التفسير الأثري الجامع - ج ٥

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-06-7
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

وَقِنا عَذابَ النَّارِ)؟ ودعا له فشفاه الله» (١).

[٢ / ٥٦٩٥] وأخرج ابن جرير عن قتادة أنّ أحدهم دعا فقال : اللهمّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا ، فمرض مرضا حتّى أضنى على فراشه ، فذكر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شأنه ، فأتاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل له : إنّه دعا بكذا وكذا! فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه لا طاقة لأحد بعقوبة الله ، ولكن قل : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ») فقالها فما لبث إلّا أيّاما أو يسيرا حتّى برأ (٢).

[٢ / ٥٦٩٦] وهكذا روى الراوندي مرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه دخل على مريض ، فقال : «ما شأنك؟» قال : صلّيت بنا صلاة المغرب فقرأت القارعة ، فقلت : اللهمّ إن كان لي عندك ذنب تريد تعذّبني به في الآخرة ، فعجّل ذلك في الدنيا ، فصرت كما ترى ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بئسما قلت ، ألا قلت : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ)»؟ فدعا له حتّى أفاق (٣).

[٢ / ٥٦٩٧] وروي عن الإمام موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن عليّ عن أبيه عليهم‌السلام قال : «بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس إذ سأل عن رجل من أصحابه ، فقالوا : يا رسول الله إنّه قد صار في البلاء كهيئة الفرخ لا ريش عليه ، فأتاه فإذا هو كهيئة الفرخ لا ريش عليه من شدّة البلاء ، فقال له : قد كنت تدعو في صحّتك دعاء؟ قال نعم كنت أقول : يا ربّ أيّما عقوبة أنت معاقبي بها في الآخرة فعجّلها لي في الدنيا! فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا قلت : اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟ فقالها الرجل ، فكأنّما نشط من عقال وقام صحيحا وخرج معنا» (٤).

[٢ / ٥٦٩٨] وأخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما مررت على الركن

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٥٩ ؛ المصنّف ٧ : ٥٢ / ٢ ، باب ٣١ ؛ مسند أحمد ٣ : ١٠٧ ؛ منتخب مسند عبد بن حميد : ٤١١ / ١٣٩٩ ؛ مسلم ٨ : ٦٧ ؛ الترمذي ٥ : ١٨٣ ـ ١٨٤ / ٣٥٥٤ ، باب ٧٢ ؛ النسائي ٦ : ٢٦٠ ـ ٢٦١ / ١٠٨٩٢ ؛ أبو يعلى ٦ : ٤٠٤ / ٣٧٥٩ ؛ ابن حبّان ٣ : ٢١٧ / ٩٣٦ ؛ الشعب ٧ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ / ١٠١٤٧ ؛ الأدب المفرد : ١٥٧ / ٧٢٨ ؛ الثعلبي ٢ : ١١٦ ؛ البغوي ١ : ٢٥٩ ؛ الطبري ٢ : ٤١٠ / ٣٠٧٨ ؛ كنز العمّال ٢ : ٨٩ / ٣٢٧٦ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٣٤.

(٢) الطبري ٢ : ٤٠٩ ـ ٤١٠ ، بعد رقم ٣٠٧٧ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٢٨ / ٢٣٥.

(٣) دعوات الراوندي : ١١٤ / ٢٦٢ ؛ البحار ٧٨ : ١٧٤ / ١١.

(٤) نور الثقلين ١ : ٢٠٠ ؛ الإحتجاج ١ : ٣٣٢ ؛ البحار ١٠ : ٤٥ / ١ ، باب ٢ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

٢٠١

إلّا رأيت عليه ملكا يقول : آمين ، فإذا مررتم عليه فقولوا : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ)» (١).

[٢ / ٥٦٩٩] وأخرج ابن ماجة والجندي في فضائل مكّة عن عطاء بن أبي رباح أنّه سئل عن الركن اليماني ـ وهو في الطواف ـ فقال : حدّثني أبو هريرة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «وكّل به سبعون ملكا ، فمن قال : اللهمّ إنّي أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قال : آمين» (٢).

[٢ / ٥٧٠٠] وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن ابن عبّاس : أنّ ملكا موكّلا بالركن اليماني منذ خلق الله السماوات والأرض يقول : آمين آمين. فقولوا : ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (٣).

[٢ / ٥٧٠١] وروى الكليني بالإسناد إلى النضر بن سويد عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : يستحبّ أن يقول بين الركن والحجر : «اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» ، وقال : إنّ ملكا موكّلا يقول : آمين (٤).

قوله تعالى : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)

أي سريع الإجابة ، حيث تواجد المصلحة ، وتوافر الشرائط حينذاك. وهو تذييل قصد به تحقيق الوعد بحصول الإجابة ، وزيادة تبشير لأهل الموقف ، حيث إجابة الدعاء فيه سريعة الحصول ، وهذا يشي بأنّ الحساب هنا أطلق على مراعاة العمل والمكافأة عليه. ومن ثمّ سمّي يوم القيامة يوم الحساب. قال تعالى بشأن المتّقين : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً)(٥) أي وفاقا

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٥٩ ؛ ابن كثير ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٢.

(٢) الدرّ ١ : ٥٥٩ ؛ ابن ماجة ٢ : ٩٨٥ / ٢٩٥٧ ، باب ٣٢ ؛ الأوسط ٨ : ٢٠١ / ٨٤٠٠ ؛ القرطبي ٢ : ٤٣٤ ؛ ابن كثير ١ : ٢٥١.

(٣) الدرّ ١ : ٥٥٩ ؛ المصنّف ٧ : ١٠٤ / ٤ ، باب ٨٦ ، بلفظ : عن ابن عبّاس قال : على الركن اليماني ملك يقول آمين ، فإذا مررتم به فقولوا : اللهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ؛ الشعب ٣ : ٤٥٣ / ٤٠٤٦ ؛ كنز العمّال ١٢ : ٢٢٠ / ٣٤٧٥٤ ؛ الثعلبي ٢ : ١١٦ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٣٥ ؛ القرطبي ٢ : ٤٣٤.

(٤) نور الثقلين ١ : ١٩٩ ؛ الكافي ٤ : ٤٠٨ / ٧ ، كتاب الحجّ ، باب الطواف واستلام الأركان ؛ كنز الدقائق ٢ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٥) النبأ ٧٨ : ٣٦.

٢٠٢

لأعمالهم ، كما في قوله : (جَزاءً وِفاقاً)(١) بشأن الطاغين.

قال أبو إسحاق الثعلبي : يعني إذا حاسب فحسابه سريع ، لأنّه لا يحتاج إلى تعديد وتروّ وتفكير. قال الحسن : أسرع من لمح البصر.

[٢ / ٥٧٠٢] وفي الحديث : «إنّ الله يحاسب [الخلائق] في قدر حلب شاة» (٢).

قال أبو عليّ الطبرسي : فيه وجوه : أحدها : أنّ الله سريع المجازاة للعباد على أعمالهم ، وأنّ وقت الجزاء قريب. ويجري مجرى قوله تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)(٣)(٤).

وعبّر عن الجزاء بالحساب ، لأنّ الجزاء كفاء للعمل وعلى قدره ، فهو حساب له أي وفاق.

وثانيها : أنّه تعالى يحاسب أهل الموقف في أوقات يسيرة ، لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره ، كما لا يشغله شأن عن شأن.

[٢ / ٥٧٠٣] وورد في الخبر : أنّه تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر. وروي : بقدر حلب شاة.

[٢ / ٥٧٠٤] وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أنّه تعالى يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة».

وثالثها : أنّه تعالى سريع القبول لدعاء أهل الموقف ، والإجابة لهم من غير احتباس فيه وبحث عن المقدار الّذي يستحقّه كلّ داع.

