التفسير الأثري الجامع - ج ٥

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-06-7
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

(التعهّد الإنسانيّ النبيل) ميزان الاتّصال بالله وذكره وتقواه (١).

ثمّ القرآن يزن مقادير الناس ومآلاتهم بهذا الميزان الجديد : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) : إنّما يبتغي حسن العاجلة الزائلة ويتغافل الحياة الباقية السعيدة في جنب الله. (أَوْ) من ثمّ (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي حظّ ونصيب.

فقد ورد أنّهم كانوا يقولون ـ عندما يأتون الموقف ـ : «اللهمّ اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن» (٢). لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا.

وهذا نموذج من الناس مكرور في الأجيال والأمصار ، النموذج الّذي همّه الدنيا وحدها ، يذكرها حتّى حين يتوجّه إلى الله بالدعاء ، لأنّها هي الّتي تشغله ، وتملأ فراغ نفسه ، وتحيط عالمه وتغلقه عليه. ذاهلا عن الحياة الأخرى كلّ الذهول.

ومن ثمّ فقد يمنحهم الله بعض نصيبهم من الدنيا حيث رضوا بها ، واطمأنّوا إليها. ولكن لا نصيب لهم في الآخرة إطلاقا ، حيث لم تبد منهم رغبة فيها. ولا عرضة لغير طلب.

***

وهناك نموذج آخر من الناس ، أفسح أفقا ، وأكبر نفسا ، يرى من الدنيا والآخرة متلازمين ، وأنّ هذه الحياة القصيرة تستهدف حياة هي أوسع وأرقى وأدوم. حيث لقاء الله. (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ)(٣).

فلم تكن عمارة الأرض لوحدها الهدف من الحياة. وإنّما هي مشرعة إلى منهل عذب آخر رحيق : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٤).

ومن ثمّ فالرابح من جمع الدنيا مع الآخرة ، وطلب الحسنى في كلتا الدارين : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

إنّهم يرغبون إلى الله في حسن حالهم في الدارين ، ولا يحدّدون نوع الحسنة ، بل يدعون اختيارها إلى المولى الكريم ، ومن ثمّ فلهؤلاء نصيب مضمون. (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) أي نتيجة أعمالهم الصالحة في هذه الحياة. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي سريع الإجابة على قدر ما بذلوا

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

(٢) يأتي الحديث عنه.

(٣) الانشقاق ٨٤ : ٦.

(٤) العنكبوت ٢٩ : ٦٤.

١٨١

من جهد لبلوغ السعادة في الدارين. فلن يفوت أحدا جهده ولا يضيع شيء من مساعيه.

الدنيا رحاب الآخرة

نعم ، الإسلام لا يريد من المؤمنين أن يدعوا أمر الدنيا ، فهم خلقوا للخلافة فيها (١) ولعمارة الأرض (٢). ولكنّه تعالى يريد منهم أن يتّجهوا إلى الله في جميع شؤونهم الدنيويّة والأخرويّة ، وأن لا يضيّقوا من آفاقهم ، فيجعلوا من الدنيا سورا يحصرهم فيها. إنّه يريد أن يطلق الإنسان في أسوار هذه الأرض الصغيرة ، فيعمل فيها ، وهو أكبر منها وأرقى. ويزاول الخلافة وهو متّصل بالأفق الأعلى.

ومن ثمّ تبدو الاهتمامات القاصرة على هذه الأرض ، ضئيلة هزيلة ، حين ينظر إليها الإنسان من قمّة التصوّر الإسلاميّ الشامخة.

[٢ / ٥٥٨١] قال الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام : «اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات (٣) : ساعة لمناجاة الله. وساعة لأمر المعاش. وساعة لمعاشرة الإخوان الثقات والّذين يعرّفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن. وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرّم. وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات».

قال : «اجعلوا لأنفسكم حظّا من الدنيا ، بإعطائها ما تشتهي من الحلال ، وما لا يثلم المروّة ، وما لا سرف فيه». قال : «واستعينوا بذلك على أمور الدين».

ثمّ قال : «فإنّه نروي (٤) : ليس منّا من ترك دنياه لدينه أو ترك دينه لدنياه» (٥).

وقال : «من سلّط ثلاثا على ثلاث ، فكأنّما أعان هواه على هدم عقله : من أظلم نور فكره بطول أمله. ومحى طرائف حكمته بفضول كلامه. وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه ، فكأنّما أعان

__________________

(١) البقرة ٢ : ٣٠.

(٢) (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) (هود ١١ : ٦١).

(٣) أي قسّموا أوقاتكم إلى أربع ، فقسط للعبادة. وقسط لكسب المعاش. وقسط لمعاشرة الإخوان. وقسط للذّات الحياة. وليس المراد مساواة الأقساط ، بل مجرّد أن يجعل لكلّ شأن من شؤونه فراغا يخصّه.

(٤) أي نروي عن آبائنا عليهم‌السلام.

(٥) تحف العقول : ٤٠٩ ـ ٤١٠ ؛ البحار ٧٥ : ٣٢١ / ١٨. وقابلناه مع فقه الرضا.

١٨٢

هواه على هدم عقله».

وقال : «ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه» (١).

[٢ / ٥٥٨٢] وعن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «إنّي لأبغض الرجل أن يكون كسلانا عن أمر دنياه ، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل» (٢).

[٢ / ٥٥٨٣] وعن ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من انقطع إلى الله كفاه كلّ مؤونة ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ، ومن حاول أمرا بمعصية الله كان أبعد له ممّا رجا وأقرب ممّا اتّقى.

ومن طلب محامد الناس بمعاصي الله عاد حامده منهم ذامّا ، ومن أرضى الناس بسخط الله وكله الله إليهم ، ومن أرضى الله بسخط الناس كفاه الله شرّهم. ومن أحسن ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس. ومن أحسن سريرته أصلح الله علانيته ، ومن عمل لآخرته كفى الله أمر دنياه».

[٢ / ٥٥٨٤] وأيضا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تسبّوا الدنيا فنعمت مطيّة المؤمن ؛ فعليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشّرّ. إنّه إذا قال العبد : لعن الله الدّنيا ، قالت الدّنيا : لعن الله أعصانا لربّه»!

وقد أخذ الشريف الرضيّ بهذا المعنى فنظمه :

يقولون : الزمان به فساد

فهم فسدوا وما فسد الزمان (٣)

[٢ / ٥٥٨٥] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما الأعمال بالنيّات ، وإنّما لكلّ امرء ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليها» (٤).

[٢ / ٥٥٨٦] وقال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من أصلح ما بينه وبين الله ـ سبحانه ـ أصلح الله ما بينه وبين الناس. ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه. ومن كان له من نفسه واعظ ، كان عليه من الله حافظ» (٥).

