التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

٥ ـ وجاء في القرآن قولة السامريّ : (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)(١).

وسكتت التوراة عن ذلك.

نظرة في قولة السامريّ

(قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)(٢).

زعمت الحشويّة من أهل الحديث أنّ السامريّ هذا كان قد ولد أيّام فرعون ، وكانت أمّه قد خافت عليه فخلّفته في غار وأطبقت عليه بالحجارة. فوكّل الله جبرائيل أن يأتيه فيغذوه بأصابعه بواحدة لبنا وبأخرى عسلا وبثالثة سمنا ، فلم يزل يكفله جبرائيل حتّى نشأ وشبّ ، وأصبح يعرف جبرائيل بسماته.

ثمّ إنّ فرعون وأصحابه لمّا هجموا البحر ورأى بني إسرائيل أحجم فرسه عن الدخول وعند ذلك تمثّل جبرائيل راكبا فرسا أنثى في مقدمة فرعون وأصحابه ، فلمّا رآها فرس فرعون اقتحم البحر وراءها ...

وعند ذلك كان السامريّ قد عرف جبرائيل ، ورأى أنّ فرسه كلّما وضع حافره على تراب حصلت فيه رجفة وحركة وحياة. فألقي في روعه : أنّ من أثر حافر فرس جبرائيل أن لا يقذف في شيء إلّا حصلت له الحياة ، ولذلك قبض قبضة من أثر حافر فرسه وضمّها عنده.

ولمّا أبطأ موسى في الميقات دعا بني إسرائيل أن يأتوا بحليّهم ليصنع لهم آلهة ، فصاغها عجلا وألقى من تلك القبضة فيه ، فأصبح ذا حياة يخور كما يخور البقر ، وقال : هذا إلهكم وإله موسى ، وأضلّهم عن الطريق.

هكذا روى الطبري بأسانيده والسيوطي وغيرهما من أرباب النقل في التفسير (٣) وزادوا في الطين بلّة أنّهم قالوا : إنّ موسى سأل ربّه فقال : يا ربّ ، من أخار العجل؟ فقال الله : أنا ، قال موسى : فمن أحياه؟ قال الله : أنا وأردت فتنتهم ، فقال موسى : يا ربّ ، فأنت إذن أضللتهم ، إن هي إلّا

__________________

(١) طه ٢٠ : ٩٦.

(٢) طه ٢٠ : ٩٦.

(٣) راجع : الطبري ١ : ٤٠٠ ـ ٤٠٥ ، الدرّ ٥ : ٥٩٢ ؛ القمّي ٢ : ٦٢ ؛ ابن كثير ٣ : ١٧٢.

٨١

فتنتك (١). وهذا عند ما قال الله تعالى لموسى : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ)(٢).

قال أبو مسلم الأصفهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الّذي ذكره المفسّرون ، فهاهنا وجه آخر ، وهو : أن يكون المراد بالرسول هو موسى عليه‌السلام ، وبأثره سنّته ورسمه الّذي أمر به. فقد يقال : فلان يقفوا إثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه. والتقدير : أنّ موسى عليه‌السلام لمّا أقبل على السامريّ باللوم والسؤال عن الّذي دعاه إلى إضلال القوم قال السامرىّ : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي عرفت أنّ الّذي أنتم عليه ليس بحقّ ، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيّها الرسول ، أي شيئا من سنّتك ودينك ، فقذفته أي طرحته ... وإنّما أورد بلفظ الإخبار عن غائب ، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له : ما يقول الأمير في كذا ، وبماذا يأمر الأمير ... وأمّا دعاؤه موسى عليه‌السلام رسولا مع جحده وكفره فعلى مثل ما حكى الله عن المشركين : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)(٣) وإن كانوا لم يؤمنوا بإنزال الذكر عليه.

والإمام الرازي رجّح هذا القول وأيّده بوجوه. قال : إنّ هذا القول الّذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلّا مخالفة المفسّرين ، ولكنّه أقرب إلى التحقيق (٤).

وهكذا الشيخ المراغي ، قال : إنّ موسى لمّا أقبل على السامريّ باللوم والتعنيف والسؤال عن الأمر الّذي دعاه إلى إضلال القوم ردّ عليه بأنّه كان استنّ بسنّته ، واقتفى أثره وتبع دينه ، ثمّ استبان له أنّ ذلك هو الضلال بعينه ، وأنّه ليس من الحقّ في شيء ، فطرحه وراءه ظهريّا وسار على النهج الّذي رأى (٥).

ما كانت صفة العجل؟

جاء في تفسير ابن كثير وغيره : أنّ السامريّ ألقي في روعه أنّه لا ينبذ التراب الذي أخذ من تحت حافر فرس جبرائيل على شيء ويقول له كن كذا إلّا كان كما أراد ، ومن ثمّ لمّا أخذ حليّ القوم وألقاها في النار قذف من تلك القبضة عليها وقال : كن عجلا ، فصار عجلا ذا لحم وعظم ودم ، وجعل

__________________

(١) راجع : الدرّ ٥ : ٥٩٢.

(٢) طه ٢٠ : ٨٥.

(٣) الحجر ١٥ : ٦.

(٤) التفسير الكبير ٢٢ : ١١١.

(٥) تفسير المراغي ٦ : ١٤٥.

٨٢

يخور كما يخور ولد البقر (١).

وقال بعضهم : إنّه جعل مؤخّرة العجل على حائط فيه ثقب ، وأقعد هناك من يتكلّم مع القوم ليظنّوا أنّ العجل هو الّذي يتكلّم معهم (٢).

كلّ ذلك مخالف لصريح القرآن ، حيث إنّه عبّر بالجسد وصفا للعجل (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ)(٣). وقال : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً)(٤). وقال : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً)(٥).

على أنّ الروايات بهذا الشأن ـ في المسائل الثلاث ـ على ما وردت في التفاسير المعتمدة على النقل والأثر كلّها متضاربة ومتعارضة بعضها مع البعض ، فضلا عن مخالفة أكثرها لفهم العقل الرشيد ، ومن ثمّ فالإعراض عنها أجدر.

نعم ، يبدو أنّ السامريّ كان صاحب صنعة وصياغة الحليّ ، فسبك لهم من حليّهم صنما بصورة عجل ، وقال لهم : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى.) فعبّأ فيه مسامات ومنافذ للهواء ، بحيث يحدث من ذلك صوت الخوار ، وهو صوت البقر. وهذا أمر بسيط ، ربما تصنع أمثال ذلك للعبة الصبيان اليوم وقبل اليوم ، وليس من الأمر العجيب.

