التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

قال تعالى :

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨))

تلك نغمة أخرى تحاكي تصوّرات اليهود الخاطئة ، ومن العرب من كان على شاكلتهم في العقيدة المنحرفة.

ولقد صدق القول بأنّ الكفر شرعة واحدة ، كانت اليهود وسائر أهل الكتاب يزعمون التوحيد في عقيدتهم ، وإذا هم مع المشركين يتعاضدون في عقيدة الشرك. فقد كانت مقولة النصارى في المسيح : إنّه ابن الله وكذا اليهود في عزير (١). وبذلك ساندوا إخوانهم العرب المشركين حيث جعلوا لله البنات. (٢)(وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ)(٣).

ولا يزال هذا التكاتف اللئيم ضدّ تعاليم الإسلام قائما على ساق ، وإنّما هي حرب شعواء ضدّ العقيدة وضدّ الإيمان بالله العظيم.

وهنا يبادر القرآن بتنزيهه تعالى عن مثل هذا التصوّر ، وتبيين حقيقة الصلة بينه وبين خلقه جميعا.

(سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ).

هذه هي فكرة الإسلام التجريديّة الكاملة عن الله ـ سبحانه ـ وعن نوع العلاقة القائمة بين الخالق وخلقه ، إنّها علاقة الفاعل مع عمله الذي أبدعه عن إرادته فحسب إرادة مطلقة حكيمة ..

__________________

(١) التوبة ٩ : ٣٠.

(٢) النحل ١٦ : ٥٧.

(٣) الأنعام ٦ : ١٠٠.

٥٦١

لا يشاركه أحد ولا يعجزه شيء (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) «سبحان من خضعت له الأشياء». (١)

فلا ضرورة تدعو أن يكون له ولد ـ أقرب شيء إلى والده ـ بعد أن خضعت له الرقاب جميعا على سواء.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أبدعها من غير سابقة وبدون وسيط من قوّة أو مادّة (وَإِذا قَضى أَمْراً) أراد خلق شيء ، فتكفي الإرادة لنشأته من غير وسيط (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) من غير فصل ولا تعليل. وهذا غاية في القدرة وتحكيم الإرادة.

وإذ ينتهي من عرض مقولة أهل الكتاب ، يتبعها بمقولة أشياعهم من المشركين ، والجميع في الجهل بموضع التوحيد والربوبيّة سواء.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) لا علم لهم ولا كتاب منير (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) مشافهة (أَوْ تَأْتِينا) بالذات (آيَةٌ) نعرفها (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهم أشياخ اليهود على عهد نبيّ الله موسى عليه‌السلام قالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) قالوا مثل قول جهلة العرب. كما طلبوا الخوارق ونزول الآيات. فقد تشابهت قلوبهم ، وتوحّدت طبيعتهم المتعنّتة ، سواء أكانوا أهل كتاب أم عربا أمّيين. فهؤلاء وأولئك سواء ومتشابهوا القلوب في التصوّر والعنث والضلال.

نعم ، قد تمّت الحجّة ولاحت المحجّة (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) فالذي يجد في قلبه راحة الإيمان واليقين ، يجد في الآيات منشوده ، الأوفى ، ويجد فيها طمأنينة وارتياحا ، وسلامة في عقيدة وصدقا في يقين.

وإليك من روايات الباب :

قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً)

[٢ / ٣٠٩٣] روى عليّ بن إبراهيم بالإسناد إلى أبي بصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : قلت : قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً). قال : «هذا حيث قالت قريش : إنّ لله ولدا ، وأنّ الملائكة : إناث.

فقال الله ردّا عليهم : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) أي عظيما (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) ممّا قالوا (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) قال تعالى : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا

__________________

(١) كما جاء في تسبيح الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام البحار ٩١ : ٢٠٦.

٥٦٢

آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً)(١) واحدا واحدا». (٢)

[٢ / ٣٠٩٤] وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه والبيهقي عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا أحد أصبر على أذى يسمعه ، من الله : إنّهم يجعلون له ولدا ، ويشركون به وهو يرزقهم ويعافيهم». (٣)

[٢ / ٣٠٩٥] وأخرج البخاري وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقول الله : كذّبني ابن آدم ولم ينبغ له أن يكذّبني ، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني ، أمّا تكذيبه إيّاي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأمّا شتمه إيّاي فقوله : اتّخذ الله ولدا ، وأنا الله الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد». (٤)

[٢ / ٣٠٩٦] وأخرج البخاري عن ابن عبّاس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «قال الله تعالى : كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، فأمّا تكذيبه إيّاي فيزعم أنّي لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأمّا شتمه إيّاي فقوله : لي ولد ، فسبحاني أن أتّخذ صاحبة أو ولدا». (٥)

[٢ / ٣٠٩٧] وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن غالب بن عجرد قال : حدّثني رجل من أهل الشام قال : بلغني أنّ الله لمّا خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلّا أصابوا منها ثمرة ، حتّى تكلّم فجرة بني آدم بتلك الكلمة العظيمة قولهم :

__________________

(١) مريم ١٩ : ٨٨ ـ ٩٣.

(٢) البحار ٣ : ٢٥٤ ، عن تفسير القمي ٢ : ٥٧.