[٢ / ٥٥٨٧] وقال الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «إنّ الله ينادي كلّ ليلة ـ من أوّل الليل إلى آخره ـ : ألا

__________________

(١) البحار ١ : ١٣٧ ؛ الكافي ١ : ١٧ ، في وصيّته عليه‌السلام لهشام بن الحكم.

(٢) الكافي ٥ : ٨٥ / ٤.

(٣) البحار ٧٤ : ١٧٨ / ٨ و ١٠. روى المجلسي عن أعلام الدين للديلمي. أربعون حديثا رواها ابن ودعان بحذف الأسناد.

(٤) البخاري ١ : ٢ و ٢٠ ؛ البحار ٦٧ : ٢١١ و ٢٤٩.

(٥) نهج البلاغة ٤ : ٢٠ / ٨٩ ؛ البحار ٦٨ : ٣٦٧ / ١٧.

١٨٣

عبد مؤمن يدعوني لدينه ودنياه» (١).

[٢ / ٥٥٨٨] وروى الصدوق والمفيد والطوسي بأسانيدهم عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «إنّ الله لينادي كلّ ليلة جمعة من فوق عرشه من أوّل الليل إلى آخره : ألا عبد مؤمن يدعوني لآخرته ودنياه فأجيبه! ألا عبد مؤمن يتوب إليّ من ذنوبه قبل طلوع الفجر فأتوب عليه! فما يزال ينادي بهذا إلى أن يطلع الفجر» (٢).

[٢ / ٥٥٨٩] وقال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : «الناس ثلاثة : جاهل يأبى أن يتعلّم ، وعالم قد شفّه علمه. وعاقل يعمل لدنياه وآخرته» (٣).

[٢ / ٥٥٩٠] وفي دعاء الإمام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام يوم عرفة : «... وأعوذبك من دنيا تمنع خير الآخرة ، ومن حياة تمنع خير الممات» (٤).

[٢ / ٥٥٩١] وفي دعاء الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام إذا أصبح وأمسى : «أصبحت أشهدك ما أصبحت بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا ، فإنّها منك وحدك لا شريك لك ، فلك الحمد على ذلك ، ولك الشكر كثيرا» (٥).

[٢ / ٥٥٩٢] وفي دعاء الصادق عليه‌السلام : «... يا ذا المعروف الّذي لا ينقطع أبدا ، أعنّي على ديني بدنيا ، وعلى آخرتي بتقوى ...» (٦).

[٢ / ٥٥٩٣] وروى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى النوفلي عن السكوني عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم العون على تقوى الله الغنى» (٧).

[٢ / ٥٥٩٤] وعن جميل بن صالح عنه عليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) قال : «رضوان الله والجنّة في الآخرة ، وحسن الخلق في الدنيا» (٨).

__________________

(١) عدّة الداعي : ٣٧ ؛ البحار ٨٠ : ١١٢ / ١٩.

(٢) الفقيه ١ : ٤٢١ ؛ المقنعة : ١٥٥ ؛ التهذيب ٣ : ٥ / ١١ ؛ البحار ٨٠ : ١١٤ / ٢٥.

(٣) تحف العقول : ٣٢٤ ؛ البحار ٧٥ : ٢٣٨ / ٨٠.

(٤) البحار ٩٥ : ٢٦٠.

(٥) البحار ٨٣ : ٢٥٤ / ٢١ ؛ الكافي ٢ : ٥٣٤ ـ ٥٣٥ / ٣٨.

(٦) البحار ٩١ : ٣١٣.

(٧) الكافي ٥ : ٧١ / ١ ، كتاب المعيشة ، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة.

(٨) المصدر / ٢.

١٨٤

[٢ / ٥٥٩٥] وعن ثعلبة بن ميمون عن عبد الأعلى عنه عليه‌السلام قال : «سلوا الله الغنى في الدنيا والعافية. وفي الآخرة المغفرة والجنّة» (١).

[٢ / ٥٥٩٦] وعن عمرو بن جميع ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لا خير في من لا يحبّ جمع المال من حلال يكفّ به وجهه ، ويقضي به دينه ، ويصل به رحمه» (٢).

[٢ / ٥٥٩٧] وعن المفضّل بن عمر ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «استعينوا ببعض هذه على هذه ، ولا تكونوا كلولا على الناس» (٣).

[٢ / ٥٥٩٨] وعن عليّ بن غراب عنه عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ملعون من ألقى كلّه على الناس» (٤).

[٢ / ٥٥٩٩] وعن ذريح بن يزيد المحاربيّ عنه عليه‌السلام قال : «نعم العون الدنيا على الآخرة» (٥).

[٢ / ٥٦٠٠] وفي لفظ آخر : «نعم العون على الآخرة الدنيا» (٦).

[٢ / ٥٦٠١] وفي ثالث عن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام : «نعم العون الدنيا على طلب الآخرة» (٧).

[٢ / ٥٦٠٢] وعن عبد الله بن أبي يعفور ، قال : «قال رجل لأبي عبد الله عليه‌السلام : والله إنّا لنطلب الدنيا ونحبّ أن نؤتاها! فقال : تحبّ أن تصنع بها ماذا؟ قال : أعود بها على نفسي وعيالي ، وأصل بها ، وأتصدّق بها ، وأحجّ وأعتمر! فقال عليه‌السلام : ليس هذا طلب الدنيا ، هذا طلب الآخرة» (٨).

[٢ / ٥٦٠٣] وعن أحمد بن محمّد بن خالد ـ رفعه ـ قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «غنى يحجزك عن الظلم ، خير من فقر يحملك على الإثم!» (٩).

[٢ / ٥٦٠٤] وقال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أيّها الناس إنّما الدنيا دار مجاز ، والآخرة دار قرار.

فخذوا من ممرّكم لمقرّكم ، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم. وأخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم ؛ ففيها اختبرتم ولغيرها خلقتم. إنّ المرأ إذا هلك قال الناس : ما

__________________

(١) المصدر / ٤.

(٢) المصدر : ٧٢ / ٥.

(٣) المصدر / ٦. والكلول جمع الكلّ وهو من ألقى ثقل عيلولته على الناس.

(٤) المصدر / ٧.

(٥) المصدر / ٨.

(٦) المصدر / ٩.

(٧) المصدر : ٧٣ / ١٤.

(٨) المصدر : ٧٢ / ١٠.

(٩) المصدر / ١١.

١٨٥

ترك؟ وقالت الملائكة : ما قدّم؟ لله آباؤكم! فقدّموا بعضا يكن لكم قرضا ، ولا تخلفوا كلّا فيكون عليكم فرضا» (١).