من هو السامريّ؟

ربّما تشكّك بعض الكتّاب المسيحيّين (٦) في «السامريّ» نسبة إلى السامرة بلدة كانت في أرض فلسطين بناها «عمري» رابع ملوك بني إسرائيل المتأخّر عن عهد نبيّ الله موسى عليه‌السلام بخمسة قرون! فكيف يكون معاصرا له وقد صنع العجل كما جاء في القرآن؟

جاء في سفر الملوك : وفي السنة ٣١ لآسا ملك يهوذا ملك عمري على إسرائيل ١٢ سنة ، ملك في ترصة ٦ سنين ، واشترى جبل السّامرة من شامر بوزنتين من الفضّة وبنى على الجبل ودعا اسم

__________________

(١) راجع : ابن كثير ٣ : ١٢٢ ؛ والدرّ ٥ : ٥٩٣ ؛ وتفسير البيضاوي ٤ : ٢٩ ؛ والقمي ، ٢ : ٦٢ ؛ والطبري ١٦ : ١٤٩ و ١ : ٢٢٣ ؛ والميزان ١٤ : ٢١١.

(٢) راجع : تفسير الإمام : ٢٥١ والبحار ١٣ : ٢٣١.

(٣) طه ٢٠ : ٨٨.

(٤) طه ٢٠ : ٨٩.

(٥) الأعراف ٧ : ١٤٨.

(٦) مصادر الإسلام لتسدال : ٣٧ فما بعد ؛ وآراء المستشرقين حول القرآن ١ : ٣٥٢.

٨٣

المدينة الّتي بناها باسم شامر صاحب الجبل : السامرة.

وكان ذلك بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر بنحو من ثلاث وعشرين وخمسائة عام (١).

لكن السامريّ لفظة معرّبة وليست على أصالتها العبريّة ، والشين العبريّة تبدّل سينا في العربيّة كما في «موسى» معرّب «موشى» العبريّة ، و «اليسع» معرّب «اليشوع» (٢). وكما في «السامرة» نسبة إلى اسم صاحب الجبل «شامر».

أمّا السامريّ ـ في القرآن ـ فليس منسوبا إلى بلدة السامرة هذه ، وإنّما هي نسبة إلى «شمرون» بلدة كانت عامرة على عهد نبيّ الله موسى ووصيّه يوشع بن نون. والنسبة إليها شمروني عرّبت إلى سامري ، ويجمع على شمرونيم (سامريّين). وقد فتحها يوشع وجعلها في سبط «زبولون» كما جاء في سفر اليشوع (٣) وكان الملك عليها حين افتتحها يوشع «مرأون» (٤).

هذا ما حقّقه العلّامة الحجّة البلاغي (٥).

والسين والشين كانا يتبادلان في العبريّة أيضا. كان سبط يهوذا ينطقون بالشين وسبط افرايم بالسين في مثل «اليسوع» و «اليشوع» (٦).

قال الأستاذ عبد الوهّاب النجّار : ويغلب أن تكون «الشين» في العبريّة «سينا» في العربيّة ، كما كان ينطق بها أيضا سبط افرايم بن يوسف. وقد كان رجال سبط يهوذا يختبرون الرجل ليعرف أنّه من سبط يهوذا أو افرايمي ، فيأمروه أن ينطق ب «شبولت» (سنبلة) فإذا قال «سبولت» عرف أنّه افرايمي.

واحتمل في السامريّ نسبة إلى شامر أو سامر بمعنى «حارس» (٧). ونطقها في العبريّة «شومير» مأخوذ من «شمر» أي حرس. فقد جاء في سفر التكوين : فقال الربّ لقابيل : أين هابيل

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس : ٤٥٩. وراجع : سفر الملوك ، أصحاح : ١٦ / ٢٤.

(٢) قاموس الكتاب المقدس : ٩٥١.

(٣) راجع : سفر اليشوع ، أصحاح : ١١ / ١ ، و ١٢ / ٢٠ ، و ١٩ / ١٥.

(٤) المصدر : ١٢ / ٢٠.

(٥) راجع : كتابه «الهدى إلى دين المصطفى» ١ : ١٠٣.

(٦) قاموس الكتاب المقدّس : ٩٥١.

(٧) ذكر جيمز هاكس في قاموس الكتاب المقدّس : ٥٣٠ ، أنّ أحد معنيي «شمرون» : كشيكچى (نگهبان) يعني الحارس.

٨٤

أخوك؟ فأجاب : لا أعلم. وعقّبه بقوله : ه شومير أحي أنو أخي؟ يعني : أحارس أنا لأخي؟ (١) وما ذكره الحجّة البلاغي أقرب في النظر.

قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ)

[٢ / ١٨٤٠] عن الرّماني في قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) أصل العفو الترك ومنه قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أى : ترك. فالعفو : ترك العقوبة (٢).

[٢ / ١٨٤١] وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) قال : يعني من بعد ما اتّخذتم العجل (٣).

[٢ / ١٨٤٢] وأخرج ابن أبي حاتم عن عون بن عبد الله في قوله : (لَعَلَّكُمْ) قال : إنّ «لعلّ» من الله واجب (٤).

[٢ / ١٨٤٣] وعن سعيد بن جبير في قول الله عزوجل : (لَعَلَّكُمْ) يعني : لكي (٥).

[٢ / ١٨٤٤] وعن أبي مالك قوله : (لَعَلَّكُمْ) يعني : كي (٦).

كلام في «لعلّ» حيث جاء في القرآن

جاء استعمال «لعلّ» في كلامه تعالى في القرآن في أكثر من مائة وعشرين موضعا ، فياترى ماذا يكون مفادها؟

«لعلّ» كلمة وضعت للترجّي ـ على ما ذكره اللغويّون ـ والترجّي عبارة عن انتظار لتحقّق المترجّى ، حيث يرجى وقوعه ولكن من غير يقين ، الأمر الذي لا يمكن تصوّره بشأنه تعالى ، الّذي لا يعزب عن علمه شيء ، وهو عالم بالأشياء قبل وقوعها أزلا!

__________________

(١) قصص الأنبياء للنجّار : ٢٢٤. وراجع : سفر التكوين ، أصحاح : ٤.

(٢) مجمع البيان ١ : ٢١٣.

(٣) الدرّ ١ : ١٦٩ ؛ الطبري ١ : ٤٠٥ / ٧٧٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٠٨ / ٥١٥ ، وعن الربيع بن أنس.