[٢ / ٥٧٠٥] ويقرب منه ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال : يريد إنّه لا حساب على هؤلاء ، إنّما يعطون كتبهم بأيمانهم ، فيقال لهم : هذه سيّئاتكم قد تجاوزت بها عنكم ، وهذه حسناتكم قد ضعّفتها لكم (٥).

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ)

إنّ أيّام الحجّ شعائر ومناسك تتّسم بالتوجّه إلى الله ـ عزّ شأنه ـ وأيّام ابتهال وضراعة إلى ساحة قدسه الكريم. فيالها من فرصة سعيدة يتقرّب فيها العباد إلى معبودهم وفي أحسن أحوال.

وأفضل الدعاء ما جرى على اللّسان ، كما قال الصادق عليه‌السلام :

__________________

(١) النبأ ٧٨ : ٢٦.

(٢) الثعلبي ٢ : ١١٧.

(٣) النحل ١٦ : ٧٧.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٥١.

(٥) مجمع البيان ٢ : ٥٢.

٢٠٣

[٢ / ٥٧٠٦] روى عليّ بن موسى بن طاووس في كتاب «أمان الأخطار» نقلا من كتاب «الدعاء» لسعد بن عبد الله ، بإسناده إلى زرارة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : علّمني دعاء! فقال : «إنّ أفضل الدعاء ما جرى على لسانك» (١).

هذا بالنسبة إلى من كان عارفا بمواضع العبوديّة تجاه ساحة قدس الربوبيّة ، كأمثال زرارة ، ذلك الرجل الخبير الفخيم. وإلّا فاقتصار على المأثور عن السلف الصالح ، هو الأفضل الأولى.

[٢ / ٥٧٠٧] روى أبو جعفر الطوسيّ عن شيخه المفيد بالإسناد إلى زياد القندي عن عبد الرحيم القصير ، قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقلت له : جعلت فداك ، إنّي اخترعت دعاء. فقال : دعني من اختراعك. ثمّ علّمه نهج الدعاء وعرض المسألة لديه تعالى.

وهكذا رواه ابن بابويه الصدوق وأبو جعفر الكليني بالإسناد إلى عبد الرحيم القصير (٢).

ومن ثمّ اتّفق أهل العلم على أفضليّة اختيار الدعاء المأثور ، ولا سيّما في المؤقّتات. وأكّدوا على اختيار المأثور من الأدعية في مواطن الحجّ وفي مواسمه وفي جميع نسكه. حيث لا يعرف وجه الثناء عليه تعالى وإظهار العبوديّة لديه سبحانه ، إلّا العارفون الممارسون ، وهم جهابذة هذا المضمار الرهيب.

أدعية مأثورة في مواسم الحجّ

وبعد فإليك أدعية مأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وهم أدرى بما في البيت. استخرجها وجمعها الشيخ أبو جعفر الطوسيّ رحمه‌الله في كتابه «مصباح المتهجّد» ، فيما يخصّ مواسم الحجّ من ذي الحجّة الحرام.

قال : وفي هذا الشهر يقع الحجّ الّذي افترضه الله على الخلق ، ونحن نذكر سياقة الحجّ والعمرة على وجه الاختصار إن شاء الله تعالى.

من عزم على الحجّ وأراد التوجّه إليه ، فعليه أن ينظر في أمر نفسه ويقطع العلائق بينه وبين مخالطيه ومعامليه ، ويوفي كلّ من له عليه حقّ حقّه ، ثمّ ينظر في أمر من يخلفه ويحسن تدبيرهم ،

__________________

(١) أمان الأخطار : ١٩ ؛ الوسائل ٧ : ١٣٩ ، باب ٦٢ / ١ و ٢.

(٢) التهذيب ١ : ١١٦ / ٣٠٥ ؛ الفقيه ١ : ٥٥٩ ـ ٥٦٠ / ١٥٤٨ ؛ الكافي ٣ : ٤٧٦ ـ ٤٧٧ / ١.

٢٠٤

ويترك ما يحتاجون إليه للنفقة مدّة غيبته عنهم ، على اقتصاد من غير إسراف ولا إقتار. ثمّ يوصي بوصيّة يذكر فيها ما يقرّبه إلى الله تعالى ويحسن وصيّته ويسدّها إلى من يثق به من إخوانه المؤمنين ، فإذا صحّ عزمه على الخروج ، فليصلّ ركعتين ، يقرأ فيهما ما شاء من القرآن ، ويسأل الله تعالى الخيرة له في الخروج ، ويستفتح سفره بشيء من الصدقة قلّ ذلك أم كثر ، ثمّ ليقرأ آية الكرسي ويقول عقيب الركعتين :

«اللهمّ ، إنّي أستودعك نفسي وأهلي ومالي وذرّيّتي ودنياي وآخرتي وخاتمة عملي».

فإذا خرج من داره قام على الباب تلقاء وجهه الّذي يتوجّه له ، ويقرأ فاتحة الكتاب أمامه وعن يمينه وعن يساره ، وآية الكرسي أمامه وعن يمينه وعن شماله ثمّ يقول : «اللهمّ احفظني واحفظ ما معي وسلّمني وسلّم ما معي ، وبلّغني وبلّغ ما معي ببلاغك الحسن الجميل».

ويستحبّ أن يدعو بدعاء الفرج : «لا إله إلّا الله الحليم الكريم ، لا إله إلّا الله العليّ العظيم ، سبحان الله ربّ السماوات السبع ، وربّ الأرضين السبع ، وما فيهنّ وما بينهنّ وما تحتهنّ ، وربّ العرش العظيم ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين».

ثمّ يقول : «اللهمّ ، كن لي جارا من كلّ جبّار عنيد ، ومن كلّ شيطان مريد ، بسم الله دخلت وبسم الله خرجت ، اللهمّ إنّي أقدّم بين يدي نسياني وعجلتي ، بسم الله وما شاء الله ، في سفري هذا ، ذكرته أو نسيته ، اللهمّ ، أنت المستعان على الأمور كلّها ، وأنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل.

اللهمّ ، هوّن علينا سفرنا واطولنا الأرض وسيّرنا فيها بطاعتك وطاعة رسولك ، اللهمّ ، أصلح لنا ظهرنا ، وبارك لنا فيما رزقتنا ، وقنا عذاب النار ، اللهمّ إنّي أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال والولد ، اللهمّ ، أنت عضدي وناصري ، اللهمّ اقطع عنّي بعده ومشقّته واصحبني فيه واخلفني في أهلي بخير ، لا حول ولا قوّة إلّا بالله».

فإذا أراد الركوب ، فليقل : «بسم الله الرحمان الرحيم ، بسم الله والله أكبر».

فإذا استوى على راحلته ، قال : «الحمد لله الّذي هدانا للإسلام ومنّ علينا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبحان الله ، سبحان الّذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين ، وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون ، والحمد لله ربّ العالمين ، اللهمّ ، أنت الحامل على الظهر ، والمستعان على الأمر ، اللهمّ ، بلّغنا بلاغا يبلغ إلى الخير ، بلاغا يبلغ إلى رحمتك ورضوانك ومغفرتك ، اللهمّ ، لا طير إلّا طيرك ولا خير إلّا خيرك ولا حافظ غيرك».

٢٠٥

فإذا أشرف على منزل أو قرية أو بلد ، قال : «اللهمّ ، ربّ السماء وما أظلّت ، وربّ الأرض وما أقلّت ، وربّ الرياح وما ذرّت ، وربّ الأنهار وما جرت ، عرّفنا خير هذه القرية وخير أهلها ، وأعذنا من شرّها وشرّ أهلها إنّك على كلّ شيء قدير».

وينبغي إذا دخل عليه ذو القعدة أن يوفّر شعر رأسه ولحيته ، ولا يمسّ منهما شيئا على حال ، فإذا انتهى إلى الميقات أحرم منه ، ولا ينعقد الإحرام بعد الميقات ، وإن أخّره متعمّدا وجب عليه الرجوع إليه والإحرام منه ، إن تمكّن من ذلك. وإن لم يتمكّن أحرم من موضعه.

