التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

[٢ / ١٧٦٢] وأخرج أحمد عن أبي بردة عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعطيت خمسا : بعثت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لمن كان قبلي ، ونصرت بالرعب شهرا ، وأعطيت الشفاعة ، وليس من نبيّ إلّا وقد سأل شفاعة وإنّي أخبأت شفاعتي ، ثمّ جعلتها لمن مات من أمّتي لم يشرك بالله شيئا» (١).

[٢ / ١٧٦٣] وأخرج عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : («عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال : الشفاعة» (٢).

[٢ / ١٧٦٤] وأخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّه سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ، ثمّ صلّوا عليّ ، فإنّه من صلّى عليّ صلاة ، صلّى الله عليه بها عشرا ، ثمّ سلوا الله لي الوسيلة ، فإنّها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة» (٣).

[٢ / ١٧٦٥] وأخرج ابن ماجة عن عثمان بن حنيف ، أنّ رجلا ضرير البصر أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ادع الله لي أن يعافيني! فقال : «إن شئت أخّرت لك وهو خير ، وإن شئت دعوت» فقال : ادعه! فأمره أن يتوضّأ فيحسن وضوءه ، ويصلّي ركعتين ، ويدعو بهذا الدعاء : «اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بمحمّد نبيّ الرحمة ، يا محمّد! إنّي قد توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي هذه لتقضى ، اللهمّ! فشفّعه فيّ» (٤).

[٢ / ١٧٦٦] وأخرج أحمد عن عمارة بن خزيمة يحدّث عن عثمان بن حنيف أنّ رجلا ضرير

__________________

(١) مسند أحمد ٤ : ٤١٦ ؛ مجمع الزوائد ٨ : ٢٥٨ ، قال الهيثمي : «رواه أحمد متصلا ومرسلا والطبراني ورجاله رجال الصحيح» ؛ كنز العمّال ١١ : ٤٣٩ / ٣٢٠٦٥.

(٢) مسند أحمد ٢ : ٤٤٤ ؛ الترمذي ٤ : ٣٦٥ / ٥١٤٥ ، كتاب التفسير ، سورة الإسراء ، وقال : هذا حديث حسن ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٤٣٣ / ١٠٧ ، كتاب الفضائل ، باب ١.

(٣) مسلم ٢ : ٤ ؛ مسند أحمد ٢ : ١٦٨ ؛ أبو داوود ١ : ١٢٨ / ٥٢٣ ، باب ٣٦ ؛ الترمذي ٥ : ٢٤٧ / ٣٦٩٤ ، باب ٢٢ ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ؛ النسائي ١ : ٥١٠ / ١٦٤٢ ؛ كنز العمّال ٧ : ٧٠٠ / ٢٠٩٩٨.

(٤) ابن ماجة ١ : ٤٤١ / ١٣٨٥ ؛ الترمذي ٥ : ٢٢٩ / ٣٦٤٩ ، باب ٧ ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ؛ كنز العمّال ٢ : ١٨١ / ٣٦٤٠ ، و ٦ : ٥٢١ / ١٦٨١٦ ؛ الحاكم ١ : ٣١٣.

٤١

البصر أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ادع الله أن يعافيني ، قال : «إن شئت دعوت لك وإن شئت أخّرت ذاك ، فهو خير!». فقال : ادعه ، فأمره أن يتوضّأ فيحسن وضوءه ، فصلّى ركعتين ويدعو بهذا الدعاء : «اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة ، يا محمّد إنّي توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي هذه فتقضى لي ، اللهمّ شفّعه فيّ» (١).

[٢ / ١٧٦٧] وأخرج عن رويفع بن ثابت الأنصاري أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من صلّى على محمّد وقال : اللهم أنزله المقعد المقرّب عندك يوم القيامة ، وجبت له شفاعتي» (٢).

[٢ / ١٧٦٨] وأخرج عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قال ـ حين يسمع النداء ـ : «اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامّة والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا ، الّذي أنت وعدته» إلّا حلّت له الشفاعة يوم القيامة (٣).

[٢ / ١٧٦٩] وأخرج الحاكم عن عبد الله بن عمرو أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الصيام والقرآن يشفعان للعبد ، يقول الصيام ربّ إنّي منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفّعني فيه ، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فيشفّعان».

قال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم (٤).

[٢ / ١٧٧٠] وأخرج أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام أي ربّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفّعني فيه ، ويقول

__________________

(١) مسند أحمد ٤ : ١٣٨ ؛ البحار ١٨ : ١٣ / ٣٢ ؛ الخرائج والجرائح ١ : ٥٥ / ٨٨ ؛ الحاكم ١ : ٣١٣ و ٥١٩ ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و ١ : ٥٢٦ ، وفيه : «اللهمّ شفّعه فيّ وشفّعني في نفسي» ؛ النسائي ٦ : ١٦٩ / ١٠٤٩٥.

(٢) مسند أحمد ٤ : ١٠٨ ؛ مجمع الزوائد ١٠ : ١٦٣ ، قال الهيثمي : رواه البزّار والطبراني في الأوسط والكبير وأسانيدهم حسنة ؛ مسند البزّار ٦ : ٢٩٩ / ٢٣١٥ ؛ الأوسط ٣ : ٣٢١ / ٣٢٨٥ ؛ الكبير ٥ : ٢٥ ـ ٢٦ / ٤٤٨٠ ؛ كنز العمّال ١ : ٤٩٦ / ٢١٨٨.

(٣) مسند أحمد ٣ : ٣٥٤ ؛ ابن ماجة ١ : ٢٣٩ / ٧٢٢ ، باب ٤ ؛ أبو داوود ١ : ١٢٩ / ٥٢٩ ، باب ٣٨ ؛ الترمذي ١ : ١٣٦ / ٢١١ ، باب ١٥٧ ، قال أبو عيسى : حديث جابر حديث صحيح حسن.

(٤) الحاكم ١ : ٥٥٤ ؛ مسند أحمد ٢ : ١٧٤ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ١٨١ ، قال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجال الطبراني رجال الصحيح ؛ كنز العمّال ٨ : ٤٤٤ ـ ٤٤٥ / ٢٣٥٧٥.

٤٢

القرآن منعته النوم بالليل فشفّعني فيه. قال فيشفّعان» (١).

[٢ / ١٧٧١] وأخرج ابن ماجة عن عبد الله بن قيس ، قال : كنت عند أبي بردة ذات ليلة ، فدخل علينا الحرث بن أقيش. فحدّثنا الحرث ليلتئذ ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ من أمّتي من يدخل الجنّة بشفاعته أكثر من مضر. وإنّ من أمّتي من يعظم للنار حتّى يكون أحد زواياها» (٢).

[٢ / ١٧٧٢] وأخرج أحمد أيضا عن عبد الله بن قيس قال سمعت الحرث بن أقيش يحدّث أن أبا بردة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّ من أمّتي لمن يشفع لأكثر من ربيعة ومضر ، وإنّ من أمّتي لمن يعظم للنار حتّى يكون ركنا من أركانها» (٣).