(٤) ابن أبي حاتم ١ : ١٠٨ / ٥١٦.

(٥) المصدر : ١٠٩ / ٥٢٣.

(٦) المصدر : ١٠٨ / ٥١٧.

٨٥

قلت : المستفاد من «لعلّ» بالنظر إلى مواقع استعمالها في اللغة وفي القرآن بالذات ، أنّها تتوسط بين أمرين يكون المقدّم منهما سببا اقتضائيّا لوقوع التالي ، وليس علّة تامّة. وهذا لا يختلف فيما إذا كان المستعمل عالما بالوقوع أو راجيا له.

فقولك : أسلم لعلّك تفلح ، يفيد أنّ الإسلام سبب للفلاح أي أرضيّة صالحة لحصول الفلاح ، لو لا المانع وسائر العراقيل ، لا أنّه السبب الحتم والعلّة التامّة للفلاح.

وهذا لا يفترق بين أن يكون القائل بهذا الكلام آحاد الناس أو العلماء أو الأنبياء ، أو الله سبحانه وتعالى. إذ هذا الكلام إنّما ألقي لبيان هذه العلاقة (السببيّة غير التامّة) بين المقدّم والتالي. ولا ربط له بشخصيّة قائله ، سواء العالم بعواقب الأمور أم الجاهل بها.

وهكذا ورد قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(١) دليلا على أنّ الغاية من تبيين الآيات هداية الناس ، وأنّه السبب المقتضي لهدايتهم إن استحبّوا الهدى على العمى ، لا الذي أعرض وتولّى.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قولوا : لا إله إلّا الله تفلحوا» بيان للسبب المقتضي للفلاح ، وهو نبذ الشرك والأخذ بالتوحيد ، لكن بشرط الاستقامة عليه حتّى النهاية : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ، ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ)(٢).

فقولهم : «لعلّ» للترجّي. أي تستعمل في مواضع يكون ترتّب التالي على المقدّم ، ممّا يترجّى ويتوقّع ، لا بلحاظ حال المتكلّم ، بل بلحاظ الموقعيّة الخاصّة للكلام.

وفي كثير من الروايات : أنّ «لعلّ» من الله واجبة :

[٢ / ١٨٤٥] روى ابن أبي حاتم بإسناده عن عون بن عبد الله. قال في قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : لعلّ من الله واجبة. وهكذا قال سفيان (٣). وهكذا غيرها من روايات.

والمراد : أنّ اقتضاء المقدّم للتالي ـ حيث وقع في كلامه تعالى ـ أمر حتم ، حيث تواجدت سائر شرائطه. لأنّه منه تعالى وعد ، والله لا يخلف الميعاد.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٠٣.

(٢) فصّلت ٤١ : ٣٠.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ١١٣.

٨٦

والكلام في «عسى» أكثريّا ـ حيث جاءت في كلامه تعالى ـ هو الكلام في «لعلّ» جاءت لتبيّن أنّ المقدّم ، من المقتضيات القريبة لحصول التالي. كقوله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١). حيث كانت للتوبة شرائط أخر يجب توفّرها لتقع موقع القبول.

وقولهم : ومعناه الترجّي في المحبوب ، والإشفاق في المكروه (٢) ، يريدون نفس المعنى الّذي ذكرناه ، فحيث كان المقدّم أرضيّة صالحة لنبات شيء محبوب أو نبات شيء مكروه ، جاز استعمال «عسى» فيه ، دلالة على هذا الاقتضاء والصلاحيّة ، إن محبوبا أو مكروها.

وتأتي بقيّة الكلام ـ في عسى ـ عند الآية ٢١٦ من سورة البقرة ، إن شاء الله.

قوله تعالى : (تَشْكُرُونَ)

قال الثعلبي : اختلف العلماء في ماهيّة الشكر :

[٢ / ١٨٤٦] فقال ابن عبّاس : هو الطاعة بجميع الجوارح لربّ الخلائق في السرّ والعلانية.

[٢ / ١٨٤٧] وقال الحسن : شكر النعمة ذكرها ؛ قال الله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(٣).

[٢ / ١٨٤٨] وقال الفضيل بن عياض : شكر كلّ نعمة ألّا يعصى الله بعد تلك النعمة.

[٢ / ١٨٤٩] وقال أبو بكر بن محمّد بن عمر الورّاق : حقيقة الشكر : معرفة المنعم ، وأن لا تعرف لنفسك في النعمة حظّا بل تراها من الله ـ عزوجل ـ ؛ قال الله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ)(٤).

[٢ / ١٨٥٠] ويدلّ عليه ما روى سيف بن ميمون عن الحسين : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «قال موسى عليه‌السلام : يا ربّ كيف استطاع آدم أن يؤدّي شكر ما أجريت عليه من نعمك ؛ خلقته بيدك وأسجدت له ملائكتك وأسكنته جنّتك؟ فأوحى الله إليه : إنّ آدم علم أنّ ذلك كلّه منّي ومن عندي ، فذلك شكر» (٥).

[٢ / ١٨٥١] وعن إسحاق بن نجيح الملطي عن عطاء الخراساني عن وهب بن منبّه قال : قال

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٠٢.

(٢) مغني اللبيب لابن هشام ١ : ١٥١.

(٣) الضحى ٩٣ : ١١.

(٤) النحل ١٧ : ٥٣.

(٥) روضة الواعظين ، الفتّال النيسابوري : ٤٧٣ ، الشكر لله ، ابن أبي الدنيا : ٧٠.

٨٧

داوود عليه‌السلام : «إلهي كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلّا بنعمتك؟ فأوحى الله ـ تعالى ـ إليه : ألست تعلم أنّ الّذي بك من النعم منّي؟ قال : بلى يا ربّ ، قال : أرضى بذلك لك شكرا» (١).

[٢ / ١٨٥٢] وقال وهب : وكذلك قال موسى : «يا ربّ أنعمت عليّ بالنعم السوابغ وأمرتني بالشكر لك عليها ، وإنّما شكري لكلّ نعمة منك عليّ! فقال الله : يا موسى تعلّمت العلم الذي لا يفوته علم ، حسبي من عبدي أن يعلم أنّ ما به من نعمة فهو منّي ومن عندي».

قال الجنيد : حقيقة الشكر : العجز عن الشكر.

[٢ / ١٨٥٣] وروي ذلك عن داوود عليه‌السلام «أنّه قال : سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا ، كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة».