وكلّ من سلك طريقا فإنّه يلزمه الإحرام من ميقات ذلك الطريق ، فميقات من حجّ على طريق العراق بطن العقيق ، وله ثلاثة مواضع ، أفضلها المسلح ، فليحرم منه. فإن لم يتمكّن أحرم من الميقات الثاني وهو غمرة ، فإن لم يتمكّن أحرم إذا انتهى إلى ذات عرق ولا يجوزه بغير إحرام.

ومن كان حاجّا على طريق المدينة أحرم من مسجد الشجرة وهو ذو الحليفة. ومن حجّ على طريق الشام أحرم من الجحفة. ومن حجّ على طريق اليمن أحرم من يلملم. ومن حجّ على طريق الطايف أحرم من قرن المنازل. ومن كان ساكن الحرم أحرم من منزله.

ولا يجوز الإحرام بالحجّ سواء كان متمتّعا أو قارنا أو مفردا إلّا في أشهر الحجّ وهي : شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة.

فإذا أراد الإحرام فعليه أن يتنظّف ويزيل الشعر عن بدنه ولا يمسّ شعر رأسه ولحيته على ما قدّمناه ، ويقصّ أظفاره ويغتسل ، فإذا فرغ من الغسل ، لبس ثوبي إحرامه وهما مئزر وإزار يأتزر بالمئزر ويتوشّح بالإزار. وكلّ ثوب يجوز الصلاة فيه يجوز الإحرام فيه ، وما لا تجوز الصلاة فيه لا يجوز الإحرام فيه ، ويكره الإحرام في الثياب السّود والملوّنات ، وأمّا ما كان منه مخيطا أو فيه طيب فلا يجوز الإحرام فيه.

ويستحبّ أن يكون إحرامه عقيب صلاة فريضة ، فإن لم يتّفق صلّى ستّ ركعات صلاة الإحرام فإن لم يتمكّن صلّى ركعتين ، يقرأ في الأولى الحمد ، وقل يا أيّها الكافرون ، وفي الثانية الحمد ، وقل هو الله أحد ، ثمّ يحرم عقيبهما ، ويحمد الله تعالى ويثني عليه بما قدر ، ويصلّي على النبيّ وآله ، ثمّ يقول :

«اللهمّ ، إنّي أسألك أن تجعلني ممّن استجاب لك وآمن بوعدك واتّبع أمرك ، فإنّي عبدك وفي

٢٠٦

قبضتك لا أوقى إلّا ما وقيت ولا آخذ إلّا ما أعطيت ، وقد ذكرت الحجّ فأسألك أن تعزم لي عليه على كتابك وسنّة نبيّك وتقوّيني على ما ضعفت عنه ، وتسلّم منّي مناسكي في يسر منك وعافية ، واجعلني من وفدك الّذي رضيت وارتضيت وسمّيت وكتبت ، اللهمّ فتمّم لي حجّتي وعمرتي ، اللهمّ ، إنّي أريد التمتّع بالعمرة إلى الحجّ على كتابك وسنّة نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن عرض لي شيء يحبسني فحلّني حيث حبستني ، لقدرك الّذي قدّرت عليّ ، اللهمّ ، إن لم تكن حجّة فعمرة. أحرم لك شعري وبشري ولحمي ودمي وعظامي ومخّي وعصبي ، من النساء والثياب والطيب ، أبتغي بذلك وجهك والدار الآخرة».

وإن كان محرما بالحجّ مفردا أو قارنا ذكر ذلك في إحرامه ، ولا يذكر التمتّع ، ثمّ لينهض من موضعه ويمشي خطى ، ثمّ يلبّي فيقول : «لبّيك اللهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبّيك ، بمتعة وبعمرة إلى الحجّ لبّيك».

هذا إذا كان متمتّعا فإن كان مفردا أو قارنا ، قال : لبّيك بحجّة تمامها عليك. فهذه التلبيات الأربع لا بدّ من ذكرها وهي فرض.

وإن أراد الفضل أضاف إلى ذلك : «لبّيك ذا المعارج لبّيك ، لبّيك داعيا إلى دار السّلام لبّيك ، لبّيك غفّار الذنوب لبّيك ، لبّيك أهل التلبية ، لبّيك ، لبّيك ذا الجلال والإكرام لبّيك ، لبّيك تبدئ والمعاد إليك لبّيك ، لبّيك تستغني ويفتقر إليك لبّيك ، لبّيك مرهوبا ومرغوبا إليك لبّيك ، لبّيك إله الحقّ لبّيك ، لبّيك ذا النعماء والفضل الحسن الجميل لبّيك ، لبّيك كشّاف الكرب لبّيك ، لبّيك عبدك وابن عبديك لبّيك ، لبّيك يا كريم! لبّيك».

تقول هذا عقيب كلّ صلاة مكتوبة أو نافلة ، وحين ينهض بك بعيرك ، وإذا علوت شرفا أو هبطت واديا أو لقيت راكبا أو استيقظت من منامك وبالأسحار. والأفضل أن تجهر بالتلبية. وفي أصحابنا من قال : الإجهار فرض ، وإن ترك ما زاد على الأربع تلبيات لم يكن عليه شيء.

فإذا لبّى فقد انعقد إحرامه وحرم عليه لبس المخيط وشمّ الطيب ، على اختلاف أجناسه ، إلّا ما كان فاكهة. ويحرم عليه الإدهان بأنواع الأدهان الطيّبة إلّا مع الضرورة. ويحرم عليه الصيد ولحم الصيد والإشارة إلى الصيد. ويحرم عليه مجامعة النساء والعقد عليهنّ للنكاح ، وملامستهنّ ومباشرتهنّ بشهوة ، ويحرم تقبيلهنّ على كلّ حال.

٢٠٧

وينبغي أن يكشف رأسه ويكشف محمله ، ولا يحكّ جسده حكّا يدميه ، ولا ينحّي عن نفسه القمّل ، ويكره له دخول الحمّام والفصد والحجامة إلّا عند الضرورة ، ولا يقطع شيئا من شجر الحرم إلّا الإذخر وشجر الفواكه.

ثمّ يمضي على إحرامه حتّى يدخل مكّة ، فإذا عاين بيوت مكّة وكان على طريق المدينة قطع التلبية. وحدّ ذلك : إذا بلغ عقبة المدنيّين. وإن كان على طريق العراق قطع التلبية إذا بلغ عقبة ذي طوى. هذا إذا كان متمتّعا ، فإن كان مفردا أو قارنا فلا يقطع التلبية إلّا يوم عرفة عند الزوال ، وإن كان محرما بعمرة مفردة قطع التلبية إذا وضعت الإبل أخفافها في الحرم.

فإذا أراد دخول مكّة استحبّ له أن يغتسل ، ويغتسل أيضا إذا أراد دخول المسجد الحرام ، وينبغي أن يمضغ شيئا من الإذخر أو غيره ممّا يطيب الفم إذا أراد دخول الحرم ، ويستحبّ أن يدخل من أعلاها إذا ورد ، وإذا خرج خرج من أسفلها ، فإذا أراد دخول المسجد الحرام فيدخله من باب بني شيبة ، ويكون حافيا وعليه سكينة ووقار.

وليقل إذا وقف على الباب : «السّلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته ، بسم الله وبالله وما شاء الله ، والسّلام على أنبياء الله ورسله ، والسّلام على رسول الله والسّلام على إبراهيم خليل الله والحمد لله ربّ العالمين».