(٣) الدرّ ١ : ٢٦٨ ؛ مسند أحمد ٤ : ٣٩٥ و ٤٠١ ؛ البخاري ٧ : ٩٦ ، كتاب الأدب ، باب ٧١ و ٨ : ١٦٥ ، كتاب التوحيد ، باب ٣ ؛ مسلم ٨ : ١٣٣ ـ ١٣٤ ، النسائي ٤ : ٤٠٦ / ٧٧٠٨ ، باب ٢٩ ؛ الأسماء والصفات : ٦٨٤ ، باب ما جاء في الصبر ، بلفظ : «لا أحد أصبر على أذى يسمعه ، من الله ـ عزوجل ـ يشرك به ويجعل له ولدا ثمّ هو يعافيهم ويرزقهم» ؛ ابن كثير ١ : ١٦٥.

(٤) الدرّ ١ : ٢٦٨ ؛ البخاري ٦ : ٩٥ ، كتاب التفسير ؛ الأسماء والصفات : ٣٢٣ ـ ٣٢٤ ، باب رواية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول الله ـ عزوجل ـ في الوعد والوعيد ؛ ابن حبّان ٣ : ١٢٨ / ٨٤٨ ، كتاب الرقائق ، باب ٨ (الأذكار).

(٥) الدرّ ١ : ٢٦٨ ؛ البخاري ٥ : ١٤٩ ، كتاب التفسير ، سورة البقرة ؛ كنز العمّال ١٤ : ٣٥٣ / ٣٨٩١٣ ؛ البغوي ١ : ١٥٨ ـ ١٥٩ / ٧٨. ابن كثير ١ : ١٦٥. وزاد : «انفرد به البخاري من هذا الوجه» ؛ القرطبي ٢ : ٨٥.

٥٦٣

(اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) فلمّا تكلّموا بها اقشعرّت الأرض وشاك الشجر. (١)

[٢ / ٣٠٩٨] وروى ابن بابويه بإسناده إلى سفيان بن عيينة ، زعم أنّه سمع الصادق عليه‌السلام يقول : لم يخلق الله شجرة إلّا ولها ثمرة تؤكل ، فلمّا قال الناس : (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) ذهب نصف ثمرها. فلمّا اتخذوا مع الله إلها شاك الشجر. (٢)

***

[٢ / ٣٠٩٩] أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والمحاملي في أماليه عن ابن عبّاس في قوله : (سُبْحانَ اللهِ) قال : تنزيه الله نفسه عن السوء. (٣)

[٢ / ٣١٠٠] وأخرج ابن جرير والديلمي والخطيب في الكفاية من طرق أخرى موصولا عن موسى بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن جدّه طلحة بن عبيد الله قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تفسير (سُبْحانَ اللهِ) قال : «هو تنزيه الله من كلّ سوء». (٤)

[٢ / ٣١٠١] وروى الكليني بالإسناد إلى عبد العظيم الحسني ، عن عليّ بن أسباط ، عن سليمان مولى طربال ، عن هشام الجواليقي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول (سُبْحانَ اللهِ) ما يعنى به؟ قال : تنزيهه. (٥)

[٢ / ٣١٠٢] وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عبّاس ، أنّ ابن الكوّاء سأل عليّا عليه‌السلام عن قوله : (سُبْحانَ اللهِ) فقال : «كلمة رضيها الله لنفسه». (٦)

[٢ / ٣١٠٣] وأخرج عبد بن حميد عن يزيد بن الأصمّ قال : جاء رجل إلى ابن عبّاس فقال : لا إله

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٦٨ ؛ المصنّف ٨ : ٢٥٠ / ٧ ، باب ٥٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢١٣ / ١١٢٦ ؛ القرطبي ١١ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ؛ ابن كثير ٣ : ١٤٦.

(٢) العلل ٢ : ٥٧٣ / ١ ، باب ٣٧٤.

(٣) الدرّ ١ : ٢٦٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٨١ / ٣٤٣ ؛ أمالي المحاملي : ٣٨٢.

(٤) الدرّ ١ : ٢٦٩ ؛ الطبري ٧ : ١١٩ ـ ١٢٠ ، بعد رقم ١٣٦٢٤ ، الكفاية في علم الرواية ، للخطيب : ٢٦٢ ؛ الحاكم ١ : ٥٠٢ ، كتاب الدعاء ؛ كنز العمّال ١ : ٤٧٤ / ٢٠٦١.

(٥) البرهان ١ : ٣١٥ / ١ ؛ الكافي ١ : ١١٨ / ١١ ، كتاب التوحيد ، باب معاني الأسماء واشتقاقها ؛ التوحيد : ٣١٢ / ٣ ، باب ٤٥ ؛ البحار ٩٠ : ١٧٧ / ٢ ، باب ٣ ؛ معاني الأخبار : ٩ / ٢ ، باب معنى سبحان الله.

(٦) الدرّ ١ : ٢٦٩ ؛ الطبري ٧ : ١١٩ / ١٣٦٢٣.

