التفسير الأثري الجامع - ج ٥

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-06-7
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

فقلت : أترفث وأنت محرم؟! قال : إنّما الرفث ما روجع به النساء! (١)

[٢ / ٥٥٢٤] وقال طاووس : الرفث التعريض للنساء بالجماع وذكره بين أيديهنّ (٢).

[٢ / ٥٥٢٥] وأخرج ابن جرير عن أبي العالية ، قال : لا يكون رفث إلّا ما واجهت به النساء (٣).

[٢ / ٥٥٢٦] وعن عطاء : (وَلا فُسُوقَ) قال : الفسوق : المعاصي كلّها (٤).

وكذا عن مجاهد وطاووس.

[٢ / ٥٥٢٧] وعن عكرمة قال : الفسوق : معصية الله ، لا صغير من معصية الله (٥).

[٢ / ٥٥٢٨] وعن محمّد بن كعب القرظي في قوله : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) قال : الجدال كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء : حجّنا أتمّ من حجّكم. وقال هؤلاء : حجّنا أتمّ من حجّكم (٦).

[٢ / ٥٥٢٩] وعن ابن زيد في قوله : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) قال : كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون ؛ كلّهم يدّعي أنّ موقفه موقف إبراهيم ، فقطعه الله حين أعلم نبيّه بمناسكهم (٧).

[٢ / ٥٥٣٠] وأخرج سفيان بن عيينة وابن أبي شيبة عن مجاهد في قوله : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) قال : صار الحجّ في ذي الحجّة فلا شهر ينسأ (٨).

[٢ / ٥٥٣١] وأخرج ابن جرير عن ابن جريج ، قال : قال عطاء : الجدال : ما أغضب صاحبك من الجدل (٩).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٢٨ ؛ سنن سعيد ٣ : ٨٠٤ / ٣٤٥ ؛ المصنّف ٤ : ٣٩٦ / ١ ، باب ٢٧٥ ؛ الطبري ٢ : ٣٦٠ ، بعد رقم ٢٨٨٩ ؛ الحاكم ٢ : ٢٧٦ ؛ البيهقي ٥ : ٦٧ ؛ الثعلبي ٢ : ١٠٥ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٠٨.

(٢) البغوي ١ : ٢٥١ ؛ الثعلبي ٢ : ١٠٥ ، عن طاووس وأبي العالية ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٠٨ ، عن طاووس وأبي العالية.

(٣) الطبري ٢ : ٣٦١ / ٢٨٩٢.

(٤) الطبري ٢ : ٣٦٦ / ٢٩١٧ و ٢٩١٨ ؛ القرطبي ٢ : ٤٠٧ ، عن ابن عبّاس وعطاء والحسن.

(٥) الطبري ٢ : ٣٦٧ / ٢٩٢٧.

(٦) الدرّ ١ : ٥٢٩ ؛ الطبري ٢ : ٣٧٣ / ٢٩٥٦ ؛ القرطبي ٢ : ٤١٠ ، بلفظ : قال محمّد بن كعب القرظي : الجدال أن تقول طائفة : حجّنا أبرّ من حجّكم ويقول الآخر مثل ذلك ؛ ابن كثير ١ : ٢٤٥ ؛ البغوي ١ : ٢٥٢ ؛ الثعلبي ٢ : ١٠٦ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٠٩.

(٧) الدرّ ١ : ٥٣٠ ؛ الطبري ٢ : ٣٧٤ / ٢٩٥٨.

(٨) الدرّ ١ : ٥٣٠ ؛ الثعلبي ٢ : ١٠٦ ، بلفظ : «معناه : ولا شكّ في الحجّ أنّه في ذي الحجّة ، فأبطل النسيء واستقام الحجّ كما هو اليوم».

(٩) الطبري ٢ : ٣٧٢ ، بعد رقم ٢٩٥٢.

١٦١

[٢ / ٥٥٣٢] وأخرج عن الزهري وقتادة قالا : الجدال : هو الصّخب (١) والمراء وأنت محرم (٢).

[٢ / ٥٥٣٣] وعن سعيد بن جبير ، قال : الجدال : أن تصخب على صاحبك (٣).

[٢ / ٥٥٣٤] وروى العيّاشيّ عن محمّد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام عن رجل محرم قال لرجل : لا لعمري! قال : «ليس ذلك بجدال ، إنّما الجدال : لا والله وبلى والله» (٤).

[٢ / ٥٥٣٥] وروى ابن بابويه الصدوق بالإسناد إلى أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المحرم يريد أن يعمل العمل فيقول له صاحبه : والله لا تعمله ، فيقول : والله لأعملته ، فيحالفه مرارا ، أيلزم ما يلزم صاحب الجدال؟ قال : «لا ، لأنّه أراد بهذا إكرام أخيه ، إنّما ذلك ما كان لله فيه معصية» (٥).

[٢ / ٥٥٣٦] وروي عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «الجدال : لا والله ، وبلى والله ، فإذا جادل المحرم ، فقال ذلك ثلاثا فعليه دم» (٦).

قوله تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى)

إذ لا يعزب عن علمه تعالى شيء (٧). والله لا يضيع أجر المحسنين (٨).

قوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى)

التزوّد هنا عامّ ويشمل مورد النزول حسبما ورد في الروايات :

[٢ / ٥٥٣٧] أخرج عبد بن حميد والبخاري وأبو داوود والنسائي وابن المنذر وابن حبّان والبيهقي في سننه عن ابن عبّاس قال : كان ناس يحجّون ولا يتزوّدون ، ويقولون : نحن متوكّلون ، ثمّ يعدمون

__________________

(١) الصّخب : الصياح الشديد. والمصاخبة : تصايح واختلاط أصوات.

(٢) الطبري ٢ : ٣٧٢ / ٢٩٥٢ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٢٢ / ٢١٨.

(٣) الطبري ٢ : ٣٧١ / ٢٩٤٥.

(٤) العيّاشيّ ١ : ١١٤ و ١١٥ / ٢٦٠ و ٢٦٢ ؛ البرهان ١ : ٤٣٨ / ١٩ و ٢١ ؛ البحار ٩٦ : ١٧٤ / ٢١ ، باب ٢٨.

(٥) علل الشرائع ٢ : ٤٥٧ ـ ٤٥٨ / ١ ، باب ٢١٧ ؛ الكافي ٤ : ٣٣٨ / ٥ ؛ الفقيه ٢ : ٣٣٣ / ٢٥٩٢ ؛ البحار ٩٦ : ١٧٠ / ٥ ، باب ٢٨.

(٦) مستدرك الوسائل ٩ : ٢٩٥ ؛ دعائم الإسلام ١ : ٣٠٤ ، عن الباقر عليه‌السلام ؛ البحار ٩٦ : ١٧٥ / ٢٩ ، باب ٢٨.

(٧) اقتباس من الآيتين : يونس ١٠ : ٦١ وسبأ ٣٤ : ٣.

(٨) التوبة ٩ : ١٢٠. هود ١١ : ١١٥. يوسف ١٢ : ٩٠.

١٦٢

فيسألون الناس ؛ فأنزل الله : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى)(١).

[٢ / ٥٥٣٨] وأخرج الطبراني عن الزبير قال : كان من الناس من يتوكّل بعضهم على بعض في الزاد ، فأمرهم الله أن يتزوّدوا (٢).

