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «السلم هو آل محمّد ، أمر الله بالدخول فيه وهم حبل الله الّذي أمر بالاعتصام به قال الله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا»)(٢).

[٢ / ٥٨٧٨] وعن سفيان الثوري قال : أنواع البرّ كلّها (٣).

قال الطبري ـ بعد أن نقل الأقوال ورجّح قول ابن عبّاس أنّه السلم أي الإسلام ـ : وإنّما اخترنا ما اخترنا من التأويل في قوله : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) ، وصرفنا معناه إلى الإسلام؟ لأنّ الآية مخاطب بها المؤمنون ، فلن يعدو الخطاب إذ كان خطابا للمؤمنين من أحد أمرين ، إمّا أن يكون خطابا للمؤمنين بمحمّد المصدّقين به وبما جاء به ، فإن يكن ذلك كذلك ، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان : ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم ، لأنّ المسالمة والمصالحة إنّما يؤمر بها من كان حربا ، بترك الحرب. فأمّا الموالي فلا يجوز أن يقال له : صالح فلانا ، ولا حرب بينهما ولا عداوة!

أو يكون خطابا لأهل الإيمان بمن قبل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأنبياء المصدّقين بهم وبما جاؤوا به من عند الله ، المنكرين محمّدا ونبوّته ، فقيل لهم : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) يعني به الإسلام لا الصلح. لأنّ الله ـ عزوجل ـ إنّما أمر عباده بالإيمان به وبنبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جاء به ، وإلى ذلك دعاهم دون المسالمة والمصالحة ، بل نهى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الإسلام ، فقال : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)(٤) وإنّما أباح له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الأحوال إذا دعوه إلى الصلح ابتداء المصالحة ، فقال له جلّ ثناؤه : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها)(٥) فأمّا دعاؤهم إلى الصلح ابتداء فغير موجود في القرآن ، فيجوز توجيه قوله : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) إلى ذلك.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٠٦ ؛ العيّاشيّ ١ : ١٢١ / ٢٩٧ ؛ البحار ٣٤ : ١٥٩ / ٣ ، باب ٤٧ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣١١ ؛ البرهان ١ : ٤٥٦ / ٦.

(٢) العيّاشيّ ١ : ١٢١ / ٢٩٩ ؛ البرهان ١ : ٤٥٦ / ٨ ؛ مختصر بصائر الدرجات : ٦٤ ؛ البحار ٢٤ : ١٥٩ / ٤.

(٣) الثعلبي ٢ : ١٢٦ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٦٤ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧٠ / ١٩٤٨ ، نقلا عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.

(٤) محمّد ٤٧ : ٣٥.

(٥) الأنفال ٨ : ٦١.

٢٧٧

فإن قال لنا قائل : فأيّ هذين الفريقين دعي إلى الإسلام كافّة؟

قيل : قد اختلف في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : دعي إليه المؤمنون بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما جاء به. وقال آخرون : قيل : دعي إليه المؤمنون بمن قبل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأنبياء ، المكذّبون بمحمّد.

فإن قال : فما وجه دعاء المؤمن بمحمّد وبما جاء به إلى الإسلام؟ قيل : وجه دعائه إلى ذلك الأمر له بالعمل بجميع شرائعه ، وإقامة جميع أحكامه وحدوده ، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه. وإذا كان ذلك معناه ، كان قوله «كافّة» من صفة السلم ، ويكون تأويله : ادخلوا في العمل بجميع معاني السلم ، ولا تضيّعوا شيئا منه يا أهل الإيمان بمحمّد وما جاء به! (١)

[٢ / ٥٨٧٩] وعن عاصم الأحول عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل الإسلام كمثل الشجرة الثابتة ، الإيمان بالله أصلها ، الصلوات الخمس جذوعها ، وصيام شهر رمضان لحاؤها ، الحجّ والعمرة جناها ، والوضوء وغسل الجنابة شربها ، وبرّ الوالدين وصلة الرحم غصونها ، والكفّ عمّا حرّم الله ورقها ، والأعمال الصالحة ثمرها ، وذكر الله تعالى عروقها». قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كما لا تحسن الشجرة ولا تصلح إلّا بالورق الأخضر ، كذلك الإسلام لا يصلح إلّا بالكفّ عن محارم الله تعالى والأعمال الصالحة» (٢).

[٢ / ٥٨٨٠] وروى مسلم بالإسناد إلى أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «والّذي نفس محمّد بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة (٣) يهوديّ ولا نصرانيّ ثمّ يموت ولم يؤمن بالّذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النار» (٤).

[٢ / ٥٨٨١] وقال حذيفة بن اليمان في هذه الآية : الإسلام ثمانية أسهم ؛ الصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والصوم سهم ، والحجّ سهم ، والعمرة سهم ، والجهاد سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ؛ وقد خاب من لا سهم له في الإسلام! (٥)

__________________

(١) الطبري ٢ : ٤٤١ ـ ٤٤٢.

(٢) الثعلبي ٢ : ١٢٧ / ١٠٤ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٦٤.

(٣) يقصد بهم أمّة الناس وجماعتهم.

(٤) مسلم ١ : ٩٣ ، كتاب الإيمان ؛ كنز العمّال ١ : ٧٢ / ٢٨٠ ؛ مجمع البيان ٥ : ٢٥٦.