٥٦٤

إلّا الله نعرفها أنّه لا إله غيره ، والحمد لله نعرفها أنّ النعم كلّها منه وهو المحمود عليها ، والله أكبر نعرفها أنّه لا شيء أكبر منه ، فما سبحان الله؟ فقال ابن عبّاس : وما تنكر منها!؟ هي كلمة رضيها الله لنفسه وأمر بها ملائكته ، وفرغ إليها الأخيار من خلقه. (١)

[٢ / ٣١٠٤] وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : (سُبْحانَ اللهِ :) اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه. (٢)

[٢ / ٣١٠٥] وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران. أنّه سئل عن (سُبْحانَ اللهِ) فقال : اسم يعظّم الله به ويحاشى به عن السوء. (٣)

قوله تعالى : (قانِتُونَ)

[٢ / ٣١٠٦] أخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وابن حبّان والطبراني في الأوسط وأبو نصر السجزي في الإبانة وأبو نعيم في الحلية والضياء في المختارة عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «كلّ حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة». (٤)

[٢ / ٣١٠٧] وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طرق عن ابن عبّاس في قوله : (قانِتُونَ) قال : مطيعون. (٥)

[٢ / ٣١٠٨] وأخرج ابن جرير بإسناده عن عكرمة في قوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) قال : الطاعة. (٦)

[٢ / ٣١٠٩] وأخرج ابن جرير بإسناده عن قتادة في قوله : (قانِتُونَ) قال : مطيعون وهكذا ذكر

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٦٩ ؛ كتاب الدعاء ، للطبراني : ٤٩٩.

(٢) الدرّ ١ : ٢٦٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٨١ / ٣٤٥ ؛ ابن كثير ١ : ٢٣.

(٣) الدرّ ١ : ٢٦٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٨١ / ٣٤٤.

(٤) الدرّ ١ : ٢٦٩ ؛ مسند أحمد ٣ : ٧٥ ؛ الطبري ٢ : ٧٧١ / ٤٢٩٦ و ٣ : ٣٦١ / ٥٥٤٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢١٣ / ١١٢٨ ؛ معاني القرآن للنحّاس ١ : ٢٤١ ـ ٢٤٢ / ١٦٢ ؛ ابن حبّان ٢ : ٧ / ٣٠٩ ، كتاب البرّ والإحسان ، باب ٢ ؛ الأوسط ٥ : ٢٣٤ / ٥١٨١ ؛ الحلية ٨ : ٣٢٥ ، باب ٤٢٨ ، عبد الله بن وهب ؛ مجمع الزوائد ٦ : ٣٢٠ ، كتاب التفسير ، سورة البقرة.

(٥) الدرّ ١ : ٢٧٠ ؛ الطبري ١ : ٧٠٨ / ١٥٣٩ ؛ التبيان ١ : ٤٢٧ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٦١.

(٦) الطبري ١ : ٧٠٨ / ١٥٣٨.

٥٦٥

الثعلبي عن مجاهد وعطاء والسدّي. (١)

[٢ / ٣١١٠] وأخرج ابن جرير بإسناده عن مجاهد في قوله : (قانِتُونَ) قال : مطيعون ، قال : طاعة الكافر في سجود ظلّه. (٢)

[٢ / ٣١١١] وروى البغوي عن مجاهد في قوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) قال : يسجد ظلالهم لله على كره منهم. قال الله تعالى : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)(٣). (٤).

[٢ / ٣١١٢] وأخرج ابن جرير عن قتادة : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) : أي مطيع مقرّ بأنّ الله ربّه وخالقه. (٥)

[٢ / ٣١١٣] وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عبّاس : أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) قال : مقرّون! قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم. أما سمعت قول عديّ بن زيد :

قانتا لله يرجو عفوه

يوم لا يكفر عبد ما ادّخر (٦)

[٢ / ٣١١٤] وقال عكرمة ومقاتل في قوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) : مقرّون له بالعبوديّة. (٧)

[٢ / ٣١١٥] وقال أبو مسلم : كلّ في ملكه وقهره ، يتصرّف فيه كيف يشاء ، لا يمتنع عليه. (٨)

[٢ / ٣١١٦] وقال الجبّائي : كلّ دائم على حال واحدة هو قائم بالشهادة ، بما فيه من آثار الصنعة ، والدلالة على الربوبيّة. (٩)

[٢ / ٣١١٧] وذكر الثعلبي عن قول ابن كيسان في قوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) قال : قائمون بالشهادة. (١٠)

__________________

(١) الطبري ١ : ٧٠٨ / ١٥٣٤ ؛ الثعلبي ١ : ٢٦٤ ؛ البغوي ١ : ١٥٩ ؛ أبو الفتوح ٢ : ١٢٩.

(٢) الطبري ١ : ٧٠٨ / ١٥٣٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢١٣ / ١١٢٩. بلفظ : «مطيعون. يقول : طاعة الكافر في سجوده ، سجود ظلّه وهو كاره» ؛ ابن كثير ١ : ١٦٥ ؛ التبيان ١ : ٤٢٧ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٦١.

(٣) الرعد ١٣ : ١٥.

(٤) البغوي ١ : ١٥٩ ؛ الثعلبي ١ : ٢٦٤ ، بتفاوت.

(٥) الدرّ ١ : ٢٧٠ ؛ الطبري ١١ : ٤٢ / ٢١٢٧٤ ، سورة الروم ، الآية ٢٦.

(٦) الدرّ ١ : ٢٧٠.

(٧) البغوي ١ : ١٥٩ ؛ الثعلبي ١ : ٢٦٤ ؛ أبو الفتوح ٢ : ١٢٩ ؛ تفسير مقاتل ١ : ١٣٣.

(٨) مجمع البيان ١ : ٣٦١.

(٩) مجمع البيان ١ : ٣٦١ ؛ التبيان ١ : ٤٢٧ ، بغير نسبة ، وقال : «وهو الأقوى».

(١٠) الثعلبي ١ : ٢٦٤ ؛ البغوي ١ : ١٥٩ ؛ أبو الفتوح ٢ : ١٢٩.