[٢ / ١٧٧٣] وأخرج الترمذي عن أبي قلّابة عن عبد الله بن يزيد ـ رضيع كان لعائشة ـ عن عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا يموت أحد من المسلمين فيصلّى عليه أمّة من المسلمين يبلغوا أن يكونوا مائة فيشفعوا له إلّا شفّعوا فيه».

قال أبو عيسى : حديث عائشة حديث حسن صحيح. وقد أوقفه بعضهم ولم يرفعه (٤).

[٢ / ١٧٧٤] وأخرج النسائي عن أبي بكّار الحكم بن فروخ قال : صلّى بنا أبو المليح على جنازة فظنّنا أنّه قد كبّر ، فأقبل علينا بوجهه فقال : أقيموا صفوفكم ولتحسن شفاعتكم. قال أبو المليح : حدّثني عبد الله بن سليط عن ميمونة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت : أخبرني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما من ميّت يصلّي عليه أمّة من الناس إلّا شفّعوا فيه ، فسألت أبا المليح عن الأمّة قال : أربعون» (٥).

[٢ / ١٧٧٥] وأخرج مسلم عن أبي قلّابة عن عبد الله بن يزيد ـ رضيع عائشة ـ عن عائشة عن

__________________

(١) مسند أحمد ٢ : ١٧٤ ؛ الحاكم ١ : ٥٥٤ ، بتفاوت ؛ مجمع الزوائد ١٠ : ٣٨١ ، باب شفاعة الأعمال ، قال الهيثمي : رواه أحمد وإسناده حسن ؛ كنز العمّال ٨ : ٤٤٤ ـ ٤٤٥ / ٢٣٥٧٥.

(٢) ابن ماجة ٢ : ١٤٤٦ / ٤٣٢٣ ؛ مسند أحمد ٥ : ٣١٢ ـ ٣١٣ بتفاوت ؛ الحاكم ١ : ٧١ بتفاوت ، و ٤ : ٥٩٣ بتفاوت ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٤٢٣ / ٦٤ ، باب ١ ، كتاب الفضائل.

(٣) مسند أحمد ٤ : ٢١٢ ؛ مجمع الزوائد ١٠ : ٣٨١ ، قال الهيثمي : رواه أحمد ورجاله ثقات.

(٤) الترمذي ٢ : ٢٤٧ / ١٠٣٤ ؛ مسند أحمد ٦ : ٣٢ ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ٣ : ٢٠٣ / ١ ، باب ١١٣ ؛ النسائي ١ : ٦٤٤ / ٢١١٩ ؛ أبو يعلى ٧ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤ / ٤٣٩٨ ؛ كنز العمّال ١٥ : ٥٨١ / ٤٢٢٧٠.

(٥) النسائي ١ : ٦٤٥ / ٢١٢٠ ؛ مسند أحمد ٦ : ٣٣١ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ٣٦ ؛ الكبير ٢٤ : ١٩ / ٣٩.

٤٣

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما من ميّت يصلّي عليه أمّة من المسلمين يبلغون مائة كلّهم يشفعون له إلّا شفّعوا فيه. قال فحدّثت به شعيب بن الجحاب فقال : حدّثني به أنس بن مالك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

[٢ / ١٧٧٦] وأخرج ابن ماجة عن كريب مولى عبد الله بن عبّاس ، قال : هلك ابن لعبد الله بن عبّاس فقال لي : يا كريب! قم فانظر هل اجتمع لابني أحد؟ فقلت : نعم. فقال : ويحك! كم تراهم؟ أربعين؟ قلت : لا. بل هم أكثر. قال : فاخرجوا بابني. فأشهد ، لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ما من أربعين من مؤمن يشفعون لمؤمن إلّا شفّعهم الله» (٢).

[٢ / ١٧٧٧] وأخرج مسلم أيضا عن كريب مولى ابن عبّاس عن عبد الله بن عبّاس أنّه مات ابن له بقديد أو بعسفان فقال : يا كريب انظر ما اجتمع له من الناس؟ قال : فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له فاخبرته ، فقال : تقول هم أربعون؟ قال : نعم. قال : أخرجوه ، فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا ، لا يشركون بالله شيئا ، إلّا شفّعهم الله فيه» (٣).

[٢ / ١٧٧٨] وأخرج الصدوق بالإسناد إلى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة إلّا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء : الجنون ، والجذام ، والبرص ، فإذا بلغ الخمسين ليّن الله عليه الحساب ، فإذا بلغ الستّين رزقه الله الإنابة إليه بما يحبّ ، فإذا بلغ السبعين أحبّه الله وأحبّه أهل السماء ، فإذا بلغ الثمانين قبل الله حسناته وتجاوز عن سيّئاته ، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر وسمّي أسير الله في أرضه وشفّع في أهل بيته» (٤).

__________________

(١) مسلم ٣ : ٥٢ ـ ٥٣ ؛ النسائي ١ : ٦٤٤ / ٢١١٨ ؛ الأوسط ٦ : ١٤٤ ـ ١٤٥ / ٦٠٣٩.

(٢) ابن ماجة ١ : ٤٧٧ / ١٤٨٩.

(٣) مسلم ٣ : ٥٣ ؛ مسند أحمد ١ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ؛ ابن حبّان ٧ : ٣٥٢ / ٣٠٨٢ ؛ الأوسط ٨ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩ / ٨٨٩٨ ؛ كنز العمّال ١٥ : ٥٨٢ / ٤٢٢٧٢ ، باختصار.

(٤) الخصال : ٥٤٧ ـ ٥٤٨ / ٢٨ ؛ كنز العمّال ١٥ : ٧٦٢ ـ ٧٦٣ / ٤٣٠٠٢.

٤٤

قال تعالى :

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩))

وهنا يمضي القرآن يعدّد آلاء الله على بني إسرائيل ، وكيف استقبلوا هذه الآلاء بالكفران والجحود وحادوا عن الطريق السويّ الذي رسمته الشريعة على يد أنبيائهم العظام.

وفي مقدّمة هذه النعم الجسام كانت نجاتهم من آل فرعون ، كانوا يسومونهم سوء العذاب.

إنّه يحاول تذكيرهم وإعادة خيالهم ومشاعرهم عن صورة الكرب الذي انتابهم في بدء تاريخهم ، باعتبار أنّ الحاضرين أبناء أولئكم الغابرين ، ويرسم أمامهم مشهد النجاة كما رسم أمامهم مشهد العذاب.

يذكّرهم اليوم الّذي فتح الله عليهم وأنجاهم من بؤس كان قد أغدق بهم ، لا يجدون مخرجا منه ، لو لا أن منّ الله عليهم ببعث موسى وهارون ونجاتهم من فرعون وهامان وجنودهما العتاة الطغاة.

