التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

دخل بنو إسرائيل البحر ، فلم يبق منهم أحد ، أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل حتّى وقف على شفير البحر ، وهو قائم على حاله ، فهاب الحصان أن ينفذه ؛ فعرض له جبريل على فرس أنثى وديق (١) ، فقرّبها منه فشمّها الفحل ، فلمّا شمّها قدّمها (٢) ، فتقدّم معها الحصان وعليه فرعون ، فلمّا رأى جند فرعون فرعون قد دخل دخلوا معه وجبريل أمامه ، وهم يتّبعون فرعون ، وميكائيل على فرس من خلف القوم يسوقهم ، يقول : الحقوا بصاحبكم. حتّى إذا فصل جبريل من البحر ليس أمامه أحد ، ووقف ميكائيل على ناحيته الأخرى وليس خلفه أحد ، طبّق عليهم البحر ، ونادى فرعون حين رأى من سلطان الله ـ عزوجل ـ وقدرته ما رأى وعرف ذلّته وخذلته نفسه : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(٣). (٤)

[٢ / ١٨١٦] وعن عمرو بن ميمون الأودي في قوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) قال : لمّا خرج موسى ببني إسرائيل ، بلغ ذلك فرعون ، فقال : لا تتّبعوهم حتّى يصيح الديك. قال : فو الله ما صاح ليلتئذ ديك حتّى أصبحوا فدعا بشاة فذبحت ، ثمّ قال : لا أفرغ من كبدها حتّى يجتمع إليّ ستّمائة ألف من القبط. فلم يفرغ من كبدها حتّى اجتمع إليه ستّمائة ألف من القبط. ثمّ سار ، فلمّا أتى موسى البحر ، قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون : أين أمرك ربّك يا موسى؟ قال : أمامك! يشير إلى البحر. فأقحم يوشك فرسه في البحر حتّى بلغ الغمر ، فذهب به ثمّ رجع ، فقال : أين أمرك ربّك يا موسى؟ فو الله ما كذبت ولا كذبت! ففعل ذلك ثلاث مرّات ، ثمّ أوحى الله ـ جلّ ثناؤه ـ إلى موسى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)(٥). يقول : مثل جبل. قال : ثمّ سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم ، حتّى إذا تتامّوا (٦) فيه أطبقه الله عليهم ، فلذلك قال : (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) قال معمر : قال قتادة : كان مع موسى ستّمائة

__________________

(١) فرس وديق : مريدة للفحل تشتهيه.

(٢) قدّمها : زجرها.

(٣) يونس ١٠ : ٩٠.

(٤) الطبري ١ : ٣٩٤ / ٧٦٢ ؛ تاريخ الطبري ١ : ٢٩٦ ؛ البغوي ١ : ١١٥.

(٥) الشعراء ٢٦ : ٦٣.

(٦) تتامّ القوم : اجتمع كلّهم.

٦١

ألف ، وأتبعه فرعون على ألف ألف ومائة ألف حصان (١).

قلت : لا شكّ أن الأرقام مبالغ فيها كثيرا. وسيوافيك بعض الكلام فيه.

[٢ / ١٨١٧] وبإسناده عن ابن عبّاس ، قال : أوحى الله ـ جلّ وعزّ ـ إلى موسى أن (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)(٢) قال : فسرى موسى ببني إسرائيل ليلا ، فأتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث وكان موسى في ستمائة ألف ، فلمّا عاينهم فرعون قال : (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ. وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ. وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ)(٣). فسرى موسى ببني إسرائيل حتّى هجموا على البحر ، فالتفتوا فإذا هم برهج (٤) دوابّ فرعون فقالوا : يا موسى (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا)(٥) هذا البحر أمامنا ، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه. (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(٦). قال : فأوحى الله ـ جلّ ثناؤه ـ إلى موسى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ)(٧) وأوحى إلى البحر : أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك. قال : فبات البحر له أفكل ـ يعني له رعدة ـ لا يدري من أيّ جوانبه يضربه ، قال : فقال يوشع لموسى : بماذا أمرت؟ قال : أمرت أن أضرب البحر. قال : فاضربه! قال : فضرب موسى البحر بعصاه ، فانفلق ، فكان فيه اثنا عشر طريقا ، كلّ طريق كالطود العظيم ، فكان لكلّ سبط منهم طريق يأخذون فيه. فلمّا أخذوا في الطريق ، قال بعضهم لبعض : ما لنا لا نرى أصحابنا؟ قالوا لموسى : أين أصحابنا لا نراهم؟ قال : سيروا فإنّهم على طريق مثل طريقكم. قالوا : لا نرضى حتّى نراهم ـ قال سفيان ، قال عمّار الدهني : ـ قال موسى : اللهمّ أعنّي على أخلاقهم السيّئة! قال : فأوحى الله إليه : أن قل بعصاك (٨) هكذا ـ وأومأ إبراهيم بن بشّار بيده يديرها على البحر ـ قال : فضرب موسى بعصاه على الحيطان (٩) هكذا ، فصار فيها كوى ينظر بعضهم إلى بعض ، قال سفيان : قال أبو سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس : فساروا حتّى خرجوا من البحر ،

__________________

(١) الطبري ١ : ٣٩٤ ـ ٣٩٥ / ٧٦٣ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ / ٥٢ ؛ ابن كثير ١ : ٩٤ ـ ٩٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٠٦ ـ ١٠٧ / ٥٠٨ ؛ القرطبي ١ : ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

(٢) الدخان ٤٤ : ٢٣.

(٣) الشعراء ٢٦ : ٥٤ ـ ٥٦.

(٤) الرهج : الغبار.

(٥) الأعراف ٧ : ١٢٩.

(٦) الأعراف ٧ : ١٢٩.

(٧) الشعراء ٢٦ : ٦٣.

(٨) قل بعصاك : أي أشر بعصاك.

(٩) أي حيطان البحر.

٦٢

فلمّا جاز آخر قوم موسى ، هجم فرعون على البحر هو وأصحابه ، وكان فرعون على فرس أدهم ذنوب حصان (١). فلمّا هجم على البحر هاب الحصان أن يقتحم في البحر ، فتمثّل له جبريل على فرس أنثى وديق (٢). فلمّا رآها الحصان تقحّم خلفها ، وقيل لموسى : اترك البحر رهوا ـ قال : طرقا على حاله ـ (٣) قال : ودخل فرعون وقومه في البحر ، فلمّا دخل آخر قوم فرعون وجاز آخر قوم موسى أطبق البحر على فرعون وقومه فأغرقوا (٤).

[٢ / ١٨١٨] وعن السدّي : أنّ الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ، فقال : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)(٥) فخرج موسى وهارون في قومهما ، وألقي على القبط الموت فمات كلّ بكر رجل. فأصبحوا يدفنونهم ، فشغلوا عن طلبهم حتّى طلعت الشمس ، فذلك حين يقول الله جلّ ثناؤه : (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ)(٦) فكان موسى على ساقة (٧) بني إسرائيل ، وكان هارون أمامهم يقدمهم. فقال المؤمن (٨) لموسى : يا نبيّ الله ، أين أمرت؟ قال : البحر. فأراد أن يقتحم ، فمنعه موسى. وخرج موسى في ستّمائة ألف وعشرين ألف مقاتل ، لا يعدّون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستّين لكبره ، وإنّما عدوّا ما بين ذلك سوى الذريّة. وتبعهم فرعون وعلى مقدّمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ليس فيها ماذيانة (٩) ، يعني الأنثى ؛ وذلك حين يقول الله جلّ ثناؤه : (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ)(١٠) يعني بني إسرائيل. فتقدم هارون ، فضرب البحر ، فأبى البحر أن ينفتح ، وقال : من هذا الجبّار الذي يضربني؟ حتّى أتاه موسى ، فكنّاه أبا خالد وضربه

__________________

(١) الأدهم : الأسود. والذنوب : الوافر الذنب الطويلة. والحصان : يريد به الفحل.

