التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

قال ابن الخطيب : ومن أعجب العجاب ادّعاؤهم أنّ بعض الآيات قد نسخت تلاوتها وبقي حكمها ، وهو قول لا يقول به عاقل إطلاقا! وذلك لأنّ نسخ أحكام بعض الآيات ـ مع بقاء تلاوتها ـ أمر معقول مقبول ، حيث إنّ بعض الأحكام لم ينزل دفعة واحدة ، بل نزل تدريجيّا ....

أمّا ما يدّعونه من نسخ تلاوة بعض الآيات ـ مع بقاء حكمها ـ فأمر لا يقبله إنسان يحترم نفسه ، ويقدّر ما وهبه الله تعالى من نعمة العقل ، إذ ما هي الحكمة في نسخ تلاوة آية مع بقاء حكمها؟! ما الحكمة في صدور قانون واجب التنفيذ ، ورفع ألفاظ هذا القانون مع بقاء العمل بأحكامه؟! ... (١).

وقال صدر الشريعة في كتابه «التوضيح» : منع بعض العلماء وجود المنسوخ تلاوة ، لأنّ النسخ حكم والحكم بالنصّ ، فلا انفكاك بينهما.

وفي كتاب «اللمع» في أصول الفقه لأبي إسحاق الشيرازي : وقالت طائفة : لا يجوز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم ، لأنّ الحكم تابع للتلاوة ، فلا يجوز أن يرفع الأصل ويبقى التابع.

وقال الشيخ محمّد الخضري في كتابه «تاريخ التشريع الإسلامي» : لا يجوز أن يرد النسخ على التلاوة دون الحكم. وقد منعه بعض المعتزلة وأجازه الجمهور محتجّين بأخبار آحاد لا يمكن أن تقوم برهانا على حصوله. وأنا لا أفهم معنى لآية أنزلها الله تعالى لتفيد حكما ثمّ يرفعها مع بقاء حكمها! لأنّ القرآن يقصد منه إفادة الحكم والإعجاز بنظمه معا. فما هي المصلحة في رفع آية منه مع بقاء حكمها! إنّ ذلك غير مفهوم ، وقد أرى أنّه ليس هناك ما يدعو إلى القول به!

وقال الدكتور مصطفى زيد في كتابه «النسخ في القرآن الكريم» : ومن ثمّ يبقى «منسوخ التلاوة باقي الحكم» مجرّد فرض لم يتحقّق في واقعة واحدة ، ولهذا نرفضه ونرى أنّه غير معقول ولا مقبول.

وقال الدكتور محمّد سعاد : لا نستطيع الاقتناع بصحّة وجود المنسوخ تلاوة ، الثابت حكما ، لأنّ صفة القرآنيّة لا تثبت لنصّ إلّا بدليل قطعيّ ، والنسخ الوارد على القطعيّ لا بدّ أن يكون قطعيّا. فلا بدّ لإثبات كون النصوص المذكورة قرآنا منسوخا ، من دليلين قطعيّين ، أحدهما : دالّ على ثبوت القرآنيّة للنصّ ، وثانيهما : دالّ على زوال هذه الصفة. وواحد من الدليلين لم يقم لواحد من تلك النصوص ، فلا يتمّ كونه قرآنا منسوخا. فلا يصحّ عندنا في موضع الخلاف إلّا القول بثبوت النسخ في الحكم دون التلاوة.

__________________

(١) الفرقان لمحمّد محمّد عبد اللطيف المعروف بابن الخطيب : ١٥٦ ـ ١٥٧.

٥٠١

وفي تفسير الآلوسي : والقول بأنّ ما ذكر إنّما يلزم منه نسخ التلاوة ، فيجوز أن تكون التلاوة منسوخة مع بقاء الحكم ـ كآية الشيخ والشيخه ـ ليس بشيء لأنّ بقاء الحكم بعد نسخ لفظه يحتاج إلى دليل ، وإلّا فالأفضل أنّ نسخ الدالّ يرفع حكمه.