فإذا دخل المسجد رفع يديه واستقبل البيت ، وقال : «اللهمّ ، إنّي أسألك في مقامي هذا في أوّل مناسكي أن تقبل توبتي ، وأن تجاوز عن خطيئتي ، وتضع عنّي وزري ، الحمد لله الّذي بلّغني بيته الحرام ، اللهمّ ، إنّي أشهدك أنّ هذا بيتك الحرام الّذي جعلته مثابة للناس وأمنا مباركا وهدى للعالمين ، اللهمّ ، إنّي عبدك ، والبلد بلدك ، والبيت بيتك ، جئت أطلب رحمتك وأؤمّ طاعتك ، مطيعا لأمرك راضيا بقدرك ، أسألك مسألة الفقير إليك ، الخائف لعقوبتك ، اللهمّ افتح لي أبواب رحمتك واستعملني بطاعتك ومرضاتك واحفظني بحفظ الإيمان أبدا ما أبقيتني ، جلّ ثناء وجهك ، الحمد لله الّذي جعلني من وفده وزوّاره وجعلني ممّن يعمر مساجده ، وجعلني ممّن يناجيه ، اللهمّ ، إنّي عبدك وزائرك وفي بيتك ، وعلى كلّ مأتيّ حقّ لمن زاره وأتاه ، وأنت خير مأتيّ ومزور ، فأسألك ، يا الله يا رحمان بأنّك الله لا إله إلّا أنت ، وحدك لا شريك لك ، وبأنّك واحد أحد صمد لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوا أحد ، وأنّ محمّدا عبدك ورسولك ـ صلّى الله عليه وعلى أهل بيته ـ.

٢٠٨

يا جواد يا ماجد يا حنّان يا كريم ، أسألك أن تجعل تحفتك إيّاي من زيارتي إيّاك فكاك رقبتي من النّار ، اللهمّ ، فكّ رقبتي من النار ، ـ يقول ذلك ثلاث مرّات ـ وأوسع عليّ من رزقك الحلال ، وادرأ عنّي شرّ شياطين الجنّ والإنس ، وشرّ فسقة العرب والعجم». ثمّ ليتقدّم إلى البيت ، ويفتتح الطواف من الحجر الأسود.

فإذا دنا من الحجر ، رفع يديه وحمد الله وأثنى عليه وقال : «الحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلّا الله والله أكبر ، لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ويميت ويحيي وهو حيّ لا يموت ، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير».

ثمّ يصلّي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما فعل حين دخل المسجد ، ثمّ يقول : «اللهمّ ، إنّي أؤمن بوعدك وأوفي بعهدك ، اللهمّ ، أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهدني بالموافاة ، اللهمّ ، تصديقا بكتابك وعلى سنّة نبيّك ، أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، آمنت بالله ، وكفرت بالطاغوت وباللّات والعزّى وعبادة الشيطان وعبادة كلّ ندّ يدعى من دون الله».

فإن لم يقدر على ذكر جميع ذلك قال بعضه ويقول : «اللهمّ ، إليك بسطت يدي ، وفيما عندك عظمت رغبتي ، فاقبل سبحتي واغفر لي وارحمني ، اللهمّ ، إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر ومواقف الخزي في الدنيا والآخرة».

وينبغي أن يستلم الحجر ويقبّله ، فإن لم يستطع أن يقبّله استلمه بيده ، فإن لم يستطع أشار إليه ، ويستحبّ له استلام الأركان كلّها وأشدّها تأكيدا بعد الركن الّذي فيه الحجر ، الركن اليمانيّ.

ويطوف بالبيت سبعة أشواط. ويقول في الطواف : «اللهمّ ، إنّي أسألك باسمك الّذي يمشى به على طلل الماء كما يمشى به على جدد الأرض ، وأسألك باسمك الّذي يهتزّ له عرشك ، وأسألك باسمك الّذي تهتزّ له أقدام ملائكتك ، وأسألك باسمك الّذي دعاك به موسى من جانب الطور فاستجبت له ، وألقيت عليه محبّة منك ، وأسألك باسمك الّذي غفرت به لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وأتممت عليه نعمتك ، أن تفعل بي كذا وكذا» ـ ما أحببت من الدعاء ـ.

وكلّما انتهيت إلى باب الكعبة صلّيت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويقول في حال الطواف : «اللهمّ ، إنّي إليك فقير ، وإنّي خائف مستجير ، فلا تبدّل اسمي ولا تغيّر

٢٠٩

جسمي».

فإذا انتهيت إلى مؤخّر الكعبة وهو المستجار ، دون الركن اليمانيّ بقليل ، في الشوط السابع ، فابسط يديك على البيت وألصق خدّك وبطنك بالبيت. ثمّ قل : «اللهمّ البيت بيتك ، والعبد عبدك ، وهذا مقام العائذ بك من النار». وأقرّ لربّك بما عملت من الذنوب.

فإنّه روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «ليس من عبد يقرّ لربّه بذنوبه في هذا المكان إلّا غفر له».

ثمّ يقول : «اللهمّ ، من قبلك الرّوح والفرج والعافية ، اللهمّ ، إنّ عملي ضعيف فضاعفه لي ، واغفر لي ما اطّلعت عليه منّي وخفي على خلقك».

ثمّ استقبل الركن اليمانيّ ، والركن الّذي فيه الحجر واختم به ، واختر لنفسك من الدعاء ما أردت ، واستجر به من النار. ثمّ قل : «اللهمّ ، قنّعني بما رزقتني وبارك لي فيما آتيتني».

ثمّ تأتي مقام إبراهيم فصلّ فيه ركعتين ، واجعله أمامك واقرأ فيهما سورة التوحيد في الأوّلة ، وفي الثانية قل يا أيّها الكافرون ، فإذا سلّمت حمدت الله تعالى وأثنيت عليه ، وصلّيت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسألت الله أن يتقبّل منك.

فإذا فرغت من الركعتين فأت الحجر الأسود فقبّله واستلمه أو أشر إليه.

ثمّ ائت زمزم واستق منه دلوا أو دلوين واشرب منه ، وصبّ على رأسك وظهرك وبطنك. وقل : «اللهمّ اجعله علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كلّ داء وسقم». ويستحبّ أن يكون ذلك من الدلو المقابل للحجر.

ثمّ ليخرج إلى الصفا من الباب المقابل للحجر الأسود حتّى يقطع الوادي وعليه السكينة والوقار ، وليصعد على الصفا حتّى ينظر إلى البيت ، ويستقبل الركن الّذي فيه الحجر الأسود ، ويحمد الله ويثني عليه ويذكر من آلائه وبلائه وحسن ما صنع به ما قدر عليه ، ثمّ يكبّر سبعا ، ويهلّل سبعا.

ثمّ يقول : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، ويميت ويحيي ، وهو حيّ لا يموت بيده الخير ، وهو على كلّ شيء قدير» ، ثلاث مرّات.

ثمّ يصلّي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقول : «الله أكبر ، الحمد لله على ما هدانا ، والحمد لله على ما أبلانا ، والحمد لله الحيّ القيّوم ، والحمد لله الحيّ الدائم» ، ثلاث مرّات.

ثمّ يقول : «أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، لا نعبد إلّا إيّاه مخلصين له

٢١٠

الدين ولو كره المشركون» ـ ثلاث مرّات ـ «اللهمّ ، إنّي أسألك العفو والعافية واليقين في الدنيا والآخرة» ـ ثلاث مرّات ـ. «اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» ـ ثلاث مرّات ـ.

ثمّ يكبّر مائة تكبيرة ، ويهلّل مائة تهليلة ، ويحمد مائة تحميدة ، ويسبّح مائة تسبيحة ، ويقول : «لا إله إلّا الله ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده ، فله الملك وله الحمد وحده ، اللهمّ ، بارك لي في الموت وفيما بعد الموت ، اللهمّ ، إنّي أعوذ بك من ظلمة القبر ووحشته ، اللهمّ ، أظلّني تحت عرشك يوم لا ظلّ إلّا ظلّك».