(٢) الوديق : المريدة للفحل تشتهيه.

(٣) الرهو : السعة من الطريق. أي اترك البحر على حاله متّسعا فيه الطريق ليقتحمه فرعون وجنوده أجمعون.

(٤) الطبري ١ : ٣٩٥ ـ ٣٩٦ / ٧٦٤ ؛ مجمع البيان ١ : ٢٠٧ ـ ٢٠٨ ، ذكره مختصرا باختلاف يسير في الألفاظ ؛ التبيان ١ : ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، باختلاف يسير.

(٥) الدخان ٤٤ : ٢٣.

(٦) الشعراء ٢٦ : ٦٠.

(٧) أي في مؤخّرهم يحافظ عليهم من ورائهم.

(٨) وهو يوشع على ما مرّ في الحديث السابق.

(٩) ماذيانة : معرّب ماديانه بالدال المهملة ـ كلمة فارسيّة ـ تعني الأنثى من الخيل.

(١٠) الشعراء ٢٦ : ٥٣ ـ ٥٤.

٦٣

فانفلق (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)(١) يقول : كالجبل العظيم. فدخلت بنو إسرائيل. وكان في البحر اثنا عشر طريقا ، في كلّ طريق سبط ، وكانت الطرق انفلقت بجدران ، فقال كلّ سبط : قد قتل أصحابنا! فلمّا رأى ذلك موسى ، دعا الله ، فجعلها لهم قناطر كهيئة الطيقان (٢). فنظر آخرهم إلى أوّلهم ، حتّى خرجوا جميعا. ثمّ دنا فرعون وأصحابه ، فلمّا نظر فرعون إلى البحر منفلقا ، قال : ألا ترون البحر فرق منّي قد انفتح لي حتّى أدرك أعدائي فأقتلهم؟ فذلك حين يقول الله جلّ ثناؤه : (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ)(٣) يقول : قرّبنا ثمّ الآخرين ؛ يعني آل فرعون. فلمّا قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم ، فنزل جبريل على ماذيانة ، فشامّ (٤) الحصان ريح الماذيانة ، فاقتحم في أثرها ، حتّى إذا همّ أوّلهم أن يخرج ودخل آخرهم ، أمر البحر أن يأخذهم ، فالتطم (٥) عليهم (٦).

[٢ / ١٨١٩] وعن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : لمّا أخذ عليهم فرعون الأرض إلى البحر قال لهم فرعون : قولوا لهم يدخلون البحر إن كانوا صادقين. فلمّا رآهم أصحاب موسى ، قالوا : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ)(٧) فقال موسى للبحر : ألست تعلم أنّي رسول الله؟ قال : بلى. قال : وتعلم أنّ هؤلاء عباد من عباد الله أمرني أن آتي بهم؟ قال : بلى. قال : أتعلم أنّ هذا عدوّ الله؟ قال : بلى. قال : فانفرق لي طريقا ولمن معي. قال : يا موسى ، إنّما أنا عبد مملوك ليس لي أمر إلّا أن يأمرني الله تعالى! فأوحى الله ـ عزوجل ـ إلى البحر : إذا ضربك موسى بعصاه فانفرق ، وأوحى إلى موسى أن يضرب البحر ، وقرأ قول الله تعالى : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى)(٨) وقرأ قوله : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً)(٩) سهلا ليس فيه تعدّ (١٠). فانفرق اثنتي عشرة فرقة ، فسلك كلّ سبط في طريق. قال : فقالوا لفرعون : إنّهم قد دخلوا البحر. قال : ادخلوا عليهم ، قال : وجبريل في آخر بني إسرائيل يقول لهم : ليلحق آخركم أوّلكم. وفي أوّل آل فرعون ، يقول لهم :

__________________

(١) الشعراء ٢٦ : ٦٣.

(٢) الطيقان : جمع طاق ، وهو عقد البناء.

(٣) الشعراء ٢٦ : ٦٤.

(٤) شامّ : تشمّم.

(٥) التطم عليهم : أطبق عليهم.

(٦) الطبري ١ : ٣٩٦ ـ ٣٩٧ / ٧٦٥.

(٧) الشعراء ٢٦ : ٦١ ـ ٦٢.

(٨) طه ٢٠ : ٧٧.

(٩) الدخان ٤٤ : ٢٤.

(١٠) أي إضرار بأحد.

٦٤

رويدا يلحق آخركم أوّلكم. فجعل كلّ سبط في البحر يقولون للسبط الّذين دخلوا قبلهم : قد هلكوا. فلمّا دخل ذلك قلوبهم ، أوحى الله جلّ وعزّ إلى البحر ، فجعل لهم قناطر ينظر هؤلاء إلى هؤلاء ، حتّى إذا خرج آخر هؤلاء ودخل آخر هؤلاء أمر الله البحر فأطبق على هؤلاء (١).

[٢ / ١٨٢٠] وروى الراوندي بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ فرعون بنى سبع مدائن ، فتحصّن فيها من موسى ، فلمّا أمره الله أن يأتي فرعون جاءه ودخل المدينة ، فلمّا رأته الأسود بصبصبت بأذنابها ، ولم يأت مدينة إلّا انفتح له بابها حتّى انتهى إلى التي هو فيها ، فقعد على الباب وعليه مدرعة من صوف ومعه عصاه ، فلمّا خرج الإذن ، قال له موسى ـ صلوات الله عليه ـ : إنّي رسول ربّ العالمين إليك. فلم يلتفت ، فضرب بعصاه الباب ، فلم يبق بينه وبين فرعون باب إلّا انفتح فدخل عليه ، فقال : أنا رسول ربّ العالمين. فقال : ائتنى بآية! فألقى عصاه وكان له شعبتان ، فوقعت إحدى الشعبتين في الأرض والشعبة الأخرى في أعلى القبّة ، فنظر فرعون إلى جوفها وهي تلهب نارا ، وأهوت إليه فأخذت فرعون ، وصاح يا موسى خذها ، ولم يبق أحد من جلساء فرعون إلّا هرب ، فلمّا أخذ موسى العصا ورجعت إلى فرعون نفسه همّ بتصديقه ، فقام إليه هامان وقال : بينا أنت إله تعبد إذ أنت تابع لعبد ؛ اجتمع الملأ وقالوا : هذا ساحر عليم ، فجمع السحرة لميقات يوم معلوم ، فلمّا ألقوا حبالهم وعصيّهم ألقى موسى عصاه فالتقمتها كلّها ، وكان في السحرة اثنان وسبعون شيخا خرّوا سجّدا. ثمّ قالوا لفرعون ما هذا سحر ، لو كان سحرا لبقيت حبالنا وعصينا. ثمّ خرج موسى ـ صلوات الله عليه ـ ببني إسرائيل يريد أن يقطع بهم البحر ، فأنجى الله موسى ومن معه وغرق فرعون ومن معه ، فلمّا صار موسى في البحر اتّبعه فرعون وجنوده ، فتهيب فرعون أن يدخل البحر ، فمثّل جبرئيل على ماديانة وكان فرعون على فحل ، فلمّا رأى قوم فرعون الماديانة اتّبعوها ، فدخلوا البحر فغرقوا ، وأمر الله البحر فلفظ فرعون ميتا حتّى لا يظن أنّه غائب وهو حيّ. ثمّ إنّ الله تعالى أمر موسى أن يرجع ببني إسرائيل إلى الشام ، فلمّا قطع البحر بهم مرّ على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا : يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهه؟ قال : إنّكم قوم تجهلون ، ثمّ ورث بنو إسرائيل ديارهم وأموالهم ، فكان الرجل يدور على دور كثيرة ويدور على النساء» (٢).