[٢ / ٥٦٠٥] وقال عليه‌السلام : «ألا وإنّ هذه الدنيا الّتي أصبحتم تتمنّونها وترغبون فيها ، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ، ليست بداركم ولا منزلكم الّذي خلقتم له ولا الّذي دعيتم إليه. ألا وإنّها ليست بباقية لكم ولا تبقون عليها ، وهي إن غرّتكم منها فقد حذّرتكم شرّها ، فدعوا غرورها لتحذيرها ، وأطماعها لتخويفها. وسابقوا فيها إلى الدار الّتي دعيتم إليها ، وانصرفوا بقلوبكم عنها ، ولا يخنّنّ أحدكم خنين الأمة على ما زوي عنه منها. (٢) واستتمّوا نعمة الله عليكم بالصبر على طاعة الله ، والمحافظة على ما استحفظكم من كتابه. ألا وإنّه لا يضرّكم تضييع شيء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم. أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ ، وألهمنا وإيّاكم الصبر» (٣).

نعم ، الدنيا مزرعة الآخرة ، وغدا الحصاد. ولا يصلح الحصاد إذا لم يصلح الزرع.

[٢ / ٥٦٠٦] وفي الديوان المنسوب إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

ربّ فتى دنياه موفورة

ليس له من بعدها آخرة

وآخر دنياه مذمومة

تتبعها آخرة فاخرة

وآخر فاز بكلتيهما

قد جمع الدنيا مع الآخرة

وآخر يحرم كلتيهما

ليس له دنيا ولا آخرة

[٢ / ٥٦٠٧] وفي رواية أخرى :

وواحد دنياه محمودة

ليس له من بعدها آخرة

وواحد فاز بكلتيهما

قد جمع الدنيا مع الآخرة

وواحد من بينهم ضائع

ليس له الدنيا ولا الآخرة (٤)

والخلاصة : تظافرت الآثار الدينيّة على حسن هذه الحياة إذا اتّخذت ذريعة للتصاعد على مدارج الكمال ، وكان النظر إليها نظر الوسيلة وليست الهدف الأقصى من الحياة. بعد أن كان مصير

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ : ١٨٣ ، الخطبة ٢٠٣.

(٢) الخنين : ضرب من البكاء يردّد به الصوت في الأنف. وزوي بمعنى نهب منها.

(٣) نهج البلاغة ٢ : ٨٧ ـ ٨٨ ، الخطبة ١٧٣.

(٤) الديوان : ١٩٩.

١٨٦

الإنسان إلى حياة أرفع ورضوان من الله أكبر.

وقد عقد أبو جعفر الكليني بابا في الكافي ، جمع فيه أصحّ الآثار في طلب الرزق والمعايش وترغيب الجدّ فيها لبلوغ الإرب وحسن التمتّع بها ، ولاتّخاذها وسيلة للإحسان والفضيلة وكسب المكرمات ، ومنها الحفاظ على عزّة النفس وصونها عن الابتذال.

وإليك منها نبذا :

الجدّ في كسب المعايش عبادة

[٢ / ٥٦٠٨] روى بالإسناد إلى عبد الرحمان بن الحجّاج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ محمّد بن المنكدر (١) كان يقول : ما كنت أرى أنّ عليّ بن الحسين يدع خلفا أفضل منه ، حتّى رأيت ابنه محمّد بن عليّ ، فأردت أن أعظه فوعظني ، فقال له أصحابه : بأيّ شيء وعظك؟ قال : خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة ، فلقيني أبو جعفر محمّد بن عليّ وكان رجلا بادنا ثقيلا وهو متّكئ على غلامين أسودين أو موليين ، فقلت في نفسي : سبحان الله ، شيخ من أشياخ قريش ، في هذه الساعة ، على هذه الحال ، في طلب الدنيا! أما لأعظنّه ، فدنوت منه فسلّمت عليه فردّ عليّ السّلام ببهر (٢) وهو يتصابّ عرقا. فقلت : أصلحك الله ، شيخ من أشياخ قريش ، في هذه الساعة ، على هذه الحال ، في طلب الدنيا! أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع؟ فقال : لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله ـ عزوجل ـ أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس ، وإنّما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله! فقلت : صدقت يرحمك الله ، أردت أن أعظك فوعظتني!».

[٢ / ٥٦٠٩] وروى بالإسناد إلى الفضل بن أبي قرّة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان أمير المؤمنين

__________________

(١) كان من كبار التابعين ، ظاهر الصلاح. قال ابن عيينة : كان من معادن الصدق ، ويجتمع إليه الصالحون. وكان مقبول الكلام محبوبا لدى العامّة. قال ابن حبّان : كان من سادات القرّاء. وقال يعقوب بن شيبة : صحيح الحديث جدّا. وقال إبراهيم بن المنذر : غاية في الحفظ والإتقان والزهد حجّة. قال الكشّي : كان له ميل ومحبّة شديدة لأهل البيت عليهم‌السلام. (قاموس الرجال ٩ : ٦٠٨ / ٧٣٠٤). (تهذيب التهذيب ٩ : ٤٧٤ ـ ٤٧٥ / ٧٦٧).

(٢) بالباء الموحّدة المضمومة وهو تتابع النفس يعتري الإنسان عند السعي الشديد والعدو.

١٨٧

ـ صلوات الله عليه ـ يضرب بالمرّ (١) ويستخرج الأرضين ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمصّ النوى بفيه ويغرسه فيطلع من ساعته ، وإنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أعتق ألف مملوك من ماله وكدّ يده».

[٢ / ٥٦١٠] وعن عبد الأعلى مولى آل سام قال : استقبلت أبا عبد الله عليه‌السلام في بعض طرق المدينة في يوم صائف (٢) شديد الحرّ فقلت : جعلت فداك حالك عند الله ـ عزوجل ـ وقرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنت تجهد لنفسك في مثل هذا اليوم؟ فقال : «يا عبد الأعلى ، خرجت في طلب الرزق لأستغني عن مثلك!».

[٢ / ٥٦١١] وعن أبي اسامة زيد الشحّام ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أعتق ألف مملوك من كدّ يده».

[٢ / ٥٦١٢] وعن الفضل بن أبي قرّة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : أوحى الله ـ عزوجل ـ إلى داوود عليه‌السلام إنّك نعم العبد لو لا أنّك تأكل من بيت المال ، ولا تعمل بيدك شيئا! قال : فبكى داوود عليه‌السلام أربعين صباحا ، فأوحى الله ـ عزوجل ـ إلى الحديد : أن لن لعبدي داوود ، فألان الله له الحديد ، فكان يعمل كلّ يوم درعا فيبيعها بألف درهم ، فعمل ثلاثمائة وستّين درعا فباعها بثلاثمائة وستّين ألفا ، واستغنى عن بيت المال!».

[٢ / ٥٦١٣] وعن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لقى رجل أمير المؤمنين عليه‌السلام وتحته وسق (٣) من نوى فقال له : ما هذا يا أبا الحسن تحتك؟ فقال : مائة ألف عذق (٤) إن شاء الله ، قال : فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة».

