التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

قال تعالى :

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥))

هذا ردّ على شبهة يهوديّة مزعومة : قالوا : إذا كان التوجّه إلى بيت المقدس توجّها إلى الله في العبادة ، فليكن التوجّه إلى البيت الحرام توجّها إلى غيره تعالى؟!

لكن إذا كان التوجّه إلى نقطة مّا في العبادة ، لغرض توحيد الصفّ وتوحيد الاتجاه إلى الله في العبادة ، هذا فحسب فلا يتعدّد الاتجاهات ولا يختلف الصفوف حين العبادة والوقوف لديه تعالى ، هذا هو الغرض الأصلي والهدف الأقصى.

وأمّا كون هذا الاتجاه إلى بيت المقدس أو أيّ نقطة أخرى ، فلا يعدو اعتباريّا محضا ، قد يختلف حسب اختلاف الظروف والأحوال.

وإلّا فكلّ نقطة اتّجه إليه المتعبّد في قيامه وركوعه وسجوده وصلاته ودعائه ، فهو متّجه إلى الله سبحانه ، إذ لا يحويه مكان ولا يخلو منه مكان (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) في الاتجاه إليه سعة الآفاق (عَلِيمٌ) بنيّاتكم في التوجّه والعبادة.

إذن فلم يكن الله قابعا في زاوية بيت المقدس ، ولا هو ارتحل إلى البيت الحرام؟!

[٢ / ٣٠٢٩] قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ...) قال ابن عبّاس واختاره الجبّائي : إنّه ردّ على اليهود ، لما أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة. قال تعالى : ليس هو في جهة دون جهة كما يقول المشبّهة. (١)

[٢ / ٣٠٣٠] وهكذا روى الثعلبي عن أبي العالية قال : لمّا غيّرت القبلة إلى الكعبة ، عيّرت اليهود المؤمنين في انحرافهم عن بيت المقدس. فأنزل الله تعالى هذه الآية جوابا إليهم. (٢)

[٢ / ٣٠٣١] وروي عن أبي محمّد العسكري عليه‌السلام قال : «جاء قوم من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا : يا محمّد ، هذه القبلة بيت المقدس ، قد صلّيت إليها أربع عشرة سنة ، ثمّ تركتها الآن! أفحقّا

__________________

(١) التبيان ١ : ٤٢٤ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٥٨.

(٢) الثعلبي ١ : ٢٦٣.

٥٤١

كان كنت عليه؟ فقد تركته إلى باطل ، فإنّما يخالف الحقّ الباطل؟! أو باطلا كان ذلك ، فقد كنت عليه طول هذه المدّة! فما يؤمّننا أن تكون الآن على باطل؟! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل ذلك كان حقّا وهذا حقّ ، يقول الله : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١) إذا عرف صلاحكم يا أيّها العباد في استقبال المشرق ، أمركم به ، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب ، أمركم به ، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به ، فلا تنكروا تدبير الله في عباده ، وقصده إلى مصالحكم.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مخاطبا لليهود ـ : قد تركتم العمل يوم السبت ، ثمّ عملتم بعده سائر الأيّام ، ثمّ تركتموه في السبت ثمّ عملتم بعده ، أفتركتم الحقّ إلى باطل أو الباطل إلى حقّ؟ أو الباطل إلى باطل؟ أو الحقّ إلى حقّ؟ قولوا كيف شئتم ، فهو قول محمّد وجوابه لكم.

قالوا : بل ترك العمل في السبت حقّ ، والعمل بعده حقّ! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حقّ ، ثمّ قبلة الكعبة في وقته حقّ.

ثمّ قالوا : يا محمّد ، أفبدا لربّك فيما كان أمرك به بزعمك من الصلاة إلى بيت المقدس ، حين نقلك إلى الكعبة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بدا له عن ذلك ، فإنّه العالم بالعواقب ، والقادر على المصالح ، لا يستدرك على نفسه غلطا ، ولا يستحدث رأيا يخالف المتقدم ، جلّ عن ذلك ، ولا يقع أيضا عليه مانع يمنعه عن مراده ، وليس يبدو إلّا لمن كان هذا وصفه ، وهو ـ عزوجل ـ متعال عن هذه الصفات علوّا كبيرا.

ثمّ قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّها اليهود ، أخبروني عن الله ، أليس يمرض ثمّ يصحّ؟ ويصحّ ثمّ يمرض؟ أبدا له في ذلك؟ أليس يحيي ويميت؟ أليس يأتي بالليل في أثر النهار ثمّ بالنهار في أثر الليل؟ أبدا له في كلّ واحد من ذلك؟ قالوا : لا ، قال : فكذلك الله تعبّد نبيّه محمّدا ، بالصلاة إلى الكعبة ، بعد أن تعبّده بالصلاة إلى بيت المقدس ، وما بدا له في الأوّل.

ثمّ قال : أليس الله يأتي بالشتاء في أثر الصيف؟ والصيف في أثر الشتاء؟ أبدا له في كلّ واحد من ذلك؟ قالوا : لا ، قال : فكذلك لم يبد له في القبلة. ثمّ قال : أليس قد ألزمكم في الشتاء أن تحترزوا من البرد بالثياب الغليظة؟ وألزمكم في الصيف أن تحترزوا من الحرّ؟ فبدا له في الصيف حتّى أمركم

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٢.

٥٤٢

بخلاف ما كان أمركم به في الشتاء؟ قالوا : لا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فكذلك تعبّدكم في وقت لصلاح يعلمه بشيء ، ثمّ بعده في وقت آخر لصلاح آخر يعلمه بشيء آخر ، فإذا أطعتم الله في الحالين استحققتم ثوابه. وأنزل الله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي إذا توجّهتم بأمره ، فثمّ الوجه الذي تقصدون منه الله وتأملون ثوابه.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عباد الله ، أنتم كالمرضى ، والله ربّ العالمين كالطبيب ، فصلاح المرضى فيما يعلمه الطبيب ويدبّره به ، لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه ، ألا فسلّموا لله أمره تكونوا من الفائزين.

فقيل له (لأبي محمّد) : يا ابن رسول الله ، فلم أمر بالقبلة الأولى؟ فقال : لما قال الله عزوجل : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) وهي بيت المقدس (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) إلّا لنعلم ذلك منه موجودا ، بعد أن علمناه سيوجد ذلك. إنّ هوى أهل مكّة كان في الكعبة ، فأراد الله أن يبيّن متّبع محمّد من مخالفه ، باتّباع القبلة التي كرهها ، ومحمّد يأمر بها. ولمّا كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس ، أمرهم مخالفتها والتوجّه إلى الكعبة ، ليتبيّن من يوافق محمّدا فيما يكرهه ، فهو مصدّقه وموافقه.