يقول لهم : اذكر اليوم الذي نجّاكم فيه من آل فرعون حالة ما كانوا يديمون عذابكم ذلّا : (يَسُومُونَكُمْ) من سامه خسفا : أذلّه (١) ثمّ يذكر لون هذا العذاب الأسوأ ، هو تذبيح الذكور ـ مبالغة في الذبح أي الإكثار فيه ـ واستحياء الإناث حيث فيه تضعيف ساعد الرجال من جهة ، ومن أخرى اضطرارهم السماح بإشغالهنّ في صالح الأكابر من آل فرعون.

***

وقبل أن يعرض المشهد يذكّر بأنّ تلك المحنة التي قاسها آباؤهم من قبل ، كان فيها بلاء من

__________________

(١) قال الزمخشري : من سامه خسفا إذا أولاه ظلما. قال عمرو بن كلثوم :

إذا ما الملك سام الناس خسفا

أبينا أن يقرّ الخسف فينا

وأصله من سام السلعة إذا طلبها ، كأنّه بمعنى : يبغونكم (سُوءَ الْعَذابِ) ويريدونكم عليه. والعذاب كلّه سيّء ، والمراد : أشدّه وأفظعه. (الكشّاف ١ : ١٣٧ ـ ١٣٨).

٤٥

ربّهم عظيم (فخيم من حيث النتائج والآثار) ، ليلقي في حسّهم وفي حسّ الآخرين ممّن يصادف شدّة في حياته ، أنّ إصابة العباد بالمحن والشدائد ، هي امتحان واختبار وحسن بلاء ، وأنّ الّذي يستيقظ لهذه الحقيقة ينتفع من الشدّة ويعتبر بالبلاء ويكتسب من ورائهما خبرة وحنكة ، وقدرة روحيّة فائقة ، تجعله رجل الخوض في معارك الحياة ، ليخرج منها ظافرا شهما وفي طمأنينة وسلام.

نعم ، إنّ الألم في الحياة لا يذهب ضياعا إذا أدرك صاحبه أنّه يمرّ بفترة امتحان وأحسن الانتفاع بها. والألم يهون على النفس حين تعيش بهذا التصوّر النزيه وحين تدّخر ما في التجربة المؤلمة من زاد للدنيا بالخبرة والمعرفة والصبر والاحتمال ، ومن زاد للآخرة باحتسابها عند الله وبالتضرّع لله وبانتظار الفرج من عنده وعدم اليأس من رحمته .. ومن ثمّ هذا التعقيب اللطيف : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ). لأنّه لطف منه تعالى بالنسبة لعباده فخيم جسيم.

***

وإذ فرغ من التعقيب جاء بمشهد النجاة بعد مشهد العذاب : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

وردت تفصيلات هذه النجاة في السور المكّيّة التي نزلت من قبل. أمّا هنا فهو مجرّد تذكير لقوم يعرفون القصّة ، سواء من القرآن المكّي أو من كتبهم وأقاصيصهم المحفوظة. إنّما يذكّرهم بها في صورة مشهد ليستعيدوا تصوّرها ويتأثّروا بهذا التصوّر ، وكأنّهم هم الّذين كانوا ينظرون إلى فرق البحر ونجاة بني إسرائيل بقيادة موسى عليه‌السلام وغرق فرعون وجنوده ، كلّ ذلك بمرأى منهم ومشهد ليعتبروا ، فليعتبروا والفرصة متاحة!

قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ)

[٢ / ١٧٧٩] أخرج ابن جرير عن ابن إسحاق : كان اسم فرعون الوليد بن مصعب بن الريّان! (١).

__________________

(١) الطبري ١ : ٣٨٥ / ٧٤٤ ؛ القرطبي ١ : ٣٨٣ ، عن وهب.

٤٦

[٢ / ١٧٨٠] وعنه أيضا قال : كان فرعون يعذّب بني إسرائيل فيجعلهم خدما وخولا (١) وصنّفهم في أعماله ، فصنف يبنون وصنف يزرعون له ، فهم في أعماله ، ومن لم يكن منهم في صنعة من عمله فعليه الجزية ، فسامهم ـ كما قال الله عزوجل ـ : (سُوءَ الْعَذابِ)(٢).

[٢ / ١٧٨١] وقال وهب : كانوا أصنافا في أعمال فرعون ، فذوو القوّة ينحتون السواري من الجبال حتّى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها ، وطائفة ينقلون الحجارة والطين يبنون له القصور ، وطائفة منهم يضربون اللّبن ويطبخون الآجر ، وطائفة نجّارون وحدّادون ، والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج ، جزية (ضريبة) يؤدّونها كلّ يوم ، فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدّي ضريبته غلّت يمينه إلى عنقه شهرا ، والنساء يغزلن الكتّان وينسجن (٣).

[٢ / ١٧٨٢] وأخرج ابن جرير عن أسباط عن السدّي قال : جعلهم في الأعمال القذرة وجعل يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم (٤).

قوله تعالى : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ)

[٢ / ١٧٨٣] قال عليّ بن إبراهيم في الآية : إنّ فرعون لمّا بلغه أنّ بني إسرائيل يقولون : يولد فينا رجل يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده ، كان يقتل أولادهم الذكور ويدع الإناث (٥).

[٢ / ١٧٨٤] وروي عن أبي محمّد العسكري عليه‌السلام قال : «قال الله : واذكروا يا بني إسرائيل (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) أنجينا أسلافكم (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) وهم الّذين كانوا يدنون إليه بقرابته وبدينه ومذهبه (يَسُومُونَكُمْ) يعذّبونكم (سُوءَ الْعَذابِ) شدّة العذاب ، كانوا يحمّلونه عليكم. قال : وكان من عذابهم الشديد أنّه كان فرعون يكلّفهم عمل البناء والطين ، ويخاف أن يهربوا عن العمل ، فأمر بتقييدهم ، فكانوا ينقلون ذلك الطين على السلالم إلى السطوح ، فربما سقط الواحد منهم فمات أو زمن

__________________

(١) الخول : العبيد والإماء.

(٢) الطبري ١ : ٣٨٧ / ٧٤٥ ؛ القرطبي ١ : ٣٨٤ ، بخلاف في اللفظ ومع عدم ذكر الراوي.

(٣) البغوي ١ : ١١٣.

(٤) الطبري ١ : ٣٨٧ / ٧٤٦.

(٥) القمي ١ : ٤٦ ـ ٤٧ ؛ البحار ١٣ : ١٠٦ / ١ ، باب ٤.

٤٧

ولا يحفلون بهم .... (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ ،) وذلك لمّا قيل لفرعون : إنّه يولد في بني إسرائيل مولود يكون على يده هلاكك وزوال ملكك ، فأمر بذبح أبنائهم ، فكانت الواحدة منهنّ تصانع القوابل عن نفسها لئلّا تنمّ عليها ويتمّ حملها حتّى تلقي ولدها في صحراء أو غار جبل أو مكان غامض .... (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يبقونهنّ ويتخذونهنّ إماء» (١).

