التفسير الأثري الجامع - ج ٥

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-06-7
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

الأوّل. وبه صرّح الأصحاب (١).

قال : وهل يفرّق بين العامد والناسي والجاهل في ذلك؟ نظر ؛ من العموم ، وعدم وجوب الكفّارة على الناسي في غير الصيد وعدم مؤاخذته فيه. ويمكن الفرق بين الصيد وغيره ، فيثبت الحكم فيه مطلقا ، بخلاف غيره. أمّا الجاهل ، فالظاهر أنّه كالعامد ، مع احتمال خروجه أيضا ، لعدم وجوب الكفّارة عليه في غير الصيد.

قال : وفي بعض الأخبار (٢) دلالة على اعتبار اتّقاء جميع المحرّمات ، واختاره ابن إدريس (٣).

قال : والاتّقاء معتبر في إحرام الحجّ قطعا ، وفي اعتبار وقوعه في عمرة التمتّع أيضا وجه قويّ ، لارتباطها بالحجّ ، ودخولها فيه ، كما دلّ عليه الخبر (٤).

قال : وكلام الجماعة في هذه الفروع غير محرّر! (٥).

وهكذا ذكر المحقّق الثاني رحمه‌الله : أنّ المراد باتّقاء النساء عدم إتيانهنّ في حال الإحرام ، بمعنى : عدم الجماع ، لا مطلق ما يحرم على المحرم ممّا يتعلّق بهنّ ، كالقبلة واللمس بشهوة ، على ما يظهر من عبارة الحديث (٦) وكذا الظاهر أنّ المراد من اتّقاء الصيد عدم قتله.

قال : ويحتمل العموم في كلّ من الأمرين ، والأصل يدفعه! (٧)

قال : وفي بعض الأخبار اعتبار اتّقاء جميع محرّمات الإحرام ، واختاره ابن إدريس. والمشهور الأوّل.

قال : والاتّقاء معتبر في إحرام الحجّ قطعا ، وفي عمرة التمتّع بالإضافة إلى حجّه ، في وجه قويّ ؛ لأنّها جزء من حجّ التمتّع. لا العمرة المبتولة (المفردة).

__________________

(١) راجع : جامع المقاصد ٣ : ٢٦٢.

(٢) الفقيه ٢ : ٤٨١ / ٣٠٢٢ ؛ الوسائل ١٤ : ٢٧٩ ، باب ١١.

(٣) نسبه إليه في جامع المقاصد ٣ : ٢٦٣. وراجع : السرائر ١ : ٦٠٥. قال فيمن بات الثلاث ليال بغير منى : أن ليس له النفر الأوّل ، وذلك أنّ من عليه كفّارة ، لا يجوز له أن ينفر في النفر الأوّل. وهذا عليه كفّارة لأجل إخلاله بالمبيت ليلتين.

(٤) التهذيب ٥ : ٤٣٤ ؛ الإستبصار ٢ : ٣٢٥ ؛ الوسائل ١٤ : ٣٠٦ / ١٩٢٦٩ ، باب ٥ من العمرة.

(٥) مسالك الأفهام ٢ : ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

(٦) الكافي ٤ : ٥٢٢ / ١١.

(٧) إذا كان الأصل المرجع في مثل المقام هو إطلاق اللفظ في الآية الكريمة ـ كما نبّهنا ـ فالأصل في مثله يقتضي العموم ، فهو يستدعيه وليس يدفعه!

٢٤١

قال : وهل يفرّق بين العامد والناسي في الأمرين معا ، فيكون الناسي متّقيا ، أم في النساء فقط ، إذ لا شيء على الناسي لو جامع ، بخلاف قتل الصيد سهوا ، أم لا يعدّ متّقيا فيهما؟ أوجه. ولم أظفر بذلك في كلام الأصحاب! (١)

قلت : والأوجه ، الاقتصار على المتعمّد القاصد في فعل المحرّم (من فروض الحجّ وتروكه) ، والّتي فيها كفّارة العمد عصيانا. وذلك وقوفا مع تعبير «الاتّقاء» في الآية ؛ إذ لا اتّقاء في غير معصية. فالمستظلّ لضرورة ، يفدي من غير معصية. وكذا لا معصية ولا فداء في مقاربة النساء سهوا أو جهلا. وكذا في الطيب والادّهان ونحو ذلك. وأكثر المحرّمات لا كفّارة فيها ، كما لا دليل قاطعا على اعتبار الاتّقاء منها ، إلّا بضرب من الاحتياط. والأحوط الاقتصار على موضع اليقين ، وهو ما صدق عليه التورّط في حرام وعدم الاتّقاء من عصيان عارم. وتفصيل الكلام فيه موكول إلى مجاله في الفقه.

***

وقد اختلف سائر الفقهاء والمفسّرين في المراد من الآية ، ولا سيّما بالنظر إلى قوله تعالى : (لِمَنِ اتَّقى) ، ماذا يكون موضع هذا القيد؟

قال أبو عبد الله القرطبي : واللّام من قوله : (لِمَنِ اتَّقى) متعلّقة بالغفران ، التقدير : المغفرة لمن اتّقى. وهذا على تفسير ابن مسعود وعليّ.

[٢ / ٥٧٧٦] قال قتادة : ذكر لنا أنّ ابن مسعود قال : إنّما جعلت المغفرة لمن اتّقى ، بعد انصرافه من الحجّ ، عن جميع المعاصي.

وقال الأخفش : التقدير : ذلك لمن اتّقى.

وقال بعضهم : لمن اتّقى ، يعني قتل الصيد في الإحرام وفي الحرم.

وقيل : التقدير : الإباحة لمن اتّقى. روي هذا عن ابن عمر.

وقيل : السلامة لمن اتّقى.

وقيل : هي متعلّقة بالذكر الّذي في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا ...) أي الذكر لمن اتّقى (٢).

__________________

(١) جامع المقاصد ٣ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣. راجع : جواهر الكلام ٢٠ : ٣٦ ـ ٤١.

(٢) القرطبي ٣ : ١٤. وهكذا تراه ذكر الاختلاف ولم يرجّح شيئا.

٢٤٢

وقال الفخر الرازي : أمّا قوله تعالى : (لِمَنِ اتَّقى) ففيه وجوه :

أحدها : أنّ الحاجّ يرجع مغفورا له ، بشرط أن يتّقي الله فيما بقي من عمره ، ولم يرتكب ما يستوجب به العذاب! ومعناه : التحذير من الاتّكال على ما سلف من أعمال الحجّ. فبيّن ـ تعالى ـ أنّ عليهم مع ذلك ملازمة التقوى ومجانبة الاغترار بالحجّ السابق.

وثانيها : أنّ هذه المغفرة إنّما تحصل لمن كان متّقيا قبل حجّه ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(١). وحقيقته أنّ المصرّ على الذنب لا ينفعه حجّه ، وإن كان قد أدّى الفرض في الظاهر!