(٥) الثعلبي ٢ : ١٢٦ ـ ١٢٧ ؛ البغوي ١ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨ ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ٤ : ٦٠٠ / ٥ ، باب ٢ ، وليس فيه : «والعمرة سهم» ؛ القرطبي ٣ : ٢٣ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٦٤.

٢٧٨

[٢ / ٥٨٨٢] وروى أحمد والثعلبي عن جابر بن عبد الله أنّ عمر بن الخطّاب أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب ، فقرأه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فغضب فقال : «أمتهوّكون فيها يا ابن الخطّاب! والّذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحقّ فتكذّبوا به ، أو بباطل فتصدّقوا به ، والّذي نفسي بيده لو أنّ موسى عليه‌السلام كان حيّا ما وسعه إلّا أن يتّبعني» (١).

[٢ / ٥٨٨٣] وروى ابن بابويه بالإسناد إلى محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام أنّه سئل عن امرأة جعلت مالها هديا وكلّ مملوك لها حرّا إن كلّمت أختها أبدا؟ قال : «تكلّمها وليس هذا بشيء ، إنّما هذا وشبهه من خطوات الشيطان» (٢)!

[٢ / ٥٨٨٤] وقال : وسئل عن الرجل يقول : عليّ ألف بدنة وهو محرم بألف حجّة! قال : تلك خطوات الشيطان (٣).

[٢ / ٥٨٨٥] وأخرج ابن جرير عن السّدّي (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) قال : فإن ضللتم من بعد ما جاءكم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤).

[٢ / ٥٨٨٦] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يقول : عزيز في نقمته إذا انتقم ، حكيم في أمره (٥).

__________________

(١) مسند أحمد ٣ : ٣٨٧ ؛ الثعلبي ٢ : ١٢٧ / ١٠٥ ؛ البغوي ١ : ٢٦٨ / ٢١٥ ؛ كنز العمّال ١ : ٢٠١ / ١٠١٠ باختصار ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٦٥ ـ ١٦٦ بمعناه ؛ مجمع الزوائد ١ : ١٧٣ ـ ١٧٤.

(٢) نور الثقلين ١ : ٢٠٧ ؛ الفقيه ٣ : ٣٦٠ / ٤٢٧٤ ، باب الأيمان والنذور والكفّارات ؛ العيّاشيّ ١ : ٩٢ / ١٤٧ ، وفيه : «هذا وأشباهه» ؛ البحار ١٠١ : ٢٢٣ / ٢٩ ، باب ٤.

(٣) نور الثقلين ١ : ٢٠٧ ؛ الفقيه ٣ : ٣٦٦ / ٤٢٩٥ ؛ البحار ٩٦ : ٦٩ / ١٣ و ١٠١ : ٢٣٧ / ١١٨ ؛ الكافي ٧ : ٤٤١ / ١٢.

(٤) الدرّ ١ : ٥٧٩ ؛ الطبري ٢ : ٤٤٥ / ٣١٩٩ ؛ الثعلبي ٢ : ١٢٧ ؛ التبيان ٢ : ١٨٧ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٦٦ ، بمعناه ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧١ / ١٩٥٥.

(٥) الدرّ ١ : ٥٧٩ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٧١ / ١٩٥٦ ، وزاد : وروي عن قتادة والربيع بن أنس ، نحو ذلك ؛ الطبري ٢ : ٤٤٥ / ٣٢٠٣ ، نقلا عن الربيع ؛ ابن كثير ١ : ٢٥٥ ، نقلا عن أبي العالية وقتادة والربيع بن أنس.

٢٧٩

قال تعالى :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢))

وهنا يتّخذ السياق أسلوبا جديدا في التحذير من عاقبة الانحراف عن منهج السلم وعن طريق السّلام ، اتّباعا لخطوات الشيطان. فيتحدّث بصيغة الغيبة ـ لغرض إفادة الشمول ـ بدلا من صيغة الخطاب ، والّتي كانت تبدو بمظاهرها خاصّة بأهل الزلل والزيغ من أهل النفاق والشرك المواجهين للخطاب.

والسؤال في الآية سؤال استنكار : ماذا دهمهم فظلّوا حيارى في أمرهم ، لا إلى السلم يجنحون ولا على الكفاح والمنابذة يجترءون ، كأنّهم ينتظرون العاقبة. ألا وهي قريبة ولا تسمح الهروب عنها ، بعد أن قضي الأمر.

إذن فما الّذي قعد بهم عن الاستجابة؟ ماذا ينتظرون؟ وماذا يرتقبون؟ تراهم سيظلّون هكذا في موقفهم متأرجحين ، حتّى يأتيهم أمر الله وقضاؤه ، في حلكة من ظلام الوحشة والبؤس لهم وتعمل فيهم المقدّرات الكائنة لا محالة.

وبتعبير آخر : هل ينتظرون ويتلكّأون حتّى يأتيهم اليوم الرعيب الموعود ، ولات ساعة مندم. إذ قضى الأمر وانتهت فسحة الانتظار ، وأفلتت الفرصة ، وعزّت النجاة ، ووقفوا وجها لوجه تقدير الله وقضائه الكائن ، ولا مهرب إلّا إليه. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) كلّها ، ولا عاصم ذلك اليوم من أمر الله.

قال سيّد قطب : إنّها طريقة القرآن العجيبة ، الّتي تفرّده وتميّزه من سائر القول. الطريقة الّتي تحيّر المشهد وتستحضره في التوّ واللحظة ، وتقف القلوب إزاءه وقفة من يرى ويسمع ويعاني ما فيه!

٢٨٠