[٢ / ٥٥٣٩] وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال : كان ناس من الأعراب يحجّون بغير زاد ويقولون : نتوكّل على الله ، فأنزل الله : (وَتَزَوَّدُوا ...) الآية (٣).

[٢ / ٥٥٤٠] وقال مقاتل بن سليمان : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) وذلك أنّ ناسا كانوا يحجّون بغير زاد وكانوا يصيبون من أهل الطريق ظلما فأنزل الله : (وَتَزَوَّدُوا) من الطعام ما تكفّون به وجوهكم عن الناس وطلبهم ، وخير الزاد التقوى. يقول الله ـ تبارك اسمه ـ التقوى خير زاد من غيره ، ولا تظلمون من تمرّون عليه (وَاتَّقُونِ) ولا تعصون (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يعني يا أهل اللبّ والعقل. فلمّا نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تزوّدوا ما تكفّون به وجوهكم عن الناس ، وخير ما تزوّدتم التقوى» (٤).

***

وقوله : (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) أي خير الزاد ما فيه الكفاف ، بحيث يتّقى به عن مسائلة الناس ومزاحمتهم فيما تزوّدوا به كفافا لأنفسهم بالذات.

[٢ / ٥٥٤١] أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيّان. قال : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى).

يعني : اتّقوا الله ولا تظلموا ولا تغصبوا (٥) أهل الطريق. قال : ولمّا نزلت الآية قام رجل من فقراء المسلمين ، فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما نجد زادا نتزوّده! فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تزوّد ما تكفّ به وجهك

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٣١ ؛ البخاري ٢ : ١٤٢ ، وفيه : «ونحن المتوكّلون فإذا قدموا مكّة سألوا الناس فأنزل الله الآية ...» ؛ أبو داوود ١ : ٣٨٩ ـ ٣٩٠ / ١٧٣٠ ، باب ٤ ؛ النسائي ٥ : ٢٤٣ / ٨٧٩٠ ، باب ١٢٥ ؛ ابن حبّان ٦ : ٤٠٩ / ٢٦٩١ ؛ البيهقي ٤ : ٣٣٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٣٤٩ ؛ الطبري ٢ : ٣٨٢ ؛ الثعلبي ٢ : ١٠٧ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١١١.

(٢) الدرّ ١ : ٥٣١ ؛ القرطبي ٢ : ٤١١ ، وفيه : كان الناس يتّكل ... ؛ مجمع الزوائد ٦ : ٣١٨.

(٣) الدرّ ١ : ٥٣١ ؛ الطبري ٢ : ٣٨١ / ٢٩٧٤ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٢٣ / ٢٢٠.

(٤) تفسير مقاتل ١ : ١٧٣ ـ ١٧٥.

(٥) بالصاد المهملة ، فإنّ المأخوذ بحياء غصب.

١٦٣

عن الناس. وخير ما تزوّدتم التقوى» (١).

ومن ثمّ ورد عن السلف : أنّ التقوى هو العمل بطاعة الله.

[٢ / ٥٥٤٢] وأخرج ابن جرير عن الضّحاك في قوله : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) قال :

والتقوى عمل بطاعة الله (٢).

[٢ / ٥٥٤٣] وأخرج أحمد والبغوي في معجمه والبيهقي في سننه والأصبهاني في الترغيب عن رجل من أهل البادية قال : أخذ بيدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يعلّمني ممّا علّمه الله ، فكان فيما حفظت عنه أن قال : «إنّك لن تدع شيئا اتّقاء الله إلّا أعطاك الله خيرا منه» (٣).

[٢ / ٥٥٤٤] وأخرج أحمد والبخاري في الأدب والترمذي وصحّحه وابن ماجه وابن حبّان والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان والأصبهاني في الترغيب عن أبي هريرة قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أكثر ما يدخل الناس الجنّة؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق ، وسئل : ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال : الأجوفان : الفم والفرج» (٤).

[٢ / ٥٥٤٥] وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن رجل من بني سليط قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول : «المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ، التقوى هاهنا ، التقوى هاهنا» وأومأ بيده إلى صدره (٥).

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ٣٥١ / ١٨٤٤.

(٢) الطبري ٢ : ٣٨٤ / ٢٩٩٠.

(٣) الدرّ ١ : ٥٣٢ ؛ مسند أحمد ٥ : ٧٨ ؛ الترغيب والترهيب ٢ : ٣٤٧ / ٢٦٧٣ ؛ البيهقي ٥ : ٣٣٥ ، وفيه : إنّك لن تدع شيئا إتّقاء الله إلّا أبدلك الله به ما هو خير منه ؛ مجمع الزوائد ١٠ : ٢٩٦ ، قال الهيثمي : رواه كلّه أحمد بأسانيد ورجالها رجال الصحيح ؛ كنز العمّال ٣ : ٩٦ / ٥٦٦٣.

(٤) الدرّ ١ : ٥٣٢ ؛ مسند أحمد ٢ : ٣٩٢ و ٤٤٢ ؛ الأدب المفرد : ٦٩ ـ ٧١ و ٢٨٩ ـ ٢٩٤ ؛ الترمذي ٣ : ٢٤٥ / ٢٠٧٢ ؛ ابن ماجة ٢ : ١٤١٨ / ٤٢٤٦ ، باب ٢٩ ؛ ابن حبّان ٢ : ٢٢٤ / ٤٧٦ ؛ الحاكم ٤ : ٣٢٤ ؛ شعب الإيمان ٤ : ٣٦١ / ٥٤٠٨ ؛ كنز العمّال ١٦ : ١٠٣ / ٤٤٠٧١ ؛ القرطبي ١٨ : ٢٢٨ ؛ ابن كثير ٣ : ٤٥٨ ؛ الترغيب والترهيب ٢ : ٣٤٧ / ٢٦٧٣.

(٥) الدرّ ١ : ٥٣٢ ؛ مسند أحمد ٤ : ٦٩ ، بلفظ : ... عن رجل من بني سليط أنّه مرّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو قاعد على باب مسجده محتب وعليه ثوب له قطر ليس عليه ثوب غيره وهو يقول : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله». ثمّ أشار بيده إلى صدره يقول : «التقوى هاهنا ، التقوى هاهنا» ؛ مجمع الزوائد ٨ : ١٨٤ ، باب حقّ المسلم على المسلم ، قال الهيثمي : رواه أحمد بأسانيد وإسناده حسن.

١٦٤

[٢ / ٥٥٤٦] وأخرج الأصبهاني عن قتادة بن عياش قال : «لمّا عقدلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قومي أتيته مودّعا له فقال : جعل الله التقوى زادك ، وغفر ذنبك ، ووجّهك للخير حيث تكون» (١).

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ)

هذا دفع لتوهّم حظر ، فيما حسبه الأوائل ولا يزال. حسبوا أنّ الحجّ بما أنّه سفر إلى الله. فلا ينبغي إشراك شيء معه من حطام الدنيا. في حين أنّ طلب الدنيا إذا كان تمهيدا لسهولة الطريق إلى رضوانه تعالى ، كان محض إيمان وإخلاصا للعمل لله سبحانه. هذا ولا سيّما المؤمن المخلص إتّما يبتغي فضلا من الله دون من سواه.