ثمّ قال تعالى : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ)(١) إنّما كان التوجّه إلى بيت المقدس ، في ذلك الوقت كبيرة ، إلّا على من يهدي الله ، فعرف أنّ الله يتعبّد بخلاف ما يريده المرء ، ليبتلي طاعته في مخالفته هواه». (٢)

ملحوظة

هذه الآية وإن كانت في صياغتها الأولى وسياقتها مع حادث تحويل القبلة ، تستهدف الإجابة على مسائل قد يثيرها المتشكّكون ، حسبما قدّمنا في آية النسخ والإنساء ، وهنا ، كما عرفت.

لكن لها واجهة أخرى هي أعمّ يمكن التطلّع منها إلى آفاق أوسع نطاقا ، وبشأن مسائل أخرى

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٣.

(٢) الوسائل ٣ : ١٧٥ ؛ الاحتجاج ١ : ٤٤ ؛ البحار ٤ : ١٠٥ ـ ١٠٧ ، أبواب الصفات ، الباب الثالث.

٥٤٣

تعود إلى جواز الصلاة إلى أيّ الجهات ، كما في الصلاة على الراحلة ، يتّجه المصلّي حيثما توجّهت به راحلته ، وكذا الصلاة في السفينة ونحوها من مراكب السفر .. وهكذا الصلاة مندوبة إذا صلّاها ماشيا ، أو إذا اشتبه القبلة في ظلام الليل ، صلّى إلى أيّ الجهات الأربع ، كلّ ذلك وردت الرخصة به في الشريعة الغرّاء (١). والاستناد في الجميع هي هذه الآية الكريمة.

إذن فالآية ذات أبعاد وجوانب ، جاءت لتحلّ مشكلة تحويل القبلة ، من جانب ولتجيب على مسائل أخرى ـ تمسّ أمر الاستقبال في حالات وظروف خاصّة ـ من جوانب أخرى.

وليس هذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، وإنّما هو أخذ بمفهوم عامّ شامل.

وبعبارة أخرى : طبّقت الآية على مورد النزول بمفهومها العامّ ، والذي هو صالح للانطباق على موارد أخرى تناسبها ، كما لا يخفى على المتدبّر.

حادث تحويل القبلة إلى البيت العتيق

صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدّة بقائه بمكّة وبعد الهجرة لمدة بضعة عشر شهرا ، متوجّها إلى بيت المقدس ، حتّى جاءه الأمر بالتحوّل نحو البيت العتيق.

قال الشيخ أبو عبد الله المفيد : أنّ ذلك كان في النصف من رجب سنة اثنتين من الهجرة. (٢)

[٢ / ٣٠٣٢] وروى عن معاوية بن عمّار أنّه سأل الإمام الصادق عليه‌السلام عن ذلك ، قال : متى صرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الكعبة؟ قال : «بعد رجوعه من بدر. (٣)

كان يصلّي في المدينة إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا ، ثمّ تحول إلى الكعبة». (٤)

[٢ / ٣٠٣٣] وعن أبي بصير عن أحدهما (الباقر والصادق عليهما‌السلام) في حديث قال : قلت له : إنّ الله أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصلّي إلى بيت المقدس؟ قال : «نعم ، ألا ترى أنّ الله تعالى يقول : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ...)(٥). ثمّ قال : إنّ بني عبد الأشهل أتوهم

__________________

(١) وسنذكرها.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٠٢ / ١٦ عن كتاب مسارّ الشيعة للمفيد : ٣٥.

(٣) المصدر : ٢٩٧ / ١ باب ٢.

(٤) المصدر : ٢٩٨ / ٣.

(٥) البقرة ٢ : ١٤٣.

٥٤٤

ـ وهم في الصلاة وقد صلّوا ركعتين إلى بيت المقدس ـ فقيل لهم : إنّ نبيّكم صرف إلى الكعبة .. فتحوّلت النساء مكان الرجال ، والرجال مكان النساء ، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة. فصلّوا صلاة واحدة إلى قبلتين ، فلذلك سمّي مسجدهم مسجد القبلتين». (١)

[٢ / ٣٠٣٤] وروى أبو الفضل شاذان بن جبرئيل القمّي عن معاوية بن عمّار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : متى صرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الكعبة؟ قال : «بعد رجوعه من بدر ، وكان يصلّي في المدينة إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا ثمّ أعيد إلى الكعبة». (٢)

[٢ / ٣٠٣٥] وروى أبو جعفر الطوسي بإسناده عن عليّ بن الحسن الطاطري ، عن ابن أبي حمزة ـ يعني محمّدا ـ عن معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : متى صرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الكعبة؟ قال : «بعد رجوعه من بدر». (٣)

[٢ / ٣٠٣٦] وروى أبو جعفر الكليني بإسناده عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي إلى بيت المقدس؟ قال : «نعم ، فقلت : أكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال : أمّا إذا كان بمكّة فلا ، وأمّا إذا هاجر إلى المدينة فنعم ، حتّى حوّل إلى الكعبة». (٤)

[٢ / ٣٠٣٧] وروى بالإسناد إلى عيسى بن يونس ـ في حديث ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ـ وقد أنكر عليه الطواف بالكعبة ـ : «وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه ، فحثّهم على تعظيمه وزيارته ، وجعله محلّ أنبيائه وقبلة للمصلّين إليه». (٥)

[٢ / ٣٠٣٨] وروى عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد بإسناده عن أبي البختري ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استقبل بيت المقدس سبعة عشر شهرا ثمّ صرف إلى الكعبة وهو

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨ / ٢ ؛ التهذيب ، للطوسي ٢ : ٤٣ / ١٣٨ ـ ٦ ؛ البحار ١٩ : ٢٠٠.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٩٨ ؛ البحار ٨١ : ٧٦.

(٣) الوسائل ٤ : ٢٩٧ ؛ التهذيب ٢ : ٤٣ / ١٣٥ ـ ٣ ؛ البحار ١٩ : ١٩٩ / ٢.

(٤) الوسائل ٤ : ٢٩٨ ؛ الكافي ٣ : ٢٨٦ / ١٢ ؛ البحار ١٩ : ٢٠٠ / ٥.