وقال بعضهم : الشكر أن لا يرى النعمة البتّة بل يرى المنعم.

قال أبو عثمان الخيري : صدق الشكر ، أن لا تمدح بلسانك غير المنعم.

قال أبو عبد الرحمان السلمي عن أبي بكر الرازي عن الشبلي : الشكر ، التواضع تحت رؤية المنّة.

وقيل : الشكر خمسة أشياء : مجانبة السيّئات ، والمحافظة على الحسنات ، ومخالفة الشهوات ، وبذل الطاعات ، ومراقبة ربّ السماوات.

قال الثعلبي : سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سئل أبو الحسن علي بن عبد الرحيم القنّاد في الجامع بحضرة أبي بكر بن عبدوس وأنا حاضر : من أشكر الشاكرين؟ قال : الطاهر من الذنوب ، يعدّ نفسه من المذنبين ، والمجتهد في النوافل بعداد الفرائض ، يعدّ نفسه من المقصّرين ، والراضي بالقليل من الدّنيا ، يعدّ نفسه من المفلسين ، فهذا أشكر الشاكرين.

ونقل بكر بن عبد الرحمان عن ذي النّور قال : الشكر لمن فوقك بالطاعة ، ولنظيرك بالمكافأة ، ولمن دونك بالإحسان والإفضال (٢).

[٢ / ١٨٥٤] وقال الرّماني : الشكر هو الإظهار للنعمة (٣).

__________________

(١) الشكر لله : ٦٧ / ٥ ؛ الدرّ ٥ : ٢٢٩.

(٢) الثعلبي ١ : ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٣) التبيان ١ : ٢٤٠.

٨٨

[٢ / ١٨٥٥] وعن سفيان بن عيينة : على كلّ مسلم أن يشكر ربّه ـ عزوجل ـ لأنّ الله تعالى يقول : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١).

***

وإليك ما روى من أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام بشأن الشكر وأثره في زيادة النعماء. اقتصرنا على ما أورده ثقة الإسلام الكليني في الكافي الشريف :

[٢ / ١٨٥٦] روى بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الطاعم الشّاكر ، له من الأجر كأجر الصائم المحتسب ؛ والمعافى الشّاكر ، له من الأجر كأجر المبتلى الصابر ؛ والمعطى الشّاكر ، له من الأجر كأجر المحروم القانع» (٢).

[٢ / ١٨٥٧] وبهذا الإسناد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما فتح الله على عبد باب شكر فخزن عنه (٣) باب الزيادة» (٤).

قال العلّامة المجلسي ـ في الشرح ـ :

[٢ / ١٨٥٨] ومثله ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «ما كان الله ليفتح على عبد باب الشكر ويغلق عليه باب الزيادة» (٥). قال : وهذا إشارة إلى قوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)(٦). (٧).

[٢ / ١٨٥٩] وبالإسناد إلى عبد الله بن إسحاق الجعفري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «مكتوب في التوراة : اشكر من أنعم عليك وأنعم على من شكرك ، فإنّه لا زوال للنعماء (٨) إذا شكرت ولا بقاء لها إذا كفرت ، الشكر زيادة في النعم وأمان من الغير» (٩)(١٠).

[٢ / ١٨٦٠] وبالإسناد إلى يعقوب بن سالم ، عن رجل ، عن [أبي جعفر أو] أبي عبد الله عليهما‌السلام قال :

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ١٠٨ ـ ٥١٨. (٢) الكافي ٢ : ٩٤ / ١ ، باب الشكر.

(٣) أي زوي عنه ومنع. (٤) الكافي ٢ : ٩٤ / ٢ ، باب الشكر.

(٥) نهج البلاغة ٤ : ١٠٢ ، الحكمة ٤٣٥.

(٦) إبراهيم ١٤ : ٧.

(٧) مرآة العقول ٨ : ١٤٧.

(٨) في بعض النسخ : «لا زوال من نعمائي».

(٩) بكسر الغين المعجمة وفتح الياء المثناة من تحت : اسم للتغيّر. وفي بعض النسخ «الغبر» بالباء الموحّدة أي المضيّ والزوال.

(١٠) الكافي ٢ : ٩٤ / ٣.

٨٩

«المعافى الشّاكر ، له من الأجر ما للمبتلى الصّابر ؛ والمعطى الشّاكر ، له من الأجر كالمحروم القانع» (١).

[٢ / ١٨٦١] وبالإسناد إلى داوود بن الحصين ، عن فضل البقباق قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(٢) قال : «الّذي أنعم عليك بما فضّلك وأعطاك وأحسن إليك.

ثمّ قال : فحدّث بدينه وما أعطاه الله وما أنعم به عليه» (٣).

قوله : «فحدّث بدينه ...» بصيغة الماضي. أيّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ في شكر نعمة ربّه فحدّث بدينه أي بشريعته التي بعثه الله بها.

[٢ / ١٨٦٢] وبالإسناد إلى أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند عائشة ليلتها ، فقالت : يا رسول الله لم تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال : يا عائشة ألا أكون عبدا شكورا. قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم على أطراف أصابع رجليه فأنزل الله سبحانه وتعالى : (طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى)» (٤).

[٢ / ١٨٦٣] وبالإسناد إلى عبيد الله بن الوليد قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «ثلاث لا يضرّ معهنّ شيء : الدّعاء عند الكرب ، والاستغفار عند الذّنب ، والشّكر عند النّعمة».

[٢ / ١٨٦٤] وبالإسناد إلى معاوية بن وهب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من اعطي الشّكر أعطي الزّيادة ، يقول الله عزوجل : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»)(٥).

[٢ / ١٨٦٥] وبالإسناد إلى إسحاق بن عمّار ، عن رجلين من أصحابنا ، سمعاه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما أنعم الله على عبد من نعمة فعرفها بقلبه وحمد الله ظاهرا بلسانه فتمّ كلامه حتّى يؤمر له بالمزيد».

[٢ / ١٨٦٦] وبالإسناد إلى محمّد بن هشام ، عن ميسر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «شكر النعمة اجتناب المحارم ، وتمام الشّكر قول الرّجل : الحمد لله ربّ العالمين».

[٢ / ١٨٦٧] وبالإسناد إلى ابن أبي عمير ، عن عليّ بن عيينة ، عن عمر بن يزيد قال : سمعت أبا

__________________

(١) المصدر / ٤.

(٢) الضحى ٩٣ : ١١.

(٣) الكافي ٢ : ٩٤ / ٥.

(٤) طه ٢ : ١ و ٢.