وثالثها : أنّ هذه المغفرة إنّما تحصل لمن كان متّقيا عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحجّ ، كما :

[٢ / ٥٧٧٧] روي في الخبر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» (٢).

قال : واعلم أنّ الوجه الأوّل إشارة إلى اعتبار الاتّقاء في الحال. والتحقيق أنّه لا بدّ من الكلّ.

ثمّ قال : وقال بعض المفسّرين : المراد بقوله : (لِمَنِ اتَّقى) ما يلزمه من التوقّي عنه في الحجّ ، من قتل الصيد وغيره ، لأنّه إذا لم يجتنب ذلك صار مأثوما ، وربما صار عمله محبطا!

قال : وهذا ضعيف من وجهين :

الأوّل : أنّه تقييد للّفظ المطلق بغير دليل.

الثاني : أنّ هذا لا يصحّ إلّا إذا حمل على ما قبل هذه الأيّام ، لأنّه في يوم النحر ـ بعد أن رمى وطاف وحلق ـ تحلّل قبل رمي الجمار ، فلا يلزمه اتّقاء الصيد إلّا في الحرم ، لكن ذاك ليس للإحرام. لكن اللفظ مشعر بأنّ هذا الاتّقاء معتبر في هذه الأيّام ، فسقط هذا الوجه! (٣).

***

قلت : وما هذا التشويش والاضطراب إلّا لأنّهم لم يمعنوا النظر في ملابسات الآية وسياق

__________________

(١) المائدة ٥ : ٢٧.

(٢) الدرّ ١ : ٥٣٠ ؛ البخاري ٢ : ١٤١ ؛ مسلم ٤ : ١٠٧ ؛ الترمذي ٢ : ١٥٣ / ٨٠٨ ؛ ابن ماجة ٢ : ٩٦٤ ـ ٩٦٥ / ٢٨٨٩.

(٣) التفسير الكبير ٥ : ١٩٥ ـ ١٩٦.

٢٤٣

تعبيرها. ليست الآية بصدد بيان غفران ذنوب الحاجّ ـ وإن كان مغفورا له بلا ريب ، إذا كان قد أتى الله بقلب سليم ـ غير أنّ الآية ، بملاحظة موضعها الخاصّ ، تعني الرخصة ورفع الحرج عمّن تعجّل أو تأخّر ، حيث كلا الأمرين لا حرج فيه.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى جاءت لتقيّد الرخصة في التعجّل بمن اتّقى في حجّه. أي أو تأخّر ، حيث كلا الأمرين لا حرج فيه. واظب على أداء المناسك وفق ما أمره الله. وهذا مطلق في جميع فروض الحجّ وتروكه. أمّا حمله على إرادة ملازمة التقوى فيما سبق من أيّام عمره أو فيما لحق ، فهذا يأباه السياق وترفضه المناسبة القائمة بين أجزاء الكلام.

فقوله تعالى : (لِمَنِ اتَّقى) عامّ من جهة وخاصّ من جهة. عامّ من جهة إرادة عموم تروك الإحرام. وخاصّ من جهة إرادة ملازمة التقوى أيّام إحرامه.

وكلّ ذاك العموم وهذا الخصوص مستفاد من لحن الآية ومن سياقها الخاصّ ورعاية المناسبة القائمة بين أجزاء الكلام.

وقد عرفت كلام الزمخشري الآنف ـ وهو العارف بأساليب الكلام ـ : «أي ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجّل والمتأخّر لأجل الحاجّ المتّقي ، لئلّا يتخالج في قلبه شيء منهما ؛ فيحسب أنّ أحدهما يرهق صاحبه آثام في الإقدام عليه ، لأنّ ذا التقوى حذر متحرّز من كلّ ما يريبه ، ولأنّه هو الحاجّ على الحقيقة عند الله» (١).

أي لا ينبغي للحاجّ المتّقي أن يتخالج في نفسه التأثّم من التعجّل أو التأخّر. لأنّه بفضل تقواه سار على منهج قويم في أداء مناسكه. فهذا لا حرج عليه ، سواء تعجّل في يومين أم تأخّر. أي أنّ هذه الفسحة إنّما هي لمن لزم التقوى في حجّه. وليست لمن ركب المعاصي ، ولزمته كفّارة معاصيه ، ومنها منعه من النفر الأوّل ، وإلزامه البقاء حتّى النفر الأخير ، كفّارة لما سبق منه من التورّط والتفريط.

[٢ / ٥٧٧٨] روى العيّاشيّ بالإسناد إلى حمّاد بن عثمان عن الإمام الصادق عليه‌السلام في قوله : (لِمَنِ اتَّقى) ، قال : «فإن ابتلي بشيء من الصيد ففداه ، فليس له أن ينفر في يومين» (٢).

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٢٥٠.

(٢) العيّاشيّ ١ : ١١٩ / ٢٨٧ ؛ البرهان ٢ : ٤٤٧ / ٢٥.

٢٤٤

[٢ / ٥٧٧٩] وفي رواية الشيخ : «فإن أصابه لم يكن له أن ينفر في النفر الأوّل» (١).

فضل زيارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

[٢ / ٥٧٨٠] أخرج البيهقي عن حاطب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي ، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة» (٢).

[٢ / ٥٧٨١] وأخرج الطيالسي والبيهقي في الشعب عن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من زار قبري كنت له شفيعا أو شهيدا ، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين يوم القيامة» (٣).

[٢ / ٥٧٨٢] وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جاءني زائرا ، لم تنزعه حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّا عليّ أن أكون له شفيعا يوم القيامة» (٤).

[٢ / ٥٧٨٣] وأخرج الحكيم الترمذي والبزّار وابن خزيمة وابن عدي والدار قطني والبيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي» (٥).

[٢ / ٥٧٨٤] وأخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى والطبراني والدار قطني والبيهقي في الشعب وابن عساكر عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي» (٦).

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٧٣ / ٩٣٣ ؛ البرهان ٢ : ٤٤٦ / ١٣.

(٢) الدرّ ١ : ٥٦٩ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٨٨ / ٤١٥١.

(٣) الدرّ ١ : ٥٦٩ ؛ مسند الطيالسي : ١٢ ـ ١٣ ، وفيه : من زار قبري أو من زارني كنت له ... ؛ الشعب ٣ : ٤٨٨ ـ ٤٨٩ / ٤١٥٣ ، وفيه : يقول : من زار قبري أو قال : من زارني كنت له شفيعا أو كلاهما ومن مات ... ؛ البيهقي ٥ : ٢٤٥ ، باب زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ كنز العمّال ٥ : ١٣٥ / ١٢٣٧١.