__________________

(١) الطبري ١ : ٣٩٧ / ٧٦٦.

(٢) قصص الأنبياء ـ الراوندي : ١٥٨ ـ ١٥٩ / ١٦٨.

٦٥

قلت : حديث غريب وفيه بعض المناكير.

[٢ / ١٨٢١] وجاء فيما ذكره الجزائري : فأوحى الله إلى موسى : (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) فخرج موسى ببني إسرائيل ليقطع بهم البحر ، وجمع فرعون أصحابه (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) وحشر الناس وقد تقدّم مقدمته في ستّمائة ألف وركب هو في ألف وألف وخرج ، كما حكى الله ـ عزوجل ـ : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) فلمّا قرب موسى من البحر وقرب فرعون من موسى قال أصحاب موسى : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ)(١) ـ أي سينجيني ـ فدنا موسى من البحر فقال له : انفرق ، فقال له البحر : استكبرت يا موسى أن تقول لي : انفرق ولم أعص الله طرفة عين وقد كان فيكم العاصي ، فقال له موسى : فاحذر أن تعصي ، وقد علمت أنّ آدم أخرج من الجنّة بمعصيته ، وإنّما لعن إبليس بمعصيته! قال البحر : عظيم ربّي مطاع أمره. فقام يوشع بن نون فقال لموسى : يا رسول الله ما أمرك ربّك؟ فقال : بعبور البحر ، فاقتحم فرسه الماء ، وأوحى الله إلى موسى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) فضربه ، فكان كلّ فرق كالطود العظيم فضرب له في البحر اثنى عشر طريقا فأخذ كلّ سبط في طريق ، فكان قد ارتفع الماء وبقيت الأرض يابسة طلعت فيها الشمس ويبست ودخل موسى البحر وكان أصحابه اثنى عشر سبطا ، فضرب الله لهم في البحر اثني عشر طريقا ، فأخذ كلّ سبط في طريق وكان الماء قد ارتفع على رؤوسهم مثل الجبال فجزعت الفرقة التي كانت مع موسى في طريقه فقالوا : يا موسى أين إخواننا؟ فقال لهم : معكم في البحر ، فلم يصدّقوه ، فأمر الله البحر فصار طرقات حتّى كان ينظر بعضهم إلى بعض ويتحدّثون وأقبل فرعون بجنوده فلمّا انتهى إلى البحر قال لأصحابه : ألا تعلمون أنّ ربّكم الأعلى قد فرج لكم البحر؟ فلم يجسر أحد أن يدخل البحر وامتنعت الخيل منه لهول الماء ، فتقدّم فرعون فقال له منجمّه : لا تدخل البحر وعارضه ، فلم يقبل منه وأقبل إلى فرس حصان فامتنع الفرس أن يدخل الماء ، فعطف عليه جبرئيل عليه‌السلام وهو على ماديانة فتقدّمته ودخل فنظر إلى الرمكة (٢) فطلبها ودخل البحر واقتحم أصحابه خلفه ، فلمّا دخلوا كلّهم حتّى كان آخر من دخل من أصحابه وآخر من خرج من أصحاب موسى ، أمر الرياح فضربت البحر بعضه ببعض ، فأقبل الماء يقع عليه مثل الجبال فقال فرعون عند ذلك : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

__________________

(١) الشعراء ٢٦ : ٥٢ ـ ٦٢.

(٢) الرمكة : البرذونة تتّخذ للنسل.

٦٦

فأخذ جبرئيل كفّا من حماة (طين أسود) فوضعها في فيه ثمّ قال : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ)(١). وذلك أنّ قوم فرعون ذهبوا أجمعين في البحر وهووا من البحر إلى النار. وأمّا فرعون فنبذه الله وحده وألقاه بالساحل ، لينظروا إليه وليعرفوه وليكون لمن خلفه آية ولئلا يشكّ أحد في هلاكه وأنّهم كانوا اتّخذوه ربّا ، فأراهم الله إيّاه جيفة ملقاة بالساحل ، ليكون لمن خلفه عبرة (٢).

وهذا حديث أغرب وأشبه بقصص القصّاصين!

***

قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). قال الثعلبي إلى مصارعهم (٣).

وقال الفرّاء : قد كانوا في شغل من أن ينظروا ، مستورين بما اكتنفهم من البحر أن يروا فرعون وغرقه ، ولكنّه في الكلام كقولك : قد ضربت وأهلك ينظرون ، فما أتوك ولا أغاثوك ؛ يقول : فهم قريب بمرأى ومسمع.

ومثله في القرآن : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ)(٤). وليس هاهنا رؤية إنّما هو علم. فرأيت ، يكون على مذهبين : رؤية العلم ورؤية العين ؛ كما تقول : رأيت فرعون أعتى الخلق وأخبثه ، ولم تره ، إنّما هو : بلغك ؛ ففي هذا بيان (٥).

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : وهذا الذي ذكره الفرّاء محتمل مليح ، غير أنّه مخالف لقول المفسّرين كلّهم ، فإنّهم لا يختلفون أنّ أصحاب موسى رأوا انفراق البحر والتطام أمواجه بآل فرعون حتّى غرقوا ، فلا وجه للعدول عن الظاهر مع احتماله. ولأنّهم إذا عاينوا ذلك كان أشدّ في قيام الحجّة ، وأعظم في ظهور الآية (٦).

وقال أبو جعفر الطبري : ويعني بقوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي تنظرون إلى فرق الله لكم البحر وإهلاكه آل فرعون في الموضع الذي نجّاكم فيه ، وإلى عظيم سلطانه في الّذي أراكم من طاعة البحر

__________________

(١) يونس ١٠ : ٩٠ ـ ٩٢.

(٢) قصص الأنبياء ـ الجزائري : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

(٣) الثعلبي ١ : ١٩٤.

(٤) الفرقان ٢٥ : ٤٥.

(٥) معاني القرآن للفرّاء ١ : ٣٦.

(٦) التبيان ١ : ٢٩٩ ـ ٢٣٠.