٥٦٦

[٢ / ٣١١٨] وأخرج ابن أبي حاتم عن سالم عن سعيد في قوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) يقول : الإخلاص. (١)

قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

[٢ / ٣١١٩] روى ثقة الإسلام الكليني بالإسناد إلى حمران بن أعين ، سأل الإمام أبا جعفر الباقر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ،) فقال : «إنّ الله عزوجل ابتدع الأشياء كلّها بعلمه ، على غير مثال كان قبله ، فابتدع السماوات والأرض ولم يكن قبلهنّ سماوات ولا أرضون. أما تسمع لقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ)(٢)». (٣)

[٢ / ٣١٢٠] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يقول : ابتدع خلقهما ولم يشركه في خلقهما أحد. وكذا عن الربيع. (٤)

[٢ / ٣١٢١] وقال مجاهد في قوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خالقها على غير مثال سبق. (٥)

[٢ / ٣١٢٢] وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن السدّي في الآية قال : ابتدعهما فخلقهما ولم يخلق قبلهما شيء فيتمثّل عليه. وكذا عن مجاهد. (٦)

[٢ / ٣١٢٣] وقال مقاتل بن سليمان : ثمّ عظّم نفسه فقال : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ابتدعهما ولم يكونا شيئا (وَإِذا قَضى أَمْراً) في علمه أنّه كائن (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) لا يثنى (٧) قوله كفعل المخلوقين ، وذلك أنّ الله ـ عزوجل ـ قضى أن يكون عيسى في بطن أمّه من غير أب ، فقال له : كن ، فكان! (٨)

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ٢١٤ / ١١٣٤ ؛ ابن كثير ١ : ١٦٥.

(٢) هود ١١ : ٩.

(٣) الكافي ١ : ٢٥٦ ؛ بصائر الدرجات : ١٣٣ / ١ ، باب ٩ ؛ العيّاشي ١ : ٤٠٢ ؛ البحار ٢٦ : ١٦٥ و ٥٤ : ٨٥.

(٤) الدرّ ١ : ٢٧٠ ؛ الطبري ١ : ٧١٠ / ١٥٤٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢١٤ / ١١٣٥.

(٥) ابن كثير ١ : ١٦٦.

(٦) الدرّ ١ : ٢٧٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢١٤ / ١١٣٦ ؛ الطبري ١ : ٧١٠ / ١٥٤٣.

(٧) لا يثنى قوله أي لا يردّكما يردّ فعل المخلوقين.

(٨) تفسير مقاتل ١ : ١٣٤.

٥٦٧

قوله تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

[٢ / ٣١٢٤] قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «يقول لمّا أراد كونه : كن ، فيكون. لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه ـ سبحانه ـ فعل منه أنشأه ومثّله ، لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا». (١)

قال العلّامة المجلسي في الشرح : قوله : «يقول لمّا أراد» لعلّه بيان لمعنى الآية وأنّه ليس مراده تعالى التكلّم الحقيقي ، بأن يكون له صوت يقرع الأسماع ، ونداء يسمعه الآذان. بل ليس له إلّا تعلّق إرادته تعالى ، وإنّما هذا الكلام الذي عبّر عن الإرادة به فعله تعالى وخلقه للأشياء وتمثيلها وتصويرها. وليست الإرادة قديمة ، وإلّا لكان إلها ثانيا.

وهذا يدلّ على أنّ الإرادة صفة حادثة ـ كما ورد في سائر الأخبار.

قال : ويحتمل أن يكون «إنّما كلامه ..» إشارة إلى الكلام الحقيقي وبيانا لكيفيّة صدوره وكونه حادثا لا قديما وهذا يدلّ على أنّ القدم ينافي الإمكان ، وأنّ القول بقدم العالم شرك. (٢)

وفيه أيضا : «يقول ولا يلفظ ، ويريد ولا يضمر ..» (٣)

[٢ / ٣١٢٥] وفي حديث الإهليلجة سأل المفضّل بن عمر الإمام أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : فأخبرني عن إرادته تعالى؟ فقال : «إنّ الإرادة من العباد الضمير وما يبدو بعد ذلك من الفعل. وأمّا من الله ـ عزوجل ـ فالإرادة للفعل إحداثه ، إنّما يقول له : كن ، فيكون ، بلا تعب ولا كيف». (٤)

[٢ / ٣١٢٦] وروى ابن بابويه الصدوق بالإسناد إلى صفوان بن يحيى قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن المخلوق؟ فقال : «الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل. وأمّا من الله ـ عزوجل ـ فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه تعالى لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفيّة عنه ، وهي من صفات الخلق. قال : فإرادة الله هي الفعل لا غير ذلك ، يقول له : كن ، فيكون. بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ، ولا كيف لذلك ، كما أنّه [تعالى] بلا

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٦ ؛ البحار ٤ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ / ٨. نقلا عن كتاب الاحتجاج ١ : ٣٠٢ ؛ البحار ٥٤ : ٣٠ / ٦. نقلا عن النهج والاحتجاج.

(٢) البحار ٤ : ٢٥٩.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٦ ؛ البحار ٤ : ٢٥٤ و ٧٤ : ٣١٢ / ١٤ ، باب ١٤ ؛ الصافي ١ : ٢٧٢ ؛ كنز الدقائق ٢ : ١٣٠ ؛ نور الثقلين ١ : ١١٩ / ٣٣٠.

(٤) البحار ٣ : ١٩٦.