(٥) الوسائل ٤ : ٢٩٨ ؛ الكافي ٤ : ١٩٧ / ١ ؛ العلل ٢ : ٤٠٣ / ٤ ، باب ١٤٢ ؛ الأمالى للصدوق : ٧١٥ ، المجلس التسعون ؛ التوحيد : ٢٥٣ / ٤ ، باب ٣٦ (الردّ على الثنوية والزنادقة) ؛ الفقيه ٢ : ٢٥٠ / ٢٣٢٥ ؛ البحار ٣ : ٣٣ / ٧ ، باب ٣.

٥٤٥

في العصر. (١)

ملحوظة

والآيات بشأن تحويل القبلة جاءت متفرّقة في سورة البقرة من غير ما نظم حسب تسلسل النزول. فربّ آية كانت متقدّمة في النزول وقد أثبتت متأخّرة ولعلّه لحكمة خفيت علينا ، بعد علمنا أنّ النظم القائم كان على علم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أيّام حياته .. لا يد لغيره في ذلك البتة.

وإليك نظمها حسب ترتيبها الطبيعي :

فلعلّ أوّل آية نزلت بهذا الشأن هي الآية ١٤٤ من سورة البقرة ثمّ الآية ١٤٥ وبعدها الآية ١٤٩ و ١٥٠. ثمّ الآية ١٤٢ و ١٤٣. وكانت الآيتان ١٠٦ و ١٠٧ جوابا عن شبهة أثارتها اليهود.

وآخر آية بهذا الشأن هي الآية ١١٥ .. وإليك نسقها حسب التالي :

١ ـ قال تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(٢).

٢ ـ (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(٣).

٣ ـ (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٤).

٤ ـ (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(٥).

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٠٣ ؛ قرب الإسناد : ١٤٨ / ٥٣٥ ؛ البحار ٨١ : ٦٥ / ١٨ ، باب ١٠.

(٢) البقرة ٢ : ١٤٤.

(٣) البقرة ٢ : ١٤٥.

(٤) البقرة ٢ : ١٤٩.

(٥) البقرة ٢ : ١٥٠.

٥٤٦

٥ ـ (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١).

٦ ـ (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٢).

٧ ـ (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(٣).

٨ ـ (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٤).

***

تلك مجموعة آيات نزلن بشأن حادث تحويل القبلة.

كانت الأولى تمهيدا لأرضيّة حادث التحويل .. حيث يرتضيه المؤمنون ، وإن كان يمقته المناوؤون ، مقتا عن عصبيّة جهلاء ، وهم يعلمون أنّه الحقّ من ربّهم.

والثانية تيئيس عن إمكان التوافق مع المناوئين المعاندين.

والثالثة دستور صريح للاتّجاه نحو الكعبة المكرّمة.

والرابعة تأكيد بليغ لكافّة المسلمين فليتوجّهوا في صلاتهم نحو الكعبة ولا يخشوا أحدا من الناس.

والخامسة تعريض بالمناوئين وتسفيه لمزاعم وهموها في عالم الخيال.

والسادسة تبيين لحكمة التثبيت أوّلا ثمّ التحويل ، وليكون اختبارا لموضع المسلمين ومدى إخلاصهم في الإيمان والتسليم لله ولرسوله.

والسابعة جواب عن شبهة أثيرت حول النسخ في الشريعة عموما وأنّه لحكمة بالغة.

والثامنة جواب عن خصوص الشبهة حول حادث تحويل القبلة بالذات.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٢.

(٢) البقرة ٢ : ١٤٣.

(٣) البقرة ٢ : ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٤) البقرة ٢ : ١١٥.

٥٤٧

وبعد ، يا ترى في هذه المجموعة من الآيات من النظم القائم ، المنسجم المترابط بعضها مع البعض ، كحلقات متواصلة ليس يفصلها شيء ولعلّها هكذا نزلن ، وإن تفرّقن في الثبت ، وعسى أن كانت هناك حكمة لاحظها التوقيف والتوظيف الأمر الذي لا ينثلم به صلب البحث ، بعد العلم بحقيقة الحال.

وبذلك يتبيّن أن لا نسخ هناك في شيء من الآيات ، حيثما لا حظناها مجموعة متراصّة متلائمة الأشلاء.

نعم جاء في روايات عن السلف ما لا يعاضد هذا الاتّجاه ، وقد فرضت أخيرة الآيات منسوخة بما سبقها من آيات.

[٢ / ٣٠٣٩] أخرج أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه والبيهقي في سننه عن ابن عبّاس قال : أوّل ما نسخ لنا من القرآن ـ فيما ذكر لنا والله أعلم ـ شأن القبلة ؛ قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) فاستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلّى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ، ثمّ صرفه الله تعالى إلى البيت العتيق ونسخها ؛ فقال : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ)(١) الآية (٢).

[٢ / ٣٠٤٠] وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قال : كان الناس يصلّون قبل بيت المقدس ، فلمّا قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره ، وكان إذا صلّى رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر به ، فنسختها قبل الكعبة. (٣)

[٢ / ٣٠٤١] وأخرج عبد بن حميد والترمذي عن قتادة قال : هذه الآية منسوخة ، نسخها قوله

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٩.

(٢) الدرّ ١ : ٢٦٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢١٢ / ١١٢٣ ؛ الحاكم ٢ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨ ، كتاب التفسير ، سورة البقرة ؛ البيهقي ٢ : ١٢ ، كتاب الصلاة ، باب استبيان الخطاء بعد الاجتهاد ؛ التبيان ٢ : ١٥ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٢٣ ، بلفظ : قال ابن عبّاس : أوّل ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة ؛ ابن كثير ١ : ١٦٢.

(٣) الدرّ ١ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

٥٤٨

تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(١) أي تلقاءه. (٢)

[٢ / ٣٠٤٢] وأخرج ابن جرير بإسناده عن ابن عبّاس قال : كان أوّل ما نسخ من القرآن القبلة.

وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا هاجر إلى المدينة ، وكان أكثر أهلها اليهود! أمره الله ـ عزوجل ـ أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بضعة عشر شهرا ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّ قبلة إبراهيم عليه‌السلام فكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ)(٣) إلى قوله : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(٤) فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها)(٥) فأنزل الله عزوجل : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) وقال : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)(٦).

[٢ / ٣٠٤٣] وأخرج عن قتادة في قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قال : هي القبلة ، ثمّ نسختها القبلة إلى المسجد الحرام. (٧)

القبلة هي جهة الكعبة وسمتها

هناك روايات متظافرة دلّت على أنّ القبلة في الصلاة هي جهة الكعبة وسمتها لمن نأى عنها. فالمصلّي شرقيّ الكعبة ، كانت قبلته سمت الغرب ، وبالعكس.