٦٧

إيّاه من مصيره ركاما فلقا (١) كهيئة الأطواد الشامخة غير زائل عن حدّه ، انقيادا لأمر الله وإذعانا لطاعته ، وهو سائل ذائب قبل ذلك ؛ يوقفهم بذلك ـ جلّ ذكره ـ على موضع حججه عليهم ، ويذكّرهم آلاءه عند أوائلهم ، ويحذّرهم في تكذيبهم نبيّنا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحلّ بهم ما حلّ بفرعون وآله في تكذيبهم موسى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : وقد زعم بعض أهل العربيّة (يعني به الفرّاء) أنّ معنى قوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) كمعنى قول القائل : «ضربت وأهلك ينظرون ، فما أتوك ولا أعانوك» بمعنى : وهم قريب بمرأى ومسمع ، وكقول الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ)(٢) وليس هناك رؤية ، إنّما هو علم.

قال : والذي دعاه إلى هذا التأويل أنّه وجّه قوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) : أي وأنتم تنظرون إلى غرق فرعون. فقال : قد كانوا في شغل من أن ينظروا ، ممّا اكتنفهم من البحر ، إلى فرعون وغرقه.

وليس التأويل الذي تأوّله تأويل الكلام ، إنّما التأويل : وأنتم تنظرون إلى فرق الله البحر لكم على ما قد وصفنا آنفا ، والتطام أمواج البحر بآل فرعون في الموضع الذي صيّر لكم في البحر طريقا يبسا ، وذلك كان ـ لا شكّ ـ نظر عيان لا نظر علم كما ظنّه قائل هذا القول الذي حكينا قوله (٣).

وذكر الشيخ وجها آخر ـ عن الزجّاج ـ قال : معناه : وأنتم بإزائهم. كما يقول القائل : دور آل فلان تنظر إلى دور آل فلان ، أي هي بإزائها ، لأنّها لا تبصر. قال الطبرسي : أي هي بإزائها وبحيث لو كان مكانها ما ينظر ، لأمكنه النظر إليها. قال : وهو قول الزجّاج (٤).

[٢ / ١٨٢٢] وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده إلى ابن عبّاس قال : فلمّا جاوز أصحاب موسى عليه‌السلام البحر ، قالوا : إنّا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ، ولا نؤمن بهلاكه ، فدعا ربّه تبارك وتعالى فأخرجه لهم ببدنه حتّى يستيقنوا (٥).

__________________

(١) الركام : المجتمع بعضه فوق بعض. والفلق جمع فلقة ، وهي الشقّ.

(٢) الفرقان ٢٥ : ٤٥.

(٣) الطبري ١ : ١١٤.

(٤) مجمع البيان ١ : ١٠٧ ؛ التبيان ١ : ٢٣٠.

(٥) ابن أبي حاتم ١ : ١٠٧ / ٥١٠.

٦٨

قال تعالى :

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢))

قرأ أبو جعفر وابو عمرو ويعقوب : «وعدنا» بغير ألف في جميع القرآن ، وقرأ الباقون : (واعَدْنا) بالألف وهي قراءة ابن مسعود (١).

[٢ / ١٨٢٣] قال مقاتل بن سليمان في قوله : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى) يعني الميعاد (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) يعني ثلاثين من ذي القعدة وعشر ليال من ذي الحجّة فكان الميعاد الجبل ليعطى التوراة (٢).

[٢ / ١٨٢٤] وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) قال : ذا القعدة وعشرا من ذي الحجّة ، وذلك حين خلّف موسى أصحابه واستخلف عليهم هارون ، فمكث على الطور أربعين ليلة وأنزل عليه التوراة في الألواح ، فقرّبه الربّ نجيّا وكلّمه وسمع صرير القلم (٣) ، وبلغنا أنّه لم يحدث حدثا في الأربعين ليلة حتّى هبط من الطور (٤). (٥).

[٢ / ١٨٢٥] وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق ، قال : وعد الله موسى حين أهلك فرعون وقومه ، ونجّاه وقومه ، ثلاثين ليلة ، ثمّ أتمّها بعشر ، فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة ، تلقّاه ربّه فيها بما شاء. واستخلف موسى هارون على بني إسرائيل ، وقال : إنّي متعجّل إلى ربّي فاخلفني في قومى ولا تتّبع سبيل المفسدين! فخرج موسى إلى ربّه متعجّلا للقائه شوقا إليه ، وأقام هارون في بني إسرائيل ومعه السامريّ يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به (٦).

__________________

(١) الثعلبي ١ : ١٩٤.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٠٤.

(٣) ذكرنا أنّ التوراة هي أحكام الشريعة نزلت على موسى فكتبها في الألواح التي كانت معه .. ولم يعلم معنى «صرير القلم» قلم من؟

(٤) هذا أيضا عجيب ولعلّه من غرائب القصّاصين.

(٥) الدرّ ١ : ١٦٧ ـ ١٦٨ ؛ الطبري ١ : ٤٠٠ ـ ٤٠١ / ٧٦٩ ؛ قال : وعن الربيع نحوه ؛ التبيان ١ : ٢٣٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٠٧ / ٥١١.

(٦) الطبري ١ : ٤٠١ / ٧٧٠.

٦٩

[٢ / ١٨٢٦] وعن السدّي ، قال : انطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل ، وواعدهم ثلاثين ليلة وأتمّها الله بعشر (١).

هل كانت المواعدة على أربعين أم على ثلاثين؟

جاء في سورة البقرة (٥١) : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).

وفي سورة الأعراف (١٤٢) : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.)

[٢ / ١٨٢٧] روى العيّاشي بالإسناد إلى محمّد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «كان في العلم والتقدير ثلاثين ليلة ، ثمّ بدا لله فزاد عشرا. فتمّ ميقات ربّه ، الأوّل والآخر ، أربعين ليلة» (٢).

يبدو من هذا الحديث أنّ هناك كانت مواعدتان ، أولاهما : ثلاثون ليلة وهي التي أبداها الله لموسى في بدء الأمر لغرض الحضور لديه في الميقات. ولم يظهر من القرآن أنّ موسى أخبر قومه بهذه المدّة أي الثلاثين ليلة.

والمواعدة الأخرى كانت بعد إتمام الثلاثين ، ولم يكن نبّأ الله موسى بها من قبل. بل بعد ذلك لدى الحاجة إلى البيان. وتأخير البيان إلى وقت الحاجة إليه ، أمر جائز في التكليف ، كما قرّره علماء الأصول. إذ قد تكون الحكمة في هذا التأخير ، اختبار المكلّف بالتوطين على الاصطبار.

وهذا معنى قوله عليه‌السلام : «ثمّ بدا لله فزاد عشرا» أي بدت حكمته تعالى في زيادة العشر على الثلاثين ، الأمر الذي كان خافيا على موسى من قبل ، فأظهره الله له عند الحاجة إليه.

قال سيّدنا العلّامة الطباطبائي : «وقد ذكر الله ـ سبحانه ـ المواعدة وأخذ أصلها ثلاثين ليلة ، ثمّ أتمّها بعشر ليال أخر ، ثمّ ذكر الفذلكة وهي أربعون. وأمّا الذي ذكره في موضع آخر (سورة البقرة : ٥١) : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) فهو المجموع المتحصّل من المواعدتين .. وبالجملة : يعود المعنى إلى أنّه تعالى وعده ثلاثين ليلة للميقات ، ثمّ وعده عشرا آخر لإتمام ذلك ، فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة» (٣).

__________________

(١) المصدر / ٧٧١.

(٢) العيّاشي ١ : ٦٣ / ٤٦ ؛ البحار ١٣ : ٢٢٦ ـ ٢٢٧ / ٢٧ ، باب ٧.