كانت العرب أيّام الجاهليّة تتّجر في الحجّ ، وكانت لهم حينذاك سوق رائجة ، وهكذا جاراهم الإسلام ورخّصهم في ذلك ، حيث التجارة في نفسها عبادة ، حيث يراد بها صون العرض وكرامة النفس والترفّع بها عن مسائلة الآخرين. وقد تظافرت الأحاديث في الترغيب إلى كسب المعايش والترفيه في الحياة. عن طرق التجارة ومكاسب الحلال. وسنذكرها برواية أبي جعفر الكليني في الكافي الشريف (٢).

[٢ / ٥٥٤٧] أخرج سفيان وسعيد بن منصور والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عبّاس قال : كانت عكاظ ومجنّة (٣) وذو المجاز أسواقا في الجاهليّة ، فتأثّموا أن يتّجروا في الموسم ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، فنزلت : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في مواسم الحجّ (٤).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٣٢ ـ ٥٣٣ ؛ الكبير ١٩ : ١٥ / ٢٢ ، باب قتادة أبو هاشم الرهاوي بلفظ : ... هشام بن قتادة عن أبيه قتادة قال : لمّا عقد لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قومي أخذت يده فودّعته فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جعل الله التقوى زادك وغفر ذنبك ووجّهك إلى الخير حيث ما يكون». مجمع الزوائد ١٠ : ١٣٠ ـ ١٣١ ، باب ما يقال عند الوداع ، قال الهيثمي : رواه الطبراني والبزّار ورجالهما ثقات ؛ كنز العمّال ٦ : ٧٠٣ / ١٧٤٧٨.

(٢) الكافي ٥ : ٧٣ ـ ٨٩ ، كتاب المعيشة.

(٣) موضع بأسفل مكّة على أميال ، وكان يقام بها للعرب سوق (النهاية ٤ : ٣٠١).

(٤) الدرّ ١ : ٥٣٤ ؛ سنن سعيد ٣ : ٨١٧ / ٣٥٠ وقال : سنده صحيح ؛ البخاري ٣ : ٤ و ١٥ و ١٥٨ ، بلفظ : عن ابن عبّاس قال :

١٦٥

[٢ / ٥٥٤٨] وأخرج وكيع وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داوود وابن جرير عن ابن عبّاس قال : كانوا يتّقون البيوع والتجارة في الموسم والحجّ ، ويقولون : أيّام ذكر الله ، فنزلت : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) الآية (١).

[٢ / ٥٥٤٩] وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال : كان ناس من أهل الجاهليّة يسمّون ليلة النفر ليلة الصدر ، وكانوا لا يعرّجون على كسير ولا ضالّة ولا لحاجة ولا يبتغون فيها تجارة ، فأحلّ الله ذلك كلّه للمؤمنين أن يعرّجوا على حاجاتهم ويبتغوا من فضل الله (٢).

والصّدر : رجوع المسافر ، حيث ليلة النفر من منى ليلة الرجوع إلى الأوطان.

[٢ / ٥٥٥٠] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) وذلك أنّ أهل الجاهليّة كانوا يحجّون منهم الحاجّ والتاجر ، فلمّا أسلموا قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ سوق عكاظ وسوق منى وذي المجاز في الجاهليّة كانت تقوم قبل الحجّ وبعد الحجّ ، فهل يصلح لنا البيع والشراء في أيّام حجّنا قبل الحجّ وبعد الحجّ؟ فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في مواسم الحجّ ، يعني التجارة ، فرخّص الله سبحانه في التجارة (٣).

[٢ / ٥٥٥١] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) يقول :

__________________

كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهليّة ، فلمّا كان الإسلام فكأنّهم تأثّموا فيه فنزلت : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في مواسم الحجّ ، قرأها ابن عبّاس ؛ الطبري ٢ : ٣٨٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٣٥١ / ١٨٤٦ ؛ البيهقي ٤ : ٣٣٣ ؛ الثعلبي ٢ : ١٠٨ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٢٥ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٢٠ ؛ مجمع البيان ٢ : ١٦٦.

(١) الدرّ ١ : ٥٣٤ ؛ سنن سعيد ٣ : ٨١٩ / ٣٥١ ، بلفظ : عن مجاهد عن ابن عبّاس قال : كانوا لا يتّجرون في أيّام منى ويوم عرفة ، فأنزل الله الآية ؛ أبو داوود ١ : ٣٩٠ / ١٧٣١ ، باب ٥ ، بلفظ : عن عبد الله بن عبّاس قال : قرأ هذه الآية : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) قال : كانوا لا يتّجرون بمنى ، فأمروا بالتجارة إذا أفاضوا من عرفات ؛ الطبري ٢ : ٣٨٨ ، بعد رقم ٣٠٠٧.

(٢) الدرّ ١ : ٥٣٦ ؛ الطبري ٢ : ٣٨٧ / ٣٠٠٣ ، بلفظ : كان هذا الحيّ من العرب لا يعرّجون على كسير ولا ضالّة ليلة النفر وكانوا يسمّونها ليلة الصّدر ، ولا يطلبون فيها تجارة ولا بيعا ، فأحلّ الله ـ عزوجل ـ ذلك كلّه للمؤمنين أن يعرّجوا على حوائجهم ويبتغوا من فضل ربّهم ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٢٤ / ٢٢٥.

(٣) تفسير مقاتل ١ : ١٧٥.

١٦٦

لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده (١).

[٢ / ٥٥٥٢] وروى العيّاشيّ عن عمر بن يزيد بيّاع السابري عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) «يعني الرزق إذا أحلّ الرجل من إحرامه وقضى نسكه فليشتر وليبع في الموسم» (٢).

[٢ / ٥٥٥٣] وأخرج سفيان بن عيينة وابن جرير عن مجاهد في قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) قال : التجارة في الدنيا والأجر في الآخرة (٣).

قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ)

والوقوف بعرفة عمدة أفعال الحجّ.

[٢ / ٥٥٥٤] روى الحاكم بإسناد صحيح عن سفيان الثوري عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمان بن يعمر قال : أتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعرفة وأتاه ناس من أهل نجد وهو بعرفة فسألوه ، فأمر مناديا فنادى : «الحجّ عرفة ، الحجّ عرفة ، ومن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك أيّام منى ثلاثة» (٤). وصححّه الذهبي في الذيل.

[٢ / ٥٥٥٥] وأخرج ابن أبي الدنيا في الأضاحي وأبو يعلى عن أنس ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّ الله تطوّل على أهل عرفات يباهي بهم الملائكة ، فيقول : يا ملائكتي انظروا إلى عبادي شعثا غبرا ، أقبلوا يضربون إليّ من كلّ فجّ عميق ، فأشهدكم أنّي قد أجبت دعاءهم ، وشفّعت رغبتهم ، ووهبت مسيئهم لمحسنهم ، وأعطيت لمحسنيهم جميع ما سألوني غير التبعات الّتي بينهم ، فإذا أفاض القوم إلى جمع ووقفوا وعادوا في الرغبة والطلب إلى الله ، فيقول : يا ملائكتي ، عبادي وقفوا فعادوا في الرغبة والطلب ، فأشهدكم أنّي قد أجبت دعاءهم ، وشفّعت رغبتهم ، ووهبت

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٣٥ ؛ الطبري ٢ : ٣٨٤ / ٢٩٩١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٣٥١ / ١٨٤٧ ؛ الكبير ١٢ : ١٩٥ / ١٣٠٢٢ ؛ مجمع الزوائد ٤ : ٢٦٨.