ونقل العريض عن بعضهم : أنّ الحقّ أنّ هذا النوع من النسخ غير جائز ، لأنّ الآثار التي اعتمدوا عليها لا تنهض دليلا لهم ، والآيتان (الرجم والرضاع) لا تسمحان بوجوده إلّا على تكلّف ، ولأنّه يخالف المعقول والمنطق ، ولأنّ مدلول النسخ وشروطه التي اشترطها العلماء فيه لا تتوفّر ، ولأنّه يفتح ثغرة للطاعنين في كتاب الله تعالى من أعداء الإسلام الّذين يتربّصون به الدوائر وينتهزون الفرصة لهدمه وتشكيك الناس فيه. والعجيب أنّه قد وردت رواية عن عمر : ولو لا أن يقال زاد عمر في المصحف لكتبتها! فهذا الكلام يدلّ على أنّ لفظها موجود لم ينسخ ، فكيف يقال إنّها ممّا نسخ لفظه وبقي حكمه! وهي موجودة ومسطّرة ومحفوظة على قولهم. ولو كانت آية من القرآن وتحقّق منها عمر لأثبتها من غير تردّد ولا وجل.

وبعد أن نقل الأستاذ العريض هذه الكلمات قال أخيرا : وأميل إلى هذا الرأي لأنّ الصواب في جانبه. فالمنسوخ تلاوة الثابت حكما غير موجود في كتاب الله تعالى. فالحقّ عدم جوازه (١).

قلت : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ)(٢) و (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا)(٣). والحمد لله ربّ العالمين.

مسألة الإنساء

ومزعومة أخرى تشابه أختها في التعسّف والاختلاق ، قالوا : من الآيات ما نسيت من القلوب ولم يعد لها ذكر في الصدور والأذهان.

وهذا نظير مسألة نسخ التلاوة التي مرّت آنفا ، حاولوا بذلك علاج ما رويت لديهم من أحاديث ـ حسبوها صحاح الإسناد ـ تنمّ عن ضياع كثير من آيات القرآن بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٢ / ٢٩٤٦] فقد أخرج جلال الدين السيوطي بإسناده إلى عمر بن الخطّاب ، قال لعبد الرحمان بن

__________________

(١) فتح المنّان : ٢٢٣ ـ ٢٣٠.

(٢) يوسف ١٢ : ٥١.

(٣) الأعراف ٧ : ١٤٩.

٥٠٢

عوف : ألم تجد فيما أنزل علينا : «أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة» فإنّا لا نجدها؟ قال ابن عوف : اسقطت فيما اسقط من القرآن!

[٢ / ٢٩٤٧] وقال لأبيّ بن كعب : أوليس كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : «إنّ انتفاءكم من آبائكم كفر بكم»؟ فقال : بلى. ثمّ قال : أو ليس كنّا نقرأ : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» فيما فقدنا من كتاب الله؟ فقال أبيّ : بلى!

[٢ / ٢٩٤٨] ومن ثمّ كان عبد الله بن عمر يقول : لا يقولنّ أحدكم قد أخذت القرآن كلّه ، ما يدريه ما كلّه ، قد ذهب منه قرآن كثير ... (١).

[٢ / ٢٩٤٩] وقالت عائشة : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مائتي آية فلمّا كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلّا ما هو الآن (٢).

وقالت ـ فيما زعمته قرآنا بشأن الرضعات ـ : فتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهنّ ممّا يقرأ من القرآن (٣) وأمثال ذلك كثير.

فقد حاول القوم توجيه ذلك كلّه بأنّها ممّا نسيت وذهب حفظها عن الصدور. ذكر ذلك جلال الدين السيوطي في ذيل قوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها) عطفا على قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ...)(٤).

والنسخ والإنساء تعبيران عن معنى واحد ، غير أنّ الأوّل يعني رفع الشيء بعد ثبوته في الأعيان ، والثاني ذهابه من الأذهان.

والآية الكريمة تعريض بأهل الكتاب ، كانوا قد حاولوا التشكيك في معتقدات المسلمين : إنّ دين الله لا يتبدّل ولا يختلف فلا موضع لدين جديد.

فجاءت الآية ردّا لهذه الشبهة : إنّ المصالح تختلف مادامت حياة الإنسان في تطوّر مستمرّ ، فالشريعة القديمة إذا نسخت بشريعة جديدة ، فإنّما هي لمصالح مقتضية ، والكلّ حسب الشرائط الراهنة ، علاج نافع أو أتمّ.