(٣) الميزان ٨ : ٢٤٧.

٧٠

وقال ـ في تفسير سورة البقرة ـ : «عدّ المواعدة أربعين إمّا للتغليب أو لأنّه كانت العشرة الأخيرة بمواعدة أخرى ، فالأربعون مجموع المواعدتين ، كما وردت به الرواية. وذكر الرواية على ما أسلفنا» (١).

ذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي عن أبي علي الجبّائي وأبي بكر بن إخشاذ ـ واسمه أحمد بن عليّ ـ : أنّ هذه المواعدة (أربعين ليلة) هنا في سورة البقرة ، هي التي جاءت في سورة الأعراف (ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ).

قال : ومن الناس من قال : هي غيرها.

قال الشيخ : والأوّل أظهر .. وإنّما ذكر الثلاثين وأتمّها بعشر ، والأربعون قد تكمل بعشرين وعشرين! لأنّ الثلاثين أراد بها ذا القعدة أو ذا الحجّة ، فذكر هذا العدد لمكان الشهر ، ثمّ ذكر ما يتمّ به العدد أربعين ليلة (٢).

قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ)

[٢ / ١٨٢٨] قال مقاتل بن سليمان : وكان موسى عليه‌السلام أخبر بني إسرائيل بمصر «فقال لهم» : إذا خرجنا منها أتيناكم من الله ـ عزوجل ـ بكتاب يبيّن لكم فيه ما تأتون وما تتّقون ، فلمّا فارقهم موسى مع السبعين واستخلف هارون أخاه عليهم اتّخذوا العجل ، فذلك قوله ـ سبحانه ـ (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) يقول من بعد انطلاق موسى إلى الجبل (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) وذلك أنّ موسى قطع البحر يوم العاشر من المحرّم فقال بنو إسرائيل : وعدتنا يا موسى أن تأتينا بكتاب من ربّنا إلى شهر فأتنا بما وعدتنا ، فانطلق موسى وأخبرهم أنّه يرجع إلى أربعين يوما عن أمر ربّه ـ عزوجل ـ فلمّا سار موسى فدنا من الجبل ، أمر السبعين أن يقيموا في أصل الجبل وصعد موسى الجبل فكلّم ربّه ـ تبارك اسمه ـ وأخذ الألواح فيها التوراة ، فلمّا مضى عشرون يوما قالوا : أخلفنا موسى العهد فعدّوا عشرين يوما وعشرين ليلة ، فقالوا : هذا أربعون يوما ، فاتّخذوا العجل ، فأخبر الله ـ عزوجل ـ موسى بذلك على الجبل ، فقال موسى «لربّه» : من صنع لهم العجل؟ قال : السامريّ صنعه لهم ، قال موسى لربّه :

__________________

(١) المصدر ١ : ١٩٠ و ١٩١.

(٢) التبيان ١ : ٢٣٨.

٧١

فمن نفخ فيه الروح؟ قال الربّ ـ عزوجل ـ : أنا ، فقال موسى : يا ربّ ، السامري صنع لهم العجل فأضلّهم ، وصنعت فيه الخوار ، فأنت فتنت قومي (١). فمن ثمّ قال الله ـ عزوجل ـ (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) يعني الّذين خلّفهم مع هارون سوى السبعين ، حين أمرهم بعبادة العجل ، فلمّا نزل موسى من الجبل إلى السبعين أخبرهم بما كان ولم يخبرهم بأمر العجل ، فقال السبعون لموسى : نحن أصحابك جئنا معك ، ولم نخالفك في أمر ، ولنا عليك حقّ ، فأرنا الله جهرة ـ يعني معاينة ـ كما رأيته فقال موسى : والله ما رأيته ، ولقد أردته على ذلك فأبى وتجلّى للجبل فجعله دكّا. يعني فصار دكّا وكان أشدّ منّي وأقوى. فقالوا : إنّا لا نؤمن بك ولا نقبل ما جئت به حتّى تريناه معاينة! فلمّا قالوا ذلك أخذتهم الصاعقة ، يعني الموت عقوبة. فذلك قوله ـ سبحانه ـ : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) يعني الموت نظيرها (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) يعني ميتا وكقوله ـ عزوجل ـ : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ) يعني فمات (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) يعني السبعين (٢).

[٢ / ١٨٢٩] وقال عليّ بن إبراهيم القمّي : إنّ موسى عليه‌السلام لمّا وعده الله أن ينزل عليه التوراة والألواح إلى ثلاثين يوما ، أخبر بني إسرائيل بذلك وذهب إلى الميقات وخلّف هارون على قومه ، فلمّا جاءت الثلاثون يوما ولم يرجع موسى إليهم غضبوا وأرادوا أن يقتلوا هارون ؛ قالوا : إنّ موسى كذبنا وهرب منّا ، فجاءهم إبليس في صورة شيخ وقال لهم : إنّ موسى قد هرب منكم ولا يرجع إليكم أبدا فاجمعوا إليّ حليّكم حتّى أتّخذ لكم إلها تعبدونه ، وكان للسامريّ يوم أغرق فرعون وأصحابه على مقدّمة موسى وهو من خيار من اختّصه موسى ، فنظر إلى جبرئيل عليه‌السلام وهو على مركوب في صورة رمكة (٣) فكانت كلّما وضعت حافرها على موضع من الأرض تحرّك موضع حافرها ، فجعل السامريّ يأخذ التراب من تحت حافر رمكة جبرئيل عليه‌السلام وكان يتحرّك فصرّه في صرّة وحفظه وكان يفتخر به على بني إسرائيل ، فلمّا اتّخذ إبليس لهم العجل قال للسامريّ : هات التراب الذي عندك ، فأتاه به ، فألقاه إبليس في جوف العجل ، فتحرّك وخار ونبت له الوبر والشعر فسجد بنو إسرائيل للعجل وكان عدد من سجد له سبعين ألفا.

__________________

(١) هذا حديث خرافة ، وليس من أدب الأنبياء أن يواجهوا الربّ تعالى بهكذا سخائف تتناسب وعقليّة القصّاصين الأغبياء.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٠٤ ـ ١٠٥.

(٣) الرمكة ـ محرّكة ـ أنثى الخيل (البرذونة) تتّخذ للنسل.

٧٢

فقال لهم هارون ـ كما حكى الله ـ : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي. قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى)(١). فهمّوا بهارون حتّى هرب من بينهم وبقوا في ذلك حتّى تمّ ميقات موسى أربعين ليلة. فلمّا كان يوم عشرة من ذي الحجّة أنزل الله عليه الألواح فيها التوراة (٢) وما يحتاجون إليه من أحكام السير والقصص (٣). ثمّ أوحى الله إلى موسى : (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ)(٤). وعبدوا العجل وله خوار! فقال موسى : يا ربّ ، العجل من السامريّ ، فالخوار ممّن؟ فقال : منّي يا موسى ، إنّي لمّا رأيتهم قد ولّوا عنّي إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة (٥)! (٦)

هذا حديث غريب. ذكره القمّي في تفسير سورة طه.