والمصلّي شماليّ الكعبة ، فقبلته الجنوب بين المشرق والمغرب. وهكذا المصلّي جنوبيّا ، كانت قبلته جهة الشمال.

[٢ / ٣٠٤٤] روى الشيخ أبو جعفر الطوسي بالإسناد إلى الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال :

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٩.

(٢) الدرّ ١ : ٢٦٧ ؛ الترمذي ٤ : ٢٧٤ ، بعد رقم ٤٠٣٤ ، كتاب التفسير ، سورة البقرة.

(٣) البقرة ٢ : ١٤٤.

(٤) البقرة ٢ : ١٥٠.

(٥) البقرة ٢ : ١٤٢.

(٦) الطبري ١ : ٧٠٠ / ١٥١٩ ؛ الوسيط ١ : ١٩٤ باختصار ، وفيه : «... فلمّا صرفه الله إليها عيّرت اليهود المؤمنين فأنزل الله ...».

(٧) الطبري ١ : ٧٠١ / ١٥٢١.

٥٤٩

«جعلت الكعبة قبلة لأهل المسجد. وجعل المسجد قبلة أهل الحرم. والحرم قبلة الآفاق». (١)

[٢ / ٣٠٤٥] وروى ابن بابويه الصدوق بالإسناد إلى أبي غرّة قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «البيت قبلة المسجد. والمسجد قبلة مكّة. ومكّة قبلة الحرم. والحرم قبلة سائر البلاد». (٢)

[٢ / ٣٠٤٦] وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي والدار قطني. وكذا الترمذي وصحّحه. وابن ماجة عن عبد الله بن عمر وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة ، إذا توجّهت قبل البيت» (٣). يعني بهم أهل المدينة.

قال ابن كثير : ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة والشام والعراق ، وذكر الحديث. (٤)

[٢ / ٣٠٤٧] وعن الحلبي سأل الإمام الصادق عليه‌السلام : هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي إلى بيت المقدس؟ قال : «نعم. فقلت : أكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ قال : أمّا إذا كان بمكّة فلا ، وأمّا إذا هاجر إلى المدينة فنعم. حتّى حوّل إلى الكعبة». (٥)

[٢ / ٣٠٤٨] وروى زرارة عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «لا صلاة إلّا إلى القبلة .. قلت : وأين حدّ القبلة؟ قال : ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه». (٦)

[٢ / ٣٠٤٩] وقال ابن بابويه الصدوق : صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت المقدس بعد النبوّة ثلاثة عشر سنة بمكّة وتسعة عشر شهرا بالمدينة. ثمّ عيّرته اليهود فقالوا : إنّه لقبلتنا ، فاغتمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك فخرج في بعض الليالي يقلّب وجهه في آفاق السماء يترقّب ما يزيل همّه فلمّا أصبح وصلّى الغداة ، ثمّ لمّا صلّى من الظهر ركعتين ، جاءه جبرائيل عليه‌السلام وأخذ بيده وحوّل وجهه إلى الكعبة وتحوّل من كان خلفه بوجوههم نحوها حتّى تحوّل الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال. فكان أوّل الصلاة إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة. قال : وبلغ الخبر مسجدا آخر فتحوّلوا إلى الكعبة في صلاتهم ، فسمّي مسجدهم مسجد القبلتين. (٧)

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٤٤ / ١٣٩ ؛ الوسائل ٤ : ٣٠٣ / ١ ، باب ٣.

(٢) العلل : ٣١٨ / ٢ ؛ الوسائل ٤ : ٣٠٤ / ٤.

(٣) المصنّف ٢ : ٢٥٦ ؛ البيهقي ٢ : ٩ ؛ الدار قطني ١ : ٢٧٠. الترمذي ١ : ٢١٤ ؛ ابن ماجة ١ : ٣٢٣ ؛ الحاكم ١ : ٢٠٥ ؛ كنز العمّال ٧ : ٣٨٨ ؛ الدرّ ١ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

(٤) ابن كثير ١ : ١٦٤.

(٥) الوسائل ٤ : ٢٩٨ / ٤.

(٦) المصدر : ٣٠٠ / ٩.

(٧) المصدر : ٣٠١ / ١٢.

٥٥٠

الكعبة من تخوم الأرض إلى عنان السماء

[٢ / ٣٠٥٠] روى الشيخ أبو جعفر الطوسي بالإسناد إلى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سأله رجل عمّن صلّى فوق أبي قبيس ، فهل يجزى ذلك والكعبة تحته؟ قال : «نعم ، إنّها قبلة من موضعها إلى السماء». (١)

[٢ / ٣٠٥١] وقال ابن بابويه الصدوق : قال الصادق عليه‌السلام : «أساس البيت من الأرض السابعة السفلى ، إلى السماء السابعة العليا». (٢)

الصلاة لأربع جهات عند اشتباه القبلة

[٢ / ٣٠٥٢] روى الشيخ أبو جعفر الطوسي بإسناده إلى إسماعيل بن عبّاد عن خداش بن إبراهيم عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام سأله عمّا إذا أطبقت السماء علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء قال : «إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه» (٣). أي أيّ الوجوه من الأربع. نظرا للحديث التالي :

[٢ / ٣٠٥٣] روى بالإسناد إلى زرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «يجزي المتحيّر أبدا أينما توجّه ، إذا لم يعلم أين وجه القبلة». (٤)

[٢ / ٣٠٥٤] وروى أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني بالإسناد إلى محمّد بن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة قال : سألت أبا جعفر الباقر عليه‌السلام عن قبلة المتحيّر ، فقال : «يصلّي حيث يشاء». (٥)

وقد فهم الفقهاء من ذلك الصلاة أربعا إلى أربع جهات ، خروجا عن العلم الإجماليّ المتنجّز.

غير أنّ شرط استقبال البيت ساقط عند التعذّر ويدعمه ظهور الرواية بذلك مضافا إلى شمول الآية لمثل المقام ، كما عرفت.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٨٣ / ١٥٩٨ ؛ الوسائل ٤ : ٣٣٩ / ١ باب ١٨.

(٢) الفقيه ٢ : ١٦٠ / ٦٩٠ ؛ الوسائل ٤ : ٣٣٩ / ٣. واللفظ في المصدر : إلى الأرض السابعة العليا .. ولعلّه تصحيف ، والصحيح ما أثبتناه.