[٢ / ١٧٨٥] وقال مقاتل بن سليمان : ثمّ ذكّرهم النعم ليوحّدوه فقال سبحانه : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) يعني أنقذناكم (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) يعني أهل مصر (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) يعني يعذّبونكم شدّة العذاب يعني ذبح الأبناء واستحياء النساء. لأنّ فرعون أمر بذبح البنين في حجور أمّهاتهم. ثمّ بيّن العذاب فقال : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) في حجور أمّهاتهم (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يعني قتل البنين وترك البنات ، قتل منهم فرعون ثمانية عشر طفلا مخافة أن يكون فيهم مولود يكون هلاكه في سببه (٢).

[٢ / ١٧٨٦] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال : قالت الكهنة لفرعون : إنّه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكك! فجعل فرعون على كلّ ألف امرأة مائة رجل ، وعلى كلّ مائة عشرا ، وعلى كلّ عشر رجلا ، فقال : انظروا كلّ امرأة حامل في المدينة ، فإذا وضعت حملها ذكرا فاذبحوه ، وإن كانت أنثى فخلّوا عنها ، وذلك قوله : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ...) الآية (٣).

[٢ / ١٧٨٧] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في الآية ، قال : إنّ فرعون ملكهم أربعمائة سنة ، فقال له الكهنة : سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه. فبعث في أهل مصر نساء قوابل ، فإذا ولدت امرأة غلاما أتي به فرعون فقتله ويستحيي الجواري (٤).

[٢ / ١٧٨٨] وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس في الآية ، قال : إنّ فرعون ملكهم أربعمائة سنة ، وإنّه أتاه آت فقال : إنّه سينشأ في مصر غلام من بني إسرائيل فيظهر عليك ويكون هلاكك على يديه. فبعث في مصر نساء. فذكر نحو ذلك (٥).

__________________

(١) البرهان ١ : ٢١٣ ـ ٢١٥ / ١ ؛ تفسير الإمام : ٢٤٢ ـ ٢٤٤ / ١٢٠ ؛ البحار ١٣ : ٤٧ / ١٦ ، باب ٢.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٠٣. وفي بعض النسخ : ثمانية عشر ألف طفل.

(٣) الدرّ ١ : ١٦٦ ؛ الطبري ١ : ٣٨٨ / ٧٤٨.

(٤) الدرّ ١ : ١٦٦ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٠٦ ـ ١٠٥ / ٥٠٥ ؛ الطبري ١ : ٣٨٨ / ٧٤٩.

(٥) الطبري ١ : ٣٨٨ / ٣٨٩ / ٧٥٠.

٤٨

[٢ / ١٧٨٩] وأخرج ابن جرير عن السدّي ، قال : كان من شأن فرعون أنّه رأى في منامه أنّ نارا أقبلت من بيت المقدس حتّى اشتملت على بيوت مصر ، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل وأخربت بيوت مصر ، فدعا السحرة والكهنة (١) والعافة (٢) والقافة (٣) والحازة (٤) ، فسألهم عن رؤياه ، فقالوا له : يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه ـ يعنون بيت المقدس ـ رجل يكون على وجهه هلاك مصر. فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلّا ذبحوه ، ولا تولد لهم جارية إلّا تركت. وقال للقبط : انظروا مملوكيكم الّذين يعملون خارجا فأدخلوهم ، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة! فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم ، وأدخلوا غلمانهم ؛ فذلك حين يقول الله تبارك وتعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) يقول : تجبّر في الأرض ، (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً ،) يعني بني إسرائيل ، حين جعلهم في الأعمال القذرة (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ)(٥). فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلّا ذبح فلا يكبر الصغير. وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموت ، فأسرع فيهم. فدخل رؤوس القبط على فرعون ، فكلّموه فقالوا : إنّ هؤلاء قد وقع فيهم الموت ، فيوشك أن يقع العمل على غلماننا بذبح أبنائهم فلا تبلغ الصغار وتفنى الكبار ، فلو أنّك كنت تبقي من أولادهم! فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة. فلمّا كان في السنة التي لا يذبحون فيها ولد هارون ، فترك ؛ فلمّا كان في السنة التي يذبحون فيها حملت بموسى (٦).

[٢ / ١٧٩٠] وأخرج عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله أن يجعل في ذرّيته أنبياء وملوكا (٧) وائتمروا ، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث

__________________

(١) الكهنة : جمع كاهن ، وهو الّذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان.

(٢) العافة : جمع عائف ، وهو الذي يتعاطى العيافة ، وهو نوع من كهانة الجاهلية تتمثّل بزجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها.

(٣) القافة : جمع قائف ، وهو الّذي يتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه ، وليست من السحر والكهانة.

(٤) الحازة : جمع حاز ، والحازي هو الذي ينظر في النجوم وأحكامها بظنّه وتقديره.

(٥) القصص ٢٨ : ٤.

(٦) الطبري ١ : ٣٨٩ / ٧٥١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٠٦ / ٥٠٦.

(٧) حديث غريب! كيف عرف فرعون وذووه بشأن وعد الله لإبراهيم خليله والأنبياء من ذرّيّته؟!

٤٩

رجالا معهم الشّفار (١) ، يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودا ذكرا إلّا ذبحوه ، ففعلوا. فلمّا رأوا أنّ الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، وأنّ الصغار يذبحون ، قال : توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاما كلّ مولود ذكر فتقلّ أبناؤهم ودعوا عاما. فحملت أمّ موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية أمّه ، حتّى إذا كان القابل حملت بموسى (٢).

[٢ / ١٧٩١] وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق ، قال : ذكر لي أنّه لمّا تقارب زمان موسى أتى منجّمو فرعون وحزّاؤه (٣) إليه ، فقالوا له : تعلّم (٤) أنّا نجد في علمنا أنّ مولودا من بني إسرائيل قد أظلّك زمانه الذي يولد فيه ، يسلبك ملكك ويغلبك على سلطانك ويخرجك من أرضك ويبدّل دينك! فلمّا قالوا له ذلك أمر بقتل كلّ مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان ، وأمر بالنساء يستحيين. فجمع القوابل من نساء مملكته فقال لهنّ : لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلّا قتلتنّه ، فكنّ يفعلن ذلك ، وكان يذبح من فوق ذلك من الغلمان ، ويأمر بالحبالى فيعذّبن حتّى يطرحن ما في بطونهنّ! (٥).

[٢ / ١٧٩٢] وعن مجاهد قال : لقد ذكر أنّه كان ليأمر بالقصب فيشقّ حتّى يجعل أمثال الشّفار ، ثمّ يصفّ بعضه إلى بعض ، ثمّ يؤتى بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفن عليه فيحزّ أقدامهنّ حتّى أنّ المرأة منهنّ لتمصع (٦) بولدها فيقع من بين رجليها ، فتظلّ تطؤه تتّقي به حدّ القصب عن رجلها لما بلغ من جهدها. حتّى أسرف في ذلك وكاد يفنيهم ، فقيل له : أفنيت الناس وقطعت النسل ، وإنّهم خولك وعمّالك! فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما. فولد هارون في السنة التي يستحيا فيها الغلمان ، وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون (٧).