وله حديث أغرب ذكره هنا :

[٢ / ١٨٣٠] قال : وأمّا قوله (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) الآية ، فإنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أوحى إلى موسى عليه‌السلام إنّي أنزل عليكم التوراة وفيها الأحكام التي يحتاج إليها ، إلى أربعين يوما ، وهو ذو القعدة وعشرة من ذي الحجّة ، فقال موسى عليه‌السلام لأصحابه : إنّ الله قد وعدني أن ينزل عليّ التوراة والألواح إلى ثلاثين يوما. وقد أمره الله أن لا يقول لهم إلى أربعين يوما فتضيق صدورهم (٧).

حديث غريب كيف يواري نبيّ الله بالخبر عن الله ، وإذ ليس فيه حكمة بل فيه إغراء بالجهل والمزيد من الغواية!

[٢ / ١٨٣١] وفي التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : أنّ موسى بن عمران كان يقول لبني

__________________

(١) طه ٢٠ : ٩٠ ـ ٩١.

(٢) من الثابت : أنّ الألواح لم تنزل من السماء ، وإنّما كان موسى قد أخذ معه الألواح ليكتب فيها ما يوحى إليه ربّه من أحكام الشريعة.

(٣) ليست السير والقصص الواردة في العهد القديم من وحي السماء ، إنّما هي ثبت تواريخ سجّلتها يراعة الكتّاب طول عهد حياة إسرائيل.

(٤) طه ٢٠ : ٨٥.

(٥) حاشا الربّ تعالى أن يغشّ عباده بفعل ما يوجب إضلالهم والمزيد من غوايتهم. وهذا غير الإضلال بمعنى الخذلان الذي هو تركهم وما يعمهون. نعم ، هي فرية أشبه بخرافات القصّاصين كما مرّ عليك في حديث مقاتل.

(٦) القمّي ٢ : ٦٢ في تفسير سورة طه.

(٧) المصدر ١ : ٤٧.

٧٣

إسرائيل : إذا فرّج الله عنكم وأهلك أعداءكم أتيتكم بكتاب من ربّكم يشتمل على أوامره ونواهيه ومواعظه وعبره وأمثاله ، فلمّا فرّج الله عنهم أمر الله ـ عزوجل ـ أن يأتي للميعاد ويصوم ثلاثين يوما عند أصل الجبل ، وظنّ موسى أنّه بعد ذلك يعطيه الكتاب ، فصام موسى ثلاثين يوما ، فلمّا كان في آخر الأيّام استاك قبل الفطر ، فأوحى الله ـ عزوجل ـ إليه : يا موسى أما علمت أنّ خلوف (١) فم الصائم أطيب عندي من رائحة المسك؟ صم عشرا آخر ولا تستك عند الإفطار ، ففعل ذلك موسى عليه‌السلام ، وكان وعد الله أن يعطيه الكتاب بعد أربعين ليلة ، فأعطاه إيّاه. فجاء السامريّ ، فشبّه على مستضعفي بني إسرائيل وقال : وعدكم موسى أن يرجع إليكم بعد أربعين ليلة ، وهذه عشرون ليلة وعشرون يوما تمّت أربعون ، أخطأ موسى ربّه وقد أتاكم ربّكم أراد أن يريكم أنّه قادر على أن يدعوكم إلى نفسه بنفسه ، وأنّه لم يبعث موسى لحاجة منه إليه ، فأظهر لهم العجل الذي كان عمله ، فقالوا له : كيف يكون العجل إلها؟ قال لهم : إنّما هذا العجل مكلّمكم منه ربّكم كما كلّم موسى من الشجرة ، فالإله في العجل كما كان في الشجرة ، فضلّوا بذلك وأضلّوا.

فقال موسى عليه‌السلام : يا أيّها العجل أكان فيك ربّنا كما يزعم هؤلاء؟ فنطق العجل وقال : عزّ ربّنا عن أن يكون العجل حاويا له أو شيء من الشجر والأمكنة عليه مشتملا ولا له حاويا لا والله يا موسى ، ولكن السامريّ نصب عجلا مؤخّره إلى الحائط وحفر في الجانب الآخر في الأرض وأجلس فيه بعض مردته ، فهو الذي وضع فاه على دبره وتكلّم لمّا قال : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى)(٢). (٣).

وهذا الحديث يزيد في غرابته نكارة محتواه : كيف يكون الاستياك ـ وهو عمل مندوب إليه ـ مستكرها يوجب عتاب فاعله واستحقاق التشديد عليه بالتكليف.

ثمّ فيه إغراء بالجهلة أن لا يستاكوا عند الإفطار ، حيث قوله : «أما علمت أنّ خلوف فم الصائم أطيب؟!» فقد كان موسى يعلم ذلك لكنّه تناساه!!. اللهمّ ان هذا إلّا اختلاق!

[٢ / ١٨٣٢] وهكذا ما رواه ابن جرير عن السدّي : لمّا أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل ـ يعني من أرض مصر ـ أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا وأمرهم أن يستعيروا الحليّ من القبط! فلمّا نجّى الله موسى ومن معه من بني إسرائيل من البحر ، وغرق آل فرعون ، أتى جبريل إلى موسى

__________________

(١) خلوف فم الصائم : رائحته الكريهة.

(٢) طه ٢٠ : ٨٨.

(٣) تفسير الإمام : ٢٤٧ ـ ٢٥٢ / ١٢٢.

٧٤

يذهب به إلى الله ، فأقبل على فرس فرآه السامريّ ، فأنكره ، وقال : إنّه فرس الحياة (!) فقال حين رآه : إنّ لهذا لشأنا. فأخذ من تربة الحافر حافر الفرس. فانطلق موسى ، واستخلف هارون على بني إسرائيل ، وواعدهم ثلاثين ليلة ، وأتمّها الله بعشر. فقال لهم هارون : يا بني إسرائيل! إنّ الغنيمة لا تحلّ لكم ، وإنّ حليّ القبط إنّما هو غنيمة ، فاجمعوها جميعا ، واحفروا لها حفرة فادفنوها ، فإن جاء موسى فأحلّها أخذتموها! وإلّا كان شيئا لم تأكلوه. فجمعوا ذلك الحليّ في تلك الحفرة ، وجاء السامريّ بتلك القبضة ، فقذفها ، فأخرج الله من الحليّ عجلا جسدا له خوار. وعدّت بنو إسرائيل موعد موسى ، فعدّوا الليلة يوما واليوم يوما ، فلمّا كان تمام العشرين خرج لهم العجل ؛ فلمّا رأوه قال لهم السامريّ : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ)(١) يقول : ترك موسى إلهه هاهنا وذهب يطلبه. فعكفوا عليه يعبدونه. وكان يخور ويمشي! فقال لهم هارون : يا بني إسرائيل (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ)(٢) يقول : إنّما ابتليتم به ـ يقول : بالعجلّ ـ وإنّ ربّكم الرحمان. فأقام هارون ومن معه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم. وانطلق موسى إلى إلهه يكلّمه ، فلمّا كلّمه قال له : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى. قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى. قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ)(٣) فأخبره خبرهم. قال موسى : يا ربّ هذا السامريّ أمرهم أن يتّخذوا العجل ، أرأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الربّ : أنا. قال : ربّ أنت إذن أضللتهم (!!) (٤).