٥٦٨

كيف». (١)

[٢ / ٣١٢٧] وبالإسناد إلى محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المشيئة محدثة». (٢)

[٢ / ٣١٢٨] وعن عاصم بن حميد عنه عليه‌السلام قال : قلت له : لم يزل الله مريدا؟ فقال : «إنّ المريد لا يكون إلّا المراد معه. بل لم يزل عالما قادرا ثمّ أراد». (٣)

وقفة عند مسألة الإرادة

قلت : في هذا الحديث (حديث عاصم عن الصادق عليه‌السلام) نكتة ظريفة أشار إليها الإمام عليه‌السلام حيث أجاب على سؤال عاصم : «لم يزل الله مريدا؟» بأن لا فصل بين الإرادة وتحقّق المراد خارجيّا. فإذ كان تحقّق المراد أمرا حادثا ، فلازمه أن تكون الإرادة أيضا حادثة ، حيث تواجد المتلازمين حدوثا وقدما.

على أنّ التعبير في الآية «إِذا أَرادَ ...» شاهد على حدوثها ، لم تكن فكانت ، فالإرادة صفة فعل فتكون حادثة لا محالة ، في مقابلة صفات الذات الأزليّة «لم يزل عالما قادرا ، ثمّ أراد» .. فما أجمله من بيان وأدقّه من برهان.

والإرادة والطلب متلازمان .. غير أنّ الإرادة فعل جانحي ـ وهو العزم على العمل ـ كما أنّ الطلب عمل جارحي ـ وهو السعي وراء تحقق المراد ـ. والإرادة هي الباعثة على الطلب .. يعزم ثمّ يسعى ..

ومن ثمّ كان التأكيد في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام على أنّ الإرادة هي المشيئة ، وأنّها صفة فعل وهي حادثة ، «ثمّ أراد».

قال الشيخ أبو عبد الله المفيد : إنّ إرادة الله تعالى لأفعاله هي نفس أفعاله ، وإرادته لأفعال خلقه أمره بالأفعال. وبهذا جاءت الآثار عن أئمّة الهدى من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مذهب سائر الإماميّة إلّا من شذّ منهم عن قرب (أي حديثا) وفارق ما كان عليه الأسلاف. وإليه ذهب جمهور البغداديّين من

__________________

(١) التوحيد : ١٤٧ / ١٧ ، باب صفات الذات وصفات الفعل ؛ عيون الأخبار ١ : ٩٧ / ١١ ، باب ١١.

(٢) التوحيد ١٤٧ / ١٨.

(٣) المصدر : ١٤٦ / ١٥.

٥٦٩

المعتزلة وأبو القاسم البلخي خاصّة وجماعة من المرجئة. (١)

نعم شاع تفسير الإرادة بالعلم بالمصلحة الداعية ، في عصر متأخّر عن الشيخ المفيد ، ومن ثمّ اعتبروا الإرادة صفة ذاتيّة ولم يعتبروها من صفات الفعل. قال أبو الحسين البصري : الإرادة عبارة عن علمه تعالى بما في الفعل من المصلحة ، الداعي إلى إيجاده في ظرفه. (٢)

وهكذا ذكر العلّامة الطباطبائي عنهم أنّهم قالوا : إنّ إرادته تعالى علمه بالنظام الأصلح أي علمه بكون الفعل خيرا ، فهي وجه من وجوه علمه تعالى. (٣)

وهذا ما يعود إلى ما ذكره الحكيم السبزواري : أنّ إرادته تعالى عين ذاته وعين علمه وعين الداعي [الباعث على إيجاد المراد]. (٤)

ومن ثمّ قال العلّامة المجلسي ـ تعقيبا على حديث صفوان (٥) ـ : اعلم أنّ إرادة الله تعالى ـ كما ذهب إليه أكثر متكلّمي الإماميّة ـ هي العلم بالخير والنفع وما هو الأصلح ، ولا يثبتون له تعالى وراء العلم شيئا. (٦)

واعترض عليه سيّدنا الطباطبائي ـ في الهامش ـ بأنّ الذي ذكروه إنّما هو في الإرادة الذاتيّة ، التي هي عين الذات ـ إن صحّ تصويرهم لذلك ـ. وأمّا الإرادة التي جاءت في الأخبار (الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام) فهي الإرادة التي هي من الصفات الفعليّة كالخلق والرزق. وهذه الإرادة هي نفس الفعل ، كما ذكره شيخنا المفيد رحمه‌الله.

قلت : تقسيم الإرادة إلى ذاتيّة وفعليّة ، تقسيم غريب عن اللغة ومتفاهم الأعراف والتي هي لغة القرآن التي خاطب بها الناس في متفاهمهم. هذا مع عدم إمكان تصوير الإرادة صفة ذاتيّة أزليّة سرمديّة ، نظير صفة العلم والقدرة والحياة فيه تعالى. الأمر الذي أرمز إليه العلّامة الطباطبائي بقوله : «إن صحّ تصويرهم لذلك». وبذلك أبدى تشكيكه في إمكان تصويره ومن ثمّ نسب القول به إلى

__________________

(١) أوائل المقالات ، للمفيد : ١٩.

(٢) راجع : تجريد الاعتقاد لنصير الدين الطوسي بشرح العلامة الحلّي ، بحث الإلهيات ، المسألة الرابعة : ١٥٩ (ط : الهند). وشرح الباب الحادي عشر للفاضل المقداد ، الصفة الرابعة : ٢٩ (ط : ١٣٩٥ ه‍).

(٣) بداية الحكمة : ٢٩٢ الفصل الثامن.

(٤) أسرار الحكم ١ : ٩٩.