[٢ / ٥٦١٤] وعن أسباط بن سالم قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فسألنا عن عمر بن مسلم ما فعل؟ فقلت : صالح ، ولكنّه قد ترك التجارة! فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «عمل الشيطان ـ ثلاثا ـ أما علم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشترى عيرا أتت من الشام (٥) فاستفضل فيها ما قضى دينه وقسّم في قرابته. يقول الله ـ عزوجل ـ : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ)(٦) يقول القصّاص (٧) : إنّ القوم لم

__________________

(١) المرّ ـ بالفتح ـ : المسحاة.

(٢) الصائف : الحارّ.

(٣) الوسق : ستّون صاعا أو حمل بعير.

(٤) العذق ـ بالفتح ـ النخلة بحملها.

(٥) العير ـ بالكسر ـ الإبل الّذي يحمل الطعام ثمّ غلب على كلّ قافلة.

(٦) النور ٢٤ : ٣٧.

(٧) القصّاص : رواة القصص والأكاذيب.

١٨٨

يكونوا يتّجرون ، كذبوا ، ولكنّهم لم يكونوا يدعون الصلاة في ميقاتها ، وهو أفضل ممّن حضر الصلاة ولم يتّجر!».

[٢ / ٥٦١٥] وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يخرج ومعه أحمال النوى ، فيقال له : يا أبا الحسن ما هذا معك؟ فيقول : نخل إن شاء الله ، فيغرسه فلم يغادر منه واحدة».

[٢ / ٥٦١٦] وعن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة ، عن أبيه قال : رأيت أبا الحسن عليه‌السلام يعمل في أرض له قد استنقعت قدماه في العرق ، فقلت له : جعلت فداك أين الرجال؟ فقال : «يا عليّ قد عمل باليد من هو خير منّي في أرضه ومن أبي ، فقلت له : ومن هو؟ فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين وآبائي عليهم‌السلام كلّهم كانوا قد عملوا بأيديهم ، وهو من عمل النبيّين والمرسلين والأوصياء والصالحين».

[٢ / ٥٦١٧] وعن إسماعيل بن جابر قال : أتيت أبا عبد الله عليه‌السلام وإذا هو في حائط له بيده مسحاة ، وهو يفتح بها الماء ، وعليه قميص شبه الكرابيس ، كأنّه مخيط عليه من ضيقه!

[٢ / ٥٦١٨] وعن محمّد بن عذافر عن أبيه قال : «أعطى أبو عبد الله عليه‌السلام أبي ألفا وسبعمائة دينار ، فقال له : اتّجر بها ، ثمّ قال : أما إنّه ليس لي رغبة في ربحها ، وإن كان الربح مرغوبا فيه ، ولكنّي أحببت أن يراني الله ـ عزوجل ـ متعرّضا لفوائده! قال : فربحت له فيها مائة دينار ثمّ لقيته فقلت له : قد ربحت لك فيها مائة دينار. قال : ففرح أبو عبد الله عليه‌السلام بذلك. فقال : لي أثبتها في رأس مالي. قال : فمات أبي والمال عنده ، فأرسل إليّ أبو عبد الله عليه‌السلام فكتب عافانا الله وإيّاك إنّ لي عند أبي محمّد ألفا وثمانمائة دينار أعطيته يتّجر بها فادفعها إلى عمر بن يزيد ، قال : فنظرت في كتاب أبي فإذا فيه لأبي موسى (١) عندي ألف وسبعمائة دينار واتّجر له فيها مائة دينار ، عبد الله بن سنان وعمر بن يزيد يعرفانه».

[٢ / ٥٦١٩] وعن أبي عمرو الشيباني قال : رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له والعرق يتصابّ عن ظهره ، فقلت : جعلت فداك ، أعطني أكفّك ، فقال لي : «إنّي أحبّ أن يتأذّى الرجل بحرّ الشمس في طلب المعيشة!».

__________________

(١) يعني به أبا عبد الله فإنّ ابنه موسى.

١٨٩

[٢ / ٥٦٢٠] وعن زرارة قال : إنّ رجلا أتى أبا عبد الله عليه‌السلام فقال : إنّي لا أحسن أن أعمل عملا بيدي ولا أحسن أن أتّجر وأنا محارف محتاج (١) ، فقال : «إعمل ، فاحمل على رأسك ، واستغن عن الناس ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حمل حجرا على عاتقه فوضعه في حائط له من حيطانه ، وإنّ الحجر لفي مكانه ، ولا يدرى كم عمقه إلّا أنّه ثمّ بمعجزته».

[٢ / ٥٦٢١] وعن عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّي لأعمل في بعض ضياعي حتّى أعرق ، وإنّ لي من يكفيني ، ليعلم الله ـ عزوجل ـ أنّي أطلب الرزق الحلال».

[٢ / ٥٦٢٢] وعن عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل قال : لأقعدنّ في بيتي ولأصلّينّ ولأصومنّ ولأعبدنّ ربّي ، فأمّا رزقي فسيأتيني! فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «هذا أحد الثلاثة الّذين لا يستجاب لهم».

[٢ / ٥٦٢٣] وعنه أيضا قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أرأيت لو أنّ رجلا دخل بيته وأغلق بابه ، أكان يسقط عليه شيء من السماء!».

[٢ / ٥٦٢٤] وعن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أيّوب قال : «كنّا جلوسا عند أبي عبد الله عليه‌السلام إذ أقبل العلاء بن كامل فجلس قدّام أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : ادع الله أن يرزقني في دعة! فقال : لا أدعو لك ، اطلب كما أمرك الله ـ عزوجل ـ!».

[٢ / ٥٦٢٥] وعن سليمان بن معلّى بن خنيس ، عن أبيه قال : سأل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل وأنا عنده ، فقيل له : أصابته الحاجة ، قال : فما يصنع اليوم؟ قيل : في البيت يعبد ربّه ، قال : فمن أين قوته؟ قيل : من عند بعض إخوانه! فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «والله للّذي يقوته أشدّ عبادة منه!».

[٢ / ٥٦٢٦] وعن محمّد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «من طلب الدنيا استعفافا عن الناس ، وتوسيعا على أهله ، وتعطّفا على جاره ، لقى الله ـ عزوجل ـ يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر».

[٢ / ٥٦٢٧] وعن أبي خالد الكوفي رفعه إلى أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «العبادة سبعون جزءا أفضلها طلب الحلال».

[٢ / ٥٦٢٨] وعن هشام الصيد لاني قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا هشام إن رأيت الصفّين قد التقيا ،

__________________

(١) المحارف : المحروم ، من لا حظّ له في الحياة.

١٩٠

فلا تدع طلب الرزق في ذلك اليوم».

[٢ / ٥٦٢٩] وعن خالد بن نجيح قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «اقرأوا من لقيتم من أصحابكم السّلام ، وقولوا لهم : عليكم بتقوى الله ـ عزوجل ـ وما ينال به ما عند الله. إنّي والله ما آمركم إلّا بما نأمر به أنفسنا ، فعليكم بالجدّ والاجتهاد ، وإذا صلّيتم الصبح وانصرفتم فبكّروا في طلب الرزق ، واطلبوا الحلال ، فإنّ الله ـ عزوجل ـ سيرزقكم ويعينكم عليه».