(٣) التهذيب ٢ : ٤٥ / ١٤٥ ؛ الوسائل ٤ : ٣١١ / ٥ باب ٨.

(٤) الفقيه ١ : ١٧٩ / ٨٤٥ ؛ الوسائل ٤ : ٣١١ / ٢.

(٥) الكافي ٣ : ٢٨٦ / ١٠ ؛ الوسائل ٤ : ٣١١ / ٣.

٥٥١

إذا صلّى ظانّا ثمّ تبيّن الخلاف

إذا صلّى مع ظنّ القبلة متحريّا ، ثمّ تبيّن الخلاف بعد ما انقضى الوقت ، فقد مضت صلاته ولا يقضي .. أمّا إذا كان الوقت باقيا فيعيد إذا كان مستدبرا للقبلة.

[٢ / ٣٠٥٥] روى الشيخ أبو جعفر الطوسي بالإسناد إلى عبد الرحمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا صلّيت وأنت على غير القبلة ، واستبان لك أنّك صلّيت وأنت على غير القبلة ، وأنت في وقت ، فأعد. وإن فاتك الوقت فلا تعد». (١)

[٢ / ٣٠٥٦] وأخرج الدار قطني وابن مردويه والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سريّة كنت فيها ، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة ، فقالت طائفة منّا : القبلة هاهنا قبل الشمال ، فصلّوا وخطّوا خطّا. وقال بعضنا : القبلة هاهنا قبل الجنوب ، فصلّوا وخطّوا خطّا. فلمّا أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة. فلمّا قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسكت ، فأنزل الله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ...) الآية. (٢)

[٢ / ٣٠٥٧] وأخرج ابن جرير بإسناده عن عامر بن ربيعة ، عن أبيه ، قال : كنّا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة مظلمة في سفر ، فلم ندر أين القبلة فصلّينا ، فصلّى كلّ واحد منّا على حياله (٣). ثمّ أصبحنا فذكرنا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). (٤)

[٢ / ٣٠٥٨] وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء : أنّ قوما عميت عليهم القبلة ، فصلّى كلّ إنسان منهم إلى ناحية ، ثمّ أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكروا ذلك له ، فأنزل الله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). (٥)

[٢ / ٣٠٥٩] وأخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث سريّة فأصابتهم ضبابة

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٤٧ / ١٥١ و ١٤٢ / ٥٥٤ ؛ الوسائل ٤ : ٣١٥ / ١ باب ١١.

(٢) الدرّ ١ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧ ؛ الدار قطني ١ : ٢٧٨ ؛ البيهقي ٢ : ١١ ـ ١٢ ، كتاب الصلاة ، باب استيبان الخطاء بعد الاجتهاد ؛ مجمع البيان ١ : ٣٥٨ ؛ أسباب النزول ، للواحدي : ٢٣.

(٣) أي تلقاء وجهه.

(٤) الطبري ١ : ٧٠٣ / ١٥٢٨.

(٥) الدرّ ١ : ٢٦٧ ؛ سنن سعيد بن منصور ٢ : ٦٠١ / ٢١٠ ؛ الطبري ١ : ٧٠٢.

٥٥٢

فلم يهتدوا إلى القبلة فصلّوا لغير القبلة ، ثمّ استبان لهم بعد ما طلعت الشمس أنّهم صلّوا لغير القبلة ، فلمّا جاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حدّثوه ، فأنزل الله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ...) الآية. (١)

[٢ / ٣٠٦٠] وقال مقاتل بن سليمان : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ...) وذلك أنّ ناسا من المؤمنين كانوا في سفر فحضرت الصلاة في يوم غيم فتحيّروا ، فمنهم من صلّى قبل المشرق ، ومنهم من صلّى قبل المغرب ، وذلك قبل أن تحوّل القبلة إلى الكعبة ، فلمّا طلعت الشمس عرفوا أنّهم قد صلّوا لغير القبلة. فقدموا المدينة فأخبروا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك فأنزل الله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا) تحولّوا وجوهكم في الصلاة (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) فثمّ الله (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) لتوسيعه عليهم في ترك القبلة حين جهلوها (عَلِيمٌ) بما نووا. (٢)

[٢ / ٣٠٦١] وأخرج أبو داوود الطيالسي وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجة وابن جرير وابن أبي حاتم والعقيلي والدار قطني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن عامر بن ربيعة عن أبيه قال : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلا ، فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا فيصلّي فيه ، فلمّا أن أصبحنا إذا نحن قد صلّينا على غير القبلة ، فقلنا : يا رسول الله لقد صلّينا ليلتنا هذه لغير القبلة؟ فأنزل الله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ...) الآية. فقال : «مضت صلاتكم». (٣)

الصلاة على الراحلة

وردت الرخصة في الصلاة على الراحلة أو على ظهر السفينة أو أيّ مركب آخر أن يتّجه المصلّي في صلاته حيث اتّجهت به راحلته.

[٢ / ٣٠٦٢] روى ابن بابويه الصدوق بالإسناد إلى الحلبي ، أنّه سأل الإمام أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٦٧ ؛ الثعلبي ١ : ٢٦٢ ، بمعناه ؛ ابن كثير ١ : ١٦٤ ؛ البغوي ١ : ١٥٧ / ٧٦ ، بمعناه ؛ أبو الفتوح ٢ : ١٢٣ ـ ١٢٤ ، بتفاوت.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٣٣.

(٣) مسند الطيالسي : ١٥٦ ؛ منتخب مسند عبد بن حميد : ١٣٠ / ٣١٦ ؛ الترمذي ٤ : ٢٧٣ ـ ٢٧٤ / ٤٠٣٣ ؛ ابن ماجة ١ : ٣٢٦ / ١٠٢٠ ؛ الطبري ١ : ٧٠٢ ـ ٧٠٣ / ١٥٢٦ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢١١ / ١١٢٠ ؛ الضعفاء للعقيلي ١ : ٣١ ؛ الحلية ١ : ١٧٩ ؛ البيهقي ٢ : ١١ ؛ ابن كثير ١ : ١٦٣.