(٥) رواه الصدوق في كتاب التوحيد : ١٤٧ / ١٧ وقد سبق.

(٦) البحار ٤ : ١٣٧.

٥٧٠

المشهور (١) ولم يجزم به.

كما أنّ الحكيم السبزواري أورد على هذا القول اعتراضات ومن غير إجابة شافية. (٢)

وعمدة الإشكال تفسيرهم للإرادة الذاتيّة بالعلم. وقد عرفت من كلام العلّامة الطباطبائي أنّ هذا التفسير يقضي بأن تكون الإرادة القديمة وجها من وجوه علمه القديم .. إذن فليس وراء علمه تعالى القديم شيء ، فما هو منشأ انتزاع صفة أخرى باسم الإرادة؟! وما الذي دعاهم إلى هذا التمحّل وتكلّف التأويل؟!

فممّا استشكله الحكيم السبزواري : أنّ علمه تعالى يتعلّق بكلّ شيء حتّى الظلم والقبيح ، في حين أنّه تعالى لا يريد شرّا بالعباد. (٣)

وأجاب بأنّ إرادة الشرّ تبعيّة وليست أصليّة. أي إنّه تعالى أراد خيرا لعباده ، ولكنّهم لسوء تصرّفهم قلبوه شرّا .. ومعلوم أنّه لا يقع شيء في عالم الوجود إلّا عن إذنه تعالى.

وثانيا : هذا يخالف ما ورد في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام أنّها (أي الإرادة) صفة فعل وهو فعله تعالى. (٤)

وأجاب بأنّ للإرادة مراتب ثلاث : إرادة حقّة حقيقيّة ، هذه عين ذاته تعالى. وفسّرت بالمحبّة الذاتيّة المتعلّقة بالذات أوّلا ، ثمّ منها تسرّبت إلى حبّ الآثار. وهي أفعاله تعالى. وقد قيل : «من أحبّ شيئا أحبّ آثاره». (٥)

والمرتبة الثانية : إرادة حقّة ظلّيّة ، وهي مقام التجلّي والظهور ، والذي هو في كلّ شيء بحسبه.

والمرتبة الثالثة : إرادة هي من مقولة الإضافة ، تلحظ في متعلّقها ، نظير العلم الحادث بلحاظ حدوث معلومه. (٦)

وثالثا : إنّه تعالى إنّما يوجد الأشياء حسب أوقاتها ، فهي حادثة ولا بدّ لها من مرجّح يخصّص إيجادها في وقت كذا وفي ظرف كذا .. والإرادة القديمة لا تصلح لهذا الترجيح ، كما لا ينفعه العلم

__________________

(١) حيث قوله : «قالوا : إرادته تعالى علمه بالنظام الأصلح ...» حسبما عرفت.

(٢) راجع : أسرار الحكم ١ : ١١٨ ـ ١٣٠.

(٣) المصدر : ١١٨.

(٤) المصدر : ١١٩.

(٥) المصدر : ١٠٠.

(٦) المصدر : ١٢٠.

٥٧١

الأزلي القديم. لانّ الصفة إذا كانت قديمة كانت نسبتها إلى الكائنات سواء.

وأجاب بأنّ حدوث الأشياء إنّما هو بسبب الدورة الفلكيّة ، باعتبارها شرطا في تحقّق الكائنات عن علّتها الأولى والتي هي إرادته تعالى القديمة .. فالعلّة قديمة والشرط حادث ، وهذا هو المرجّح لتحقّق الكائنات في ظروفها الخاصّة. (١)

ورابعا : إنّ إرادته تعالى القديمة إذا كانت العلّة لحدوث الكائنات ومنها أفعال العباد الاختياريّة ، لاستلزم ذلك سلب الاختيار وهو من معضل الإشكال.

وأجاب بأنّ إرادته تعالى تعلّقت بأن يفعل العباد أفعالهم عن اختيارهم ، وإن كانوا في الاختيار غير مختارين. (٢)

وخامسا : إنّ الإرادة الذاتيّة ـ حسب تفسيرها بالعلم الذاتي ـ قد تعلّقت بجميع أفعال العباد ، فإذ لم يكن يتخلّف المراد عن الإرادة ، فلن يتخلّف معلوم عن العلم به أزلا. وهذا يستلزم الجبر.

وأجاب بأنّ العلم إنّما تعلّق بالمعلوم على ما هو عليه ، من كونه وقع عن اختيار فاعله أولا عن اختياره ، ومن ثمّ فلا تأثير للعلم في المعلوم سوى الكشف عنه على النحو الّذي وقع. (٣)

وسادسا : إنّ الإرادة الأزليّة كالعلم الأزلي تعلّقت بكلّ شيء وبكلّ فعل ، من حسن أو قبيح. إذن فقد تعلّقت إرادته تعالى وهو رضاه بذلك. فيجب أن يرضى العباد بكلّ ما رضيه الله ، ومنه الكفر والظلم والعصيان .. فالظالم العاصي ينبغي له أن يرضى بعمله ، لأنّه واقع تحت إرادته تعالى ورضاه به أزلا.

وأجاب بأنّه من باب الرضا بالقضاء ، لا الرضا بالمقضيّ ـ كما ذكره الغزالي ـ فقد قضى الله الكفر للكافر ، ولكنّه لم يرض منه عملا صالحا. (٤)

وسابعا : وإذ كانت الكائنات لا تقع إلّا بإرادته تعالى وقضائه الذي لا يردّ ولا يبدّل ، فما وجه تردّده تعالى في قبض روح عبده الموت. يكره الموت والله تعالى يكره مسائته!؟ كما في الحديث القدسيّ!