__________________

(١) جمع شفرة : سكّين عظيم عريض.

(٢) الطبري ١ : ٣٨٨ / ٧٤٨ ؛ النسائي ٦ : ٣٩٦ ـ ٣٩٧ / ١١٣٢٦ ، كتاب التفسير ، سورة طه ؛ ابن عساكر ٦١ : ٨١ ـ ٨٢ / ٧٧٤١ (موسى بن عمران).

(٣) الحزّاء : الذين ينظرون في النجوم أو الجوارح فيتكهّنون.

(٤) أي تفهّم واعرف ذلك جيّدا.

(٥) الطبري ١ : ٣٨٩ ـ ٣٩٠ / ٧٥٢.

(٦) مصعت المرأة بالولد : رمت به.

(٧) الطبري ١ : ٣٩٠ / ٧٥٣ ؛ الدرّ ٦ : ٣٩١ ـ ٣٩٢ ، (سورة القصص ٢٨ : ٤).

٥٠

[٢ / ١٧٩٣] وقال وهب : بلغني أنّه ذبح في طلب موسى عليه‌السلام تسعين ألف وليد ، قال ... : ثمّ أسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل ، فدخل رؤوس القبط على فرعون وقالوا : إنّ الموت قد وقع في بني إسرائيل ، فتذبح صغارهم ويموت كبارهم ، فيوشك أن يقع العمل علينا ، فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها (١).

[٢ / ١٧٩٤] وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قوله : (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) قال : يسترقّون نساءكم (٢).

قوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)

قال أبو جعفر : يعني : وفي الّذي فعلنا بكم من إنجائنا إيّاكم ممّا كنتم فيه من عذاب آل فرعون ، بلاء من ربكم عظيم. قال : ويعني بقوله : بلاء : نعمة ، كما :

[٢ / ١٧٩٥] قال ابن عبّاس في قوله : (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) قال : نعمة (٣).

[٢ / ١٧٩٦] وقال السدّي : أمّا البلاء فالنعمة.

[٢ / ١٧٩٧] وقال مجاهد : نعمة من ربّكم عظيمة.

وهكذا روى أبو حذيفة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله.

[٢ / ١٧٩٨] وقال ابن جريج : نعمة عظيمة.

قال أبو جعفر : وأصل البلاء في كلام العرب الاختبار والامتحان ، ثمّ يستعمل في الخير والشرّ ، لأنّ الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشرّ.

كما قال ـ جلّ ثناؤه ـ : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٤).

يقول : اختبرناهم وكما قال ـ جلّ ذكره ـ : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)(٥).

قال : ثمّ تسمّى العرب الخير بلاء والشرّ بلاء ، غير أنّ الأكثر في الشرّ أن يقال : بلوته أبلوه بلاء.

__________________

(١) البغوي ١ : ١١٣ ـ ١١٤.

(٢) الطبري ١ : ٣٩٠ / ٧٥٤.

(٣) وأخرجه ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عبّاس ١ : ١٠٦ / ٥٠٧.

(٤) الأعراف ٧ : ١٦٨.

(٥) الأنبياء ٢١ : ٣٥.

٥١

وفي الخير : أبليته أبليه إبلاء وبلاء.

ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى :

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم

وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

فجمع بين اللّغتين ، لأنّه أراد : أنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده (١).

[٢ / ١٧٩٩] وهكذا روي عن الإمام أبي محمّد العسكري عليه‌السلام قال : «أي في ذلك الإنجاء الذي أنجاكم منه ربّكم بلاء ، أي نعمة من ربّكم ، عظيم أي كبير» (٢).

[٢ / ١٨٠٠] وقال مقاتل بن سليمان : (وَفِي ذلِكُمْ) يعني : فيما يخبركم من قتل الأبناء وترك البنات. (بَلاءٌ) يعني : نقمة. (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(٣).

وذكر الثعلبي : أنّ البلاء تنصرف على وجهين : النعماء والنقماء (٤).

__________________

(١) الطبري ١ : ٣٩١ ـ ٣٩٢ / ٧٥٥ ـ ٧٥٨.

(٢) تفسير الإمام : ٢٤٣ / ١٢٠ ؛ البحار ١٣ : ٤٧ ، باب ٢ ؛ البرهان ١ : ٢١٤.

(٣) تفسير مقاتل ١ : ١٠٣.

(٤) الثعلبي ١ : ١٩٢.

٥٢

قال تعالى :

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠))

[٢ / ١٨٠١] قال قتادة : هو بحر من وراء مصر يقال له : إساف (١).

ونصّت التوراة أنّ البحر الذي جاوزه بنو إسرائيل هو بحر سوف (٢).

وفي قاموس الكتاب المقدّس (٣) : أنّه «القلزم».

وهكذا جاء في دعاء شبّور المعروف بدعاء السماة : «ويوم فرقت لبني إسرائيل البحر ، وفي المنبجسات التي صنعت بها العجائب في بحر سوف». قال العلّامة المجلسي ـ في شرح الدعاء ـ : سمّاه الهروي في الغريبين «إساف». قال : وهو الذي غرق فيه فرعون. قال المجلسي : وهذا البحر هو بحر القلزم (٤).

والقلزم : هو البحر الأحمر الواقع على شرقيّ مصر حائلا بين البلاد المصريّة ووادي سيناء ، وبطبيعة الحال كان معترضا طريق بني إسرائيل نازحين من أرض مصر قاصدين بلاد القدس شرقا.

وقد اشتبه على البعض حيث زعمه أنّه نهر النيل ، والنهر لا يسمّى بحرا ، ولا موضع لاعتراض طريق بني إسرائيل نحو القدس! وقد شرحنا ذلك بتفصيل في كتابنا «شبهات وردود». وذكرنا الموضع الذي عبر موسى وقومه البحر : «فم الحيروث» مضيق قرب نهاية خليج السويس (٥).

[٢ / ١٨٠٢] وروى عليّ بن إبراهيم في قصّة حنين : ثمّ رفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده فقال : «اللهمّ لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان» ، فنزل عليه جبرئيل فقال : يا رسول الله ، دعوت بما دعاه به موسى حين فلق الله له البحر ونجّاه من فرعون (٦).

__________________

(١) البغوي ١ : ١١٦ ؛ القرطبي ١٣ : ٢٨٩ ، سورة النمل ٢٧ : ٤٠ ؛ مجمع البيان ٧ : ٤٤٠ ، لم يذكر الراوي.

(٢) سفر الخروج ، أصحاح : ١٣ / ١٨ و ١٥ / ٥.

(٣) لجيمس هاكس : ٤٩٦.

(٤) البحار ٨٧ : ١١٢.

(٥) «شبهات وردود» (الجزء السابع من التمهيد : ٧٧ ـ ٧٩).