وقوله : (أَوْ نُنْسِها ...) أي ذهبت معالمها عن صفحة الأذهان ، بما تقادم عهدها وتمادّت مدّتها ، ولم يعد لها ذكر في عالم الوجود.

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٠٦.

(٢) الإتقان ٢ : ٤٠ ـ ٤١.

(٣) المحلّى ١٠ : ١٤ ـ ١٦.

(٤) البقرة ٢ : ١٠٦.

٥٠٣

والنسخ والإنساء ظاهرتان دينيّتان ، تخصّان عهد الوحي الممكن تبديل المنسوخ أو المنسي بمثله أو بأتمّ ، أمّا وبعد انقطاع الوحي بوفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا نسخ ولا إنساء البتّة ، صرّح بذلك عامّة أهل الاصول.

الأمر الذي يجعل من القول بضياع شيء من القرآن أو إسقاطه بعد انقضاء عهد الرسالة قولا بالتحريف الباطل لا محالة ، ومن ثمّ نتحاشاه قطعيّا لا ترديد!

٣ ـ نسخ الحكم دون التلاوة

بأن تبقى الآية ثابتة في المصحف يقرأها المسلمون عبر العصور ، سوى أنّها من ناحية مفادها التشريعيّ منسوخة ، لا يعمل بها بعد مجيء الناسخ القاطع لحكمها.

وهذا النوع من النسخ هو المعروف بين المفسّرين وهكذا الفقهاء ليدعوا الأخذ بهكذا آيات حسبوها منسوخة الحكم.

الأمر الذي نستنكره جدّا ـ كما استنكرنا النوعين الأوّلين ـ نظرا لاستلزامه اللغويّة في ثبت وإبقاء هكذا آيات قد بطلت رسالتها ولم يعد لوجودها أثر ولا فائدة عائدة على المسلمين!!

هذا فضلا عن استلزامه وجود اختلاف بيّن بين آي الذكر الحكيم .. إذ لا يكون نسخ إذا لم يكن تهافت بائن بين الناسخ والمنسوخ وقد قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً). (١)

والنسخ ، لا يعرف إلّا عن طريق التهافت والاختلاف بين آيتين ، لتكون اللاحقة نزولا ، ناسخة للسابقة ، هكذا فرضوا وهكذا حسبوا!!

ولكن هل هناك بين آيات زعموهنّ منسوخات ، وآيات حسبوهنّ ناسخات ، تهافت وتباين؟

حاشا وكلّا!

مثلا ، حسبوا من آية الإمتاع إلى الحول للمتوفّى عنها زوجها ، أنّها منسوخة ، نسختها آيات العدد والمواريث قال تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (٢)

__________________

(١) النساء ٤ : ٨٢.

(٢) البقرة ٢ : ٢٤٠.

٥٠٤

قالوا : كانت عدّة المتوفّى عنها زوجها ـ في الجاهليّة ـ سنة كاملة ، وكان إذا مات الرجل ألقت المرأة بعرة أو نحوها خلف ظهرها تعني أنّ البعل (تريد المتجدّد) أهون عليها من هذه فلا تكتحل ولا تتمشّط ولا تتطيّب ولا تتزوّج ولا تخرج من البيت إلى سنة وكان ورثة الميّت هم يكفلون شأنها ويجرون عليها الرزق من تركة زوجها طول السنة وكان ذلك هو إرثها من تركة زوجها المتوفّى ، كما كان الحداد سنة عدّتها (١).

قال السيد عبد الله شبّر : هذه الآية منسوخة بالإجماع (٢).

وهناك روايات تنصّ على أنّها منسوخة ، نسختها آية التربّص أربعة أشهر وعشرا ، ونسختها آية المواريث ، إن ثمنا أو ربعا (٣).

***

لكن سيّدنا الأستاذ الخوئي ـ طاب ثراه ـ رفض مثل هذا الاستنتاج العقيم ، وضعّف رواياته ، حيث لا سند لها معتبرا ، كما لا عبرة بإجماع لا يكشف عن نصّ قويم.