(٤) الدرّ ١ : ٥٦٩ ؛ الكبير ١٢ : ٢٢٥ / ١٣١٤٩ ؛ الأوسط ٥ : ١٦ / ٤٥٤٦ ؛ مجمع الزوائد ٤ : ٢ ، باب زيارة سيّدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ كنز العمّال ١٢ : ٢٥٦ / ٣٤٩٢٨ ، وفيه «لا يعمده» بدل : «لم تنزعه».

(٥) الدرّ ١ : ٥٦٩ ؛ نوادر الأصول ٢ : ٦٧ ، أصل ١١٢ ؛ مختصر زوائد مسند البزّار ١ : ٤٨١ / ٨٢٢ ، وفيه : «حلّت» بدل : «وجبت» ؛ الكامل ٦ : ٣٥١ ؛ الدار قطني ٢ : ٢٧٨ / ١٩٤ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٩٠ / ٤١٥٩ ؛ كنز العمّال ١٥ : ٦٥١ / ٤٢٥٨٣ ؛ مجمع الزوائد ٤ : ٢.

(٦) الدرّ ١ : ٥٦٩ ؛ الكبير ١٢ : ٣١٠ / ١٣٤٩٦ ؛ الدار قطني ٢ : ٢٧٨ / ١٩٢ ؛ الشعب ٣ : ٤٨٩ / ٤١٥٤ ؛ البيهقي ٥ : ٢٤٦ ، باب زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ مجمع الزوائد ٤ : ٢.

٢٤٥

[٢ / ٥٧٨٥] وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة» (١).

[٢ / ٥٧٨٦] وأخرج البيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من عبد يسلّم عليّ عند قبري إلّا وكّل الله به ملكا يبلّغني ، وكفى أمر آخرته ودنياه ، وكنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة» (٢).

[٢ / ٥٧٨٧] وأخرج البيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من مسلم يسلّم عليّ إلّا ردّ الله عليّ روحي حتّى أردّ عليه‌السلام» (٣).

[٢ / ٥٧٨٨] وأخرج البيهقي عن ابن عمر : أنّه كان يأتي القبر فيسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يمسّ القبر ، ثمّ يسلّم على أبي بكر ثمّ على عمر (٤).

[٢ / ٥٧٨٩] وأخرج البيهقي عن محمّد بن المنكدر قال : رأيت جابرا وهو يبكي عند قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول : ها هنا تسكب العبرات ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة» (٥).

[٢ / ٥٧٩٠] وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن منيب بن عبد الله بن أبي أمامة قال : رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوقف ، فرفع يديه حتّى ظننت أنّه افتتح الصلاة ، فسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ انصرف (٦).

[٢ / ٥٧٩١] وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن سليمان بن سحيم قال : رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم قلت : يا رسول الله هؤلاء الّذين يأتونك فيسلّمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال : نعم ، وأردّ عليهم! (٧)

[٢ / ٥٧٩٢] وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أبي فديك قال : سمعت بعض من أدركت يقول :

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٦٩ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٨٩ ـ ٤٩٠ / ٤١٥٧ ؛ كنز العمّال ١٥ : ٦٥٢ / ٤٢٥٨٤.

(٢) الدرّ ١ : ٥٦٩ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٨٩ / ٤١٥٦ ؛ كنز العمّال ١ : ٤٩٨ / ٢١٩٦.

(٣) الدرّ ١ : ٥٧٠ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٩٠ ـ ٤٩١ / ٤١٦١.

(٤) الدرّ ١ : ٥٧٠ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٨٧ / ٤١٥٠ ، بلفظ : عن ابن عمر أنّه كان إذا قدم من سفر بدأ بقبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلّى عليه وسلّم ودعا له ، ولا يمسّ القبر ، ثمّ يسلّم على أبي بكر ، ثمّ قال : السّلام عليك يا أبه.

(٥) الدرّ ١ : ٥٧٠ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٩١ / ٤١٦٣.

(٦) الدرّ ١ : ٥٧٠ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٩١ / ٤١٦٤.

(٧) الدرّ ١ : ٥٧٠ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٩١ / ٤١٦٥.

٢٤٦

بلغنا أنّه من وقف عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتلا هذه الآية : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(١) صلّى الله عليك يا محمّد ، حتّى يقولها سبعين مرّة ، فأجابه ملك : صلّى الله عليك يا فلان ، لم تسقط لك حاجة (٢).

[٢ / ٥٧٩٣] وأخرج البيهقي عن أبي حرب الهلالي قال : حجّ أعرابيّ ، فلمّا جاء إلى باب مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أناخ راحلته ، فعقلها ، ثمّ دخل المسجد حتّى أتى القبر ، ووقف بحذاء وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ، جئتك مثقلا بالذنوب والخطايا ، ومستشفعا بك على ربّك ، لأنّه قال في محكم كتابه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(٣) وقد جئتك ـ بأبي أنت وأمّي ـ مثقلا بالذنوب والخطايا ، أستشفع بك على ربّك أن يغفر لي ذنوبي وأن تشفع فيّ. ثمّ أقبل في عرض الناس وهو يقول :

يا خير من دفنت في الترب أعظمه

فطاب من طيبهنّ القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم (٤)

[٢ / ٥٧٩٤] وأخرج البيهقي عن حاتم بن مروان قال : كان عمر بن عبد العزيز يوجّه بالبريد قاصدا إلى المدينة ليقرىء عنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السّلام (٥).

***

[٢ / ٥٧٩٥] وهكذا روى أبو القاسم جعفر بن محمّد (ابن قولويه) بالإسناد إلى الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري بعد موتي ، كان كمن هاجر إليّ في حياتي ، فإن لم تستطيعوا فابعثوا إليّ السّلام ، فإنّه يبلغني» (٦).

[٢ / ٥٧٩٦] وعن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أتاني زائرا كنت شفيعه يوم القيامة» (٧).

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٥٦.

(٢) الدرّ ١ : ٥٧٠ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٩٢ / ٤١٦٩.

(٣) النساء ٤ : ٦٤.

(٤) الدرّ ١ : ٥٧٠ ـ ٥٧١ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٩٥ ـ ٤٩٦ / ٤١٧٨.

(٥) الدرّ ١ : ٥٧٠ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٩١ ـ ٤٩٢ / ٤١٦٦.

(٦) كامل الزيارات : ١٤ / ١٧.

(٧) المصدر : ١٢ / ١.

٢٤٧

[٢ / ٥٧٩٧] وعن أبي نجران ، قال : قلت لأبي جعفر الثاني (الإمام الجواد) عليه‌السلام : جعلت فداك ، ما لمن زار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمّدا؟ قال : «يدخله الله الجنّة» (١).

وقوله : «متعمّدا» أي قاصدا له بالذات.

[٢ / ٥٧٩٨] كما في رواية أخرى : «من زار قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاصدا ، له الجنّة» (٢).