(٦) نور الثقلين ١ : ٨٠ ؛ القميّ ١ : ٢٨٧ ، سورة التوبة ؛ البحار ٢١ : ١٥٠ / ١ ، باب ٢٨.

٥٣

قصّة الخروج

١ ـ نزوح بني إسرائيل من أرض مصر.

٢ ـ وعبورهم البحر قاصدين أرض القدس.

جاء في سفر الخروج : أنّ فرعون اضطرّ ـ بعد مداولات ومناوشات ـ إلى إطلاق سراح بني إسرائيل ، لما أصاب القبطيّين من الجدب والبلاء. لكنّه فور ما أطلق سراحهم ندم على ذلك ، فأخذ هو وجنوده يعقّبونهم ليردّوهم إلى الذلّ والعبوديّة الأولى ، غير أنّ بني إسرائيل أسرعوا في الخروج والهروب من سلطان فرعون ، وكاد فرعون أن يدركهم وهم على ضفّة البحر الأحمر. فلمّا رأى بنو إسرائيل فرعون وجنوده ذعروا وفزعوا إلى موسى. فأوحى الله إليه : أنّهم ناجون ، وأنّ فرعون وجنوده سوف يغرقون. فحال بينهم وبين فرعون أن يصل إليهم.

فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه البحر ويشقّه شقّتين ففعل ، فأجرى الله بريح شرقيّة شديدة كلّ الليل وجعل البحر طريقا يابسة ، وانشقّ الماء. فمشى بنو إسرائيل على اليابسة في وسط البحر ، والماء كالسور عن يمينهم وعن يسارهم ، وعبروا إلى الضفّة الأخرى. ورآهم فرعون ـ وقد قارب البحر ـ رآهم يسيرون وسط البحر على اليابسة. فهمّ في أثرهم ، فلمّا توسّط اليمّ وعبر بنو إسرائيل جميعا ، انطبق الماء على فرعون ومن كان معه من جنود فأغرقوا جميعا (١).

ونصّت التوراة : أنّ البحر الذي جاوزه بنو إسرائيل هو بحر سوف ـ على ما تقدّم ـ والموضع الذي عبروا منه كان عند فم الحيروث (٢).

ولعلّ ما جاء في عبارة دعاء السماة : «وفي جبل حوريث» (٣) إشارة إلى ذلك ، وهو المضيق الواقع قرب نهاية خليج السويس. وهو لا يتجاوز بضع كيلومترات (٤).

وهذا الّذي جاء في التوراة ، يتصادق مع نصّ القرآن الكريم : (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ

__________________

(١) سفر الخروج ، أصحاح : ١٠ ـ ١٤.

(٢) المصدر : ١٤ / ٩.

(٣) البحار ٨٧ : ١١٢.

(٤) راجع : خارطة قناة السويس ، تصل البحر الأحمر بالمتوسط تجتاز عدة بحيرات طبيعية أهمها بحيرة المنزلة ، بحيرة التمساح ، البحيرات المرة. ولعلها كانت متصلة ذلك العهد ، ويترجح أن موسى وقومه أخذوا من أحد هذه المضائق طريقهم للعبور.

٥٤

مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ. فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)(١).

***

قوله تعالى : (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي انشقّ البحر فلقتين عظيمتين. والفرق : القسم من الشيء. الفلق من الشيء المنفلق. الموجة. والطود : الجبل العظيم.

ويتبيّن من ذلك أنّ البحر تموّج تموّجا رهيبا بحيث تبدّى قعر البحر على أثر اعتلاء الموج. وهذا لا ينافي كونه خارقا للعادة ، على أثر معجزة ظهرت على يد موسى عليه‌السلام ولو كان بسبب هبوب الرياح العاصفة الشديدة ، كما جاءت في التوراة. إذ لم يعهد أنّ الريح ـ مهما بلغت شدّتها ـ أن تعمل مثل هذا العمل في الخليج مرّة أخرى ولا سابقة لها أيضا.

قال الاستاذ عبد الوّهاب : المعجزة حاصلة حتّى مع فرض هبوب الرياح ، لأنّه لم يعهد أن عملت الريح ذلك في كلّ الدهر ـ سواء قبل الحادثة أو بعدها ـ سوى حين عبور بني إسرائيل فقط. وكفى به معجزة خارقة (٢).

ويذكر المفسّرون ـ هنا ـ تبعا لروايات غريبة الأسناد : أنّ البحر انفلق عن اثني عشر طريقا على عدد أسباط إسرائيل ، وحصل في طرفي كلّ طريق كوى ينظر بعضهم إلى بعض فلا يستوحشوا.

لكن لا شاهد لذلك في نصّ القرآن ولا ضرورة تدعو إليه. والروايات مع ضعف أسنادها غريبة المفاد ، على ما سنذكرها.

كما ذكروا أنّ فرعون توقّف عن تقحّم البحر ، لو لا أن جبرائيل ركب فرسا انثى وديقا ـ المهيّجة للفحل ـ وتقدّم فرس فرعون ليجذبه إلى الاقتحام وراءه .. فانجذب فرعون وجنوده ودخلوا البحر فكان ما كان. كلّ ذلك من أقاصيص القصّاصين لا أساس له معقولا. وإليك من هذه الآثار هي غريبة الأسناد غريبة المفاد.

***

أمّا اليوم الذي انفلق البحر فيه لموسى وبني إسرائيل فقيل : كان يوم عاشوراء!!

__________________

(١) الشعراء ٢٦ : ٦١ ـ ٦٦.

(٢) راجع : قصص القرآن لعبد الوهّاب النجّار : ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٥٥

[٢ / ١٨٠٣] أخرج أبو يعلى وابن مردويه عن أنس : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «فلق البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء» (١).

قال ابن كثير : وهذا ضعيف ، فإنّ زيدا العميّ ـ راوي الحديث ـ فيه ضعف ، وشيخه يزيد الرقاشي ـ المرويّ عنه ـ أضعف منه (٢).

قلت : بل وفيه غرابة : هل كانت اليهود تعرف عاشوراء ـ اليوم العاشر من شهر محرّم الحرام العربي ـ وهل كانت تعهد ما لهذا اليوم من مكانة مزعومة! لم تعرف إلّا على عهد سطو أميّة على بضعة آل الرسول!!

[٢ / ١٨٠٤] وأغرب منه ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي عن ابن عبّاس قال : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ، فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء! فقال : «ما هذا اليوم الذي تصومون؟ قالوا : هذا يوم صالح نجّى الله فيه بني إسرائيل من عدوّهم ، فصامه موسى. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نحن أحقّ بموسى منكم ، فصامه وأمر بصومه» (٣).

وجه الغرابة : أنّ مثل نبيّ الإسلام لا يجهل سنن من قبله من الأنبياء. ثمّ لا ينبغي لمثله أن يتّبع قولة يهوديّة لا اعتبار بها ، أو أن يأمر بمتابعتهم!