(٥) إبراهيم ١٤ : ٧.

٩٠

عبد الله عليه‌السلام يقول : «شكر كلّ نعمة وإن عظمت أن تحمد الله عزوجل عليها» (١). (٢)

[٢ / ١٨٦٨] وبالإسناد إلى سيف بن عميرة ، عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «هل للشكر حدّ إذا فعله العبد كان شاكرا؟ قال : نعم. قلت : ما هو؟ قال : يحمد الله على كلّ نعمة عليه في أهل ومال ، وإن كان فيما أنعم عليه في ماله حقّ أدّاه ومنه قوله جلّ وعزّ : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)(٣) ومنه قوله تعالى : (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)(٤) وقوله : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً)» (٥).

[٢ / ١٨٦٩] وإلى معمر بن خلّاد قال : سمعت أبا الحسن صلوات الله عليه يقول : «من حمد الله على النعمة فقد شكره ، وكان الحمد أفضل من تلك النعمة».

[٢ / ١٨٧٠] وإلى صفوان الجمّال ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال لي : «ما أنعم الله على عبد بنعمة صغرت أو كبرت ، فقال : الحمد لله ، إلّا أدّى شكرها».

[٢ / ١٨٧١] وإلى إسماعيل بن أبي الحسن ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه ، فقد أدّى شكرها».

[٢ / ١٨٧٢] وإلى منصور بن يونس ، عن أبي بصير قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الرّجل منكم ليشرب الشّربة من الماء فيوجب الله له بها الجنّة ، ثمّ قال : إنّه ليأخذ الإناء فيضعه على فيه فيسمّي (٦) ثمّ يشرب فينحّيه وهو يشتهيه فيحمد الله ، ثمّ يعود فيشرب ، ثمّ ينحّيه فيحمد الله ثمّ يعود فيشرب ، ثمّ ينحّيه فيحمد الله ، فيوجب الله عزوجل بها له الجنّة».

[٢ / ١٨٧٣] وإلى ابن أبي عمير ، عن الحسن بن عطيّة ، عن عمر بن يزيد قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي سألت الله عزوجل أن يرزقني مالا فرزقني وإنّي سألت الله أن يرزقني ولدا فرزقني ولدا وسألته أن يرزقني دارا فرزقني وقد خفت أن يكون ذلك استدراجا (٧) ، فقال : أما ـ والله ـ مع

__________________

(١) في بعض النسخ «أن يحمد الله عزوجل عليها».

(٢) الكافي ٢ : ٩٥ / ٦ ـ ١١.

(٣) الزخرف ٤٣ : ١٣.

(٤) المؤمنون ٢٣ : ٢٩.

(٥) الإسراء ١٧ : ٨٠.

(٦) التسمية أن يقول : بسم الله الرحمان الرحيم.

(٧) في القاموس : استدرجه : خدعه وأدناه كدرجه. واستدراجه تعالى العبد أنّه كلّما جدّد خطيئة جدّد له نعمة وأنساه الاستغفار ، أو أن يأخذه قليلا قليلا ولا يباغته والبغتة : الفجأة.

٩١

الحمد فلا».

[٢ / ١٨٧٤] وإلى حمّاد بن عثمان قال : «خرج أبو عبد الله عليه‌السلام من المسجد ، وقد ضاعت دابّته ، فقال : لئن ردّها الله عليّ لأشكرنّ الله حقّ شكره ، قال : فمالبث أن أتي بها ، فقال : الحمد لله ، فقال له قائل : جعلت فداك أليس قلت : لأشكرنّ الله حقّ شكره؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ألم تسمعني قلت : الحمد لله؟».

[٢ / ١٨٧٥] وإلى الحسن بن راشد ، عن المثنّى الحنّاط ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ورد عليه أمر يسرّه قال : الحمد لله على هذه النعمة ، وإذا ورد عليه أمر يغتمّ به قال : الحمد لله على كلّ حال».

[٢ / ١٨٧٦] وإلى أبي أيّوب الخزّاز عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «تقول ثلاث مرّات إذا نظرت إلى المبتلى من غير أن تسمعه : الحمد لله الّذي عافاني ممّا ابتلاك به ، ولو شاء فعل ، قال : من قال ذلك لم يصبه ذلك البلاء أبدا».

[٢ / ١٨٧٧] وإلى أبان بن عثمان ، عن حفص الكناسي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما من عبد يرى مبتلى فيقول : «الحمد لله الّذي عدل عنّي ما ابتلاك به ، وفضّلني عليك بالعافية ، اللهمّ عافني ممّا ابتليته به» إلّا لم يبتل بذلك البلاء (١).

[٢ / ١٨٧٨] وإلى خالد بن نجيح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا رأيت الرّجل وقد ابتلي وأنعم الله عليك فقل : اللهمّ إنّي لا أسخر ولا أفخر (٢) ولكن أحمدك على عظيم نعمائك عليّ».

[٢ / ١٨٧٩] وإلى هارون بن الجهم ، عن حفص بن عمر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا رأيتم أهل البلاء فاحمدوا الله ولا تسمعوهم ، فإنّ ذلك يحزنهم».

[٢ / ١٨٨٠] وإلى عبد الله بن مسكان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في سفر يسير على ناقة له ، إذ نزل فسجد خمس سجدات فلمّا أن ركب قالوا : يا رسول الله إنّا رأيناك صنعت شيئا لم تصنعه؟ فقال : نعم استقبلني جبرئيل عليه‌السلام فبشّرني ببشارات من الله عزوجل ، فسجدت لله شكرا لكلّ بشرى سجدة».

__________________

(١) الكافي ٢ : ٩٦ ـ ٩٧ / ١١ ـ ٢١.

(٢) يعني لا أسخر من هذا المبتلى بابتلائه بذلك ولا أفخر عليه.

٩٢

[٢ / ١٨٨١] وإلى يونس بن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا ذكر أحدكم نعمة الله عزوجل فليضع خدّه على التراب شكرا لله ، فإن كان راكبا فلينزل فليضع خدّه على التراب وإن لم يكن يقدر على النزول للشهرة فليضع خدّه على قربوسه وإن لم يقدر فليضع خدّه على كفّه (١) ثمّ ليحمد الله على ما أنعم الله عليه».