قال : والأظهر الأوفق بظاهر تعبير الآية وملابساتها ، أنّها ندب إلى الإيصاء بشأن هذه المرأة ، فلا يجفوها الورثة بزحزحتها عن مأواها الذي ألفته منذ حين ، فليدعوها لتتمتّع بعيشها الراهن ، ولا أقلّ إلى سنة ، لتأخذ رشدها في ابتغاء عيشة ترضاها ومن ثمّ فإنّها إن عزمت على الخروج من طيبة نفسها ، فالأمر لها وهي أعرف بشأنها.

وبذلك تعرف الفرق بين الاعتداد بأربعة أشهر وعشر ليال (٤) ، والإمتاع إلى الحول. (٥)

فذاك كان حقّا عليها مفروضا وهذا حقّ لها ممنوح فلا منافاة كي يستدعي القول بالنسخ. (٦)

قال سيّد قطب : هذه الآية تقرّر حقّ المتوفّى عنها زوجها ، في وصية منه تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله ، مدّة حول كامل ، لا تخرج ولا تتزوّج إن رأت من مشاعرها أو من الملابسات

__________________

(١) راجع : الدرّ ١ : ٦٩٣.

(٢) تفسيره الوجيز (ط مصر) : ٧٦.

(٣) التحرير والتنوير لابن عاشور ٢ : ٤٤٩ ـ ٤٥٢ ؛ ابن كثير ١ : ٢٩٦ ذيل الآية ؛ الوسائل ٢٢ : ٢٣٧ ـ ٢٣٩ ؛ وراجع : الطبري ٢ : ٣٦٠ ـ ٣٦١ (ط بولاق). ذيل الآية : ٢٤٠ من سورة البقرة. وآية التربّص أربعة أشهر وعشرا في سورة البقرة ٢ : ٢٣٤. وآية المواريث في سورة النساء ٤ : ١٢.

(٤) والتي سبقت برقم ٢٣٤ من السورة.

(٥) هي الآية رقم ٢٤٠ من نفس السورة.

(٦) ذكر ذلك في حديث ضاف دار بيننا بمحضره الشريف.

٥٠٥

المحيطة بها ما يدعوها إلى البقاء وذلك مع حرّيتها في أن تخرج بعد أربعة أشهر وعشر ليال ، كالذي قرّرته آية سابقة. فالعدّة فريضة عليها. والبقاء حولا حقّ لها.

قال : وبعضهم يرى أنّ هذه الآية منسوخة بتلك .. ولا ضرورة لافتراض النسخ ، لاختلاف الجهة كما رأيت. فهذه تقرّر حقّا لها إن شاءت استعملته ، وتلك تقرّر حقّا عليها لا مفرّ منه. (١)

***

وهكذا أنكر بعض السلف أن تكون الآية منسوخة ، نظرا لعدم تناف بينها وبين آيات العدد والمواريث حيث الاعتداد بأربعة أشهر وعشرا حقّ عليها مفروض لا مفرّ لها منه. وأمّا الإمتاع إلى الحول فهو حقّ لها مسموح ، ولها الإعفاء.

ومن ثمّ حملوا قوله تعالى : (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ ...) على إرادة ما بعد انقضاء الأربعة أشهر وعشر ، أي العدّة المفروض عليها فكان لها بعد ذلك أن تستوفي مدّتها إلى تمام الحول أو تعفيها لأنّ ذلك حقّ لها محضا.

[٢ / ٢٩٥٠] أخرج أبو جعفر الطبري بالإسناد إلى مجاهد قال : التربّص أربعة أشهر وعشرا .. هذه للمعتدّة تعتدّ عند أهل زوجها ، واجبا ذلك عليها وأمّا الإمتاع إلى تمام الحول : سبعة أشهر وعشرين ليلة ، وصيّة ، إن شاءت سكنت في وصيّتها ، وإن شاءت خرجت .. قال : والعدّة كما هي واجبة (٢) أي لا مفرّ لها منها.

***

وقد تنظّر بعضهم فيما نقله أبو جعفر الطبري عن مجاهد ، واحتمل أن يكون مجاهد أراد غير هذا المعنى ، ممّا يتوافق مع المشهور. هكذا حسب ابن عطيّة قال : وألفاظ مجاهد التي حكاها الطبري لا يلزم منها أنّ الآية محكمة ، ولا نصّ مجاهد ذلك ، بل يمكن أنّه أراد : ثمّ نسخ ذلك بعد بالميراث. (٣)

وردّ عليه القرطبي قائلا : ما ذكره الطبري عن مجاهد صحيح ثابت.