٥٥٣

عن الصلاة في السفينة؟ فقال : «يستقبل القبلة ويصفّ رجليه. فإذا دارت واستطاع أن يتوجّه إلى القبلة ، وإلّا فليصلّ حيث توجّهت به. قال : وإن أمكنه القيام فليصلّ قائما ، وإلّا فليقعد ثمّ يصلّي». (١)

[٢ / ٣٠٦٣] وبإسناده إلى زرارة ، أنّه سأل الإمام أبا جعفر الباقر عليه‌السلام عن الرجل يصلّي النوافل في السفينة؟ قال : «يصلّي نحو رأسها». (٢)

[٢ / ٣٠٦٤] وبإسناده عن يونس بن يعقوب : سأل الصادق عليه‌السلام عن الصلاة في السفينة وهي تأخذ شرقا وغربا فقال : «استقبل القبلة ، ثمّ كبّر ، ثمّ در مع السفينة حيث دارت بك». (٣)

صلاة المتطوّع على الراحلة أو ماشيا

[٢ / ٣٠٦٥] روى الشيخ أبو جعفر الطوسي بالإسناد إلى معاوية بن عمّار عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا بأس بأن يصلّي الرجل صلاة الليل في السفر وهو يمشي ، يتوجّه إلى القبلة ثمّ يمشي ويقرأ ، فإذا أراد أن يركع حوّل وجهه إلى القبلة وركع وسجد ثمّ مشى». (٤)

[٢ / ٣٠٦٦] وبالإسناد إلى إبراهيم بن ميمون عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن صلّيت وأنت تمشي ، كبّرت ثمّ مشيت فقرأت ، فإذا أردت أن تركع أومأت ، ثمّ أومأت بالسجود». (٥)

[٢ / ٣٠٦٧] وعن يعقوب بن شعيب عنه عليه‌السلام : «أوم إيماء ، واجعل السجود أخفض من الركوع». (٦)

[٢ / ٣٠٦٨] وأخرج البخاري والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة أنمار يصلّي على راحلته متوجّها قبل المشرق تطوّعا. (٧)

[٢ / ٣٠٦٩] وروى ابن بابويه بالإسناد إلى محمّد بن أبي عمير عن حمّاد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل يقرأ السجدة وهو على ظهر دابّته؟ قال : «يسجد حيث توجّهت به ،

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٩١ / ١٣٢٢ ؛ الوسائل ٤ : ٣٢٠.

(٢) الفقيه ١ : ٢٩٢ / ١٣٢٦.

(٣) المصدر / ١٣٢٨ ؛ الوسائل ٤ : ٣٢١ / ٦.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٢٩ / ٥٨٥ ؛ الوسائل ٤ : ٣٣٤ / ١.

(٥) التهذيب ٣ : ٢٢٩ / ٥٨٧.

(٦) المصدر / ٥٨٨.

(٧) الدرّ ١ : ٢٦٦ ؛ البخاري ٥ : ٥٥ ، كتاب المغازي ، باب غزوة بني المصطلق ؛ البيهقي ٢ : ٤ ، كتاب الصلاة ، جماع أبواب استقبال القبلة ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ٢ : ٣٧٧ / ١ ، باب ٣٢٥.

٥٥٤

فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي على ناقته وهو مستقبل المدينة ، يقول الله عزوجل : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)». (١)

[٢ / ٣٠٧٠] وروى العيّاشيّ بالإسناد إلى حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل يقرأ السجدة وهو على ظهر دابّته ، قال : «يسجد حيث توجّهت ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي على ناقته النافلة وهو مستقبل المدينة ، يقول : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ)». (٢)

[٢ / ٣٠٧١] وعن حريز ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «أنزل الله هذه الآية في التطوع خاصة : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ). وصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيماء على راحلته أينما توجّهت به ، حين خرج إلى خيبر ، وحين رجع من مكّة ، وجعل الكعبة خلف ظهره». (٣)

[٢ / ٣٠٧٢] وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري والبيهقي عن جابر بن عبد الله : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي على راحلته قبل المشرق ، فإذا أراد أن يصلّي المكتوبة نزل واستقبل القبلة وصلّى. (٤)

[٢ / ٣٠٧٣] وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داوود والبيهقي عن أنس : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا سافر وأراد أن يتطوّع بالصلاة استقبل بناقته القبلة وكبّر ، ثمّ صلّى حيث توجّهت الناقة. (٥)

[٢ / ٣٠٧٤] وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر والنحّاس في ناسخه والطبراني والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي على راحلته تطوّعا أينما توجّهت به ، ثمّ قرأ ابن عمر هذه الآية : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١١٧ / ٣٢٠ ؛ العلل ٢ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ / ١ ، باب ٧٦ ؛ البرهان ١ : ٣١٤ / ٤ ؛ الصافي ١ : ٢٧٠ ، عن العلل والعيّاشي ؛ كنز الدقائق ٢ : ١٢٦ ؛ العيّاشي ١ : ٧٥ ـ ٧٦ / ٨٢ ؛ البحار ٨١ : ٧٠ / ٢٨ و ١٠٠ / ١٨ و ٨٤ : ٤٠ ـ ٤١ / ٣٠ ، باب ١. قال المجلسي : هذا محمول على النافلة ، ولا خلاف في جوازها على الراحلة.

(٢) البرهان ١ : ٣١٥ / ٧ ؛ العيّاشي ١ : ٧٥ ـ ٧٦ / ٨٢ ؛ الصافي ١ : ٢٧٠.

(٣) البرهان ١ : ٣١٤ ـ ٣١٥ / ٥ ؛ العيّاشي ١ : ٧٥ / ٨٠ ؛ الصافي ١ : ٢٧٠ ، عن العيّاشي ؛ البحار ٨١ : ٧٠ / ٢٩.

(٤) الدرّ ١ : ٢٦٦ ؛ المصنّف ٢ : ٣٧٧ / ٨ ، باب ٣٢٥ ؛ البخاري ٢ : ٣٧ ؛ البيهقي ٢ : ٦.

(٥) الدرّ ١ : ٢٦٦ ؛ المصنّف ٢ : ٣٧٧ / ٨ ، باب ٣٢٥ ؛ أبو داوود ١ : ٢٧٤ / ١٢٢٥ ، باب ٢٧٧ ؛ البيهقي ٢ : ٥ ؛ الدار قطني ١ : ٣٩٥ / ١.

٥٥٥

قال ابن عمر : في هذا نزلت هذه الآية. (١)

[٢ / ٣٠٧٥] وروى الثعلبي عن ابن عمر في هذه الآية قال : نزلت في صلاة المسافر يصلّي حيثما توجّهت به راحلته تطوّعا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي على راحلته جائيا من مكّة إلى المدينة.