[٢ / ٥٧٩٩] وعن أبي بكر الحضرمي قال : أمرني أبو عبد الله عليه‌السلام أن أكثر الصلاة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما استطعت ، وقال : إنّك لا تقدر عليه كلّما شئت. وقال لي : تأتي قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قلت : نعم ، فقال : «أما إنّه يسمعك من قريب ، ويبلغه عنك إذا كنت نائيا» (٣).

[٢ / ٥٨٠٠] وعن عامر بن عبد الله ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي زدت جمّالي دينارين أو ثلاثا على أن يمرّ بي إلى المدينة! فقال : قد أحسنت ، أما أيسر هذا ، تأتي قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أما إنّه يسمعك من قريب ، ويبلغه عنك من بعيد» (٤).

[٢ / ٥٨٠١] وعن محمّد بن سليمان الديلمي عن أبي حجر الأسلمي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أتى مكّة حاجّا ولم يزرني بالمدينة ، جفوته يوم القيامة ، (٥) ومن زارني زائرا ، وجبت له شفاعتي ، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنّة. ومن مات في أحد الحرمين ، مكّة أو المدينة ، لم يعرض إلى الحساب (٦) ، ومات مهاجرا إلى الله ، وحشر يوم القيامة مع أصحاب بدر» (٧).

[٢ / ٥٨٠٢] وعن أبان عن السدوسيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أتاني زائرا ، كنت شفيعه يوم القيامة» (٨).

[٢ / ٥٨٠٣] وعن صفوان بن سليم عن أبيه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من زارني في حياتي أو بعد موتي ، كان في جواري يوم القيامة» (٩).

[٢ / ٥٨٠٤] وعن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زارني بعد وفاتي ،

__________________

(١) المصدر / ٢.

(٢) المصدر / ٣.

(٣) المصدر / ٥.

(٤) المصدر / ٦.

(٥) أي حسبته جافيا غير آنس بي.

(٦) أي خفّف عنه.

(٧) كامل الزيارات : ١٣ / ٩.

(٨) المصدر / ١٠.

(٩) المصدر / ١١.

٢٤٨

كان كمن زارني في حياتي ، وكنت له شهيدا وشافعا يوم القيامة» (١).

[٢ / ٥٨٠٥] وعن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أتاني زائرا كنت له شفيعا يوم القيامة» (٢).

[٢ / ٥٨٠٦] وعن قتيبة بن سعيد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أتاني زائرا في المدينة محتسبا ، كنت له شفيعا يوم القيامة» (٣).

[٢ / ٥٨٠٧] وعن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ زيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعدل حجّة مبرورة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٤).

[٢ / ٥٨٠٨] وعن زيد الشحّام ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما لمن زار قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : «كمن زار الله في عرشه» (٥)(٦).

__________________

(١) المصدر / ١٢.

(٢) المصدر : ١٣ ـ ١٤ / ١٣.

(٣) المصدر : ١٤ / ١٤.

(٤) المصدر : ١٥ / ١٩.

(٥) المصدر / ٢٠.

(٦) وراجع : البحار ٩٧ : ١٣٩ ـ ١٤٥.

٢٤٩

قال تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))

في هذا المقطع من الآيات نجد ملامح واضحة لنموذجين من نماذج البشر : نموذج المرائي الشرير ، الذّلق اللسان ، الّذي يحسب من شخصه محورا لكلّ المقوّمات الإنسانية النبيلة ، والّذي يعجبك مظهره ويسوؤك مخبره. فإذا دعي إلى الصلاح وتقوى الله ، نفر واشرأبّ بنفسه وأخذته العزّة بالإثم ، ومن ثمّ استنكف للرضوخ إلى الحقّ الصّراح ، وهام في طريقه ليفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل ، اعتلاء واستكبارا ، لا يلوي على شيء ، فهذا مصيره إلى جهنّم وبئس المهاد.

والآخر : نموذج المؤمن الصادق ، الآخذ في طريق الصلاح والإصلاح ، باذلا نفسه في سبيل مرضاة الله ، ويسعى له سعيه من غير كسل ولا فتور ، متوجّها بكلّيته إلى الله تعالى عبر الحياة. وهذا هو الّذي سلك سبيل الرشاد ، والله رؤوف بالعباد.

[٥٨٠٩ / ٢] أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السّدّي في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ) الآية. قال : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ، أقبل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة وقال : جئت أريد الإسلام ، ويعلم الله أنّي لصادق! فأعجب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك منه ، فذلك قوله : (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ). ثمّ خرج من عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمرّ بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق الزرع وعقر الحمر ، فأنزل الله : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ) الآية (١).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٧٢ ؛ الطبري ٢ : ٤٢٥ / ٣١٤٠ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥ / ١٩١٣ ـ ١٩١٧ ؛ الثعلبي ٢ : ١٢٠ ؛ مجمع البيان ٢ : ٥٥ ، بلفظ : قال السّدّي : نزلت في الأخنس بن شريق ، وكان يظهر الجميل بالنبيّ والمحبّة له والرغبة في دينه ويبطن خلاف ذلك ؛ التبيان ٢ : ١٧٨.

٢٥٠

[٢ / ٥٨١٠] وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس ، قال : لمّا أصيبت السريّة الّتي كان فيها عاصم ومرثد ، بالرجيع ، قال رجال من المنافقين : ياويح هؤلاء المفتونين ، الّذين هلكوا هكذا ؛ لا هم قعدوا في أهليهم ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم ، فأنزل الله تعالى من قول المنافقين وما أصاب أولئك النفر من الخير الّذي أصابهم ، فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لما يظهر من القول بلسانه.

قال أبو محمّد : وروي عن مجاهد وعطاء أنّهما قالا : علانيته في الدنيا.

[٢ / ٥٨١١] وأخرج عن حمزة بن جميل الرّبذي عن أبي معشر عن محمّد بن كعب القرظي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمرّ من الصبر ، لبسوا للعباد مسك الضأن من اللّين (١) ، يجتلبون الدنيا بالدين (٢). فيقول الله تعالى : أعليّ تجترئون ، وبي تفترّون! وعزّتي لأبعثنّ عليهم فتنة تدع الحليم فيهم حيرانا».

قيل لأبي حمزة (٣) : هل لهؤلاء في كتاب الله وصف؟ قال : نعم ، قول الله ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) إلى قوله : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ)(٤).

[٢ / ٥٨١٢] وأخرج أبو إسحاق الثعلبي عن الكلبي والسّدّي ومقاتل وعطاء ، قالوا : نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني أبي زهرة واسمه أبيّ ، وسمّي بالأخنس لأنّه خنس (٥) يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تولّوا الجحفة (٦) وقال لهم : يا بني زهرة إنّ محمّدا ابن أخيكم ، فإن يكن صادقا فلن تغلبوه وكنتم أسعد الناس بصدقه ، وإن يك كاذبا فإنّكم أحقّ من كفّ عنه لقرابتكم ، وكفتكم إيّاه أوباش العرب (٧).