[٢ / ١٨٣٣] وعن ابن عبّاس ، قال : لمّا هجم فرعون على البحر هو وأصحابه ، وكان فرعون على فرس أدهم ذنوب حصان ؛ فلمّا هجم على البحر هاب الحصان أن يقتحم في البحر ، فتمثّل له جبريل على فرس أنثى وديق ، فلمّا رآها الحصان تقحّم خلفها. قال : وعرف السامريّ جبريل ، لأنّ أمّه حين خافت أن يذبح ، خلّفته في غار ، وأطبقت عليه ، فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه ، فيجد في بعض أصابعه لبنا ، وفي الأخرى عسلا ، وفي الأخرى سمنا. فلم يزل يغذوه حتّى نشأ ، فلمّا عاينه في البحر عرفه ، فقبض قبضة من أثر فرسه. قال : أخذ من تحت الحافر قبضة. قال سفيان : فكان ابن مسعود يقرأها : «فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول». قال أبو سعيد ، قال عكرمة ، عن ابن عبّاس :

__________________

(١) طه ٢٠ : ٨٨.

(٢) طه ٢٠ : ٩٠.

(٣) طه ٢٠ : ٨٣ ـ ٨٥.

(٤) الطبري ١ : ٤٠٢ ـ ٤٠٣ / ٧٧٣ ؛ البغوي ١ : ١١٧.

٧٥

وألقي في روع (١) السامريّ أنّك لا تلقيها على شيء فتقول كن كذا وكذا إلّا كان. فلم تزل القبضة معه في يده حتّى جاوز البحر. فلمّا جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر ، وأغرق الله آل فرعون ، قال موسى لأخيه هارون : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ)(٢) ومضى موسى لموعد ربّه. قال : وكان مع بني إسرائيل حليّ من حليّ آل فرعون قد تعوّروه (٣) ، فكأنّهم تأثّموا منه ، فأخرجوه لتنزل النار فتأكله ، فلمّا جمعوه ، قال السامريّ بالقبضة (٤) التي كانت في يده هكذا ، فقذفها فيه ـ وأومأ ابن إسحاق بيده هكذا ـ وقال : كن عجلا جسدا له خوار! فصار عجلا جسدا له خوار. وكان يدخل الريح في دبره ويخرج من فيه يسمع له صوت ، فقال : هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا على العجل يعبدونه ، فقال هارون : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي. قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى)(٥). (٦)

[٢ / ١٨٣٤] وعن ابن إسحاق ، قال : كان فيما ذكر لي أنّ موسى قال لبني إسرائيل فيما أمره الله عزوجل به : استعيروا منهم ـ يعني من آل فرعون ـ الأمتعة والحليّ والثياب ، فإنّي منفّلكم (٧) أموالهم مع هلاكهم. فلمّا أذن فرعون في الناس ، كان ممّا يحرّض به على بني إسرائيل أن قال ـ حين سار ـ : ولم يرضوا أن يخرجوا بأنفسهم حتّى ذهبوا بأموالكم معهم. (٨)

[٢ / ١٨٣٥] وقال الحسن : صار العجل لحما ودما. وقال غيره : لا يجوز ذلك لأنّه من معجزات الأنبياء. ومن وافق الحسن قال : إنّ القبضة من أثر الملك كان الله قد أجرى العادة بأنّها إذا طرحت على أيّ صورة كانت حييت ، فليس ذلك بمعجزة ، إذ سبيل السامريّ فيه سبيل غيره.

ومن لم يجز انقلابه حيّا ، تأوّل الخوار على أنّ السامريّ صاغ عجلا ، وجعل فيه خروقا يدخلها الريح ، فيخرج منها صوت كالخوار ، ودعاهم إلى عبادته فأجابوه وعبدوه ، عن أبي عليّ الجبّائي (٩).

[٢ / ١٨٣٦] وقال قتادة : كان السامريّ من بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة (١٠)! ورأى موضع

__________________

(١) الروع : القلب والعقل.

(٢) الأعراف ٧ : ١٤٣.

(٣) تعوّروه : أخذوه عارية.

(٤) قال بالقبضة : أي أشار.

(٥) طه ٢٠ : ٩٠ ـ ٩١.

(٦) الطبري ١ : ٤٠١ ـ ٤٠٢ / ٧٧٢.

(٧) نفّله الشيء : جعله نفلا ، أي غنيمة مستباحة.

(٨) الطبري ١ : ٤٠٣ / ٧٧٤.

(٩) مجمع البيان ١ : ٢١٣ ؛ التبيان ١ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(١٠) معرّب شمرون حسبما يأتى الكلام عنه.

٧٦

قدم الفرس تخضرّ من ذلك ، وكان منافقا أظهر الإسلام ، وكان من قوم يعبدون البقر ، فلمّا رأى جبريل على ذلك الفرس ، فقال : إنّ لهذا لشأنا وأخذ قبضة من تربة حافر فرس جبريل عليه‌السلام ، قال عكرمة : ألقي في روعه أنّه إذا ألقي في شيء غيره حيي ، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حليّا كثيرة من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لعلّة عرس لهم فأهلك الله فرعون وبقيت تلك الحليّ في أيدي بني إسرائيل ، فلمّا فصل موسى قال هارون لبني إسرائيل : إنّ الحليّ التي استعرتموها من قوم فرعون غنيمة لا تحلّ لكم فاحفروا حفرة وادفنوها فيها حتّى يرجع موسى ، فيرى فيها رأيه (١).

[٢ / ١٨٣٧] وعن ابن عبّاس ، قال : كان السامريّ رجلا من أهل باجرما (٢) ، وكان من قوم يعبدون البقر ، وكان حبّ عبادة البقر في نفسه ، وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل. فلمّا فضّل هارون في بني إسرائيل وفصل موسى إلى ربّه ، قال لهم هارون : أنتم قد حمّلتم أوزارا من زينة القوم ـ آل فرعون ـ وأمتعة وحليّا ، فتطهّروا منها ، فإنّها نجس. وأوقد لهم نارا ، فقال : اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها! قالوا : نعم. فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة وذلك الحليّ ، فيقذفون به فيها ، حتّى إذا تكسر الحليّ فيها ، وكان قد رأى السامريّ أثر فرس جبريل وأخذ ترابا من أثر حافره ، ثمّ أقبل إلى النار فقال لهارون : يا نبيّ الله ألقي ما في يدي؟ قال : نعم. ولا يظنّ هارون إلّا أنّه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الحليّ والأمتعة. فقذفه فيها فقال : كن عجلا جسدا له خوار! فكان! للبلاء والفتنة ، فقال : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى)(٣) فعكفوا عليه ، وأحبّوه حبّا لم يحبّوا مثله شيئا قطّ. يقول الله عزوجل : (فَنَسِيَ)(٤) أي ترك ما كان عليه من الإسلام ، يعني السامريّ ، (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً)(٥) وكان اسم السامريّ موسى بن ظفر! (٦) وقع في أرض مصر ، فدخل في بني إسرائيل. فلمّا رأى هارون ما وقعوا فيه قال : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي. قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى)(٧) فأقام هارون فيمن معه

__________________

(١) البغوي ١ : ١١٦ ـ ١١٧.

(٢) قرية من أعمال البليغ قرب الرقّة من أرض الجزيرة شمالي العراق. وأين هذه من وادي سيناء؟!

(٣) طه ٢٠ : ٨٨.

(٤) طه ٢٠ : ٨٨.

(٥) طه ٢٠ : ٨٩.

(٦) قيل : كان اسمه ميخا. مجمع البيان ١ : ١٠٩ (ط إسلامية).