[٢ / ١٨٨٢] وإلى ابن أبي عمير ، عن عليّ بن عطيّة عن هشام بن أحمر قال : «كنت أسير مع أبي الحسن عليه‌السلام في بعض أطراف المدينة إذ ثنّى رجله عن دابّته ، فخرّ ساجدا ، فأطال وأطال ، ثمّ رفع رأسه وركب دابّته فقلت : جعلت فداك قد أطلت السجود؟ فقال : إنّني ذكرت نعمة أنعم الله بها عليّ فأحببت أن أشكر ربّي».

[٢ / ١٨٨٣] وإلى ابن أبي عمير ، عن أبي عبد الله صاحب السابريّ فيما أعلم أو غيره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «فيما أوحى الله عزوجل إلى موسى عليه‌السلام : يا موسى اشكرني حقّ شكري ، فقال ، يا ربّ وكيف أشكرك حقّ شكرك وليس من شكر أشكرك به إلّا وأنت أنعمت به عليّ؟ قال : يا موسى الآن شكرتني حين علمت أنّ ذلك منّي» (٢).

[٢ / ١٨٨٤] وإلى ابن أبي عمير ، عن ابن رئاب ، عن إسماعيل بن الفضل قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا أصبحت وأمسيت فقل عشر مرّات : «اللهمّ ما أصبحت بي من نعمة أو عافية من دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك ، لك الحمد ولك الشكر بها عليّ يا ربّ حتّى ترضى وبعد الرّضا» فإنّك إذا قلت ذلك كنت قد أدّيت شكر ما أنعم الله به عليك في ذلك اليوم وفي تلك اللّيلة.

[٢ / ١٨٨٥] وإلى ابن أبي عمير ، عن حفص بن البختري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان نوح عليه‌السلام يقول ذلك (٣) إذا أصبح ، فسمّي بذلك عبدا شكورا ، وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من صدق الله نجا».

[٢ / ١٨٨٦] وإلى عمّار الدّهني قال : سمعت عليّ بن الحسين عليهما‌السلام يقول : «إنّ الله يحبّ كلّ قلب حزين ويحبّ كلّ عبد شكور ، يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة : أشكرت فلانا؟ فيقول : بل شكرتك يا ربّ ، فيقول : لم تشكرني إذ لم تشكره ، ثمّ قال : أشكركم لله أشكركم للناس». (٤)

__________________

(١) في بعض النسخ : «فليضع كفّه على خدّه».

(٢) الكافي ٢ : ٩٨ / ٢٢ ـ ٢٧.

(٣) يعني الدعاء المذكور في الحديث السابق.

(٤) الكافي ٢ : ٩٩ / ٢٨ ـ ٣٠.

٩٣

كلام عن حقيقة الشكر ومراحله الثلاث : علم وحال وعمل

ذكر الإمام أبو حامد الغزالي : أنّ الشكر ـ وهو من مقامات السالكين ـ ينتظم من علم وحال وعمل. فالعلم هو الأصل الذي يورث الحال. والحال يوجب العمل.

أمّا العلم فهو : معرفة النعمة من المنعم. والحال هو : الفرح والانبساط الحاصل للمنعم عليه بالإفضال عليه. والعمل هو القيام بما يوجب رضى المنعم فيزيده فضلا. وهذا العمل يتعلّق بالقلب وبالجوارح وباللسان جميعا ، ولكلّ وظيفته في أداء الشكر.

فالأصل الأوّل ـ وهو معرفة الإحسان ـ إنّما يتمّ بمعرفة النعمة من وجوهها الثلاثة : معرفة عين النعمة ، فلا تلتبس عليه نقمة حسبها نعمة جهلا.

ومعرفة وجه كونها نعمة في حقّه بالذات ، إذ قد يكون ما ظاهره نعمة ـ وبالنسبة إلى العموم ـ هي نقمة في واقعها بشأنه الخاصّ ، كما في الاستدراج.

ومعرفة ذات المنعم وما عليه من كمال وجمال والباعث له على هذا الإنعام إذ قد يكون الإحسان إغفالا للمحسن إليه لغرض الإذلال ـ كما في الممتنّ ـ أو الاستثمار أحيانا ، نظير تعليف الدوابّ لغرض الاستدرار.

قال : كلّ هذه الأمور إنّما تجري في حقّ غيره تعالى ، فأمّا في حقّ الله تعالى فلا يتمّ إلّا بأن يعرف أنّ النعم كلّها من الله وهو المنعم المفضل بالإحسان إلى عباده أجمعين. أمّا الوسائط فهم مسخّرون من جهته تعالى ومأمورون بأمره ويفعلون ما يؤمرون.

وهذه المعرفة وراء التقديس والتوحيد ، واقعة في الرتبة الثالثة من معارف الإيمان. إذ الرتبة الأولى من معارف الإيمان هو التقديس ، وهو تنزيهه تعالى عمّا لا يناسب شأنه العظيم. وإذا عرف أن لا ذات مقدّسة سواه تعالى ، فقد نال رتبة التوحيد وأن لا منزّه سواه ، ثمّ يعلم أنّ كلّ ما في عالم الوجود فهو من ذلك الواحد الواجب الوجود. فالكلّ نعمة منه وفضل تفضّل به على العباد أجمعين. فتقع هذه المعرفة في الرتبة الثالثة ، وتنطوي على التقديس والتوحيد إلى جنب القدرة الكاملة والانفراد بالفعل دون من سواه.

ولعلّ هذا المعنى قصده الرسل الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قوله :

[٢ / ١٨٨٧] «من قال : سبحان الله فله عشر حسنات. ومن قال : لا إله إلّا الله فله عشرون حسنة.

٩٤

ومن قال : الحمد لله فله ثلاثون حسنة» (١).

فالتسبيح تقديس. والتهليل توحيد. والتحميد شكر على كلّ النعماء. فقد جمع التقديس والتهليل إلى جنب التحميد. فجاء بأكمل الثناء.

فلا تظنّن أنّ هذه الحسنات بإزاء تحريك اللسان بهذه الكلمات من غير حصول معانيها في القلب وآثارهما في العمل.

فسبحان الله كلمة تدلّ على التقديس وتنزيه ذاته المقدسة. ولا إله إلّا الله كلمة تدلّ على وحدانيّته تعالى. والحمد لله كلمة تدلّ على معرفة النعمة من الواحد الحقّ تعالى. فالحسنات بإزاء هذه المعارف التي هي أبواب الإيمان واليقين ، والباعثة على الاستقامة في العمل والسلوك.

فإذ قد عرفت هذه الأمور كذلك فقد عرفت الله تعالى وعرفت فعله وكنت موحّدا وأتيت بالشكر الواجب لديه ، وكنت بذلك شاكرا لأنعمه تعالى.