قالوا : نعم الرأي رأيت ، فسر لما شئت فنتّبعك! فقال : إذا نودي الناس في الرحيل فإنّي أخنس

__________________

(١) مسك الضأن : جلده. وفي نسخة يلبسون جلود الضأن ويتشبّهون بالرهبان (الدرّ ١ : ٥٧٢).

(٢) وفي نسخة : يجترّون الدنيا بالدين. وفي أخرى : يشترون الدنيا بالدنيا. والجميع بمعنى.

(٣) كنية محمّد بن كعب. قال ابن كثير : ما قاله القرظي حسن صحيح. (١ : ٢٥٣).

(٤) ابن أبي حاتم ٢ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤ ؛ الطبري ٢ : ٤٢٦ ـ ٤٢٧ ؛ الترمذي ٤ : ٣٠ / ٢٥١٦ ؛ شعب الإيمان ١ : ٤٢٦ ـ ٤٢٧ ؛ سنن سعيد بن منصور ٣ : ٨٢٩ ـ ٨٣٠ / ٣٦١.

(٥) خنس عنه : تنحّى عنه وتأخّر ، خذله.

(٦) أي جاوزوه وخلّفوه وراء ظهرهم.

(٧) أي سفلة الناس وأخلاطهم ، ممّن لا أصل له معروفا.

٢٥١

بكم فاتّبعوني ، ففعل وفعلوا ، وسمّي لذلك الأخنس. وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر وكان يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يواليه (١) ويظهر الإسلام ويخبره بأنّه يحبّه ، ويحلف بالله ـ عزوجل ـ على ذلك ، وكان منافقا. فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدني مجلسه ويقبل عليه ، ولا يعلم أنّه يضمر خلاف ما يظهر. ثمّ إنّه كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيّتهم ليلا وأهلك مواشيهم وأحرق زرعهم. وكان حسن العلانية سيّ السريرة.

قال السّدّي : مرّ بزرع للمسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر (٢).

قال مقاتل : خرج إلى الطائف مقتضيا حلاله (٣) على غريم ، فأحرق له أرضا وعقر له أتانا (٤) فأنزل الله فيه هذه الآيات.

[٢ / ٥٨١٣] وقال ابن عبّاس والضحّاك : نزلت هذه الآيات إلى قوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) في سريّة الرجيع ، وذلك أنّ كفّار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو بالمدينة ـ إنّا أسلمنا فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك يعلّموننا دينك ، وكان ذلك مكرا منهم ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبيب بن عديّ الأنصاري ، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي ، وخالد بن بكير ، وعبد الله بن طارق بن شهاب البادي ، وزيد بن الدثنة ، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت بن الأفلح الأنصاري ، فساروا يريدون مكّة فنزلوا بطن الرجيع بين مكّة والمدينة ، ومعهم تمر عجوة فأكلوا ، فمرّت عجوزة وأبصرت النوى فرجعت إلى قومها بمكّة وقالت : قد سلك الطريق أهل يثرب من أصحاب محمّد ، فركب سبعون رجلا ومعهم الرماح حتّى أحاطوا بهم فحاربوهم فقتلوا مرثدا وخالدا وعبد الله بن طارق ، ونثر عاصم بن ثابت كنانته وفيها سبعة أسهم ، فقتل منهم رجلا من عظماء المشركين ، ثمّ قال : اللهمّ إنّي حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخر اللّيل ، ثمّ أحاط به المشركون فقتلوه ، فلمّا قتلوه أرادوا جزّ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن عهيد ، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد ، لئن قدرت على رأس عاصم لتشربنّ في قحفه الخمر (٥) ، فأرسل الله رجلا من الدّبر (٦) وهي الزنابير ،

__________________

(١) يواليه : أي يصادقه ويظهر النصرة له.

(٢) عقر الإبل : قطع قوائمه. والحمر جمع حمار.

(٣) أي دينه الّذي حلّ وقته.

(٤) الأتان : الحمارة.

(٥) القحف : العظم الّذي فوق الدماغ.

(٦) الرجل : الطائفة من الشيء والقطعة العظيمة من الجراد ونحوها. والدبر : جماعة النحل والزنابير.

٢٥٢

فحمت عاصما ولم يقدروا عليه ، فسميّ حميّ الدّبر ، فلمّا حالت بينهم وبينه ، فقالوا : دعوه حتّى يمسي فتذهب عنه فنأخذه ، فجاءت سحابة سوداء ومطرت مطرا كالعزالي (١) فبعث الله الوادي غديرا فاحتمل عاصما فذهب به إلى الجنّة وحمل خمسين من المشركين إلى النّار. قال : وكان عاصم قد أعطى الله عهدا أن لا يمسّ مشركا ولا يمسّه مشرك أبدا تنجّسا منه ، وقال عمر بن الخطّاب ـ حين بلغه الخبر أنّ الدّبر منعته ـ : عجبا لحفظ الله العبد المؤمن ، كان عاصم نذر أن لا يمسّه مشرك ولا يمسّ مشركا أبدا ، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته. فأسر المشركون خبيب بن عديّ وزيد بن الدثنة فذهبوا بهما إلى مكّة ، فأما خبيب فابتاعه بنو الحرث بن عامر ليقتلوه ، وكان خبيب هو الّذي قتل الحرث بن عامر بأحد. فبينما خبيب عند بنات الحرث إذ استعار من إحداهنّ موسى ليستحدّ بها للقتل (٢) فأعارته. فدرج بنيّ لها وهي غافلة ، فما راع المرأة إلّا خبيب (٣) قد أجلس الصبيّ على فخذه والموسى بيده ، فصاحت المرأة : فقال خبيب : أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إنّ الغدر ليس من شأننا!

فقالت المرأة بعد ـ وكانت قد أسلمت ـ : ما رأيت أسيرا قطّ خيرا من خبيب ؛ لقد رأيته ـ وما بمكّة من ثمرة ، وإنّ في يده لقطفا من عنب يأكله ، إن كان إلّا رزقا رزقه الله.

ثمّ إنّهم خرجوا به من الحرم ليقتلوه وأرادوا أن يصلبوه فقال : ذروني أصلّي ركعتين ، فتركوه فصلّى ركعتين فجرت سنّة لمن يقتل صبرا أن يصلّي ركعتين ، ثمّ قال : لو لا أن يقولوا جزع خبيب لزدت ، وأنشأ يقول :

ولست أبالي حين أقتل مسلما

على أي شقّ كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ

يبارك في أوصال شلو ممزّع (٤)

ثمّ قال : اللهمّ أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا. فصلبوه حيّا ، فقال : اللهمّ إنّك

__________________

(١) العزالي ـ جمع العزلاء ـ : مصبّ الماء من القربة ونحوها.