(٧) طه ٢٠ : ٩٠ ـ ٩١.

٧٧

من المسلمين ممّن لم يفتتن ، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل. وتخوّف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى : (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)(١). وكان له هائبا مطيعا (٢). قلت : لعلّك تجد من هذا التهافت والتناقض دليلا على الاختلاق ، فحسبك!

[٢ / ١٨٣٨] وعن مجاهد في قوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) قال : العجل حسيل (٣) البقرة. قال : حليّ استعاروه من آل فرعون ، فقال لهم هارون : أخرجوه فتطهّروا منه وأحرقوه! وكان السامريّ قد أخذ قبضة من أثر فرس جبريل ، فطرحه فيه فانسبك ، وكان له كالجوف تهوي فيه الرياح (٤).

[٢ / ١٨٣٩] وعن ابن زيد : لمّا أنجى الله ـ عزوجل ـ بني إسرائيل من فرعون ، وأغرق فرعون ومن معه ، قال موسى لأخيه هارون : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(٥) قال : لمّا خرج موسى وأمر هارون بما أمره به ، وخرج موسى متعجّلا مسرورا إلى الله. قد عرف موسى أنّ المرء إذا نجح في حاجة سيّده كان يسرّه أن يتعجّل إليه. قال : وكان حين خرجوا استعاروا حليّا وثيابا من آل فرعون ، فقال لهم هارون : إنّ هذه الثياب والحليّ لا تحلّ لكم ، فاجمعوا نارا ، فألقوه فيها فأحرقوه! قال : فجمعوا نارا. قال : وكان السامريّ قد نظر إلى أثر دابّة جبريل ، وكان جبريل على فرس أنثى ، وكان السامريّ في قوم موسى. قال : فنظر إلى أثره فقبض منه قبضة ، فيبست عليها يده ؛ فلمّا ألقى قوم موسى الحليّ في النار ، وألقى السامريّ معهم القبضة ، صوّر الله ـ جلّ وعزّ ـ ذلك لهم عجلا ذهبا ، فدخلته الريح ، فكان له خوار ، فقالوا : ما هذا؟ فقال : السامريّ الخبيث : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ ...) الآية ، إلى قوله : (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى)(٦) قال : حتّى إذا أتى موسى الموعد ، قال الله : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى. قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) فقرأ حتّى بلغ : (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ)(٧). (٨).

__________________

(١) طه ٢٠ : ٩٤.

(٢) الطبري ١ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤ / ٧٧٥ ؛ مجمع البيان ١ : ٢١٣ ، بتفاوت إلى قوله : فدخل في بني إسرائيل ؛ التبيان ١ : ٢٣٧ ، بتفاوت ، إلى قوله : يقول الله عزوجل فَنَسِيَ.

(٣) حسيل البقرة : ولدها.

(٤) الطبري ١ : ٤٠٥ / ٧٧٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٠٨ / ٥١٣ و ٥٢٤. وفيه : «العجل حسيل البقرة ـ ولد البقرة ـ».

(٥) الأعراف ٧ : ١٤٢.

(٦) طه ٢٠ : ٨٨ ـ ٩١.

(٧) طه ٢٠ : ٨٤ ـ ٨٦.

(٨) الطبري ١ : ٤٠٤ ـ ٤٠٥ / ٧٧٦.

٧٨

قصّة العجل والسامريّ

ما جاء بشأن العجل والسامريّ أكثره خرافة إسرائيليّة نحتتها عقول هزيلة جاهلة بمواضع رسالات الله الصافية النقيّة.

ويكفيك أن تجد نصّ العهد القديم يخالف نصّ القرآن الكريم في كثير من مواقف إسرائيليّة المتعنّتة ، ومنها قصّة العجل الذي اتّخذوه إلها من دون الله ، فور أن فارقهم نبيّ الله موسى عليه‌السلام لبضعة أيّام ، ذلك النبيّ الذي أعاد عليهم شخصيّتهم الكريمة وأنجاهم من ذلك الكرب العظيم.

انظر إلى التوراة تنسب صنع العجل إلى هارون ، خليفة موسى في الدعوة إلى الله ونبذ الأنداد.

جاء في سفر الخروج : أنّ موسى عليه‌السلام لمّا أبطأ على بني إسرائيل طلبوا من هارون أن يصنع لهم آلهة ، فأجابهم هارون إلى ذلك ، وأخذ أقراط الذهب ، وصنع منها عجلا مسبوكا ، وقال : هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر. فأصعدوا محرّقات وقدّموا ذبائح ، وأكلوا وشربوا وقاموا باللعب حول العجل.

وأخبر الربّ موسى أنّ الشعب قد أفسد ، فقد صنعوا عجلا وسجدوا له ... فحمي غضب الربّ وأراد أن يهلكهم لو لا أنّ موسى تشفّع لهم. وكان عند ما اقترب إلى المحلّة أبصر العجل والرقص ، فحمي غضبه وطرح اللوحين من يديه وكسرهما ، ثمّ أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار ، وطحنه وذرّاه على الماء وسقاه بني إسرائيل.

وقال لهارون : ماذا صنع بك هذا الشعب حتّى جلبت عليه خطيئة عظيمة؟! فاعتذر أنّهم افتقدوك فصنعت لهم العجل. (١)

ونقرأ في سورة طه :

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى. قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ. فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي. قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ. فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ. أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً. وَلَقَدْ قالَ

__________________

(١) سفر الخروج ، أصحاح ٣٢ / ١ ـ ٢٤.

٧٩

لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي. قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى. قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا. أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي. قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي. قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ. قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي. قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)(١).

مواضع الاختلاف بين القرآن والتوراة بشأن العجل

١ ـ ذكرت التوراة : أنّ الّذي صنع العجل هو هارون أخو موسى عليه‌السلام.

وجاء في سورة طه : أنّه السّامري في ثلاثة مواضع. (٢) وأنّ هارون أراد منعهم من ذلك فلم يستطع : (قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٣).

٢ ـ وذكرت : أنّ موسى لمّا حمي غضبه طرح اللوحين من يديه وكسرهما.

وجاء في القرآن : أنّه ألقى الألواح (٤) ـ لكنّها لم تتكسّر ـ ومن ثمّ (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)(٥).

٣ ـ وذكرت : أنّ موسى أخذ العجل وأحرقه وطحنه وذرّاه في ماء وسقاه بني إسرائيل.

وجاء في القرآن : أنّه حرّقه ونسفه في اليمّ نسفا (٦).

٤ ـ وجاء في القرآن : أنّهم اتّخذوا (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ)(٧) لكنّه لا يكلّمهم ولا يرجع إليهم قولا (٨).

وقد سكتت التوراة عن ذلك.

__________________

(١) طه ٢٠ : ٨٣ ـ ٩٧.

(٢) طه ٢٠ : ٨٥ و ٨٧ و ٩٥.

(٣) الأعراف ٧ : ١٥٠.

(٤) الأعراف ٧ : ١٥٤.

(٥) الأعراف ٧ : ١٥٤.

(٦) طه ٢٠ : ٩٧.

(٧) الأعراف ٧ : ١٤٨ ؛ طه ٢٠ : ٨٨.

(٨) الأعراف ٧ : ١٤٨ ؛ طه ٢٠ : ٨٩.

٨٠