ويقول : «استودع الله الرحمان الرحيم الّذي لا تضيع ودائعه ديني ونفسي وأهلي ومالي وولدي. اللهمّ استعملني على كتابك وسنّة نبيّك وتوفّني على ملّته ، وأعذني من الفتنة. اللهمّ اغفر لي كلّ ذنب أذنبته قطّ ، فإن عدت فعد عليّ بالمغفرة ، إنّك أنت غنيّ عن عذابي ، وأنا محتاج إلى رحمتك. فيا من أنا محتاج إلى رحمته ارحمني. اللهمّ افعل بي ما أنت أهله ، ولا تفعل بي ما أنا أهله ، فإنّك إن تفعل بي ما أنا أهله تعذّبني ولم تظلمني ، أصبحت أتّقي عدلك ولا أخاف جورك ، فيا من هو عدل لا يجور ، ارحمني».

ثمّ انحدر ماشيا وعليك السكينة والوقار حتّى تأتي المنارة وهي طرف المسعى ، فاسع في ملء فروجك وقل : «بسم الله ، الله أكبر وصلّى الله على محمّد وآله ، اللهمّ اغفر وارحم واعف عمّا تعلم ، فإنّك أنت الأعزّ الأكرم» حتّى تبلغ المنارة الأخرى ، وهو أوّل زقاق عن يمينك بعد ما تجاوز الوادي إلى المروة ، فإذا انتهيت إليه كففت عن السعي ، ومشيت مشيا ، فإذا جئت من عند المروة بدأت من عند الزّقاق الّذي وصفت لك ، فإذا انتهيت إلى الباب الّذي قبل الصفا بعد ما تجاوز الوادي كففت عن السعي ، وامش مشيا ، وطف بينهما سبعة أشواط ، تبدأ بالصفا وتختم بالمروة.

فإذا فرغت من سعيك قصصت من شعر رأسك من جوانبه ولحيتك ، وأخذت من شاربك ، وقلّمت أظفارك وبقّيت منها لحجّك ، فإذا فعلت ذلك فقد أحللت من كلّ شيء أحرمت منه.

ويستحبّ له أن يتشبّه بالمحرمين في ترك لبس المخيط ، وليس بواجب.

الإحرام بالحجّ :

فإذا كان يوم التروية أحرم بالحجّ ، وأفضل المواضع الّتي يحرم منها للحجّ المسجد الحرام من

٢١١

عند المقام ، فإن أحرم من غيره من أيّ موضع كان من بيوت مكّة كان جائزا. وصفة إحرامه للحجّ صفة إحرامه الأوّل سواء ، في أنّه ينبغي أن يأخذ شيئا من شاربه ويقلّم أظفاره ويغتسل ويلبس ثوبيه الّذين كان أحرم فيهما أوّلا ، ولا يدخل المسجد إلّا حافيا وعليه السكينة والوقار. ثمّ يصلّي ركعتين عند مقام إبراهيم عليه‌السلام أو في الحجر ، ويقعد حتّى تزول الشمس فيصلّي الفريضة ويحرم في دبرها ، ثمّ يقول الدعاء الّذي ذكره عند الإحرام الأوّل ، إلّا أنّه يذكر هاهنا الإحرام بالحجّ لا غير ، ولا يذكر عمرة ، فإنّها قد مضت.

ويقول : «اللهمّ ، إنّي أريد الحجّ فيسّره لي وحلّني حيث حبستني ، لقدرك الّذي قدّرت عليّ ، أحرم لك شعري وبشري ولحمي ودمي ، من النساء والثياب والطيب ، أريد بذلك وجهك والدار الآخرة».

ثمّ تلبّي من المسجد الحرام كما لبّيت حين أحرمت ، إن كنت ماشيا ، وتقول : لبّيك بحجّة تمامها وبلاغها عليك. ثمّ ليخرج من المسجد وعليه السكينة والوقار ، فإذا انتهى إلى الرقطاء دون الردم ، لبّى.

وإن كان راكبا ، فإذا أشرف على الأبطح رفع صوته بالتلبية. فإذا أحرم بالحجّ فلا يطوف بالبيت إلى أن يعود من منى.

نزول منى وعرفات :

فإذا توجّه إلى منى قال : «اللهمّ إيّاك أرجو ، وإيّاك أدعو ، فبلّغني أملي ، وأصلح لي عملي».

فإذا نزل منى قال : «اللهمّ ، هذه منى وهي ممّا مننت به علينا من المناسك ، فأسألك أن تمنّ عليّ بما مننت به على أنبيائك ، فإنّما أنا عبدك وفي قبضتك».

ويصلّي بها الظهر والعصر ، إن كان خرج قبل الزوال من مكّة ، والمغرب والعشاء الآخرة والفجر يصلّي أيضا بها.

وحدّ منى من العقبة إلى وادي محسّر ، فإذا طلع الفجر من يوم عرفة فليصلّ الفجر بمنى ، ثمّ يتوجّه إلى عرفات ، ولا يجوز وادي محسّر حتّى تطلع الشمس.

فإذا غدا إلى عرفات ، قال وهو متوجّه إليها : «اللهمّ ، إليك صمدت ، وإيّاك اعتمدت ، ووجهك

٢١٢

أردت ، أسألك أن تبارك لي في رحلي ، وأن تقضي لي حاجتي ، وأن تجعلني ممّن تباهي به اليوم من هو أفضل منّي».

ثمّ تلبّي وأنت غاد إلى عرفات ، فإذا انتهيت إلى عرفات فحطّ رحلك بنمرة ، وهي بطن عرنة دون الموقف ودون عرفة. فإذا زالت الشمس يوم عرفة فاقطع التلبية ، واغتسل وصلّ الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين تجمع بينهما ، لتفرّغ نفسك للدعاء ، فإنّه يوم دعاء ومسألة. وينبغي أن تقف للدّعاء في ميسرة الجبل ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف هناك.

ويستحبّ اجتماع الناس وتزاحمهم وتجمّعهم وأن لا يتركوا خللا بينهم إلّا ويسدّونه بنفوسهم ورحالهم. فإذا وقفت للدعاء فعليك السكينة والوقار واحمد الله تعالى وهلّله ومجّده وأثن عليه وكبّره مائة مرّة ، واحمده مائة مرّة ، وسبّحه مائة تسبيحة ، واقرأ قل هو الله أحد مائة مرّة ، وتخيّر لنفسك من الدعاء ما أحببت فيه ، واجتهد فيه فإنّه يوم دعاء.

وليكن في ما يقول : «اللهمّ ، إنّي عبدك فلا تجعلني من أخيب وفدك ، وارحم مسيري إليك من الفجّ العميق. اللهمّ ، ربّ المشاعر كلّها ، فكّ رقبتي من النار ، وأوسع عليّ من رزقك الحلال ، وادرأ عنّي شرّ فسقة العرب والعجم ، وشرّ فسقة الجنّ والإنس ، اللهمّ ، لا تمكر بي ولا تخدعني ولا تستدرجني ، اللهمّ ، إنّي أسألك بحولك وجودك وكرمك ومنّك وفضلك ، يا أسمع السامعين ويا أبصر الناظرين ويا أسرع الحاسبين ويا أرحم الراحمين ، أن تصلّي على محمّد وآل محمّد وأن تفعل بي كذا وكذا».

ثمّ تقول وأنت رافع رأسك إلى السماء : «اللهمّ ، حاجتي إليك ، الّتي إن أعطيتنيها لم يضرّني ما منعتني ، وإن منعتنيها لم ينفعني ما أعطيتني ، أسألك خلاص رقبتي من النار. اللهمّ ، إنّي عبدك وملك يدك ، ناصيتي بيدك ، وأجلي بعلمك ، أسألك أن توفّقني لما يرضيك عنّي وأن تسلّم منّي مناسكي الّتي أريتها خليلك إبراهيم عليه‌السلام ، ودللت عليها نبيّك محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اللهمّ اجعلني ممّن رضيت عمله ، وأطلت عمره ، وأحييته بعد الموت حياة طيّبة».