(٢) أي ليحلق الشعر من جسده استعدادا للورود على الله ، متطهّرا. وفي الروض الأنف (٣ : ٢٢٦) : أنّه طلب منها حديدة ليتطهّر بها للقتل.

(٣) أي ما أفزعها إلّا ما رأت أنّ خبيبا قد أجلس ولدها على فخذه.

(٤) الشلو : العضو. والممزّع : المقطّع.

٢٥٣

تعلم إنّه ليس أحد حولي يبلغ رسولك سلامي فأبلغه سلامي ، ثمّ جاء رجل من المشركين يقال له أبو سروعة ومعه رمح فوضعه بين ثديي خبيب فقال له خبيب : إتّق الله ، فما زاده إلّا عتوّا فطعنه فأنفذه ، حتّى خرج من ظهره.

وأمّا زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أميّة ليقتله بأبيه أميّة بن خلف الجحمي ، ثمّ بعثه مع مولى له يسمّى قسطاس إلى التنعيم ليقتله ، فاجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب ، فقال أبو سفيان لزيد حين قدّم ليقتل : أنشدك الله يا زيد أتحبّ أنّ محمّدا عندنا الآن بمكانك نضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ فقال : والله ما أحبّ أن محمّدا الآن بمكانه الّذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه ، وأنا جالس في أهلي.

فقال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحبّ أحدا كحبّ أصحاب محمّد محمّدا ، ثمّ قتله قسطاس. فلمّا بلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الخبر قال لأصحابه : أيّكم يحتمل خبيبا عن خشبته فله الجنّة! قال الزبير بن العوام : أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود ، فخرجا يمشيان بالليل ويكتمان بالنهار ، حتّى أتيا التنعيم ليلا فإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نيام نشاوى فأنزلاه ، فإذا هو رطب ينثني لم يتغيّر منه شيء بعد أربعين يوما ، ويده على جراحته تخضب دما ، اللون لون الدم والريح ريح المسك ، فحمله الزبير على فرسه وسارا ، فانتبه الكفّار وقد فقدوا خبيبا ، فأخبروا بذلك قريشا ، فركب منهم سبعون ، فلمّا لحقوهما قذف الزبير خبيبا فابتلعته الأرض ، فسمّي بليع الأرض.

فقال الزبير : ما جرّأكم علينا يا معشر قريش ، ثمّ رفع العمامة عن رأسه فقال : أنا الزبير بن العوام وأمّي صفيّة بنت عبد المطّلب ، وصاحبي المقداد بن الأسود ، أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما ، فإن شئتم ناضلتكم ، وإن شئتم نازلتكم ، وإن شئتم انصرفتم ، فانصرفوا إلى مكّة ، وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجبرئيل عنده فقال : يا محمّد إنّ الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك ، فقال رجال من المنافقين في أصحاب خبيب : يا ويح لهؤلاء المقتولين ، الّذين هلكوا لا هم قعدوا في بيوتهم ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم! فأنزل الله في الزبير والمقداد بن الأسود وخبيب وأصحابه المؤمنين

٢٥٤

وفيمن طعن عليهم من المنافقين. (١)

وقال الثعلبي في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي) يبيع (نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي يطلب رضا الله.

والكسائي : يميل مرضاة الله كلّ القرآن.

(وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

قال ابن عبّاس والضحّاك : نزلت هذه الآية في الزبير والمقداد بن الأسود حين شريا أنفسهما لإنزال خبيب من خشبته الّتي صلب عليها ، وقد مضت القصّة.

[٢ / ٥٨١٤] وقال أكثر المفسّرين : نزلت في صهيب بن سنان المخزومي مولى عبد الله بن جدعان التيمي ؛ أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فضربوهم ، فقال لهم صهيب : إنّي شيخ كبير لا يضرّكم أمنكم كنت أم من غيركم ، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ، ففعلوا ذلك ، وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة ، فأقام بمكّة ما شاء الله ، ثمّ خرج إلى المدينة فتلقّاه أبو بكر وعمر في رجال. قال له أبو بكر : ربح بيعك أبا يحيى ، فقال صهيب : وبيعك فلا تخسر بأذاك! فقال : أنزل الله فيك كذا ، وقرأ عليه الآية.

[٢ / ٥٨١٥] قال سعيد بن المسيب وعطاء : أقبل صهيب مهاجرا نحو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتبعه نفر من مشركي قريش فنزل عن راحلته ونثل ما في كنانته ، ثمّ قال : يا معشر قريش ، لقد علمتم إنّي لمن أرماكم رجلا ، والله لا أضع سهما ممّا في كنانتي إلّا في قلب رجل منكم ، وأيم الله لا تصلون إليّ حتّى أرمي كلّ سهم في كنانتي ، ثمّ أضرب بسيفي ما بقي في يدي ، ثمّ افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكّة وخلّيتم سبيلي. قالوا : نعم. ففعل ذلك ، فأنزل الله فيه هذه الآية.

[٢ / ٥٨١٦] وقال قتادة : ما هم بأهل الحرور المراق من دين الله تعالى ، ولكن هم المهاجرون والأنصار.

[٢ / ٥٨١٧] وقال الحسن : أتدرون فيمن نزلت هذه الآية؟ في أنّ مسلما لقى كافرا فقال له : قل لا إله إلّا الله ، وإذا قلتها عصمت مالك ودمك إلّا بحقّها ، فأبى أن يقولها ، فقال المسلم : والله لأشرينّ

__________________

(١) زاد المسير لابن الجوزي ١ : ١٩٩ ـ ٢٠١ ؛ الروض الأنف للسهيلي ٣ : ٢٢٤ ـ ٢٢٦ ؛ الثعلبي ٢ : ١١٩ ـ ١٢٢ ؛ وصحّحناه على البغوي ١ : ٢٦٤ ـ ٢٦٦.

٢٥٥

نفسي لله ، فتقدّم فقاتل وحده حتّى قتل.

وقال بعضهم : نزلت هذه الآية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

[٢ / ٥٨١٨] روى حمّاد بن سلمة عن أبي غالب عن أبي أمامة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ أفضل الجهاد كلمة حقّ عند إمام جائر».

[٢ / ٥٨١٩] وروى عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيّد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطّلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله».

[٢ / ٥٨٢٠] وقال الثعلبي : ورأيت في الكتب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أراد الهجرة خلّف عليّ بن أبي طالب بمكّة لقضاء ديونه وردّ الودائع الّتي كانت عنده ، فأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار ، أن ينام على فراشه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له : «اتّشح ببردي الحضرمي الأخضر ، ونم على فراشي ، فإنّه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله». ففعل ذلك عليّ ، فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل إنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر ، فأيّكما يؤثر صاحبه بالبقاء والحياة؟ فاختار كلاهما الحياة ، فأوحى الله تعالى إليهما : أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام آخيت بينه وبين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبات على فراشه يفديه نفسه ويؤثره بالحياة ، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه ، فنزلا ، فكان جبرئيل عند رأس عليّ وميكائيل عند رجليه ، وجبرئيل ينادي : بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب! فنادى الله عزوجل الملائكة وأنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو متوجّه إلى المدينة في شأن عليّ عليه‌السلام : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ).