وأجاب عنه ـ نقلا عن السيّد داماد ـ بأنّ التردّد إنّما هو بالنسبة إلى جانبين من الأمر ، فمن

__________________

(١) المصدر.

(٢) المصدر : ١٢١.

(٣) المصدر : ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٤) المصدر : ١٢٥ ـ ١٢٦.

٥٧٢

جانبه الذاتي ـ الموافق لنظام الطبيعة ـ كان وفق قضاء الله وقدره. وأمّا من جوانب أخر ومنها مسائة العبد للموت ، فيمكن أن يكره ، فلا تنافي بين تلك الإرادة ذاتيّا وهذه الكراهة الجانبيّة عرضا .. (١)

وذكر أخيرا : أنّه تعالى قد ينسب إلى نفسه ما لعبده من صفة أو عمل ، فيجعل رضاه رضاه وسخطه سخطه فهو تعالى رضي بموت هذا العبد وفق قضائه المبرم ، لكنّه جعل كراهة عبده كراهة له فقد رضي تعالى رضا ذاتيّا ، وكره لكراهة عبده المؤمن عرضيّا. (٢)

إرادة تكوينيّة وإرادة تشريعيّة

اصطلح أهل الفنّ على تسمية إرادة الله المتعلّقة بتكوين شيء بالإرادة التكوينيّة ، وتسمية طلبه لأمر بالإرادة التشريعيّة ، وهذا يشكّل طرفا من مباحث «الطلب والإرادة» في علم الأصول.

فمن الأوّل قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٣). (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً)(٤) وهي إرادة لا مردّ لها كما قال تعالى : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ)(٥).

ومن الثاني قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٦) أي أراد بتشريعاته السهلة السمحة اليسر بكم في حياة سعيدة ميسّرة ، لا الحياة الضنك التعيسة.

وهذه الإرادة التشريعيّة تعلّقت بفعل المكلّفين عن اختيارهم (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(٧). أي أرشدناه إلى معالم السعادة في الحياة ، فإمّا يترحّب بها ويعمل على هديها ، (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٨). أو يرفضها وينبذها وراء ظهره ويتّبع خطوات الشيطان وبذلك يسلك سبيل الكفران ، كفران النعم ، ويكون مآله الضلال والخسران في نهاية المطاف. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ)(٩).

__________________

(١) المصدر : ١٢٨.

(٢) المصدر : ١٣٠.

(٣) يس ٣٦ : ٨٢.

(٤) الأحزاب ٣٣ : ١٧.

(٥) الرعد ١٣ : ١١.

(٦) البقرة ٢ : ١٨٥.

(٧) الإنسان ٧٦ : ٣.

(٨) النحل ١٦ : ١٢١.

(٩) البقرة ٢ : ٢٥٧.

٥٧٣

أمّا الإرادة التكوينيّة فلا يتخلّف عنها المراد ، ما أراد الله كان وما لم يرد لم يكن : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١).

بل لا حاجة إلى قولة «كن» وإنّما هي تقدير. وبعبارة فنّيّة : إنّ نفس إرادته تعالى لتكوين شيء كافية في تحقّقه وجودا. والأمر في قوله «كن» أمر تكويني أيضا ، حيث إرادته تعالى هو فعله ، كما عرفت.

[٢ / ٣١٢٩] وفي حديث الإمام أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) قال : «(كُنْ) منه صنع ، وما يكون به [هو] المصنوع». (٢)

***

والتفكيك بين الإرادتين شيء معروف في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، منها :

[٢ / ٣١٣٠] ما رواه الصدوق بإسناده عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : «إنّ لله إرادتين ومشيئتين ، إرادة حتم وإرادة عزم». ثمّ شرح عليه‌السلام الثانية بقوله : «ينهى وهو يشاء» أي يشاء أن يقع ، وإن كان نهى عنه ـ في الظاهر ـ أن لا يقع. فنهيه نهي تشريع ، أمّا مشيئته فمشيئة تكوين. وقد مثّل له الإمام عليه‌السلام بنهي آدم عن الأكل من الشجرة ، وقد كانت المصلحة تستدعي الأكل منها ، حيث خلق آدم ليعيش على الأرض ليعمرها ويكون خليفة الله فيها. فقد تخلّفت إرادته تعالى التشريعيّة عن إرادته التكوينيّة.

ثمّ قال عليه‌السلام : «ويأمر وهو لا يشاء». ومثّل بأمره تعالى إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل عليهما‌السلام حيث تخلّف التشريع عن التكوين. (٣)

قال أبو جعفر الصدوق رحمه‌الله : إنّ الله تعالى نهى آدم وزوجه أن يأكلا من الشجرة ، وقد علم أنّهما يأكلان منها ، لكنّه تعالى شاء أن لا يحول بينهما وبين الأكل منها بالجبر والقهر ، كما منعهما من الأكل منها بالنهي والزجر. فهذا معنى مشيئته تعالى فيهما. ولو شاء منعهما من الأكل قهرا ثمّ أكلا منها لكانت مشيئتهما قد غلبت مشيئة الله ، تعالى الله عن ذلك. (٤)

__________________

(١) النحل ١٦ : ٤٠.

(٢) عيون الأخبار ١ : ١٥٤ ، باب ١٢ (في كيفيّة الخلق الأوّل) ؛ التوحيد : ٤٣٦ ، باب ٦٥ ؛ البحار ١٠ : ٣١٤ / ١ ، باب ١٩.