[٢ / ٥٦٣٠] وعن شهاب بن عبد ربّه قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «إن ظننت أو بلغك أنّ هذا الأمر (١) كائن في غد فلا تدعنّ طلب الرزق ، وإن استطعت أن لا تكون كلّا فافعل».

[٢ / ٥٦٣١] وعن أبان ، عن العلاء قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «أيعجز أحدكم أن يكون مثل النملة ، فإنّ النملة تجرّ إلى جحرها».

[٢ / ٥٦٣٢] وعن كليب الصيداوي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «ادع الله ـ عزوجل ـ لي في الرزق فقد التأثت عليّ أموري (٢) ، فأجابني مسرعا : لا ، اخرج فاطلب».

[٢ / ٥٦٣٣] وعن سدير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيّ شيء على الرجل في طلب الرزق؟ فقال : «إذا فتحت بابك ، وبسطت بساطك ، فقد قضيت ما عليك».

[٢ / ٥٦٣٤] وعن الطيّار قال : قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : أيّ شيء تعالج؟ أيّ شيء تصنع؟ فقلت : ما أنا في شيء! قال : «فخذ بيتا واكنس فناه ، ورشّه وابسط فيه بساطا ، فإذا فعلت ذلك فقد قضيت ما وجب عليك ، قال : فقدمت ففعلت فرزقت».

***

[٢ / ٥٦٣٥] وعن ابن محبوب ، عن أبي حمزة الثّمالي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع : ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي : أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها ، فاتّقوا الله ـ عزوجل ـ وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنّكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء من معصية الله ، فإنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا ولم يقسّمها حراما ، فمن اتّقى الله ـ عزوجل ـ وصبر أتاه الله برزقه من حلّه ، ومن هتك حجاب الستر وعجّل فأخذه من غير حلّه ، قصّ به من رزقه الحلال ، وحوسب عليه يوم القيامة».

__________________

(١) أي قيام القائم بالحجّة.

(٢) الالتياث : الاختلاط والالتفاف والإبطاء والحبس.

١٩١

[٢ / ٥٦٣٦] وعن إبراهيم بن أبي البلاد ، عن أبيه ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ليس من نفس إلّا وقد فرض الله ـ عزوجل ـ لها رزقها حلالا ، يأتيها في عافية ، وعرض لها بالحرام من وجه آخر ، فإن هي تناولت شيئا من الحرام قاصّها به (١) من الحلال الّذي فرض لها ، وعند الله سواهما فضل كثير ، وهو قوله ـ عزوجل ـ : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ)» (٢).

[٢ / ٥٦٣٧] وعن أبي خديجة قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لو كان العبد في جحر لأتاه الله برزقه ، فأجملوا في الطلب».

[٢ / ٥٦٣٨] وعن إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله ـ عزوجل ـ خلق الخلق وخلق معهم أرزاقهم حلالا طيّبا ، فمن تناول شيئا منها حراما قصّ به من ذلك الحلال».

[٢ / ٥٦٣٩] وعن سهل بن زياد رفعه قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «كم من متعب نفسه مقتر عليه ومقتصد في الطلب قد ساعدته المقادير».

[٢ / ٥٦٤٠] وعن أبي حمزة الثمالي قال : ذكر عند عليّ بن الحسين عليهما‌السلام غلاء السعر ، فقال : «وما عليّ من غلائه ، إن غلا فهو عليه [تعالى] ، وإن رخص فهو عليه».

[٢ / ٥٦٤١] وعن ابن فضّال ، عمّن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ليكن طلبك للمعيشة فوق كسب المضيّع ودون طلب الحريص ، الراضي بدنياه ، المطمئنّ إليها ، ولكن أنزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف المتعفّف ، ترفع نفسك عن منزلة الواهن الضعيف ، وتكتسب ما لا بدّ منه ، إنّ الّذين أعطوا المال ثمّ لم يشكروا لا مال لهم».

[٢ / ٥٦٤٢] وعن عليّ بن محمّد ، عن ابن جمهور ، عن أبيه رفعه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام كثيرا ما يقول : اعلموا علما يقينا أنّ الله ـ عزوجل ـ لم يجعل للعبد وإن اشتدّ جهده وعظمت حيلته وكثرت مكابدته ، أن يسبق ما سمّي له في الذكر الحكيم ، ولم يحل من العبد في ضعفه وقلّة حيلته أن يبلغ ما سمّي له في الذكر الحكيم ، أيّها الناس ، إنّه لن يزداد امرء نقيرا بحذقه ، ولم ينتقص امرء نقيرا لحمقه ، فالعالم لهذا العامل به ، أعظم الناس راحة في منفعته ، والعالم لهذا التارك له ، أعظم الناس شغلا في مضرّته ، وربّ منعم عليه مستدرج بالإحسان إليه ، وربّ مغرور في الناس مصنوع له ، فأفق أيّها الساعي من سعيك وقصّر من عجلتك ، وانتبه من سنة

__________________

(١) من التقاصّ.

(٢) النساء ٤ : ٣٢.

١٩٢

غفلتك ، وتفكّر فيما جاء عن الله ـ عزوجل ـ على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. واحتفظوا بهذه الحروف السبعة ، فإنّها من قول أهل الحجى ، ومن عزائم الله في الذكر الحكيم : إنّه ليس لأحد أن يلقى الله ـ عزوجل ـ بخلّة من هذه الخلال : الشرك بالله فيما افترض الله عليه ، أو إشفاء غيظ بهلاك نفسه ، أو إقرار بأمر يفعل غيره ، أو يستنجح إلى مخلوق بإظهار بدعة في دينه ، أو يسرّه أن يحمده الناس بما لم يفعل ، والمتجبّر المختال وصاحب الأبّهة والزهو ، أيّها الناس إنّ السباع همّتها التعدّي ، وإنّ البهائم همّتها بطونها ، وإنّ النساء همّتهنّ الرجال ، وإنّ المؤمنين مشفقون خائفون وجلون. جعلنا الله وإيّاكم منهم!».

[٢ / ٥٦٤٣] وعن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أيّها الناس إنّي لم أدع شيئا يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم من النار ، إلّا وقد نبّأتكم به ، ألا وإنّ روح القدس نفث في روعي وأخبرني أن لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها. فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنّكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله ، فإنّه لا ينال ما عند الله إلّا بطاعته».

[٢ / ٥٦٤٤] وعن عليّ بن الحكم عن أبي جميلة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، فإنّ موسى عليه‌السلام ذهب ليقتبس لأهله نارا فانصرف إليهم وهو نبيّ مرسل».