[٢ / ٥٨٢١] وقال ابن عبّاس : نزلت في عليّ بن أبي طالب حين هرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المشركين إلى الغار مع أبي بكر ونام عليّ على فراش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

قوله تعالى : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ)

[٢ / ٥٨٢٢] أخرج الترمذي والبيهقي عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كفى بك إثما أن لا تزال مخاصما» (٢).

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ١٢٤ ـ ١٢٦ ؛ البغوي ١ : ٢٦٦.

(٢) الدرّ ١ : ٥٧٣ ؛ الترمذي ٣ : ٢٤٢ / ٢٠٦٢ ، باب ٥٧ ؛ شعب الإيمان ٦ : ٣٤٠ / ٨٤٣٢ ؛ الكبير ١١ : ٤٨ / ١١٠٣٢ ؛ كنز العمّال ٣ : ٥٦٥ / ٧٩٢٨.

٢٥٦

[٢ / ٥٨٢٣] وأخرج أحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال : كفى بك آثما أن لا تزال مماريا ، وكفى بك ظالما أن لا تزال مخاصما ، وكفى بك كاذبا أن لا تزال محدّثا إلّا حديثا في ذات الله عزوجل (١).

[٢ / ٥٨٢٤] وأخرج عنه قال : من كثر كلامه كثر كذبه ، ومن كثر حلفه كثر إثمه ، ومن كثرت خصومته لم يسلم دينه (٢).

[٢ / ٥٨٢٥] وقال ابن عبّاس : نزلت الآيات الثلاثة في المرائي ، لأنّه يظهر خلاف ما يبطن. وهو المرويّ عن الصادق عليه‌السلام (٣).

[٢ / ٥٨٢٦] أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) قال : شديد الخصومة (٤)(٥).

قوله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ)

[٢ / ٥٨٢٧] قال ابن عبّاس : إذا خرج من عندك وذهب لوجهه. (٦) وهكذا قال سعيد وعكرمة. وروي عن السّدّي نحو ذلك (٧).

[٢ / ٥٨٢٨] وقال ابن جريج : إذا غضب (٨).

[٢ / ٥٨٢٩] وقال الضحّاك : (إِذا تَوَلَّى) أي ملك الأمر وأصبح واليا (٩).

[٢ / ٥٨٣٠] وقال الحسن : أي أعرض عن قوله الّذي أعطاه (١٠).

[٢ / ٥٨٣١] وقال مقاتل بن سليمان : ثمّ أخبر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (وَإِذا تَوَلَّى) يعني إذا توارى ، وكان

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٧٣ ؛ الزهد : ٢١٥ / ٧٤١ ؛ الدارمي ١ : ٨٩ ، بلفظ : عن أبي الدرداء قال : لا تكون عالما حتّى تكون متعلّما ، ولا تكون بالعلم عالما حتّى تكون به عاملا ، وكفى بك آثما أن لا تزال مخاصما ، وكفى بك آثما أن لا تزال مماريا ، وكفى بك كاذبا أن لا تزال محدّثا في غير ذات الله.

(٢) الدرّ ١ : ٥٧٣ ؛ كنز العمّال ١٦ : ٢٥٤ / ٤٤٣٤٧.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٥ ؛ البرهان ١ : ٤٤٨ / ٧.

(٤) من قولهم : لدّ الرّجل إذا خاصمه مخاصمة شديدة. والألدّ : اللجوج العنود ، المخاصم الشديد.

(٥) الدرّ ١ : ٥٧٣ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٦٥ / ١٩١٩.

(٦) الطبري ٢ : ٤٣٠.

(٧) ابن أبي حاتم ٢ : ٣٦٦.

(٨) الطبري ٢ : ٤٣١ ؛ الثعلبي ٢ : ١٢٣.

(٩) الثعلبي ٢ : ١٢٣ ؛ البغوي ١ : ٢٦٣ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٥٣.

(١٠) الثعلبي ٢ : ١٢٣ ؛ مجمع البيان ٢ : ٥٥ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٥٤.

٢٥٧

رجلا مانعا جريئا على القتل (سَعى فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي (لِيُفْسِدَ فِيها) يعني في الأرض (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) يعني كلّ دابّة ، وذلك أنّه [أي الأخنس بن شريق] عمد إلى كديس (١) بالطائف لرجل مسلم فأحرقه وعقر دابّته (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)(٢).

[٢ / ٥٨٣٢] وأخرج ابن جرير عن السّدّي في قوله : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) : كان ذلك منه إحراقا لزرع قوم من المسلمين وعقرا لحمرهم (٣).

[٢ / ٥٨٣٣] وروى الكليني بالإسناد إلى أبي الجارود عن أبي إسحاق عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) : بظلمه وسوء سيرته (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)» (٤).

[٢ / ٥٨٣٤] وقال الطبرسيّ : وروي عن الصادق عليه‌السلام : «أنّ الحرث في هذا الموضع ، الدين ، والنسل الناس» (٥).

[٢ / ٥٨٣٥] وأخرج وكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس أنّه سئل عن قوله : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) قال : الحرث الزرع ، والنسل نسل كلّ دابّة (٦).

[٢ / ٥٨٣٦] وأخرج الطستيّ عن ابن عبّاس أنّ نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله : (الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) قال : النسل الطائر والدواب! قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت الشاعر يقول :

__________________

(١) الحبّ المحصود المجموع.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٧٨.

(٣) الطبري ٢ : ٤٣٢ / ٣١٦١.

(٤) نور الثقلين ١ : ٢٠٤ ؛ الكافي ٨ : ٢٨٩ / ٤٣٥ ؛ العيّاشيّ ١ : ١٢٠ / ٢٩١ ؛ البحار ٩ : ١٨٩ ـ ١٩٠ / ٢٤ و ٧٢ : ٣١٥ / ٣٧ و ٨٩ : ٥٧ / ٣٤ ، كتاب القرآن ، باب ٧ ؛ البرهان ١ : ٤٤٨.

(٥) نور الثقلين ١ : ٢٠٤ ؛ مجمع البيان ٢ : ٥٥ ؛ البرهان ١ : ٤٤٩ / ٨ ؛ القمّي ١ : ٧١ ؛ البحار ٩ : ١٨٩ / ٢١.