(٣) التوحيد : ٦٤ / ١٨ في خبر طويل ؛ البحار ٤ : ١٣٩ / ٥ ؛ الكافي ١ : ١٥١ ؛ مرآة العقول ٢ : ١٦١.

(٤) التوحيد : ٦٥ ـ ٦٦.

٥٧٤

وقال العلّامة المجلسي رحمه‌الله : إنّه تعالى لمّا لم يصرفها عن إرادتهما ووكلهما إلى اختيارهما ، نظرا لمصالح عظيمة ، فكأنّه تعالى شاء ذلك. (١)

قلت : هذه المسألة تعود إلى مسألة الأمر بين الأمرين ، وموضع إذنه تعالى في وقوع أفعال العباد الاختياريّة. فلا يقع شيء إلّا من بعد إذنه تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٢) أي لا يتحقّق فعل ما تشاؤونه ، إلّا من بعد أن يأذن الله سواء أكان خيرا أم شرّا. (٣)(وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)(٤). أي لا يتحقّق الضرر الذي أريد ، إلّا من بعد إذنه تعالى.

وهذه الإرادة ـ المعبّر عنها بالإذن في المصطلح القرآني ـ إرادة حادثة تابعة لإرادة العبد ، تحقيقا لمبدأ الاختيار في التكليف ـ كما نبّهنا في مجال سابق ـ حيث كان التكليف للاختبار ، ولا اختبار إلّا مع الاختيار. فالله تعالى هو الذي يمهّد السبل لاختيار الهدى أو الضلال. (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)(٥). (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)(٦).

ومن ثمّ كان تعالى يسند كلّا من الإضلال والهداية إلى نفسه (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)(٧). والإضلال هنا بمعنى الخذلان (٨) ، أي الإيكال إلى العبد وما يختار ، بعد أن لم تنفعه الهداية وسلك سبيل الغواية عن عناد ولجاج ..

فقد كان كلّ من الإضلال والهداية عن حكمة رشيدة وليس اعتباطا وبلا هوادة .. ومن ثمّ جاء التعقيب بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(٩).

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)

[٢ / ٣١٣١] أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس ، قال : قال حريملة

__________________

(١) البحار ٤ : ١٣٩ ـ ١٤٠ ؛ مراة العقول ٢ : ١٦١.

(٢) الإنسان ٧٦ : ٣٠.

(٣) إذ لا مؤثّر في الوجود إلّا الله.

(٤) البقرة ٢ : ١٠٢.

(٥) البلد ٩٠ : ١٠.

(٦) الشمس ٩١ : ٧ ـ ١٠.

(٧) النحل ١٦ : ٩٣.

(٨) راجع : التمهيد ٣ : ١٨١ وما بعد.

(٩) الإنسان ٧٦ : ٣٠.

٥٧٥

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمّد ، إن كنت رسولا من الله ، كما تقول ، فقل لله فليكلّمنا حتّى نسمع كلامه ، فأنزل الله في ذلك : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) قال : هم كفّار العرب. (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا ...) أي هلّا يكلّمنا. (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني اليهود والنصارى وغيرهم. (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم. (١)

[٢ / ٣١٣٢] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) قال : النصارى تقوله ، والّذين من قبلهم يهود. (٢)

[٢ / ٣١٣٣] وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) قال : معتبرا لمن اعتبر. (٣)

[٢ / ٣١٣٤] وقال مقاتل بن سليمان : (لَوْ لا) يعنون هلّا (يُكَلِّمُنَا اللهُ) يخبرنا بأنّك رسوله (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) كما كانت الأنبياء تأتيهم الآيات تجيء إلى قومهم. يقول الله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) يقول هكذا قالت بنو إسرائيل من قبل مشركي العرب ، كما في سورة البقرة (٤) والنساء (٥) ، قالوا لموسى : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) وأتوا بالآيات وسمعوا الكلام فحرّفوه ، فهل هؤلاء إلّا مثل أولئك؟! فذلك قوله ـ سبحانه ـ : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) ثمّ قال : وإن كذّب مشركو العرب بمحمّد (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ) أي فقد بيّنّا الآيات ، فذلك قوله ـ سبحانه ـ في العنكبوت : (بَلْ هُوَ آياتٌ) يعني بيان أمر محمّد. آيات (بَيِّناتٌ)(٦) يعني واضحات في التوراة أنّه أمّي لا يقرأ الكتاب ولا يخطّ بيمينه (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) يعني مؤمني أهل التوراة. (٧)

__________________

(١) الذرّ ١ : ٢٧١ ؛ الطبري ١ : ٧١٥ / ١٥٤٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢١٥ / ١١٤٠ عن قتادة.

(٢) الدرّ ١ : ٢٧١ ؛ الطبري ١ : ٧١٤ ـ ٧١٥ و ٧١٧ / ١٥٤٤ و ١٥٥٠ واختاره الطبري بدليل أنّ ذلك في سياق خبر الله عنهم وعن افترائهم عليه وادّعائهم له ولدا ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢١٥ / ١١٤٢ ، و ٢١٦ / ١١١٤ ؛ الثعلبي ١ : ٢٦٥ ، بلفظ : هم النصارى.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ٢١٦ / ١١٤٦.

(٤) البقرة ٢ : ٥٥.

(٥) النساء ٤ : ١٥٣.

(٦) العنكبوت ٢٩ : ٤٩.

(٧) تفسير مقاتل ١ : ١٣٤.

٥٧٦