[٢ / ٢٩٥١] خرّج البخاري بالإسناد إلى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : كانت هذه العدّة

__________________

(١) في ظلال القرآن ٢ : ٢١٢ ، مجلد ١ : ٣٧٨.

(٢) الطبري (ط بولاق) ٢ : ٣٦٢.

(٣) المحرّر الوجيز ١ : ٣٢٦.

٥٠٦

تعتدّ عند أهل زوجها واجبة. فأنزل الله آية الإمتاع إلى الحول ، فجعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصيّة ، إن شاءت سكنت في وصيّتها وإن شاءت خرجت. قال : فالعدّة كما هي واجبة عليها.

زعم ذلك عن مجاهد. (١)

قال ابن حجر : قائل ذلك هو «شبل» ، وفاعل «زعم» هو ابن أبي نجيح (٢).

غير أن القرطبي رجّح قول المشهور (٣) استنادا إلى رواية حسبها ظاهرة في ذلك ولأنّهم لا يرون الوصيّة لوارث ، حسبما يأتي.

***

وكذلك تنظّر أبو مسلم محمّد بن بحر الأصفهاني ، في أن تكون الآية منسوخة ، وقال : إنّ معنى الآية : من يتوفّى منكم ويذر زوجا وقد وصّى لها بالنفقة والسكنى حولا ، فهذا حقّ لها.

فإن خرجت قبل تمام الحول ، بعد أن قضت عدّتها المضروب لها ، فلا حرج. لأنّ إقامتها بهذه الوصيّة غير لازمة. قال : والسبب في ذلك أنّهم كانوا في الجاهليّة يوصون بالنفقة والسكنى حولا كاملا ، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول فبيّن الله تعالى في هذه الآية أنّ ذلك غير واجب. قال : وعلى هذا التقدير فالنسخ زائل.

واستدلّ على مذهبه بوجوه :

أحدها : أنّ النسخ خلاف الأصل ، فوجب المصير إلى عدمه مهما أمكن.

ثانيها : يجب أن يكون الناسخ متأخّرا نزولا ـ وبعد فترة مضت على المنسوخ طبعا ـ هذا وآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشر ، جاء ثبتها في سورة البقرة برقم : ٢٣٤. في حين أنّ رقم ثبت آية الإمتاع إلى الحول : ٢٤٠.

قال : والأصل أنّ الثبت الحاضر متوافق مع ترتيب النزول وإلّا لتشوّش الثبت وعدّ من سوء الترتيب الأمر الذي يتنزّه عنه كلام الله الحكيم.

ويجب تنزيه كلامه تعالى عن كلّ شائبة وسوء نظم مهما استطعنا إلّا أن يدلّ دليل قاطع على

__________________

(١) البخاري ٦ : ٣٦ ـ ٣٧ (تفسير سورة البقرة).

(٢) فتح الباري بشرح البخاري ٨ : ١٤٥.

(٣) القرطبي ٣ : ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

٥٠٧

خلافه ممّا نفقده هنا.

قال : فالأولى أن لا يحكم بكون آية الإمتاع منسوخة.

الوجه الثالث : قد ثبت في الأصول : أنّه إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص ، كان التخصيص أولى (١) وهاهنا إن خصّصنا الآيتين كلّ آية بحالة تخصّها ـ كما فرضه مجاهد ـ كان أولى من التزام النسخ من غير دليل.

ورجّح الإمام الرازي قول أبي مسلم وجعله أظهر من قول المشهور ، حيث الالتزام بالنسخ من غير ضرورة ، التزام بما لا يلزم مع أنّ القول بالنسخ يستدعي سوء الترتيب الذي يجب تنزيه القرآن عنه. قال : وهذا كلام واضح. (٢)

***

وأورد صاحب المنار كلام أبي مسلم بطوله ـ حسب نقل الرازي ـ وعقّبه بقوله : فهذا تقرير قول أبي مسلم ، وهو في غاية الصحّة ثمّ قال : أوردنا كلام الرازي بنصّه وإسهابه وإطنابه لما فيه من تفنيد قول الجمهور ، بالحجج البيّنة التي يقتنع بها أولو الألباب. (٣)