(٦) الدرّ ١ : ٥٧٤ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٦٧ / ١٩٣٠ و ١٩٣٣ ، وزاد بعد قوله «الحرث الزرع» : وروي عن أبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة والربيع بن أنس وقتادة ومكحول والسّدّي. وزاد أيضا بعد قوله «كلّ دابّة» : وروي عن عكرمة وأبي العالية ومكحول والربيع بن أنس ، نحو ذلك ؛ الطبري ٢ : ٤٣٣ / ٣١٦٣.

٢٥٨

كهولهم خير الكهول ونسلهم

كنسل الملوك لا ثبور ولا تخزى (١)

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ)

[٢ / ٥٨٣٧] قال قتادة : المعنى إذا قيل له : مهلا ، ازداد إقداما على المعصية. والمعنى : حملته العزّة على الإثم (٢).

[٢ / ٥٨٣٨] وقال الشيخ الطوسي : ومعنى قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) : هو الإشعار بالدليل على نفاقه ، لفضيحته بذلك عند المؤمنين ، على ما قاله قتادة (٣).

[٢ / ٥٨٣٩] وروي عن عبد الله بن مسعود ـ في حديث طويل ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا ابن مسعود ، إذا قيل لك : اتّق الله فلا تغضب ، فإنّه تعالى يقول : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ)». (٤)

[٢ / ٥٨٤٠] وأخرج وكيع وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : إنّ من أكبر الذنب عند الله أن يقول الرجل لأخيه : اتّق الله. فيقول : عليك بنفسك ، أنت تأمرني؟! (٥).

[٢ / ٥٨٤١] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) قال : بئس ما مهّدوا لأنفسهم (٦)!

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) [٢ / ٥٨٤٢] روي عن الإمام أبي محمّد العسكريّ عليه‌السلام : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) يبيعها (ابْتِغاءَ

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٧٤ ـ ٥٧٥.

(٢) القرطبي ٣ : ١٩ ؛ الوسيط ١ : ٣١١.

(٣) التبيان ٢ : ١٨٢.

(٤) البرهان ١ : ٤٥٠ ـ ٤٥١ / ٣ ؛ مكارم الأخلاق : ٤٥٢ ، باب ١٢ ؛ البحار ٧٤ : ١٠١ / ١ ، باب ٥.

(٥) الدرّ ١ : ٥٧٥ ؛ الكبير ٩ : ١١٣ ـ ١١٤ / ٨٥٨٧ ؛ الشعب ٦ : ٣٠١ / ٨٢٤٦ ؛ الثعلبي ٢ : ١٢٤ ؛ البغوي ١ : ٢٦٤ ؛ القرطبي ٣ : ١٩ ، بلفظ : قال عبد الله : كفى بالمرء إثما أن يقول له أخوه : اتّق الله ، فيقول : عليك بنفسك ؛ مثلك يوصيني؟! ـ وفي نسخة : «أنت تأمرني؟!» ؛ مجمع البيان ٢ : ٥٦ ، بلفظ : قال ابن مسعود : إنّ من الذنوب الّتي لا تغفر أن يقال للرجل : اتّق الله ، فيقول : عليك نفسك! ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٥٦.

(٦) الدرّ ١ : ٥٧٥ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٦٨ / ١٩٣٨ ؛ القرطبي ٤ : ٢٤.

٢٥٩

مَرْضاتِ اللهِ) فيعمل بطاعة الله ويأمر الناس بها ، ويصبر على ما يلحقه من الأذى فيها ، فيكون كمن باع نفسه وسلّمها مرضاة الله عوضا منها ، فلا يبالي ما حلّ بها ، بعد أن يحصل لها رضاء ربّها (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) كلّهم. أمّا الطالبون لرضاه ، فيبلغهم أقصى أمانيهم ويزيدهم عليها ما لم تبلغه آمالهم. وأمّا الفاجرون في دينه فيتأنّاهم ويرفق بهم ويدعوهم إلى طاعته ولا يقطع من علم أنّه سيتوب عن ذنوبه ، التوبة الموجبة له عظيم كرامته» (١)!

[٢ / ٥٨٤٣] وروي عن عليّ عليه‌السلام : «أنّ المراد بالآية ، الرجل الّذي يقتل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (٢)!

[٢ / ٥٨٤٤] وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ...) الآية. قال : هم المهاجرون والأنصار (٣).

[٢ / ٥٨٤٥] وقال الحسن : هي عامّة في كلّ مجاهد في سبيل الله (٤).

[٢ / ٥٨٤٦] وأخرج وكيع وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن أبي حاتم والخطيب عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام «أنّه قرأ هذه الآية فقال : اقتتلا وربّ الكعبة» (٥).

[٢ / ٥٨٤٧] وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أنّ ابن عبّاس قرأ هذه الآية عند عمر بن الخطّاب فقال : اقتتل الرجلان! فقال له عمر : ماذا؟ قال : يا أمير المؤمنين ، أرى ها هنا من إذا أمر بتقوى الله أخذته

__________________

(١) تفسير الإمام عليه‌السلام : ٦٢٢ ـ ٦٢٣ / ٣٦٤ ؛ البحار ٢٢ : ٣٣٨ / ٥٠ ، باب ١٠.

(٢) نور الثقلين ١ : ٢٠٥ ؛ مجمع البيان ٢ : ٥٧ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣٠٧ ؛ الصافي ١ : ٣٧١ ؛ فقه القرآن للراوندي ١ : ٣٦١ ؛ مستدرك الوسائل ١٢ : ١٧٩.

(٣) الدرّ ١ : ٥٧٦ ؛ الطبري ٢ : ٤٣٧ / ٣١٧٣ ؛ القرطبي ٣ : ٢١ ؛ الثعلبي ٢ : ١٢٥ ، بلفظ : قال قتادة : ما هم بأهل الحرور المراق من دين الله تعالى ، ولكن هم المهاجرون والأنصار ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٣٠ / ٢٤٢ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٦٩ / ١٩٤٢ ؛ مجمع البيان ٢ : ٥٧ ؛ التبيان ٢ : ١٨٣.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٥٧ ؛ التبيان ٢ : ١٨٣ ، بلفظ : قال الحسن : هي عامّة في كلّ من يبيع نفسه لله ، بأن يقيم نفسه في جهاد عدوّه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك ، ممّا أمر الله به وتوعّد على خلافه ؛ القرطبي ٣ : ٢١ ، بلفظ : قيل : الآية عامّة ، تتناول كلّ مجاهد في سبيل الله ، أو مستشهد في ذاته أو مغيّر منكر.

(٥) الدرّ ١ : ٥٧٨ ؛ الطبري ٢ : ٤٣٥ / ٣١٧١ ، واختاره الطبري ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٦٨ / ١٩٣٧ ؛ تاريخ بغداد ١١ : ١٣٧ ؛ كنز العمّال ٢ : ٣٦١ / ٤٢٤٧ ؛ البغوي ١ : ٢٦٦ ؛ الثعلبي ٢ : ١٢٥ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٥٦.

٢٦٠