وتقول : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير ، اللهمّ لك الحمد كالّذي تقول ، وخيرا ممّا نقول ، وفوق ما يقول القائلون ، اللهمّ ، لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي ، ولك براتي وبك حولي ومنك قوّتي ،

٢١٣

اللهمّ ، إنّي أعوذ بك من الفقر ومن وساوس الصدور ، ومن شتات الأمر ، ومن عذاب القبر. اللهمّ ، إنّي أسألك خير الرّياح ، وأعوذ بك من شرّ ما تجيء به الرّياح ، وأسألك خير اللّيل وخير النّهار ، اللهمّ اجعل في قلبي نورا ، وفي سمعي وفي بصري نورا ، وفي لحمي ودمي وعظامي وعروقي ومقامي ومقعدي ومدخلي ومخرجي نورا. وأعظم لي نورا يا ربّ يوم ألقاك إنّك على كلّ شيء قدير».

ثمّ يدعو بدعاء عليّ بن الحسين عليه‌السلام (١) إن كان معه ، وإن لم يكن معه أو لا يحسنه ، دعا بما قدر عليه.

فإذا غربت الشمس أفاض من عرفات إلى المشعر ، ولا يجوز الإفاضة قبل غروب الشمس ، فإن خالف وأفاض قبل الغروب كان عليه بدنة أو يصوم ثمانية عشر يوما إن لم يقدر عليها ، وقد تمّ حجّه.

فإذا غربت الشمس ، قال : «اللهمّ ، لا تجعله آخر العهد من هذا الموقف وارزقنيه أبدا ما أبقيتني ، واقلبني اليوم مفلحا منجحا مستجابا لي ، مرحوما مغفورا لي ، بأفضل ما ينقلب به اليوم أحد من وفدك عليك ، وأعطني أفضل ما أعطيت أحدا منهم ، من الخير والبركة والرحمة والرضوان والمغفرة ، وبارك لي فيما أرجع إليه من أهل أو مال أو قليل أو كثير ، وبارك لهم فيّ».

فإذا بلغت الكثيب الأحمر عن يمين الطريق ، فقل : «اللهمّ ارحم موقفي ، وزد في عملي ، وسلّم لي ديني ، وتقبّل مناسكي» ـ وكرّر قولك ـ : «اللهمّ ، أعتقني من النّار».

ولا تصلّي ليلة النحر المغرب والعشاء الآخرة إلّا بالمزدلفة ، وإن ذهب ربع اللّيل ، بأذان واحد وإقامتين ، فإذا جئت المشعر فانزل ببطن الوادي عن يمين الطريق قريبا من المشعر.

ويستحبّ للصرورة أن يقف على المشعر أو يطأه برجله ، ويقول : «اللهمّ ، هذه جمع ، اللهمّ ، إنّي أسألك أن تجمع لي فيها جوامع الخير ، اللهمّ ، لا تؤيسني من الخير الّذي سألتك أن تجمعه لي في قلبي ، ثمّ أطلب إليك أن تعرّفني ما عرّفت أولياءك في منزلي هذا ، وأن تقيني جوامع الشّرّ».

وإن استطعت أن تحيي تلك اللية فافعل ، فإنّ أبواب السماء لا تغلق تلك الليلة لأصوات المؤمنين! فإذا أصبحت يوم النحر فصلّ الفجر ، وقف إن شئت قريبا من الجبل ، وإن شئت حيث تبيت فإذا وقفت فاحمد الله ـ عزوجل ـ وأثن عليه ، واذكر من آلائه وبلائه ما قدرت عليه. وصلّ

__________________

(١) وهذا الدعاء ذكره الشيخ في مصباح المتهجّد : ٦٨٩ ـ ٦٩٨ / ٧٣٥ ـ ٧٧١ ـ ٤٠.

٢١٤

على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقل : «اللهمّ ، ربّ المشعر الحرام ، فكّ رقبتي من النار ، وأوسع عليّ من رزقك الحلال ، وادرأ عنّي شرّ فسقة الجنّ والإنس ، اللهمّ ، أنت خير مطلوب إليه وخير مدعوّ إليه ، وخير مسؤول ، ولكلّ وافد جائزة ، فاجعل جائزتي في موطني هذا ، أن تقيلني عثرتي ، وتقبل معذرتي ، وأن تجاوز عن خطيئتي ، ثمّ اجعل التقوى من الدنيا زادي».

ثمّ أفض حين يشرق لك ثبير (١) وتري الإبل مواضع أخفافها ، فإذا طلعت الشمس أفضت منها إلى منى ، فإذا مررت بوادي محسّر وهو وادي عظيم بين جمع ومنى ، وهو إلى منى أقرب ، فاسع فيه حتّى تجاوزها ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرّك ناقته هناك. وقل : «اللهمّ ، سلّم عهدي واقبل توبتي ، وأجب دعوتي واخلفني فيمن تركت بعدي».

ويجوز أن يفيض قبل طلوع الشمس بقليل ، إلّا أنّه لا يجوز وادي محسّر إلّا بعد طلوع الشمس ، إلّا عند الضرورة والخوف. ولا يجوز الإفاضة من المشعر قبل طلوع الفجر بحال ، فإن خالف كان عليه دم شاة.

وينبغي أن يأخذ حصى الجمار من المزدلفة أو من الطريق إلى منى ، وإن أخذه من منى جاز ، ويلتقط سبعين حصاة ، ويكره أن يكسرها بل يلتقطها ، ويستحبّ أن تكون برشا (٢). ويجوز أخذ الحصاة من سائر الحرم إلّا من مسجد الخيف ، ومن الحصا الّذي رمي بها ، وما يأخذه من غير الحرم لا يجزئه ، وينبغي أن يكون مقدار الحصاة مقدار الأنملة.

فإذا نزل منى بعد الخروج من المشعر ، فإنّ عليه بها يوم النحر ثلاثة مناسك : أوّلها : أن يأتي الجمرة القصوى الّتي عند العقبة ، وليقم من قبل وجهها ولا يرميها من أعلاها ، ويقول ـ والحصا في يده ـ : «اللهمّ ، هؤلاء حصياتي فأحصهنّ لي ، وارفعهنّ في عملي». ثمّ يرمي الجمرة بسبع حصيات واحدة بعد الأخرى خذفا : يضع الحصاة على بطن إبهامه ويدفعها بظفر سبّابته ، ويقول مع كلّ حصاة : «اللهمّ ، ادحر عنّي الشيطان ، اللهمّ ، تصديقا بكتابك وعلى سنّة نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اللهمّ اجعله حجّا مبرورا وعملا مقبولا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا».

وليكن بينك وبين الجمرة مقدار عشر أذرع إلى خمس عشرة ذراعا ، فإذا أتيت رحلك ، ورجعت من الرمي ، فقل : «اللهمّ ، بك وثقت ، وعليك توكّلت ، فنعم الربّ ونعم النصير». ويستحبّ

__________________

(١) أعظم جبل بمكّة بينها وبين عرفة.

(٢) فيها نقط تخالف لونها.

٢١٥

أن يكون الرمي على طهر ، فإن لم يكن على طهر كان جائزا.