قال السيّد رشيد رضا : وهذا يتّفق مع التفسير المختار عند الأستاذ الإمام ، وهو : أنّ الوصيّة للندب ، لا للوجوب. (٤)

***

وبعد فممّا يبعّد قضيّة النسخ في الآية : أنّ ثبتها في سورة البقرة برقم : ٢٤٠ ، لدليل على نزولها في عصر متأخّر ، ما يقرب من السّنة الخامسة أو السادسة بعد الهجرة فلو كانت نزلت لتقرّر عادة جاهليّة سبقت الإسلام ، لكان من شأنها النزول في إبّان التشريعات الإسلاميّة ، أيّام كان المسلمون بعد لم يأنسوا بتشريعات حديثة ، وقبل الهجرة بزمان. أو لا أقل في أوليات سنيّ الهجرة.

هذا مع غضّ النظر عن غرابة ثبت المنسوخ بعد الناسخ ، المستدعي تشويشا في الثبت الراهن ، وهو خلاف الأصل ، فلا يصار إليه إلّا بدليل.

__________________

(١) ذلك لأنّ التخصيص تفسير كاشف لجدّ المراد ، أمّا النسخ فهو رفع الحكم نهائيّا.

(٢) التفسير الكبير ٦ : ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٣) المنار ٢ : ٤٤٨ ـ ٤٤٩.

(٤) المصدر : ٤٥٠.

٥٠٨

ولا دليل في المقام ، نظرا لضعف ما ورد بذلك من روايات.

ومضافا إلى أنّ المنسوخ يجب أن يكون إلزاما ، فيرتفع بالناسخ الذي هو إلزام آخر ينافيه .. لا إذا كان أمرا ندبا لا إلزام فيه ، حيث صراحة الآية بذلك (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ ...) يعني : كان الأمر لها ، إمّا تطالبه أو تعفيه كما قال العلّامة الطباطبائي : كان ذلك حقّا لهنّ ، والحقّ يجوز تركه. فكان لهنّ أن يطالبن به وأن يتركنه. (١)

وعليه فلا تنافي بين الآية وما حسبوه ناسخا لها.

فالأظهر أنّ الآية لا تمسّ مسألة الاعتداد ولا الحداد ، ولا هي ناظرة إلى عادة جاهليّة بائدة وإنّما هي شريعة إسلاميّة عريقة جاءت لتقرّر جانب السماح والإنصاف في سلوك الجماعة المسلمة ، فليراعوا الحقوق المفروضة أو المندوب إليها برحب وسماح فإنّ المؤمن سهل القضاء وسهل الاقتضاء ـ كما في الحديث (٢) ـ ولا سيّما في مثل هذه المرأة المسكينة ـ والتي انهدم صرح شوكتها ـ فيراعوا جانبها برفق ولين ووئام.

ومن ثمّ فالأوفق بظاهر الآية أنّها نزلت بعد آية العدد ، والتي كانت صارمة في التكليف الباتّ فجاءت هذه لترقّق وتلطّف جانب القضيّة ولتقرّر حقّا لها إلى جنب ما كان عليها من حقّ مفروض.

فالصحيح ما ذهب إليه سيّدنا الأستاذ ـ طاب ثراه ـ من كون الآية ندبا إلى أمر مترجّح ، تجاه آية العدد التي كانت صارمة وإلزاما لا مفرّ منه.

***

كما أنّه ليس في ظاهر تعبير الآية أنّها تقرير لشريعة جاهليّة كانت سائدة فأقرّتها.

وهكذا ليس في روايات الباب ما يشي بذلك ، وأن كانت هناك آية قرّرت أمرا ثمّ جاء ناسخها وإنّما الروايات تحدّث عن شريعة إسلاميّة جاءت لتخفّف من شريعة جاهليّة كانت صعبة.

أمّا أنّ تلك الشرعة الباهظة كان قد أقرّها الإسلام يوما ثمّ نسخها ، فليس في رواياتنا ولا إشارة إليه :

[٢ / ٢٩٥٢] فقد روى محمّد بن يعقوب الكليني بالإسناد إلى أبي بصير عن الإمام أبي عبد الله

__________________

(١) الميزان ٢ : ٢٥٩. هذا كلامه قدس‌سره ومع ذلك فرض الآية منسوخة! وهذا غريب ولعلّه متهافت مع فرض الندب! فتدبّر!