(٢) العيّاشيّ ١ : ١١٥ / ٢٦٣ ؛ البرهان ١ : ٤٣٨ ـ ٤٣٩ / ١ ؛ البحار ٩٦ : ٣٧٢ / ٦ ، باب ٦٥ ؛ الصافي ١ : ٣٦١.

(٣) الدرّ ١ : ٥٣٥ ؛ الطبري ٢ : ٣٨٧ / ٣٠٠١.

(٤) الحاكم ١ : ٤٦٤.

١٦٧

مسيئهم لمحسنهم ، وأعطيت محسنيهم جميع ما سألوني ، وكفّلت عنهم التبعات الّتي بينهم» (١).

قلت : وفي هذا الخبر موضع نظر ، كما في الخبرين بعده نذكره.

[٢ / ٥٥٥٦] وأخرج ابن ماجة والحكيم الترمذيّ في نوادر الأصول وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير والطبراني والبيهقي في سننه والضياء المقدسي في المختارة عن العبّاس بن مرداس السّلمي ، «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا عشيّة عرفة لأمّته بالمغفرة والرحمة ، فأكثر الدعاء ، فأوحى الله إليه : إنّي قد فعلت إلّا ظلم بعضهم بعضا ، وأمّا ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها! فقال : يا ربّ إنّك قادر على أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته ، وتغفر لهذا الظالم! فلم يجبه تلك العشيّة ، فلمّا كان غداة المزدلفة أعاد الدعاء ، فأجابه الله : إنّي قد غفرت لهم. فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! فسأله أصحابه؟ قال : تبسّمت من عدوّ الله إبليس ، إنّه لمّا علم أنّ الله قد استجاب لي في أمّتي ، أهوى يدعو بالويل والثبور ، ويحثو التراب على رأسه» (٢).

[٢ / ٥٥٥٧] وأخرج ابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشيّة عرفة فقال : «أيّها الناس إنّ الله تطوّل عليكم في مقامكم هذا ، فقبل من محسنكم وأعطى محسنكم ما سأل ، ووهب مسيئكم لمحسنكم إلّا التبعات فيما بينكم ، أفيضوا على اسم الله».

فلمّا كان غداة جمع قال : «أيّها الناس إنّ الله قد تطوّل عليكم في مقامكم هذا فقبل من محسنكم ، ووهب مسيئكم لمحسنكم ، والتبعات بينكم عوّضها من عنده ، أفيضوا على اسم الله. فقال أصحابه : يا رسول الله أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا ، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا؟ فقال :

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٥٣ ؛ أبو يعلى ٧ : ١٤٠ ـ ١٤١ / ٤١٠٦ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ٢٥٧ ؛ كنز العمّال ٥ : ٧٠ / ١٢٠٩٨.

(٢) الدرّ ١ : ٥٥٣ ؛ ابن ماجة ٢ : ١٠٠٢ / ٣٠١٣ ؛ النوادر ٢ : ٢٣٠ ، الأصل ١٦١ ؛ الطبري ٢ : ٤٠٢ ـ ٤٠٣ / ٣٠٥٥ ، بلفظ : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعوت الله يوم عرفة أن يغفر لأمّتي ذنوبها ، فأجابني أن قد غفرت إلّا ذنوبها بينها وبين خلقي ، فأعدت الدعاء يومئذ فلم أجب بشيء! فلمّا كان غداة المزدلفة قلت : يا ربّ ، إنّك قادر أن تعوّض هذا المظلوم من ظلامته وتغفر لهذا الظالم ، فأجابني أن قد غفرت! قال : فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! قال : فقلنا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأيناك تضحك في يوم لم تكن تضحك فيه؟ قال : ضحكت من عدوّ الله إبليس ؛ لمّا سمع بما سمع إذا هو يدعو بالويل والثبور ويضع التراب على رأسه!» ؛ البيهقي ٥ : ١١٨ ، وفيه بعد قوله : «فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله تبسّمت في ساعة لم تكن تبسّم فيها؟ قال : تبسّمت ... ؛ مسند أحمد ٤ : ١٤ ـ ١٥ ؛ الوسيط ١ : ٣٠٥.

١٦٨

إنّي سألت ربّي بالأمس شيئا لم يجد لي به ، سألته التبعات فأبى عليّ ، فلمّا كان اليوم أتاني جبريل فقال : إنّ ربّك يقرئك السّلام ويقول : ضمنت التبعات وعوّضتها من عندي» (١).

قال أبو جعفر الطبري : دلّ هذان الخبران أنّ غفران الله التّبعات الّتي بين خلقه فيما بينهم ، إنّما هو غداة جمع ، وذلك في الوقت الّذي قال تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) لذنوبكم ، فإنّه غفور لها حينئذ ، تفضّلا منه عليكم رحيم بكم.

قلت : في هذا نظر ؛ إذ لا تغيير ولا تبديل في علمه تعالى وحكمته البالغة ، وهذا الّذي ورد في الحديثين وما قبلهما يشبه أن يكون من البداء الممتنع عليه سبحانه.

كما أنّه تعالى لا يردّ دعاء عبده المؤمن الضارع إليه ، ولا سيّما إذا كان استغفارا بشأن الآخرين. فكيف بدعاء نبيّه الكريم عليه ، والمتأدّب بأدبه تعالى ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسأل ربّه ما لا يكون وما لا مساغ للمسألة فيه!؟

[٢ / ٥٥٥٨] وأخرج ابن مردوية عن أبيّ بن كعب ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله يباهي بأهل عرفة ويقول : انظروا إلى عبادي ، أتوني شعثا غبرا من كلّ فجّ عميق. فلو كان عليك مثل رمل عالج ذنوبا غفرها الله لك» (٢).

[٢ / ٥٥٥٩] وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كان يوم عرفة فإنّ الله تبارك وتعالى يباهي بهم الملائكة فيقول : انظروا إلى عبادي ، أتوني شعثا غبرا ضاحين من كلّ فجّ عميق ، أشهدكم أنّي قد غفرت لهم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة» (٣).

[٢ / ٥٥٦٠] وأخرج ابن ماجة عن بلال بن ربّاح ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له غداة جمع : «أنصت الناس. ثمّ قال : إنّ الله تطاول عليكم في جمعكم هذا ، فوهب مسيئكم لمحسنكم ، وأعطى محسنكم ما سأل ، ادفعوا باسم الله» (٤).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٥٢ ؛ الطبري ٢ : ٤٠٣ / ٣٠٥٦ ؛ حلية الأولياء ٨ : ١٩٩.

(٢) الدرّ ٢ : ٤٢٥ (ط : هجر).

(٣) الشعب ٣ : ٤٦٠ / ٤٠٦٨ ؛ الدرّ ٢ : ٤٢٥ (ط : هجر).

(٤) الدرّ ١ : ٥٥٣ ـ ٥٥٤ ؛ ابن ماجة ٢ : ١٠٠٦ / ٣٠٢٤ ، باب ٦١.

١٦٩

[٢ / ٥٥٦١] وأخرج البيهقي عن الفضل بن عبّاس أنّه كان رديف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعرفة ، وكان الفتى يلاحظ النساء (١) ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببصره هكذا وصرفه ، وقال يا ابن أخي : «هذا يوم من ملك فيه بصره إلّا من حقّ ، وسمعه إلّا من حقّ ، ولسانه إلّا من حقّ ، غفر له» (٢).