[٢ / ١٨٠٥] وذكر الثعلبي : أنّه لمّا دنا هلاك فرعون أمر الله ـ عزوجل ـ موسى أن يسري ببني إسرائيل ، وأمرهم أن يسرجوا في بيوتهم إلى الصبح ، وأخرج الله ـ عزوجل ـ كلّ ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إليهم وأخرج من بني إسرائيل كلّ ولد زنا منهم إلى القبط حتّى رجع كلّ واحد منهم إلى أبيه ، وألقى الله ـ عزوجل ـ على القبط الموت فمات كلّ بكر ، فاشتغلوا بدفنهم عن طلبهم حتّى طلعت الشمس وخرج موسى عليه‌السلام في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يتعدّون ابن العشرين أصغرهم ، ولا ابن الستّين أكبرهم ، سوى الذرّيّة. فلمّا أرادوا السير ضرب عليهم التّيه فلم يدروا أين

__________________

(١) أبو يعلى ٧ : ١٣٣ / ٤٠٩٤ ؛ الدرّ ١ : ١٦٧ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ١٨٨ ، كتاب الصيام ، كنز العمّال ٨ : ٥٧٢ / ٢٤٢٣٥.

(٢) ابن كثير ١ : ٩٥.

(٣) الدرّ ١ : ١٦٧ ؛ مسند أحمد ١ : ٢٩١ ؛ البخاري ٢ : ٢٥١ ، وفيه : فأنا أحقّ بموسى ، كتاب الصوم ، باب صوم يوم عاشوراء ؛ مسلم ٣ : ١٤٩ ؛ النسائي ٢ : ١٥٦ ـ ١٥٧ / ٢٨٣٤ و ٢٨٣٥ ، كتاب الصيام ، باب صيام يوم عاشوراء ؛ البيهقي ٤ : ٢٨٦ ، كتاب الصيام ، باب فضل يوم عاشوراء وفيه : «فقالوا هذا يوم عظيم أنجى الله ....». ابن كثير ١ : ٩٥ وفيه : «أنا أحقّ».

٥٦

يذهبون ، فدعا موسى عليه‌السلام مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك. فقالوا : إنّ يوسف عليه‌السلام لمّا حضرته الوفاة أخذ على إخوته عهدا أن لا يخرجوا من مصر حتّى يخرجوه معهم ؛ فلذلك انسدّ علينا الطريق ، فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموا.

فقام موسى ينادي : أنشد الله كلّ من يعلم أين موضع قبر يوسف إلّا أخبرني به ، ومن لم يعلم فصمّت أذناه عن قولي. فكان يمرّ بين الرّجلين ينادي فلا يسمعان صوته حتّى سمعته عجوز لهم فقالت : أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كلّما سألتك ، فأبى عليها وقال : حتّى أسأل ربّي ، فأمره الله ـ عزوجل ـ بإيتاء سؤلها ، فقالت : إنّي عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر ، هذا في الدّنيا ، وأمّا في الآخرة فأسألك أن لا تنزل بغرفة من الجنّة إلّا نزلتها معك ، قال : نعم ، قالت : إنّه في جوف الماء في النيل ، فادع الله حتّى يحبس عنه الماء. فدعا الله فحبس عنه الماء ، ودعا أن يؤخّر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف ، فحفر موسى ذلك الموضع واستخرجه في صندوق من المرمر فحمله حتّى دفنه بالشام ، ففتح لهم الطريق (١).

[٢ / ١٨٠٦] وذكر البغوي : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ ،) قيل : معناه فرقنا لكم البحر ، وقيل : فرقنا البحر بدخولكم إيّاه ، وسمّي البحر بحرا لاتّساعه ، ومنه قيل للفرس : بحر إذا اتّسع في جريه.

وذلك أنّه لمّا دنا هلاك فرعون أمر الله تعالى موسى عليه‌السلام أن يسير ببني إسرائيل من مصر ليلا فأمر موسى قومه أن يسرجوا (٢) في بيوتهم إلى الصبح ، وأخرج الله تعالى كلّ ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إليهم وكلّ ولد زنا في بني إسرائيل من القبط إلى القبط ، حتّى رجع كلّ إلى أبيه ، وألقى الله الموت على القبط فمات كلّ بكر لهم فاشتغلوا بدفنهم حتّى أصبحوا ، حتّى طلعت الشمس وخرج موسى عليه‌السلام في ستّمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يعدّون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستّين لكبره ، وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنسانا ما بين رجل وامرأة ، وعن ابن مسعود قال : كان أصحاب موسى ستّمائة ألف وسبعين ألفا.

وعن عمرو بن ميمون قال : كانوا ستّمائة ألف ، فلمّا أرادوا السير ضرب عليهم التيه فلم يدروا أين يذهبون ، فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك ، فقالوا : إنّ يوسف عليه‌السلام لمّا حضره الموت أخذ على إخوته عهدا أن لا يخرجوا من مصر حتّى يخرجوه معهم فلذلك انسدّ علينا

__________________

(١) الثعلبي ١ : ١٩٢.

(٢) أي أمرهم أن يضيئوا السراج.

٥٧

الطريق ، فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموا فقام موسى ينادي : أنشد الله كلّ من يعلم أين موضع قبر يوسف عليه‌السلام إلّا أخبرني به ، ومن لم يعلم به فصمّت أذناه عن سماع قولي ، وكان يمرّ بين الرجلين ينادي فلا يسمعان صوته ، حتّى سمعته عجوز لهم فقالت : أرأيت إن دللتك على قبره أتعطيني كلّ ما سألتك؟ فأبى عليها وقال حتّى أسأل ربّي ، فأمره الله تعالى بإيتائها سؤالها ، فقالت : إنّي عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر ، هذا في الدنيا ، وأمّا في الآخرة فأسألك أن لا تنزل غرفة من الجنّة إلّا نزلتها معك ، قال : نعم ، قالت : إنّه في جوف الماء في النيل ، فادع الله تعالى حتّى يحسر عنه الماء ، فدعا الله تعالى فحسر عنه الماء ، ودعا الله أن يؤخّر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف عليه‌السلام فحفر موسى عليه‌السلام ذلك الموضع واستخرجه في صندوق من مرمر وحمله حتّى دفنه بالشام ، ففتح لهم الطريق فساروا وموسى عليه‌السلام على ساقتهم (١) وهرون على مقدّمتهم ، ونذر (٢) بهم فرعون فجمع قومه وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتّى تصيح الديكة فو الله ما صاح ديك تلك الليلة فخرج فرعون في طلب بني إسرائيل ، وعلى مقدّمة عسكره هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف ، وكان فيهم سبعون ألفا من دهم الخيل سوى سائر الشيات (٣). (٤).