والمنسك الثاني : أنّ عليه الهدي وجوبا إن كان متمتّعا. وإن كان قارنا أو مفردا لم يجب ، لكنّه يستحبّ أن يضحّي. وصفة الهدي ـ إن كان من الإبل أو البقر ـ : أن يكون من ذوات الأرحام ، فإن لم يكن فكبشا سمينا ينظر في سواد ويمشي في سواد ويبرك في سواد ، ولا يجزئ من الإبل إلّا الثنيّ فصاعدا ، وهو الّذي تمّ له خمس سنين ودخل في السادسة ، ولا يجوز من البقر والمعز إلّا الثنيّ ، وهو الّذي تمّت له سنة ودخل في الثانية ، ويجزئ من الضأن الجذع لسنة (١) ، ولا يجوز ما كان ناقص الخلقة ، ولا العضباء ولا الجذعاء ولا الجذّاء ولا الخرماء ولا العجفاء (٢) ولا العرجاء البيّن عرجها ولا العوراء البيّن عورها ، والجذّاء هي المقطوعة الأذن.

ولا يجزئ مع الاختيار في الهدي الواجب ، الواحد إلّا عن واحد ، وفي الأضحية يجوز الاشتراك فيه ، وعند الضرورة يجوز الاشتراك فيه إلى خمسة وسبعة وسبعين إذا عزّت الأضاحي.

والأيّام الّتي هي أيّام الأضاحي يوم النحر ، وثلاثة أيّام بعده بمنى ، وفي الأمصار يوم النحر ويومان بعده.

والهدي الواجب يجوز نحره وذبحه طول ذي الحجّة ، ويوم النحر أفضل. ولا يجوز ذبح الهدي الواجب ، ولا ما يلزم في كفّارة في إحرام الحجّ إلّا بمنى. وما يلزم في العمرة المبتولة (٣) لا يجوز إلّا بمكّة.

ومتى عجز عن الهدي ووجد ثمنه خلّف الثمن عند من يثق به ليشتري ويذبح عنه ، طول ذي الحجّة أو في القابل في ذي الحجّة. وإن لم يقدر على الثمن أصلا صام عشرة أيّام : ثلاثة في الحجّ متواليات ، يوما قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، وسبعة إذا رجع إلى أهله.

ويستحبّ أن يتولّى الذبح بنفسه ، وإن لم يحسن جعل يده مع يد الذابح ، ويقول ـ إذا أراد الذبح ـ : «وجّهت وجهي للّذي فطر السماوات والأرض ، حنيفا مسلما وما أنا من المشركين ، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ، اللهمّ ، منك

__________________

(١) الجذع من البهائم صغيرها.

(٢) العضباء : المشقوقة الأذن. الجذعاء : الصغيرة. الجذّاء : المقطوعة الأذن. الخرماء : المشقوقة الأنف. العجفاء : الهزيلة.

(٣) أي المفردة.

٢١٦

ولك ، بسم الله والله أكبر ، اللهمّ تقبّل منّي» ثمّ يمرّ السكّين ولا ينخعها (١) حتّى تبرد الذبيحة.

وينبغي أن تنحر الإبل وهي قائمة ، والبقر والغنم مبطوحة وتشدّيد البدنة من أخفافها إلى إباطها ، وتشدّ أربع قوايم البقر ويطلق ذنبه ، وتشدّيد الغنم وإحدى رجليه ، ويطلق فرد رجله.

ويقسّم الهدي المتمتّع ثلاثة أقسام ، ثلثا يأكله ، وثلثا يهديه لأصدقائه ، وثلثا يتصدّق به. وكذلك الأضحية. وإن كان وجب عليه في كفّارة أو نذر تصدّق به أجمع.

ويكون الذبح قبل الحلق ، فإذا فرغ من الذبح قصّر شعر رأسه إن كان رجلا ، وإن حلقه كان أفضل ، والمرأة يكفيها التقصير ، والصرورة الّذي لم يحجّ قطّ لا يجزئه غير الحلق ، وكذلك من لبّد شعره لم يجزه غير الحلق. وينبغي أن يأمر الحلّاق أن يضع الموسى على قرنه الأيمن ، ويحلق جميع رأسه إلى العظمين المحاذيين للأذنين.

ويسمّي إذا أراد الحلق ، ويقول : «اللهمّ ، أعطني بكلّ شعرة نورا يوم القيامة».

فإذا حلق رأسه حلّ له كلّ شيء أحرم منه إلّا النساء والطيب ، فإذا طاف بالبيت طواف الزيارة حلّ له كلّ شيء إلّا النساء ، فإذا طاف النساء حلّ له النساء.

فإذا فرغ من المناسك الثلاث بمنى توجّه من يومه إلى مكّة إن تمكّن وإلّا فمن الغد ، ولا يؤخّر أكثر من ذلك إن كان متمتّعا ، وإن كان مفردا جاز له أن يؤخّره إلى بعد أيّام منى.

فإذا دخل مكّة قصد لزيارة البيت ، وليغتسل أوّلا لدخول المسجد والطواف ، فإذا دخل المسجد فعل مثل ما فعل أوّل يوم دخل المسجد سواء ، وليأت الحجر فيبدأ به ويقول ما قال يوم قدم مكّة عند طواف العمرة ، ويطوف بالبيت على ما وصفناه سواء وقال في طوافه ما قلناه من الدعاء ، وفعل من التزام الحجر والأركان والملتزم ما تقدّم ذكره. فإذا فرغ من الطواف صلّى عند المقام ركعتين على ما تقدّم وصفه ، فإذا فرغ منهما خرج إلى الصفا من الباب الّذي ذكرناه ، وصعد على الصفا واستقبل البيت ، ودعا بما تقدّم ذكره ، وسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط على الصفة الّتي تقدّم وصفنا لها فيما مضى ؛ يبدأ بالصفا ويختم بالمروة ويقول من الدعاء ما تقدّم ذكره.

فإذا فرغ من السعي فقد أحلّ من كلّ شيء أحرم منه إلّا النساء. ثمّ ليعد إلى المسجد ويدخله كما ذكرناه ، ويأتي البيت ويستلم الحجر ، ثمّ يبتدئ بطواف آخر وهو طواف النساء ، فيطوف سبعة

__________________

(١) أي يقطع نخاعها.

٢١٧

أشواط على ما تقدّم وصفه ، ويصلّي عند المقام ركعتين حسب ما بيّناه ، فإذا فرغ منه فقد حلّ له كلّ شيء كان أحرم منه.

ويستحبّ له أن يطوف بالبيت ثلاث مائة وستّين أسبوعا إن أمكنه ، أو ثلاث مائة وستّين شوطا ، فإن لم يتمكّن طاف ما قدر عليه ، ثمّ ليعد من يومه إلى منى ، ولا يبيت ليالي التشريق إلّا بمنى.

فإذا عاد إلى منى قال : «اللهمّ ، بك وثقت ، وبك آمنت ، وعليك توكّلت ، نعم الربّ ونعم المولى ونعم النصير». ثمّ ليرم كلّ يوم الثلاث من الجمار بإحدى وعشرين حصاة ، كلّ جمرة منها بسبع حصيات يبدأ بالجمرة الأولى ، ثمّ بالجمرة الوسطى ، ثمّ بالجمرة العقبة ، ويكون ذلك عند الزوال ، ويرميهنّ خذفا على ما مضى وصفه ، ويقول مع كلّ حصاة الدعاء الّذي مضى ذكره. فإذا فرغ من الرمي ، وقف عند الجمرة الأولى ساعة ودعا عندها ، وكذلك عند الثانية ، ولا يقف عند الثالثة ، بل ينصرف إذا فرغ من الرمي.

ويجوز الرمي ما بين طلوع الشمس إلى غروبها إلّا أنّه عند الزوال أفضل ، فإذا غابت الشمس فقد فات الرمي وليقض من الغد.

فإذا أراد النفر في النفر الأوّل رمى الجمار اليوم الأوّل واليوم الثاني على ما وصفناه ، ودفن حصاة يوم الثالث ، وإذا أراد النفر في الأوّل فلا ينفر حتّى تزول الشمس ، ويوم الثالث يجوز أن ينفر قبل الزوال ، وإن أمكنه المقام إلى اليوم الثالث من أيّام التشريق فيرمي الجمار وينفر في النفر الأخير كان أفضل.