[٢ / ١٨٨٨] قال موسى عليه‌السلام في مناجاته : «إلهي خلقت آدم بيدك وفعلت وفعلت ، فكيف شكرك؟ فقال الله ـ عزوجل ـ : علم أنّ كلّ ذلك منّي ومن عندي ، فكانت معرفته شكرا» (٢).

[٢ / ١٨٨٩] وعن الصادق عليه‌السلام : «من أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه ، فقد أدّى شكرها» (٣).

[٢ / ١٨٩٠] وعنه عليه‌السلام قال : فيما أوحى الله ـ عزوجل ـ إلى موسى عليه‌السلام : «يا موسى اشكرني حقّ شكري! فقال : يا ربّ وكيف أشكرك حقّ شكرك وليس من شكر أشكرك به إلّا وأنت أنعمت به عليّ؟! قال : يا موسى ، ألآن شكرتني ، حين علمت أنّ ذلك منّي» (٤).

وقال الورّاق : حقيقة الشكر معرفة المنعم وأن لا تعرف لنفسك في النعمة حظّا ، بل تراه من الله ـ عزوجل ـ. قال الله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ)(٥).

***

قال أبو حامد : وأمّا الأصل الثاني ـ وهي الحال المستمدّة من أصل المعرفة ـ فهو الفرح

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة ١ : ٥١٢.

(٢) إحياء العلوم ٤ : ٨٠ ؛ الثعلبي ١ : ١٩٥ ؛ روضة الواعظين ، الفتّال النيسابوري : ٤٧٣ ؛ الشكر لله ، ابن أبي الدنيا : ٧٠.

(٣) الكافي ٢ : ٩٦ / ١٥.

(٤) المصدر : ٩٨ / ٢٧.

(٥) النحل ١٦ : ٥٣. راجع : الثعلبي ١ : ١٩٥.

٩٥

والانبساط الحاصل للنفس بسبب النعمة التي أنعم الله عليه تفضّلا وتكريما لجانبه .. وليكن هذا الفرح والانبساط ناشئا من جهة أنّه تعالى تكرّم عليه وخصّه بالعناية والإفضال ، لا لمجرّد النعمة والإحسان عليه محضا. إذ يكون ارتياح نفس المؤمن منبعثا عن شعوره بتلك العناية الإلهيّة الخاصّة بعباده المخلصين وقد شملته وهذا هو الفوز العظيم .. أمّا الارتياح الحاصل من جهة ذات النعمة الموجبة لرفاه الحال ، فهذا مشترك بين المؤمن وغيره ، ولا يدخل في باب الشكر ، ما لم يكن ماسّا بالذي أنعم عليه ، ومقرّبا لديه.

ومن ثمّ قال الشبلي : الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة (١).

وقال الخوّاص (٢) : شكر العامّة على المطعم والملبس والمشرب ، وشكر الخاصّة على واردات القلوب (٣). وقال بعضهم : الشكر أن لا يرى النعمة البتة بل يرى المنعم (٤).

والأصل الثالث ، وهو العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم ، إنّما يتعلّق بالقلب وباللّسان وبالجوارح.

أمّا بالقلب فهو نيّة الخير وإضماره لكافّة الخلق ، وأن لا ينوي الشرّ لأحد من الخلائق إطلاقا.

وأمّا باللّسان فإظهار الشكر لله تعالى بالتحميدات الدالّة عليه ، ومنه التحدّث بنعمه تعالى عليه لا فخرا ومباهاة ، بل تواضعا واستكانة لله تعالى حيث فضله ورحمته على العباد ، وأنّ عنايته شاملة ، (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٥).

[٢ / ١٨٩١] قال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : «في قوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(٦) معناه : فحدّث بما أعطاك الله وفضّلك ورزقك وأحسن إليك وهداك» (٧).

قال الطبرسي : التحدّث بنعمة الله شكر وتركه كفر (٨).

__________________

(١) إحياء العلوم ٤ : ٨١.

(٢) بفتح الخاء وتشديد الواو : اسم لمن ينسج بالخوص ـ وهو سعف النخل ـ المراوح ونحوها. والمشهور بهذه النسبة سلم بن ميمون الخوّاص ، من عبّاد أهل الشام وقرّائهم. (الأنساب للسمعاني ٢ : ٤١١).

(٣) المصدر.

(٤) الثعلبي ١ : ١٩٦.

(٥) إحياء العلوم ٤ : ٨٢.

(٦) الضحى ٩٣ : ١١.

(٧) مجمع البيان ١٠ : ٥٠٧.

(٨) المصدر.

٩٦

[٢ / ١٨٩٢] وقال الحسن : شكر النعمة ذكرها (١).

[٢ / ١٨٩٣] وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «ما أنعم الله على عبد من نعمة فعرفها بقلبه وحمد الله ظاهرا بلسانه ، فتمّ كلامه ، حتّى يؤمر له بالمزيد» (٢).

[٢ / ١٨٩٤] وقال : «شكر كلّ نعمة وإن عظمت أن تحمد الله عليها» (٣).

[٢ / ١٨٩٥] وقال : «ما أنعم الله على عبد من نعمة صغرت أو كبرت فقال : الحمد لله ، إلّا أدّى شكرها» (٤).

***

وأمّا بالجوارح فاستعمال نعم الله تعالى في طاعته والتوقّي من الاستعانة بها على معصيته. حتّى أنّ شكر نعمة العين أن تستر كلّ عيب تراه لمسلم. وشكر الأذن أن تستر كلّ عيب تسمعه فيه ، فيدخل هذا في جملة شكر نعم الله بهذه الأعضاء.

[٢ / ١٨٩٦] قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : «شكر النعمة اجتناب المحارم. وتمام الشكر قول الرجل : الحمد لله ربّ العالمين» (٥).

قال أبو حامد : وكذلك الشكر باللسان ، إنّما هو لإظهار الرضى عن الله تعالى. وهو مأمور به.

[٢ / ١٨٩٧] فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرجل : كيف أصبحت؟ قال : بخير. فأعاد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السؤال ، حتّى قال في الثالثة : بخير ، أحمد الله وأشكره! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هذا الّذي أردت منك» (٦).