[٢ / ٥٦٤٥] وعن عبد الله بن القاسم ، عن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن جدّه عليهم‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، فإنّ موسى بن عمران عليه‌السلام خرج يقتبس لأهله نارا فكلّمه الله ورجع نبيّا مرسلا. وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان عليه‌السلام ، وخرجت سحرة فرعون يطلبون العزّ لفرعون ، فرجعوا مؤمنين».

[٢ / ٥٦٤٦] وعن عليّ بن السرّي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّ الله ـ عزوجل ـ جعل أرزاق المؤمنين من حيث لا يحتسبون ، وذلك أنّ العبد إذا لم يعرف وجه رزقه كثر دعاؤه».

[٢ / ٥٦٤٧] وعن عليّ بن عبد العزيز قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «ما فعل عمر بن مسلم؟ قلت : جعلت فداك ، أقبل على العبادة وترك التجارة! فقال : ويحه أما علم أنّ تارك الطلب لا يستجاب له! إنّ قوما من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا نزلت : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ

١٩٣

لا يَحْتَسِبُ)(١) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا : قد كفينا ، فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسل إليهم ، فقال : ما حملكم على ما صنعتم؟ قالوا : يا رسول الله ، الله تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة ، فقال : إنّه من فعل ذلك لم يستجب له ، عليكم بالطلب».

***

[٢ / ٥٦٤٨] وعن يونس بن يعقوب عمّن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كثرة النوم مذهبة للدين والدنيا».

[٢ / ٥٦٤٩] وعن بشير الدهّان قال : سمعت أبا الحسن موسى عليه‌السلام يقول : «إنّ الله يبغض العبد النوّام الفارغ».

[٢ / ٥٦٥٠] وعن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله يبغض كثرة النوم وكثرة الفراغ».

[٢ / ٥٦٥١] وعن جعفر بن محمّد الأشعري ، عن ابن القدّاح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «عدوّ العمل الكسل».

[٢ / ٥٦٥٢] وعن سعد بن أبي خلف ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : قال أبي عليه‌السلام لبعض ولده : «إيّاك والكسل والضجر ، فإنّهما يمنعانك من حظّك من الدنيا والآخرة».

[٢ / ٥٦٥٣] وعن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من كسل عن طهوره وصلاته فليس فيه خير لأمر آخرته ، ومن كسل عمّا يصلح به أمر معيشته فليس فيه خير لأمر دنياه».

[٢ / ٥٦٥٤] وعن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّي لأبغض الرجل أن يكون كسلانا عن أمر دنياه ، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل!».

[٢ / ٥٦٥٥] وعن سماعة بن مهران ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : «إيّاك والكسل والضجر ، فإنّك إن كسلت لم تعمل ، وإن ضجرت لم تعط الحقّ».

[٢ / ٥٦٥٦] وعن الحسن بن عبد الله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تستعن بكسلان ، ولا تستشيرنّ عاجزا» (٢).

[٢ / ٥٦٥٧] وعن أبان بن تغلب قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «تجنّبوا المنى ، فإنّها تذهب بهجة ما خوّلتم ، وتستصغرون بها مواهب الله تعالى عندكم ، وتعقبكم الحسرات فيما وهمتم به

__________________

(١) الطلاق ٦٥ : ٢ ـ ٣.

(٢) أي عاجز الرأي.

١٩٤

أنفسكم».

[٢ / ٥٦٥٨] وعن عليّ بن محمّد رفعه قال : أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ الأشياء لمّا ازدوجت ، ازدوج الكسل والعجز ، فنتجا بينهما الفقر».

[٢ / ٥٦٥٩] وعن مسعدة بن صدقة قال : كتب أبو عبد الله عليه‌السلام إلى رجل من أصحابه : «أمّا بعد ، فلا تجادل العلماء ، ولا تمار السفهاء ، فيبغضك العلماء ويشتمك السفهاء ، ولا تكسل عن معيشتك فتكون كلّا على غيرك ـ أو قال : على أهلك».

[٢ / ٥٦٦٠] وعن معاذ بيّاع الأكيسة قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحلب عنز أهله».

[٢ / ٥٦٦١] وعن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ يحتطب ويستقي ويكنس ، وكانت فاطمة ـ سلام الله عليها ـ تطحن وتعجن وتخبز».

***

[٢ / ٥٦٦٢] وعن محمّد بن سماعة ، عن محمّد بن مروان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّ في حكمة آل داوود : «ينبغي للمسلم العاقل أن لا يرى ظاعنا إلّا في ثلاث : مرمّة لمعاش ، أو تزوّد لمعاد ، أو لذّة في غير ذات محرّم. وينبغي للمسلم العاقل أن يكون له ساعة يفضي بها إلى عمله فيما بينه وبين الله ـ عزوجل ـ وساعة يلاقي إخوانه الّذين يفاوضهم ويفاوضونه في أمر آخرته ، وساعة يخلي بين نفسه ولذّاتها في غير محرّم فإنّها عون على تلك الساعتين».

[٢ / ٥٦٦٣] وعن ابن أبي عمير ، عن ربعي ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الكمال كلّ الكمال في ثلاثة : التفقّه في الدين ، والصبر على النائبة ، وتقدير المعيشة».

[٢ / ٥٦٦٤] وعن ثعلبة ، وغيره ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إصلاح المال من الإيمان».

[٢ / ٥٦٦٥] وعن داوود بن سرحان قال : رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام يكيل تمرا بيده ، فقلت : جعلت فداك لو أمرت بعض ولدك أو بعض مواليك فيكفيك ، فقال : «يا داوود إنّه لا يصلح المرء المسلم إلّا ثلاثة : التفقّه في الدين ، والصبر على النائبة وحسن التقدير في المعيشة».

[٢ / ٥٦٦٦] وعن ذريح المحاربي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا أراد الله بأهل بيت خيرا رزقهم الرفق في المعيشة».

١٩٥

[٢ / ٥٦٦٧] وعن صالح بن حمزة ، عن بعض أصحابنا قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «عليك بإصلاح المال فإنّ فيه منبهة للكريم (١) واستغناء عن اللئيم».

[٢ / ٥٦٦٨] وعن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله».

[٢ / ٥٦٦٩] وعن زكريّا بن آدم ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : «الّذي يطلب من فضل الله ما يكفّ به عياله ، أعظم أجرا من المجاهد في سبيل الله».

[٢ / ٥٦٧٠] وعن فضيل بن يسار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا كان الرجل معسرا فيعمل بقدر ما يقوت به نفسه وأهله ، ولا يطلب حراما فهو كالمجاهد في سبيل الله».

[٢ / ٥٦٧١] وعن مسعدة بن صدقة ، عن جعفر عليه‌السلام قال : قال سلمان رضى الله عنه : «إنّ النفس قد تلتاث (٢) على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه ، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنّت» (٣).

قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)

[٢ / ٥٦٧٢] روي العيّاشيّ بالإسناد إلى محمّد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر الباقر والإمام أبي عبد الله الصادق عليهما‌السلام قالا : «كانوا يفتخرون بآبائهم ؛ يقولون : أبي الّذي حمل الدّيات ، والّذي قاتل كذا وكذا ، إذا قاموا بمنى بعد النحر. وكانوا يحلفون بآبائهم : لا وأبي ، لا وأبي!» (٤) ..

[٢ / ٥٦٧٣] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) بعد أيّام التشريق (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) وذلك أنّهم كانوا إذا فرغوا من المناسك وقفوا بين مسجد منى وبين الجبل يذكر كلّ واحد منهم أباه ومحاسنه ويذكر صنائعه في الجاهليّة أنّه كان من أمره كذا وكذا ، ويدعو له بالخير. فقال الله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) كذكر الأبناء الآباء فإنّي أنا فعلت ذلك الخير إلى آبائكم الّذين تثنون عليهم. ثمّ قال ـ سبحانه ـ : (أَوْ أَشَدَّ) يعني أكثر (ذِكْراً)

__________________

(١) منبهة أي مشرفة ومعلاة من النباهة ، يقال : نبه ينبه إذا صار نبيها شريفا. وقال الفيض رحمه‌الله : إنّما كان صلاح المال منبهة للكريم ، لأنّ بالإصلاح ينمو المال ، وبنموّ المال يتيسّر الكرم ، وبالكرم يعلو الكريم ويشرف.

(٢) التاث عليه الأمر : اختلط والتبس. مأخوذ من اللّوث بمعنى التلطّخ والتلوّث.

(٣) الكافي ٥ : ٧٣ ـ ٨٩ ، كتاب المعيشة.

(٤) العيّاشيّ ١ : ١١٧ / ٢٧٢ ؛ القمّي ١ : ٦٩ ـ ٧٠ ؛ البرهان ١ : ٤٤٢ / ٥ ؛ البحار ٩٦ : ٣١١ / ٣٤ ، باب ٥٤.

١٩٦

لله منكم لآبائكم وكانوا إذا قضوا مناسكهم ، قالوا : اللهمّ أكثر أموالنا ، وأبناءنا ، ومواشينا ، وأطل بقاءنا ، وأنزل علينا الغيث ، وأنبت لنا المرعى ، وأصحبنا في سفرنا ، وأعطنا الظفر على عدوّنا ، ولا يسألون ربّهم عن أمر آخرتهم شيئا. فأنزل الله ـ تعالى ـ فيهم : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا) يعني أعطنا (فِي الدُّنْيا) يعني هذا الّذي ذكر. فقال ـ سبحانه ـ : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) يعني من نصيب ، نظيرها في براءة (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ)(١) يعني بنصيبهم ، فهؤلاء مشركو العرب فلمّا أسلموا وحجّوا دعوا ربّهم (٢).

[٢ / ٥٦٧٤] وأخرج ابن جرير عن أبي كريب ، قال : سمعت أبا بكر بن عيّاش ، قال : كان أهل الجاهليّة إذا فرغوا من الحجّ قاموا عند البيت فيذكرون آبائهم وأيّامهم : كان أبي يطعم الطعام ، وكان أبي يفعل كذا وكذا. قال أبو كريب : قلت ليحيى بن آدم : عمّن هو؟ قال : عن أبي بكر بن عيّاش ، عن عاصم ، عن أبي وائل (٣).

[٢ / ٥٦٧٥] وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عبّاس قال : كان المشركون يجلسون في الحجّ فيذكرون أيّام آبائهم وما يعدّون من أنسابهم يومهم أجمع ، فأنزل الله على رسوله في الإسلام : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)(٤).

[٢ / ٥٦٧٦] وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال : كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة فذكروا آبائهم وذكروا أيّامهم في الجاهليّة وفعال آبائهم ، فنزلت هذه الآية (٥).

[٢ / ٥٦٧٧] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) قال :

إهراقة الدماء (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) قال : تفاخر العرب بينها بفعال آبائها يوم النحر حين يفرغون ، فأمروا بذكر الله مكان ذلك (٦).

[٢ / ٥٦٧٨] وأخرج وكيع وابن جرير عن سعيد بن جبير وعكرمة قالا : كانوا يذكرون فعل آبائهم

__________________

(١) التوبة ٩ : ٦٩.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٣) الطبري ٢ : ٤٠٥ / ٣٠٦١.

(٤) الدرّ ١ : ٥٥٧ ؛ الشعب ٣ : ٣٥٨ / ٣٧٦٩.

(٥) الدرّ ١ : ٥٥٧ ؛ الطبري ٢ : ٤٠٥ ، بعد رقم ٣٠٦١.

(٦) الدرّ ١ : ٥٥٧ ؛ الطبري ٢ : ٤٠٤ / ٣٠٥٧ و ٣٠٦١ و ٣٠٦٣. معاني القرآن ١ : ١٤١ / ٦٧ ، بلفظ : قال مجاهد : إراقة الدماء ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٥٥ / ١٨٦٨ ، إلى قوله «إهراقة الدماء».

١٩٧

في الجاهليّة إذا وقفوا بعرفة ، فنزلت : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ)(١).

[٢ / ٥٦٧٩] وأخرج وكيع وعبد بن حميد عن عطاء قال : كان أهل الجاهليّة إذا نزلوا منى تفاخروا بآبائهم ومجالسهم ، فقال هذا : فعل أبي كذا وكذا. وقال هذا : فعل أبي كذا وكذا (٢).

[٢ / ٥٦٨٠] وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : كان أهل الجاهليّة إذا قضوا مناسكهم بمنى قعدوا حلقا ، فذكروا صنيع آبائهم في الجاهليّة وفعالهم ، يخطب خطيبهم ويحدّث محدّثهم ، فأمر الله ـ عزوجل ـ المسلمين أن يذكروا الله كذكر أهل الجاهليّة آبائهم أو أشدّ ذكرا (٣).

[٢ / ٥٦٨١] وعن السدّي قال : كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقاموا بمنى يقوم الرجل فيسأل الله ويقول : اللهمّ إنّ أبي كان عظيم الجفنة ، عظيم القبّة ، كثير المال ، فأعطني مثل ما أعطيت أبي. ليس يذكر الله إنّما يذكر آباءه ، ويسأله أن يعطى في الدنيا (٤).

[٢ / ٥٦٨٢] وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون : اللهمّ اجعله عام غيث ، وعام خصب ، وعام ولاد حسن لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا ، فأنزل فيهم : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(٥).

[٢ / ٥٦٨٣] وعنه أيضا قال : كانوا يسألون المال من الإبل والغنم وكانوا يقولون : اللهمّ اسقنا المطر ، وأعطنا على عدوّنا الظفر. ولا يسألون حظّا في الآخرة ، لأنّهم كانوا غير مؤمنين بالآخرة ، وذلك قوله : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)(٦).