وروى أيضا في رواية عنه : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي على راحلته في السفر حيثما توجّهت به. (٢)

[٢ / ٣٠٧٦] وقال عليّ بن إبراهيم : قال العالم عليه‌السلام : «فإنّها نزلت في صلاة النافلة فصلّها حيث توجّهت إذا كنت في سفر ، وأمّا الفرائض ، فقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) يعني الفرائض لا تصلّيها إلّا إلى القبلة». (٣)

[٢ / ٣٠٧٧] وروى العيّاشي بالإسناد إلى زرارة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الصلاة في السفر في السفينة والمحمل سواء؟ قال : «النافلة كلّها سواء ، تومىء إيماء أينما توجّهت دابّتك وسفينتك. والفريضة تنزل لها من المحمل إلى الأرض إلّا من خوف ، فإن خفت أومأت وأمّا السفينة فصلّ فيها قائما وتوخّ القبلة بجهدك فإنّ نوحا عليه‌السلام قد صلّى الفريضة فيها قائما متوجّها إلى القبلة وهي مطبقة عليهم ، قال : قلت : وما كان علمه بالقبلة فيتوجّهها وهي مطبقة عليهم؟ قال : كان جبرائيل عليه‌السلام يقوّمه نحوها. قلت : فأتوجّه نحوها في كلّ تكبيرة؟ قال : أمّا في النافلة فلا ، إنّما تكبّر في النافلة على غير القبلة أكثر. ثمّ قال : كلّ ذلك قبلة للمتنفّل ، فإنّه تعالى قال : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ)». (٤)

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٦٦ ؛ المصنّف ٢ : ٣٧٨ / ١٠ ، باب ٣٢٥ ، بلفظ : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي فخلّى راحلته حيث توجّهت به ، كان ابن عمر يفعل ذلك ؛ مسلم ٢ : ١٤٩ ؛ الترمذي ٤ : ٢٧٤ / ٤٠٣٤ ؛ النسائي ١ : ٣٠٥ / ٩٤٦ و ٦ : ٢٨٩ / ١٠٩٩٧ ؛ الطبري ١ : ٧٠٢ / ١٥٢٥ و ١٥٢٤ ؛ الأوسط ٧ : ١٩٥ / ٧٢٥٤ ، باختصار ؛ البيهقي ٢ : ٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢١٢ / ١١٢١ ؛ القرطبي ٢ : ٨٠.

(٢) الثعلبي ١ : ٢٦٢.

(٣) البرهان ١ : ٣١٤ / ١ ؛ القمي ١ : ٥٨ ـ ٥٩ ، بدون قوله : «قال العالم عليه‌السلام» ؛ الصافي ١ : ٢٧٠ ، بدون قوله : «قال العالم عليه‌السلام» ، والمراد بالعالم هنا : الإمام من آل البيت عليهم‌السلام.

(٤) البرهان ١ : ٣١٥ / ٦ ؛ العيّاشي ١ : ٧٥ / ٨١ ؛ البحار ٨٤ : ٤٥ / ٣٦.

٥٥٦

[٢ / ٣٠٧٨] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدار قطني والحاكم وصحّحه عن عبد الله بن عمر قال : أنزلت (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أن تصلّي حيثما توجّهت بك راحلتك في التطوّع. (١)

الصلاة في جوف الكعبة

لا تحسن الصلاة في جوف الكعبة ولا سيّما الفريضة ، حيث لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا أحد من صحابته والأئمة من عترته .. بل ورد النهي عنها نهي كراهة شديدة تأسّيا. أمّا النافلة فتجوز على كراهيّة ، وليستقبل أيّ الجهات منها ، كما في الحديث.

[٢ / ٣٠٧٩] روى الشيخ بالإسناد إلى معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تصلّ المكتوبة في جوف الكعبة ، فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدخل الكعبة في حجّ ولا عمرة ، ولكنّه دخلها عام الفتح وصلّى ركعتين بين العمودين». (٢)

[٢ / ٣٠٨٠] وقال الكليني : روي في حديث : «أنّه يصلّي لأربع جوانبها» (٣) أي لأيّ جانب من جوانبها الأربع.

[٢ / ٣٠٨١] وروى عبد الله بن جعفر عن محمّد بن عيسى عن ابن ميمون عن أبي عبد الله عن أبيه الباقر عليهما‌السلام أنّه رأى أباه عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام يصلّي في الكعبة ركعتين. (٤)

وهكذا أفتى الشيخ المفيد وفق قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ المكتوبة في جوف الكعبة ، ولا بأس أن تصلّي فيها النافلة». (٥)

الصلاة على ظهر الكعبة

[٢ / ٣٠٨٢] روى ابن بابويه الصدوق بالإسناد إلى شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الإمام

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٦٦ ؛ الطبري ١ : ٧٠٢ / ١٥٢٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢١٢ / ١١٢١ ؛ الحاكم ٢ : ٢٦٦ ، كتاب التفسير ، سورة البقرة ؛ الثعلبي ١ : ٢٦٢ ؛ أبو الفتوح ٢ : ١٢٤.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٧٩ / ٩٥٣ ؛ الوسائل ٤ : ٣٣٧.

(٣) الكافي ٣ : ٣٩١ / ١٨ ؛ الوسائل ٤ : ٣٣٦ ، باب ١٧.

(٤) قرب الإسناد : ١٣ ؛ الوسائل ٤ : ٣٣٨.

(٥) المقنعة للمفيد : ٧٠ ؛ الوسائل ٤ : ٣٣٨ / ٩ ؛ باب ١٧.

٥٥٧

أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام في حديث المناهي ، قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصلاة على ظهر الكعبة. (١)

[٢ / ٣٠٨٣] وروى ثقة الإسلام الكليني بالإسناد إلى عبد السّلام بن صالح عن الإمام أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في الذي تدركه الصلاة وهو فوق الكعبة ، قال : «إن قام لم يكن له قبلة ، ولكن يستلقي على قفاه ، ويفتح عينيه إلى السماء ، ويعقد بقلبه القبلة التي في السماء البيت المعمور ، ويقرأ. فإذا أراد أن يركع غمض عينيه ، وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع فتح عينيه. والسجود على نحو ذلك». (٢)

[٢ / ٣٠٨٤] وروى الشيخ بإسناده إلى محمّد بن عبد الله بن مروان ، قال : رأيت يونس بمنى ، يسأل الإمام أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل إذا حضرته صلاة الفريضة وهو في الكعبة ، فلم يمكنه الخروج؟ فقال : «استلقى على قفاه وصلّى إيماء». وذكر قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)(٣). (٤).