وإذا نفر من منى فهو بالخيار بين العود إلى مكّة وبين مضيّه حيث شاء ، غير أنّه يستحبّ له العود إلى مكّة لوداع البيت إن شاء الله.

فإذا أراد التوجّه إلى مكّة فليصلّ في مسجد الخيف ـ وهو مسجد منى ـ عند المنارة الّتي في وسطه أو ما قرب منها بنحو من ثلاثين ذراعا من كلّ جانب ، فإنّه كان مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هناك ، ويصلّي ستّ ركعات في أصل الصومعة ، فإذا نفر وبلغ مسجد الحصبة وهي البطحاء ، فليمش فيه قليلا فإنّ ذلك يستحبّ ، ويكره أن ينام فيها ، فإذا عاد إلى مكّة اغتسل لدخول المسجد وطواف الوداع ، وليدخل المسجد على ما تقدّم وصفه من الدعاء والذكر ، ويطوف بالبيت أسبوعا على ما

٢١٨

مضى ذكره من البدئة بالحجر الأسود واستلامه وتقبيله أو الإيماء إليه ، واستلام الأركان والتزام الملتزم. فإذا فرغ من الطواف صلّى عند المقام ركعتين على ما تقدّم وصفه.

ويستحبّ للصرورة أن يدخل البيت ولا يتركه وليس بواجب ، فإذا أراد الدخول اغتسل أوّلا وليدخلها حافيا. ويقول إذا دخله : «اللهمّ ، إنّك قلت : ومن دخله كان آمنا ، فآمنّي من عذابك عذاب النار». ثمّ يصلّي بين الأسطوانتين على الرّخامة الحمراء ركعتين ، يقرأ في الأولى حم السجدة ، وفي الثانية عدد آياتها من القرآن.

ويصلّي في زوايا البيت ما قدر عليه ، ويقول : «اللهمّ ، من تهيّأ وتعبّأ وأعدّ واستعدّ لوفادة إلى مخلوق ، رجاء رفده وجوائزه ونوافله وفواضله ، فإليك كانت يا سيّدي تهيئتي وتعبئتي واستعدادي ، رجاء رفدك ونوافلك وجائزتك ، فلا تخيّب اليوم رجائي ، يا من لا يخيب سائله ولا ينقص نائله ، فإنّي لم آتك اليوم بعمل صالح قدّمته ولا شفاعة مخلوق رجوته ، ولكن أتيتك مقرّا بالذنب والإساءة على نفسي ، فإنّه لا حجّة لي ولا عذر. فأسألك يا من هو كذلك ، أن تصلّي على محمّد وآل محمّد ، وأن تعطيني مسألتي وتقيلني عثرتي وتقلبني برغبتي ، ولا تردّني محروما ولا مجبوها (١) ولا خائبا ، يا عظيم يا عظيم يا عظيم ، أرجوك للعظيم ، أسألك يا عظيم أن تغفر لي الذنب العظيم ، لا إله إلّا أنت».

ولا ينبغي أن يبزق فيه ، ولا يمتخط ، فإن غلبه بلعه أو أخذه في خرقة معه.

ويستحبّ أن يقول في السجود في جوف البيت : «لا يردّ غضبك إلّا حلمك ولا ينجي منك إلّا التضرّع إليك ، فهب لي يا إلهي فرجا ، بالقدرة الّتي بها تحيي أموات العباد ، وبها تنشر ميت البلاد ، ولا تهلكني يا إلهي غمّا حتّى تستجيب لي ، وتعرّفني الإجابة ، اللهمّ ارزقني العافية إلى منتهى أجلي ، ولا تشمت بي عدوّي ، ولا تمكّنه من عنقي. من ذا الّذي يرفعني إن وضعتني ، ومن ذا الّذي يضعني إن رفعتني ، وإن أهلكتني فمن ذا الّذي يعرض لك في عبدك ، أو يسألك عن أمرك ، وقد علمت يا إلهي أنّه ليس في حكمك ظلم ، ولا في نقمتك عجلة ، إنّما يعجل من يخاف الفوت ، وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف ، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك ، فلا تجعلني للبلاء غرضا ، ولا لنقمتك نصبا ، ومهّلني ونفسي ، وأقلني عثرتي ، ولا تردّ يدي في نحري ، ولا تتّبعني ببلاء على أثر بلاء ، فقد

__________________

(١) جبه الرجل : ردّه ولم يقض حاجته ، كأنّه ضرب في جبهته وأعرض عنه.

٢١٩

ترى ضعفي وتضرّعي إليك ، ووحشتي من الناس ، وأنسي بك ، أعوذ بك اليوم فأعذني ، وأستجير بك فأجرني ، وأستعين بك على الضرّاء فأعنّي ، وأستنصرك فانصرني ، وأتوكّل عليك فاكفني ، وأؤمن بك فآمنّي ، وأستهديك فاهدني ، وأسترحمك فارحمني ، وأستغفرك ممّا تعلم فاغفر لي ، وأسترزقك من فضلك الواسع فارزقني ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله».

فإذا أردت الخروج من البيت ، فخذ بحلقة الباب وقل : «الله أكبر» ثلاثا. ثمّ قل : «اللهمّ ، لا تجهد بلائي ، ولا تشمت بي أعدائي ، فإنّك أنت الضارّ النافع». فإذا نزلت من البيت ، فصلّ إلى جانب الدرجة عن يساره مستقبل الكعبة ركعتين.

فإذا أردت وداع البيت فاستلم الحجر الأسود وألصق بطنك بالبيت واحمد الله وأثن عليه وصلّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قل : «اللهمّ ، صلّ على محمّد عبدك ورسولك وأمينك وحبيبك ونجيّك وخيرتك من خلقك ، اللهمّ ، كما بلّغ رسالاتك ، وجاهد في سبيلك ، وصدع بأمرك ، وأوذي فيك وفي جنبك حتّى أتاه اليقين ، اللهمّ اقلبني مفلحا منجحا مستجابا لي بأفضل ما يرجع به أحد من وفدك من المغفرة والبركة والرضوان والعافية ، ممّا يسعني أن أطلب أن يعطيني مثل الّذي أعطيته ، أو فضل من عندك يزيدني عليه ، اللهمّ ، إن أمتّني فاغفر لي ، وإن أحييتني فارزقنيه من قابل ، اللهمّ ، لا تجعله آخر العهد من بيتك ، اللهمّ ، إنّي عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على دابّتك ، وسيّرتني في بلادك ، حتّى أدخلتني حرمك وأمنك ، وقد كان في حسن ظنّي بك أن تغفر لي ذنوبي ، فإن كنت غفرت لي ذنوبي فازدد عنّي رضا ، وقرّبني إليك زلفى ، فلا تباعدني ، وإن كنت لم تغفر لي فمن الآن فاغفر لي قبل أن تنأى عن بيتك داري ، فهذا أوان انصرافي إن كنت أذنت لي ، غير راغب عنك ولا عن بيتك ، ولا مستبدل بك ولا به ، اللهمّ احفظني من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ، حتّى تبلّغني أهلي ، واكفني مؤونة عبادك وعيالي ، فإنّك وليّ ذلك من خلقك ومنّي».

ثمّ ائت زمزم فاشرب منها واخرج ، وقل : «آئبون تائبون عابدون لربّنا ، حامدون إلى ربّنا راجعون».

فإذا خرجت من المسجد فاسجد عند باب المسجد طويلا ، ثمّ اخرج. ويستحبّ أن يشتري بدرهم تمرا إذا أراد الخروج ويتصدّق به ليكون كفّارة لما لعلّه دخل عليه في حال إحرامه من حكّ جسم أو رمي قمّل وغير ذلك ويستقبل الكعبة على باب المسجد ويقول : «اللهمّ ، إنّي أنقلب على لا

٢٢٠