[٢ / ٥٥٦٢] وأخرج ابن سعد عن ابن عبّاس قال : «كان الفضل بن عبّاس رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم عرفة ، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهنّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ابن أخي ، إنّ هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له» (٣).

قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ)

والإفاضة : الخروج بسرعة ودفع ، من فاض الماء إذا اندفق بوفرة. والعرب كانت تسمّي الخروج من عرفة الدفع ، والخروج من مزدلفة إفاضة. فكان في إفاضتهم دفع وضوضاء وجلبة فنهاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع.

[٢ / ٥٥٦٣] وقال : «ليس البرّ بالإيضاع (٤) ، فإذا أفضتم فعليكم بالسكينة والوقار» (٥).

[٢ / ٥٥٦٤] وأخرج البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه ، قال : كان الناس يطوفون في الجاهليّة

__________________

(١) جاء في حديث حجّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّه أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبّره وهلّله ووحّده. وكان أردف الفضل بن عبّاس وكان أبيض وسيما حسن الشعر ، فلمّا دفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليفيض إلى منى ، مرّت به ظعن يجرين ، فطفق الفضل ينظر إليهنّ ، فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده على وجه الفضل يمنعه ، فحوّل وجهه إلى الشّقّ الآخر ينظر ، فحوّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده من الشّقّ الآخر على وجه الفضل. فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّما حاول ممانعة الفضل من النظر إليهنّ من شقّ كان الفضل يصرف وجهه من شقّ آخر ينظر ...» (مسلم ٤ : ٤٢).

(٢) الدرّ ١ : ٥٤٧ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٦٢ ، ذيل رقم ٤٠٧١ ؛ كنز العمّال ٥ : ٦٨ / ١٢٠٩٢.

(٣) الدرّ ١ : ٥٥٥ ؛ الطبقات الكبرى ٤ : ٥٤ ، باب الفضل بن عبّاس ، بلفظ : سمعت ابن عبّاس قال : كان الفضل بن عبّاس رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم عرفة قال : فجعل الفتى يلحظ النساء وينظر إليهنّ قال : وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصرف وجهه بيده من خلفه مرارا. قال : وجعل الفتى يلاحظ إليهنّ. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ابن أخي إنّ هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له ؛ الكبير ١٨ : ٢٨٩ / ٧٤١ ، قريب لما رواه ابن سعد.

(٤) أي السير بسرعة من غير هوادة. جاء في حديث حذيفة بن أسيد : «شرّ الناس في الفتنة الراكب الموضع» أي المسرع فيها. (النهاية لابن الأثير ٥ : ١٩٧).

(٥) مسند أحمد ٥ : ٢٠٢ ؛ البخاري ٢ : ١٧٦ ـ ١٧٧.

١٧٠

عراة إلّا الحمس (١) ، والحمس : قريش وما ولدت (٢). وكانت الحمس يحتسبون على الناس ، يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها ، وتعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها. فمن لم يعطه الحمس طاف بالبيت عريانا ، وكان يفيض جماعة الناس من عرفات ، ويفيض الحمس من جمع (المزدلفة).

قال : وأخبرني أبي عن عائشة : أنّ هذه الآية نزلت في الحمس كانوا يفيضون من جمع ، فدفعوا إلى عرفات (٣).

[٢ / ٥٥٦٥] وأخرج أيضا عن هشام عن أبيه عن عائشة ، قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمّون الحمس ، وكان سائر العرب يقفون بعرفات ، فلمّا جاء الإسلام أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتي عرفات ثمّ يقف بها ثمّ يفيض منها (٤).

[٢ / ٥٥٦٦] وأخرج مسلم عن هشام عن أبيه ، قال : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلّا الحمس ، والحمس : قريش وما ولدت ، كانوا يطوفون عراة إلّا أن تعطيهم الحمس ثيابا ، فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء. وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة ، وكان الناس كلّهم يبلغون عرفات.

__________________

(١) روى إبراهيم الحربي في غريب الحديث من طريق ابن جريج عن مجاهد ، قال : الحمس ، قريش ومن كان يأخذ مأخذها من القبائل ، كالأوس والخزرج وخزاعة وثقيف وبني عامر وبني صعصعة وبني كنانة. والأحمس في كلام العرب : الشديد. وسمّوا بذلك لما شدّدوا على أنفسهم وكانوا إذا أهلّوا بحجّ أو عمرة لا يأكلون لحما ولا يضربون خياما ، وإذا قدموا مكّة وضعوا ثيابهم الّتي كانت عليهم. قال أبو عبيدة معمر بن المثنّى : تحمّس ، تشدّد ، ومنه حمس الوغى إذا اشتدّ. (فتح الباري ٣ : ٤١٢). قال ابن الأثير : سمّوا حمسا لأنّهم تحمّسوا في دينهم أي تشدّدوا. وفي حديث عليّ عليه‌السلام : «حمس الوغى واستحرّ الموت» أي اشتدّ الحرب.

(٢) زاد معمر : وكان ممّن ولدت قريش ، خزاعة وبنو كنانة وبنو عامر بن صعصعة. وعن أبي عبيدة قال : كانت قريش إذا خطب إليهم الغريب اشترطوا عليه أنّ ولدها على دينهم ، فدخل في الحمس من غير قريش ثقيف وليث وخزاعة وبنو عامر بن صعصعة. قال ابن حجر : وعرف بهذا أنّ المراد بهذه القبائل من كانت له من أمّهاته قرشيّة لا جميع أفراد القبائل المذكورة. (فتح الباري ٣ : ٤١٣).

(٣) البخاري ٢ : ١٧٥ ، (ط : مشكول ٢ : ٢٠٠) ، كتاب الحجّ. وفي نسخة الكشميهيني : فرفعوا. أي عادوا ورجعوا إلى ما كان عليه الناس. (فتح الباري ٣ : ٤١٣).

(٤) البخاري ٥ : ١٥٨ (وط : مشكول ٦ : ٣٤) كتاب التفسير ؛ مسلم ٤ : ٤٣.

١٧١

قال هشام : فحدّثني أبي عن عائشة ، قالت : الحمس هم الّذين أنزل الله فيهم : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ). قالت : وكان الناس يفيضون من عرفات وكان الحمس يفيضون من المزدلفة ، يقولون : لا نفيض إلّا من الحرم (١). فلمّا نزلت الآية رجعوا إلى عرفات (٢).

[٢ / ٥٥٦٧] وأخرج عبد الرزّاق عن معمر عن الزّهري ، قال : كان الناس يقفون بعرفة إلّا قريشا وأحلافها ، وهم الحمس ، فقال بعضهم لبعض : لا تعظّموا إلّا الحرم ، أوشك الناس أن يتهاونوا بحرمكم ، فقصروا عن مواقف الخلق (٣) ، فوقفوا بجمع ، فأمرهم الله أن يفيضوا من عرفات من حيث يفيض الناس (٤).