[٢ / ٥٦٨٤] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال : كانوا يقولون : ربّنا آتنا رزقا ونصرا ، ولا يسألون لآخرتهم شيئا فنزلت (٧).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٥٧ ؛ الطبري ٢ : ٤٠٥ / ٣٠٦٣.

(٢) الدرّ ١ : ٥٥٨.

(٣) الطبري ٢ : ٤٠٥ / ٣٠٦٢ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٢٧ / ٢٣٣ ؛ مجمع البيان ٢ : ٥٠ ؛ التبيان ٢ : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٤) الطبري ٢ : ٤٠٧ / ٣٠٦٩ ؛ الثعلبي ٢ : ١١٤ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٣٠.

(٥) الدرّ ١ : ٥٥٨ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٥٧ / ١٨٧٤ ، وزاد : وروي عن أبي وائل ومجاهد والسدّي ومقاتل بن حيّان نحو ذلك ؛ ابن كثير ١ : ٢٥١.

(٦) الوسيط ١ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

(٧) الدرّ ١ : ٥٥٨ ؛ الطبري ٢ : ٤٠٨ / ٣٠٧٣.

١٩٨

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)

[٢ / ٥٦٨٥] روى ابن بابويه الصدوق بالإسناد إلى جميل بن صالح عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) قال : «رضوان الله والجنّة في الآخرة ، والسعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا» (١).

[٢ / ٥٦٨٦] وروى العيّاشيّ عن عبد الأعلى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «رضوان الله والتوسعة في المعيشة وحسن الصحبة. وفي الآخرة الجنّة» (٢).

[٢ / ٥٦٨٧] وروى الكليني بالإسناد إلى جميل بن صالح عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في قول الله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) ـ قال : «رضوان الله والجنّة في الآخرة. والمعاش وحسن الخلق في الدنيا» (٣).

[٢ / ٥٦٨٨] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) : أي دعوا ربّهم أن يؤتيهم (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) يعني الرزق الواسع ، وأن يؤتيهم (فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) فيجعل ثوابهم الجنّة وأن يقيهم (عَذابَ النَّارِ)(٤).

[٢ / ٥٦٨٩] وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير والذهبي في فضل العلم والبيهقي في شعب الإيمان عن الحسن في قوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) قال : الحسنة في الدنيا العلم والعبادة ، وفي الآخرة الجنّة والرضوان (٥).

[٢ / ٥٦٩٠] وأخرج أحمد والترمذي وحسّنه ، عن أنس قال : «جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) معاني الأخبار : ١٧٤ ـ ١٧٥ / ١ ، باب معنى حسنة الدنيا وحسنة الآخرة ؛ العيّاشيّ ١ : ١١٧ / ٢٧٥ ، وفيه : والسعة في المعيشة وحسن الخلق ؛ البحار ٦٨ : ٣٨٣ / ١٨ ، باب ٩٢ و ٩٢ : ٣٤٨ / ٢ ، باب ١٢٧ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٢٩٧ ؛ البرهان ١ : ٤٤٣ / ٨ ؛ نور الثقلين ١ : ١٩٩.

(٢) العيّاشيّ ١ : ١١٧ / ٢٧٦ ؛ البرهان ١ : ٤٤٣ / ٩.

(٣) نور الثقلين ١ : ١٩٩ ؛ الكافي ٥ : ٧١ / ٢ ، كتاب المعيشة ، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة ؛ كنز الدقائق ٢ : ٢٩٨ ؛ البرهان ١ : ٤٤١ / ٢ ؛ مجمع البيان ٢ : ٥١ ، بلفظ : روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّها السعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا ، ورضوان الله والجنّة في الآخرة».

(٤) تفسير مقاتل ١ : ١٧٦.

(٥) الدرّ ١ : ٥٦٠ ؛ المصنّف ٨ : ٢٦٨ / ١٢٩ ؛ الطبري ٢ : ٤١٠ / ٣٠٧٩ ؛ الشعب ٢ : ٣٠٦ / ١٨٨٧ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٣٣ ؛ الثعلبي ٢ : ١١٥ ؛ مجمع البيان ٢ : ٥١ ؛ التبيان ٢ : ١٧٢ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٥٨ و ٣٥٩ / ١٨٧٩ و ١٨٨٤ ، وزاد بعد قوله «وفي الآخرة الجنّة» : وروي عن مجاهد والسدّي ومقاتل بن حيّان وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك.

١٩٩

فقال : يا رسول الله أيّ الدعاء أفضل؟ قال : تسأل ربّك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، ثمّ أتاه من الغد فقال : يا رسول الله أيّ الدعاء أفضل؟ قال : تسأل ربّك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، ثمّ أتاه اليوم الثالث فقال : يا رسول الله أيّ الدعاء أفضل؟ قال : تسأل ربّك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، فإنّك إذا أعطيتهما في الدنيا ثمّ أعطيتهما في الآخرة فقد أفلحت» (١).

[٢ / ٥٦٩١] وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) قال : هذا عبد نوى الآخرة ، لها شخص ولها أنفق ولها عمل ، وكانت الآخرة هي سدمه (٢) وطلبته ونيّته (٣).

[٢ / ٥٦٩٢] وعن يحيى بن الحارث عن القاسم يعني أبا عبد الرحمان ، قال : من أعطي قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وجسدا صابرا ، فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقي عذاب النار (٤).

[٢ / ٥٦٩٣] والأصل فيه ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من أوتي قلبا شاكرا ، ولسانا ذاكرا ، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه وأخراه ، فقد أوتي في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، ووقي عذاب النار» (٥).

***

[٢ / ٥٦٩٤] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن حبّان وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أنس : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غادر رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل كنت تدعو الله بشيء؟ قال : نعم ، كنت أقول : اللهمّ ما كنت معاقبني به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سبحان الله! إذن لا تطيق ذلك ولا تستطيعه ، فهلّا قلت : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٦٠ ؛ مسند أحمد ٣ : ١٢٧ / ١٢٣١٣ ؛ الترمذي ٥ : ١٩٥ / ٣٥٧٩ ، باب ٨٩ ؛ ابن ماجة ٢ : ١٢٦٥ / ٣٨٤٨ ، باب ٥.

(٢) أي همّه.

(٣) ابن أبي حاتم ٢ : ٣٥٨ / ١٨٨٣.

(٤) المصدر ٢ : ٣٥٩ / ١٨٨٧.

(٥) مجمع البيان ٢ : ٥١ ؛ الكبير ٨ : ٢٠٥ / ٧٨٢٨ ، بلفظ : عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعاذ بن جبل : «يا معاذ ، قلب شاكر ولسان ذاكر وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك خير ما اكتسبه الناس» ؛ الوسيط ١ : ٣٠٧ ، وفيه : روى أبو الدرداء أنّ رسول الله قال ....

٢٠٠