***

قلت : حديث الاستلقاء على القفا ، محمول على العاجز عن القيام إذ لا وجه لسقوط القيام والركوع والسجود والاستقبال جميعا؟!

قال المحقّق الحلّي : من صلّى في جوف الكعبة استقبل أيّ جدرانها شاء ، على كراهيّة في الفريضة. ولو صلّى على سطحها أبرز بين يديه منها ما يصلّي إليه. وقيل : يستلقي على ظهره ويصلّي چموميا إلى البيت المعمور. والأوّل أصحّ. (٥)

قال صاحب الجواهر : وفاقا للمشهور بين الأصحاب شهرة كادت تكون إجماعا ضرورة عدم مدخليّة البناء في القبلة إذ لو اتّفق ارتفاع أرض الكعبة حتّى صار السطح الآن جوفها كان داخلا في الفرض قطعا. (٦)

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٥ / ١ ؛ الوسائل ٤ : ٣٤٠ / ١ ، باب ١٩.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٢ / ٢١ ؛ الوسائل ٤ : ٣٤٠ / ٢ ، باب ١٩.

(٣) البقرة ٢ : ١١٥.

(٤) التهذيب ٥ : ٤٥٣ / ١٥٨٣ ؛ الوسائل ٤ : ٣٣٨ / ٧ باب ١٧.

(٥) شرائع الإسلام ، المحقّق ١ : ٦٥. المقدّمة الثالثة في القبلة.

(٦) جواهر الكلام ، ٧ : ٣٥٣.

٥٥٨

قبلة الدعاء والمسألة في غير الصلاة

[٢ / ٣٠٨٥] أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما في تفسير قوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(١) عن مجاهد وسعيد بن جبير والحسن والضحّاك وغيرهم : أنّ أناسا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : إلى أين نتوجّه في الدعاء والمسألة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أينما تولّيتم فثمّ وجه الله». وتلا : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٢). (٣).

[٢ / ٣٠٨٦] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس ـ في الآية ـ قال : قبلة الله ، أينما توجّهت شرقا أو غربا. (٤)

أين وجه الله؟

ماذا يكون المراد من وجه الله؟

المراد من وجهه تعالى : واجهته حيثما توجّهت إذ لا يحجزه مكان كما لا يخلو منه مكان. وكلّ ما في الوجود إنّما هو بمحضره تعالى ، لا يغيب عنه شيء ، ولا يحتجب منه شيء. فكلّ حضور لديه تعالى وبمشهده حيثما كانوا وحيثما ذهبوا.

وبتعبير أدقّ : العالم كلّه وبرمّته في قبضته تعالى ، (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)(٦).

ومن ثمّ فأينما توجّهت كنت واجهته تعالى على الحقيقة ، بعد أن كنت حاضرا لديه في جميع أبعادك وجوانبك (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً)(٧).

[٢ / ٣٠٨٧] روى ابن بابويه الصدوق بإسناده إلى سلمان الفارسي ـ في حديث طويل ـ قال : قدم وفد من النصارى ، بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يترأسهم جاثليق ، وكانت لهم أسئلة ، لم يجبهم عليها

__________________

(١) غافر ٤٠ : ٦٠.

(٣) البقرة ٢ : ١١٥.

(٤) نقلا بالمعنى عن الطبري ١ : ٧٠٥. والثعلبي ١ : ٢٦٣. والبغوي ١ : ١٥٨. وأبي الفتوح ٢ : ١٢٥. والقرطبي ٢ : ٨٣.

(٥) ابن أبي حاتم ١ : ٢١٢ / ١١٢٤ ؛ الدرّ ١ : ٢٦٧ ؛ ابن كثير ١ : ١٦٢.

(٦) فصّلت ٤١ : ٥٤.

(٧) النساء ٤ : ١٢٦.

٥٥٩

أحد ، وأرشدوا إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فكان ممّا سألوه أن قالوا : أخبرنا عن وجه الربّ ـ تبارك وتعالى ـ؟

فأوعز الإمام إلى ابن عبّاس أن يأتيه بنار وحطب ، فأضرمها ، فلمّا اشتعلت ، قال لهم الإمام : «أين وجه هذه النار؟ قالوا : هي وجه من جميع حدودها! ـ وفي حديث آخر : لا نقف لها على وجه ـ فقال عليه‌السلام : هذه النار مدبّرة مصنوعة ، لا يعرف لها وجه بالذات ولا شكّ أنّ خالقها لا يشبهها وأنّ هذا مثل. (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) إذ لا يخفى على ربّنا خافية أي الجميع حضور لديه على سواء» (١).

***

[٢ / ٣٠٨٨] وعن ابن عبّاس قال : الوجه عبارة عنه تعالى كما قال : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)(٢) أي تبقى ذاته المقدّسة.

[٢ / ٣٠٨٩] وعن مجاهد قال : وجه الله ، قبلة الله (٣). وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حيّان (٤).

[٢ / ٣٠٩٠] وقال الحسن : فثمّ وجه الله أي جهة القبلة وهي الكعبة ، أي جهة قبلته. (٥)

[٢ / ٣٠٩١] وقال الرمّاني والجبّائي : فثمّ رضوان الله. (٦)

[٢ / ٣٠٩٢] وعن الكلبي والقتيبي : الوجه صلة. والمراد : فثمّ الله. وهو كقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ)(٧). وكقوله تعالى : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)(٨) أى يريدونه بالدعاء. وكقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(٩) أي ذاته المقدّسة. (١٠)

__________________

(١) التوحيد : ١٨٢ / ١٦ ، باب ٢٨ ؛ الخصال : ٥٩٧ ؛ البحار ٣ : ٣٢٨ ـ ٣٢٩ و ١٠ : ٣.

(٢) القرطبي ٢ : ٨٣ ـ ٨٤.

(٣) الطبري ١ : ٧٠٥ / ١٥٣٣.

(٤) الثعلبي ١ : ٢٦٣ ؛ البغوي ١ : ١٥٨ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٥٩.

(٥) التبيان ١ : ٤٢٤ ؛ أبو الفتوح ٢ : ١٢٧.

(٦) التبيان ١ : ٤٢٥ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٥٩.

(٧) الحديد ٥٧ : ٤.

(٨) الكهف ١٨ : ٢٨.

(٩) القصص ٢٨ : ٨٨.

(١٠) الثعلبي ١ : ٢٦٣ ؛ البغوي ١ : ١٥٨ ؛ القرطبي ٢ : ٨٤ ؛ أبو الفتوح ٢ : ١٢٧ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٥٩.

٥٦٠