[٢ / ٥٥٦٨] ومن ثمّ لمّا رأى جيبر بن مطعم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقفا مع الناس بعرفة ، قال متعجّبا : والله إنّ هذا لمن الحمس ، فما شأنه هاهنا؟! (٥)

[٢ / ٥٥٦٩] وأخرج ابن جرير عن عروة : أنّه كتب إلى عبد الملك بن مروان : كتبت إليّ في قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرجل من الأنصار «إنّي أحمس»! وإنّي لا أدري أقائلها النبيّ أم لا؟ غير أنّي سمعتها تحدّث عنه (٦). والحمس : ملّة قريش ، وهم مشركون ، ومن ولدت قريش في خزاعة وبني كنانة.

كانوا لا يدفعون من عرفة ، إنّما كانوا يدفعون من المزدلفة وهو المشعر الحرام. وكانت بنو عامر حمسا ، وذلك أنّ قريشا ولدتهم ، ولهم قيل : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ). وأنّ العرب كلّها كانت تفيض من عرفة إلّا الحمس كانوا يدفعون إذا أصبحوا من المزدلفة (٧).

__________________

(١) حيث المزدلفة داخلة في حدود الحرم.

(٢) مسلم ٤ : ٤٣ ـ ٤٤ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٣٥٣ ؛ الطبري ٢ : ٣٩٨ ؛ الثعلبي ٢ : ١١٢ ؛ أبو داوود ١ : ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ؛ سنن البيهقي ٥ : ١١٣ ؛ الترمذي ٢ : ١٨٤ / ٨٨٥ ؛ النسائي ٢ : ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

(٣) أي كفّوا ولم يبلغوا مواقف سائر الخلق.

(٤) عبد الرزّاق ١ : ٣٢٦.

(٥) مسلم ٤ : ٤٤.

(٦) أي سمعت الأنصار يحدّثون عنه ذلك.

(٧) الطبري ٢ : ٣٩٨ ـ ٣٩٩ / ٣٠٤٥.

١٧٢

حديث حجّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

[٢ / ٥٥٧٠] أخرج مسلم وابن أبي شيبة وأبو داوود والنسائي وابن ماجة عن جعفر بن محمّد عليه‌السلام عن أبيه قال : «دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتّى انتهى إليّ ، فقلت : أنا محمّد بن عليّ بن الحسين ، فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زرّي الأعلى ثمّ نزع زرّي الأسفل ، ثمّ وضع كفّه بين ثدييّ وأنا يومئذ غلام شابّ ، فقال : مرحبا بك يا ابن أخي ، سل عمّا شئت! فقلت : أخبرني عن حجّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال بيده فعقد تسعا ، فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكث تسع سنين لم يحجّ ، ثمّ أذّن في الناس في العاشرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاجّ ، فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعمل بمثل عمله ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرجنا معه حتّى أتينا ذا الحليفة ، فصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد ، ثمّ ركب القصواء حتّى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله ، فما عمل به من شيء عملنا به ، فأهلّ بالتوحيد : «لبّيك اللهمّ لبّيك لبّيك لا شريك لك لبّيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك». وأهلّ الناس بهذا الّذي يهلّون به ، فلم يردّ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا منه.

ولزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلبيته. قال جابر : لسنا ننوي إلّا الحجّ ، لسنا نعرف العمرة حتّى إذا أتينا البيت معه استلم الركن ، فرمل ثلاثا ومشى أربعا ، ثمّ نفذ إلى مقام إبراهيم عليه‌السلام فقرأ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)(١) فجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلّى ركعتين يقرأ فيهما ب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، وب (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، ثمّ رجع إلى البيت فاستلم الركن ، ثمّ خرج من الباب إلى الصفا ، فلمّا دنا من الصفا قرأ : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ)(٢) نبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتّى رأى البيت فكبّر الله ووحّده وقال : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير ، لا إله إلّا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ثمّ دعا بين ذلك وقال مثل هذا ثلاث مرّات.

ثمّ نزل إلى المروة حتّى انصبّت قدماه في بطن الوادي سعى حتّى إذا صعد مشى حتّى أتى المروة ، فصنع على المروة مثل ما صنع على الصفا ، حتّى إذا كان آخر طوافه على المروة ، قال : إنّي

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٢٥.

(٢) البقرة ٢ : ١٥٨.

١٧٣

لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلّ وليجعلها عمرة ، فحلّ الناس كلّهم وقصّروا إلّا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن كان معه هدي.

فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ألعامنا أم لأبد؟ فشبّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال : دخلت العمرة في الحجّ ـ مرّتين ـ لا ، بل لأبد أبد.

فلمّا كان يوم التروية توجّهوا إلى منى فأهلّوا بالحجّ ، فركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلّى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثمّ مكث قليلا حتّى طلعت الشمس وأمر بقبّة له من شعر فضربت بنمرة.

فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا تشكّ قريش أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهليّة ، فأجاز رسول الله حتّى أتى عرفة ، فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها حتّى إذا غربت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فركب حتّى أتى بطن الوادي فخطب الناس فقال : إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا إنّ كلّ شيء من أمر الجاهليّة تحت قدميّ موضوع ، ودماء الجاهليّة موضوعة ، وأوّل دم أضعه دم عثمان بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطّلب ، وربا الجاهليّة موضوع وأوّل ربا أضعه ربا عبّاس بن عبد المطّلب فإنّه موضوع كلّه ، واتّقوا الله في النساء فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله ، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله ، وإنّ لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن فاضربوهنّ ضربا غير مبرّح ، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف.

وإنّي قد تركت فيكم ما لم تضلّوا بعده إن اعتصمتم به ، كتاب الله ، وأنتم مسؤولون عنّي فما أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت وأدّيت ونصحت! قال : اللهمّ اشهد اللهمّ اشهد ثلاث مرّات ، ثمّ أذّن بلال ، ثمّ أقام فصلّى الظهر ، ثمّ أقام فصلّى العصر ولم يصلّ بينهما شيئا ، ثمّ ركب القصواء حتّى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصّخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، فاستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتّى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حين غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه فدفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد شنق للقصواء الزّمام حتّى أنّ رأسها ليصيب مورك رحله وهو يقول بيده اليمنى : أيّها الناس ، السّكينة السّكينة. كلّما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتّى تصعد ، حتّى أتى المزدلفة ، فجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئا ، ثمّ اضطجع

١٧٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى طلع الفجر ، فصلّى الفجر حين تبيّن له الصبح. ثمّ ركب القصواء حتّى أتى المشعر الحرام ، فرقى عليه فاستقبل الكعبة فحمد الله وكبّره ووحّده ، فلم يزل واقفا حتّى أسفر جدّا ، ثمّ دفع قبل أن تطلع الشمس حتّى أتى محسّرا ، فحرّك قليلا ، ثمّ سلك الطريق الوسطى الّتي تخرجك إلى الجمرة الكبرى حتّى أتى الجمرة الّتي عند الشجرة ، فرماها بسبع حصيات يكبّر مع كلّ حصاة منها مثل حصى الخذف ، فرمى من بطن الوادي ثمّ انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المنحر ، فنحر بيده ثلاثا وستّين ، ثمّ أعطى عليّا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ، ثمّ أمر من كلّ بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت ، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثمّ ركب ، فأفاض إلى البيت فصلّى بمكّة الظهر ، ثمّ أتى بني عبد المطّلب وهم يسقون على زمزم فقال : انزعوا بني عبد المطّلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ، فناولوه دلوا فشرب منه» (١).