نعم من تمام الشكر استعمال النعمة في محابّه تعالى ، دون ما يوجب سخطه ، فإنّه كفران للنعمة. قال موسى عليه‌السلام ـ في مقام الشكر على نعمائه تعالى ، والّتي أنعم الله عليه من قوّة في جسم وقدرة في عقل ، فضلا عن الحكمة والنبوّة وفصل الخطاب ـ قال شكرا على هذه الآلاء : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ)(٧). أي لن أجعل ما بوسعي وقدرتي ، في متناول أهل الآثام.

__________________

(١) الثعلبي ١ : ١٩٥.

(٢) الكافي ٢ : ٩٥ / ٩.

(٣) المصدر / ١١.

(٤) المصدر / ١٤.

(٥) المصدر / ١٠.

(٦) إحياء العلوم ٤ : ٨٢. والحديث أخرجه الطبراني في باب الدعاء من رواية الفضيل بن عمرو مرفوعا.

(٧) القصص ٢٨ : ١٧.

٩٧

[٢ / ١٨٩٨] وقال ابن عبّاس : الشكر هو الطاعة بجميع الجوارح لربّ الخلائق في السرّ والعلانية (١).

ومن ثمّ قيل : الشكر خمسة أشياء : مجانبة السيّئات. والمحافظة على الحسنات. ومخالفة الشهوات. وبذل الطاعات. ومراقبة ربّ السماوات (٢).

ومن الشكر العملي إظهار أثر النعمة بما يوجب ابتهاج الآخرين ، كالإحسان إلى المعوزين والأخذ بيد المحتاجين ، والبذل في سبيل الله بالمال والجاه والقدرة حسب الإمكان. فإنّها من آثار نعم الله على عبده ، فيحبّ أن يراها عليه ، وهو شكر عملي بلا شك.

[٢ / ١٨٩٩] قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلوا واشربوا والبسوا وتصدّقوا ، في غير سرف ولا بخل ، إنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده» (٣).

__________________

(١) الثعلبي ١ : ١٩٥.

(٢) المصدر : ١٩٦.

(٣) البحار ٧٠ : ٢٠٧.

٩٨

قال تعالى :

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣))

[٢ / ١٩٠٠] أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لستّ مضين من رمضان (١).

[٢ / ١٩٠١] وأخرج عنه أيضا قال : (الْكِتابَ) : التوراة (٢).

[٢ / ١٩٠٢] وقال مجاهد في قوله : (وَالْفُرْقانَ) : هو التوراة أيضا ذكرها باسمين (٣).

[٢ / ١٩٠٣] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) قال : الكتاب هو الفرقان ، فرّق بين الحقّ والباطل (٤).

[٢ / ١٩٠٤] وأخرج ابن جرير عن أبي العالية ، في قوله : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) قال : فرّق به بين الحقّ والباطل (٥).

[٢ / ١٩٠٥] وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) قال : علم الكتاب وتبيانه وحكمته (٦).

[٢ / ١٩٠٦] وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عبّاس قال : الفرقان جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان (٧). (يعني القرآن).

__________________

(١) ابن أبي الحاتم ١ : ١٠٨ / ٥١٨.

(٢) المصدر : ١٠٩ / ٥٢٠.

(٣) البغوي ١ : ١١٧.

(٤) الدرّ ١ : ١٦٩ ؛ الطبري ١ : ٤٠٦ / ٧٨١ وبعده وفيه : «... فرقان بين الحقّ والباطل» ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٠٩ / ٥٢١ ، عن مجاهد والربيع بلفظ : «فرّق فيه بين الحقّ والباطل» ؛ التبيان ١ : ٢٤٢ ، بلفظ : «وروي عن ابن عبّاس وأبي العالية ومجاهد : أنّ الفرقان الذي ذكره هو الكتاب الذي أتاه يفرّق فيه بين الحقّ والباطل».

(٥) الطبري ١ : ٤٠٦ / ٧٨٠ ؛ التبيان ١ : ٢٤٢ ، بلفظ : هو الكتاب الذي أتاه يفرّق بين الحقّ والباطل.

(٦) ابن أبي حاتم ١ : ١٠٩ / ٥٢٢.

(٧) الدرّ ١ : ١٦٨ ؛ الطبري ١ : ٤٠٦ / ٧٨٢.

٩٩

[٢ / ١٩٠٧] وأخرج ابن جرير عن ابن وهب ، قال : سألته ، يعني ابن زيد ، عن قول الله عزوجل : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) فقال : أمّا الفرقان الذي قال الله عزوجل : (يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ)(١) فذلك يوم بدر ، يوم فرّق الله بين الحقّ والباطل ، والقضاء الذي فرّق به بين الحقّ والباطل. قال : فكذلك أعطى الله موسى الفرقان ، فرّق الله بينهم ، وسلّمه الله وأنجاه. فرّق بينهم بالنصر ، فكما جعل الله ذلك بين محمّد والمشركين ، فكذلك جعله بين موسى وفرعون (٢).

[٢ / ١٩٠٨] وقال ابن عبّاس : أراد بالفرقان النصر على الأعداء. نصر الله عزوجل موسى وأهلك فرعون وقومه. يدلّ عليه قوله عزوجل : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ)(٣) يوم بدر (٤).

[٢ / ١٩٠٩] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) يعني النصر حين فرّق بين الحقّ والباطل ونصر موسى وأهلك فرعون. نظيرها في الأنفال قوله ـ سبحانه ـ : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) يعني يوم النصر (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) فنصر الله ـ عزوجل ـ المؤمنين وهزم المشركين (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) من الضلالة بالتوراة يعني بالنور. (٥).

وقال أبو جعفر : وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية ما روي عن ابن عبّاس وأبي العالية ومجاهد ، من أنّ الفرقان الذي ذكر الله أنّه آتاه موسى في هذا الموضع هو الكتاب الذي فرّق به بين الحقّ والباطل ، وهو نعت للتوراة وصفة لها. فيكون تأويل الآية حينئذ : وإذ آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الألواح ، وفرّقنا بها بين الحقّ والباطل ، فيكون الكتاب نعتا للتوراة أقيم مقامها استغناء به عن ذكر التوراة ، ثمّ عطف عليه بالفرقان ، إذ كان من نعتها (٦).

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٤١.

(٢) الطبري ١ : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ / ٧٨٣ ؛ التبيان ١ : ٢٤٢ ، بلفظ : «وقال ابن زيد : الفرقان : النصر الّذي فرّق الله به بين موسى وفرعون : كما فرّق بين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبين المشركين ، كما قال : يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ.

(٣) الأنفال ٨ : ٤١.

(٤) الثعلبي ١ : ١٩٧.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٦) الطبري ١ : ٤٠٦.

١٠٠