[٢ / ١٨٠٧] وأخرج الحاكم بإسناده عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى وصحّحه! عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديثه عن عجوز بني إسرائيل ، قال : «إنّ موسى أراد أن يسير ببني إسرائيل فأضلّ عن الطريق. فقال له علماء بني إسرائيل : نحن نحدّثك أنّ يوسف أخذ علينا مواثيق الله أن لا نخرج من مصر حتّى ننقل عظامه معنا! قال : وأيّكم يدري أين قبر يوسف؟ قالوا : ما ندري إلّا عجوز بني إسرائيل ، فأرسل إليها فقال : دلّيني على قبر يوسف ، فقالت : حتّى أكون معك في الجنّة! فأجابها على ذلك ، فأتت بحيرة فقالت انضبوا هذا الماء!! فلمّا نضبوه (٥) قالت احفروا هاهنا ، فلمّا حفروا إذا عظام يوسف ، فلمّا أقلّوها من الأرض ، فإذا الطريق مثل ضوء النهار».

قال الحاكم : هذا حديث صحيح ولم يخرجاه (أي البخاري ومسلم) (٦).

__________________

(١) ساقة الجيش : مؤخّره.

(٢) أي أعلم.

(٣) الشيات جمع الشية : وهي كلّ لون يخالف معظم لون الفرس.

(٤) البغوي ١ : ١١٤ ـ ١١٥.

(٥) يقال : نضب عنه البحر أي نزح ماؤه ونشف.

(٦) الحاكم ٢ : ٥٧١ ـ ٥٧٢.

٥٨

قلت : ولعلّه لوهنه لم يخرجاه.

[٢ / ١٨٠٨] وأخرج أيضا بإسناده إلى عبد الله بن مسعود قال : إنما اشتري يوسف بعشرين درهما ، وكان أهله حين أرسل إليهم وهم بمصر ثلاثمأة وتسعين إنسانا ، رجالهم أنبياء! ونساؤهم صدّيقات! والله ما خرجوا مع موسى حتّى بلغوا ستّمأة ألف وسبعين ألفا.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (١).

قلت : والوهن فيه أبين!

[٢ / ١٨٠٩] وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) قال : إي والله لفرق بهم البحر حتّى صار طريقا يبسا يمشون فيه فأنجاهم وأغرق آل فرعون عدوّهم ، نعما من الله يعرّفهم بها لكيما يشكروا ويعرفوا حقّه (٢).

[٢ / ١٨١٠] وأخرج ابن جرير بإسناده عن السدّي : لمّا أتى موسى البحر كنّاه أبا خالد (٣) وضربه فانفلق فكان كلّ فرق كالطود العظيم ، فدخلت بنو إسرائيل ، وكان في البحر اثنا عشر طريقا في كلّ طريق سبط (٤).

[٢ / ١٨١١] وقال مقاتل بن سليمان : (فَاذْكُرُوا) فضله عليكم حين أنجاكم من آل فرعون (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) وذلك أنّه فرق البحر يمينا وشمالا كالجبلين المتقابلين كلّ واحد منهما على الآخر ، وبينهما كوى من طريق إلى طريق ، ينظر كلّ سبط إلى الآخر ، ليكون آنس لهم (فَأَنْجَيْناكُمْ) من الغرق (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) يعني أهل مصر يعني القبط (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). يعني : أجدادهم يعلمون أنّ ذلك حقّ وكان ذلك من النعم (٥).

[٢ / ١٨١٢] وأخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير ، أنّ هرقل كتب إلى معاوية وقال : إن كان بقي فيهم شيء من النبوّة فسيخبرني عمّا أسألهم عنه. قال : وكتب إليه يسأله عن المجرّة ، وعن القوس ، وعن البقعة التي لم تصبها الشمس إلّا ساعة واحدة؟ قال : فلمّا أتى معاوية

__________________

(١) المصدر : ٥٧٢.

(٢) الدرّ ١ : ١٦٧ ، أخرجه الدرّ عن عبد بن حميد عن قتادة ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٠٧ / ٥٠٩.

(٣) سيأتي تفصيل هذه القصّة في حديث السدّي بنفس الإسناد.

(٤) الطبري ١ : ٣٩٣ / ٧٥٩.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ١٠٣ ـ ١٠٤.

٥٩

الكتاب والرسول قال : إنّ هذا شيء ما كنت آبه له (١) أن أسأل عنه إلى يومي هذا ، من لهذا؟ قالوا : ابن عبّاس. فطوى معاوية كتاب هرقل وبعثه إلى ابن عبّاس ، فكتب إليه : إنّ القوس أمان لأهل الأرض من الغرق ، والمجرّة باب السماء الذي تشقّ منه ، وأمّا البقعة التي لم تصبها الشمس إلّا ساعة من نهار ، فالبحر الذي أفرج عن بني إسرائيل (٢).

[٢ / ١٨١٣] وأخرج ابن جرير عن محمّد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد ، قال : لقد ذكر لي أنّه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دهم (٣) الخيل سوى ما في جنده من شهب (٤) الخيل ؛ وخرج موسى ، حتّى إذا قابله البحر ولم يكن له عنه منصرف ، طلع فرعون في جنده من خلفهم ، (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ). قال موسى : (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ)(٥) أي للنجاة ، وقد وعدني ذلك ولا خلف لوعده (٦).

[٢ / ١٨١٤] وعن ابن إسحاق ، قال : أوحى الله إلى البحر فيما ذكر : إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له ، قال : فبات البحر يضرب بعضه بعضا فرقا من الله وانتظار أمره ، فأوحى الله ـ جلّ وعزّ ـ إلى موسى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ)(٧) فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه ، (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)(٨) أي كالجبل على يبس من الأرض. يقول الله لموسى : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى)(٩) فلمّا استقرّ له البحر على طريق قائمة يبس سلك فيه موسى ببني إسرائيل ، وأتبعه فرعون بجنوده (١٠).

[٢ / ١٨١٥] وعن محمّد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد الليثي ، قال : حدّثت أنّه لمّا

__________________

(١) أبه له : تفطّن. آبه : مخفّف أأبه أي أتفطّن له.

(٢) الدرّ ١ : ١٦٧ ؛ الكبير ١٠ : ٢٤٣ ـ ٢٤٤ / ١٠٥٩١ ؛ الحلية ١ : ٣٢٠ ؛ مجمع الزوائد ٩ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ؛ الثعلبي ١ : ١٩٣ ، بلفظ : قال سعيد بن جبير : أرسل معاوية إلى ابن عبّاس فسأله عن مكان لم تطلع فيه الشمس إلّا مرّة واحدة؟ فكتب إليه : إنّه المكان الذي انفلق منه البحر لبني إسرائيل.

(٣) الدهم : جمع أدهم ، وهو من الخيل الأسود.

(٤) الشهب : جمع أشهب ، وهو من الخيل المختلط بياضه بالسواد ، وكانت في الأصل : «من ماشية الخيل».

(٥) الشعراء ٢٦ : ٦١ ـ ٦٢.

(٦) الطبري ١ : ٣٩٣ / ٧٦٠.

(٧) الشعراء ٢٦ : ٦٣.

(٨) الشعراء ٢٦ : ٦٣.

(٩) طه ٢٠ : ٧٧.

(١٠) الطبري ١ : ٣٩٣ ـ ٣٩٤ / ٧٦١ ؛ تاريخ الطبري ١ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦.

٦٠