[٢ / ٥٥٧١] وروى الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه ومحمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال في حديث طويل : «ونزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة بالبطحاء هو وأصحابه ، ولم ينزلوا الدور ، فلمّا كان يوم التروية عند زوال الشمس أمر الناس أن يغتسلوا ويهلّوا بالحجّ ، فخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه مهلّين بالحجّ حتّى أتى منى ، فصلّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر ، ثمّ غدا والناس معه. وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع ، ويمنعون الناس أن يفيضوا منها ، فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقريش ترجو أن تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون ، فأنزل الله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم ، فلمّا رأت قريش أنّ قبّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد مضت كأنّه دخل في أنفسهم شيء للّذي كانوا يرجون من الإفاضة من مكانهم ، حتّى انتهى إلى نمرة وهي بطن عرنة (٢) بحيال الأراك فضربت قبّته وضرب الناس أخبيتهم عندها ، فلمّا زالت الشمس خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه قريش وقد اغتسل وقطع التلبية

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٤٢ ـ ٥٤٤ ؛ مسلم ٤ : ٣٩ ـ ٤٢ ؛ المصنّف ٤ : ٤٢٣ ـ ٤٢٦ / ١٢ ، باب ٣١٣ ؛ أبو داوود ١ : ٤٢٤ ـ ٤٢٨ / ١٩٠٥ ، باب ٥٧ ؛ النسائي ٢ : ٤١٣ و ٤٢١ ؛ ابن ماجة ٢ : ١٠٢٢ ـ ١٠٢٧ / ٣٠٧٤ ، باب ٨٤.

(٢) واد بحذاء عرفات. ونمرة ناحية بعرفة قرب جبل كانت عليه أنصاب الجاهليّة. وأراك هذه موضع من نمرة في وادي عرفات.

١٧٥

حتّى وقف بالمسجد فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم ثمّ صلّى الظهر والعصر بأذان وإقامتين ، ثمّ مضى إلى الموقف فوقف به ، فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون إلى جانبها فنحّاها ففعلوا مثل ذلك ، فقال : أيّها الناس ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف ، ولكن هذا كلّه ـ وأومى بيده إلى الموقف ـ فتفرّق الناس. وفعل مثل ذلك بالمزدلفة ، فوقف الناس حتّى وقع قرص الشمس ، ثمّ أفاض وأمر الناس بالدعة حتّى انتهى إلى المزدلفة وهي المشعر الحرام. فصلّى المغرب والعشاء الآخرة بأذان وإقامتين. ثمّ أقام حتّى صلّى فيها الفجر ، وعجّل ضعفاء بني هاشم بليل وأمرهم أن لا يرموا الجمرة : جمرة العقبة حتّى تطلع الشمس. فلمّا أضاء له النهار أفاض حتّى إلى منى فرمى جمرة العقبة. وكان الهدي الّذي جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعة وستّين أو ستّة وستّين ، وجاء عليّ عليه‌السلام بأربعة وثلاثين أو ستّة وثلاثين. فنحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحر عليّ عليه‌السلام وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يؤخذ من كلّ بدنة جذوة من لحم وتطبخ ، فأكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ وحسيا من مرقها ...» (١).

[٢ / ٥٥٧٢] وبنفس الإسناد أيضا عن معاوية بن عمّار قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ المشركين كانوا يفيضون من قبل أن تغيب الشمس ، فخالفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأفاض بعد غروب الشمس. قال : وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا غربت الشمس فأفض مع النّاس ، وعليك السكينة والوقار ، وأفض بالاستغفار ، فإنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)» (٢).

***

[٢ / ٥٥٧٣] وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، قال : كانت قريش ـ «لا أدري قبل الفيل أو بعده ـ ابتدعت أمر الحمس ، رأيا رأوه بينهم ؛ قالوا : نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقاطنو مكّة وساكنوها ، فليس لأحد من العرب مثل حقّنا ولا مثل منزلنا ، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا ، فلا تعظّموا شيئا من الحلّ كما تعظّمون الحرم ، فإنّكم إن فعلتم ذلك استخفّت العرب بحرمكم ، وقالوا : قد عظّموا من الحلّ مثل ما عظّموا من الحرم! فتركوا الوقوف

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ / ٤ ، كتاب الحجّ ، باب حجّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ التهذيب ٥ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ / ١٥٨٨ ـ ٢٣٤ ؛ البحار ٢١ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣ / ١٣ ، باب ٣٦.

(٢) الكافي ٤ : ٤٦٧ / ٢ ؛ التهذيب ٥ : ١٨٧ / ٦٢٣ ـ ٦.

١٧٦

على عرفة ، والإفاضة منها ، وهم يعرفون ويقرّون أنّها من المشاعر والحجّ ودين إبراهيم ، ويرون لسائر الناس أن يقفوا عليها ، وأن يفيضوا منها. إلّا أنّهم قالوا : نحن أهل الحرم ، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ، ولا نعظّم غيرها كما نعظّمها نحن الحمس ـ والحمس : أهل الحرم ـ ثمّ جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكني الحلّ مثل الّذي لهم بولادتهم إيّاهم ، فيحلّ لهم ما يحلّ لهم ، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم. وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك ، ثمّ ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن ، حتّى قالوا : لا ينبغي للحمس أن يأقطوا الأقط ، (١) ولا يسلئوا (٢) السّمن وهم حرم ، ولا يدخلوا بيتا من شعر ، ولا يستظلّوا إن استظلّوا إلّا في بيوت الأدم ما كانوا حراما ، ثمّ رفعوا في ذلك فقالوا : لا ينبغي لأهل الحلّ أن يأكلوا من طعام جاؤوا به معهم من الحلّ في الحرم إذا جاؤوا حجّاجا أو عمّارا ، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أوّل طوافهم إلّا في ثياب الحمس ، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة. فحملوا على ذلك العرب فدانت به ، وأخذوا بما شرعوا لهم من ذلك ، فكانوا على ذلك حتّى بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنزل الله حين أحكم له دينه وشرع له حجّته : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعني قريشا. والناس : العرب. فرفعهم في سنّة الحجّ إلى عرفات ، والوقوف عليها ، والإفاضة منها ؛ فوضع الله أمر الحمس ، وما كانت قريش ابتدعت منه عن الناس بالإسلام حين بعث الله رسوله (٣).

[٢ / ٥٥٧٤] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) وذلك الحمس ؛ قريش ، وكنانة ، وخزاعة ، وعامر بن صعصعة كانوا يبيتون بالمشعر الحرام ، ولا يخرجون من الحرم خشية أن يقتلوا وكانوا لا يقفون بعرفات. فأنزل الله ـ عزوجل ـ فيهم يأمرهم بالوقوف بعرفات فقال لهم : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) يعني ربيعة ، واليمن كانوا يفيضون من عرفات قبل غروب الشمس ، ويفيضون من جمع إذا طلعت الشمس فخالفهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإفاضة بهم (٤).

[٢ / ٥٥٧٥] وروى العيّاشيّ عن زيد الشحّام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله : (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ)؟ قال : «أولئك قريش كانوا يقولون : نحن أولى الناس بالبيت ، ولا يفيضون

__________________

(١) الأقط : الجبن.

(٢) سلأ السّمن : صفّاه.

(٣) الطبري ٢ : ٤٠٠ ـ ٤٠١ / ٣٠٥٣.

(٤) تفسير مقاتل ١ : ١٧٥.

١٧٧

إلّا من المزدلفة ، فأمرهم الله أن يفيضوا من عرفة» (١).

[٢ / ٥٥٧٦] وعن رفاعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) قال : «إنّ أهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام ، ويقف الناس بعرفة ولا يفيضون حتّى يطلع عليهم أهل عرفة ، وكان رجل يكنّى أبا سيّار ، وكان له حمار فاره ، وكان يسبق أهل عرفة ، فإذا طلع عليهم قالوا : هذا أبو سيّار ، ثمّ أفاضوا. فأمرهم الله أن يقفوا بعرفة وأن يفيضوا منه» (٢).

[٢ / ٥٥٧٧] وأخرج ابن خزيمة عن ابن عمر : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف يعني بعرفة حتّى غربت الشمس ، فأقبل يكبّر الله ويهلّله ويعظّمه ويمجّده حتّى انتهى إلى المزدلفة (٣).

[٢ / ٥٥٧٨] وأخرج البخاري ومسلم والنسائي والطبراني عن جبير بن مطعم قال : أضللت بعيرا لي ، فذهبت أطلبه يوم عرفة ، فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقفا مع الناس بعرفة ، فقلت : والله إنّ هذا لمن الحمس فما شأنه ها هنا؟ وكانت قريش تعدّ من الحمس. وزاد الطبراني : وكان الشيطان قد استهواهم فقال لهم : إن عظّمتم غير حرمكم استخفّ الناس بحرمكم ، وكانوا لا يخرجون من الحرم (٤)!

[٢ / ٥٥٧٩] وأخرج الطبراني والحاكم وصحّحه عن جبير بن مطعم قال : كانت قريش إنّما تدفع من المزدلفة ويقولون : نحن الحمس فلا نخرج من الحرم ، وقد تركوا الموقف على عرفة ، فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجاهليّة يقف مع الناس بعرفة على جمل له ، ثمّ يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٩٥ ؛ العيّاشيّ ١ : ١١٥ / ٢٦٤ ؛ البحار ٩٦ : ٢٥٥ / ٢٨ ، باب ٤٧ ؛ البرهان ١ : ٤٤٠ / ٣.

(٢) نور الثقلين ١ : ١٩٥ ـ ١٩٦ ؛ العيّاشيّ ١ : ١١٥ ـ ١١٦ / ٢٦٥ ؛ البحار ٩٦ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ؛ البرهان ١ : ٤٤٠ / ٤.

(٣) الدرّ ١ : ٥٣٨ ؛ صحيح ابن خزيمة ٤ : ٢٦٦ ، باب ذكر الدعاء والذكر والتهليل في السير من عرفة إلى المزدلفة. بلفظ : ... عن نافع عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا استوت به راحلته عند مسجد ذي الحليفة في حجّة أو عمرة أهلّ فذكر الحديث وقال : ووقف يعني بعرفة حتّى إذا وجبت الشمس أقبل يذكر الله ويعظّمه ويهلّله ويمجّده حتّى ينتهي إلى المزدلفة.

(٤) الدرّ ١ : ٥٤٥ ؛ البخاري ٢ : ١٧٥ ، إلى قوله «فما شأنه هاهنا» ؛ مسلم ٤ : ٤٤ ؛ النسائي ٢ : ٤٢٤ / ٤٠٠٩ ، باب ٢٠١ ؛ الكبير ٢ : ١٣١ ـ ١٣٢ / ١٥٥٦ ؛ مسند أحمد ٤ : ٨٠.

١٧٨

معهم ، ثمّ يدفع إذا دفعوا (١)!

[٢ / ٥٥٨٠] وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر على الحجّ (٢) وأمره أن يخرج بالناس جميعا إلى عرفات فيقف بها ، فإذا غربت الشمس أفاض بالناس منها حتّى يأتي بهم جمعا فيبيت بها حتّى إذا أصبح بها وصلّى الفجر ووقف الناس بالمشعر الحرام ، ثمّ يفيض منها إلى منى قال : فتوجّه أبو بكر نحو عرفات فمرّ بالحمس وهم وقوف بجمع فلمّا ذهب يتجاوزهم قالت له الحمس : يا أبا بكر أين تجاوزنا إلى غيرنا ، هذا مفيض آبائك ، فلا تذهب حيث يفيض أهل اليمن وربيعة من عرفات! فمضى أبو بكر لأمر الله وأمر رسوله حتّى أتى عرفات وبها أهل اليمن وربيعة وهم الناس في هذه الآية ، فوقف بها حتّى غربت الشمس ، ثمّ أفاض بالناس إلى المشعر الحرام حتّى وقف بها حتّى إذا كان عند طلوع الشمس أفاض منها (٣).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٤٥ ؛ الكبير ٢ : ١٣٧ / ١٥٧٨ ؛ الحاكم ١ : ٤٦٤ ؛ صحيح ابن خزيمة ٤ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٢) وذلك سنة تسع من الهجرة.

(٣) الثعلبي ٢ : ١١٣ ؛ أبو الفتوح ٣ : ١٢٨.

١٧٩

قال تعالى :

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣))

قد سبق أنّهم كانوا يأتون أسواق عكاظ ومجنّة وذي المجاز. وهذه الأسواق لم تكن أسواق بيع وشراء فحسب ، إنّما كانت كذلك أسواق كلام ومفاخرات بالآباء. ومعاظمات بالأنساب.

قال سيّد قطب : ذلك حين لم يكن للعرب من الاهتمامات الكبيرة ما يشغلهم عن هذه المفاخرات والمعاظمات! لم تكن لهم رسالة إنسانيّة بعد ينفقون فيها طاقاتهم في القول والعمل.

ورسالتهم الإنسانيّة الوحيدة هي الّتي ناطهم بها الإسلام. فأمّا قبل الإسلام وبدون الإسلام فلا رسالة لهم في الأرض ، ولا ذكر لهم في السماء. ومن ثمّ كانوا ينفقون أيّام عكاظ ومجنّة وذي المجاز في تلك الاهتمامات الفارغة ، في المفاخرة بالآباء وفي التعاظم بالأنساب.

أمّا الآن فقد أصبحت لهم بالإسلام رسالة ضخمة ، وأنشأ لهم الإسلام تصوّرا جديدا ، بعد أن أنشأهم نشأة جديدة.

أمّا الآن فيوجّههم القرآن لما هو خير ، يوجّههم إلى ذكر الله بعد قضاء مناسك الحجّ ، بدلا من ذكر الآباء :

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) وهذا لا يعني : أن يذكروا الله مع ذكر الآباء. ولكنّه يحمل طابع التنديد ، ويوحي بالتوجيه إلى الأجدر الأولى. يقول لهم : إنّكم تذكرون الآباء حيث لا يجوز أن يذكر غير الله ـ سبحانه ـ ، فاستبدلوا هذا بذاك ، بل كونوا أشدّ ذكرا لله ، وأنتم خرجتم إليه متجرّدين من الثياب ، فتجرّدوا كذلك من الأنساب. ويقول لهم : ذكر الله هو الّذي يرفع العباد حقّا ، وليس هو التفاخر بالآباء. فالميزان الجديد للقيم البشريّة هو ميزان التقوى

١٨٠