(٢) انظر : الفقيه ٣ : ١٩٦ / ٣٧٣٧ ، عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٥٠٩

الصادق عليه‌السلام سأله عن المرأة يتوفّى عنها زوجها ، وتكون في عدّتها ، أتخرج في حقّ؟ فقال عليه‌السلام : «إنّ بعض نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألته ، فقالت : إنّ فلانة توفّي عنها زوجها ، فتخرج في حقّ ينوبها؟ فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفّ لكنّ ، قد كنتنّ قبل أن أبعث ، أنّ المرأة منكنّ إذا توفّي عنها زوجها أخذت بعرة ، فرمت بها خلف ظهرها وقالت : لا أمتشط ولا أكتحل ولا أختضب حولا كاملا. وإنّما أمر تكنّ بأربعة أشهر وعشرة أيّام ، ثمّ لا تصبرن!! فقالت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف تصنع إن عرض لها حقّ؟ قال : تخرج بعد الزوال وتعود عند المساء ، فلا تبيت عن بيتها.

قال أبو بصير : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أفتحجّ؟ قال : نعم». (١)

[٢ / ٢٩٥٣] وروى بالإسناد إلى محمّد بن مسلم قال : جاءت امرأة إلى أبي عبد الله عليه‌السلام تستفتيه في المبيت في غير بيتها وقد مات زوجها؟ فقال : «إنّ أهل الجاهليّة كان إذا مات زوج المرأة أحدّت عليه امرأته اثني عشر شهرا ، فلمّا بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحم ضعفهنّ فجعل عدّتهنّ أربعة أشهر وعشرا ، وأنتنّ لا تصبرن على هذا!!» (٢)

إلى غير ذلك من أحاديث أثرت عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وليس فيها ولا إشارة إلى أنّ هناك كانت شريعة جاهليّة فأقرّها الإسلام يوما ثمّ نسخها بعد. فتدبّر. (٣)

***

بقي الكلام عن مسألة الوصيّة : ما شأنها والحال هذه؟

وهل هذا ندب إلى الإيصاء بشأنهنّ ، أم توصية من الله ليرفق الورثة بحقهنّ؟

ظاهر تعبير الآية أنّه ندب إلى الإيصاء ، فعلى الأزواج إذا حضر أحدهم الموت أن يوصوا بشأن أزواجهنّ الإمتاع (السكنى والنفقة) حولا ، علاوة على ميراثهنّ بالأرباع أو الأثمان.

ونظير الآية في التعبير قوله تعالى ـ بشأن الوصيّة للوالدين والأقربين ـ : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)(٤).

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : إنّ معنى «كتب» هاهنا : الحثّ والترغيب ، دون الفرض

__________________

(١) الكافي ٦ : ١١٧ / ١٣.

(٢) المصدر : / ١٠.

(٣) راجع : الكافي ٢ : ١١٥ ـ ١١٨ في مجموعة روايات تبلغ أربعة عشر حديثا.

(٤) البقرة ٢ : ١٨٠.

٥١٠

والإيجاب. قال : وفي الآية دلالة على أنّ الوصيّة جائزة للوارث. (١) وسنتكلم عن الآية وعن القول بنسخها.

قال الشيخ ـ بشأن آية الإمتاع ـ : ذهب أبو حذيفة (٢) ـ ولعلّه رواية عن مجاهد ـ إلى أنّ العدّة أربعة أشهر وعشرا. وما زاد إلى الحول يثبت بالوصيّة ، وكذلك النفقة. فإن امتنع الورثة من ذلك كان لها أن تتصرّف في نفسها.

قال الشيخ : فأمّا حكم الوصيّة ، فعندنا : أنّه باق لم ينسخ ، وإن كان على وجه الاستحباب. قال :

وقد بيّنّا فساد قولهم : لا وصيّة لوارث.

قال : فأمّا آية المواريث ، فإنّها لا تنافي الوصيّة ، فلا يجوز أن تكون ناسخة لها. (٣)

وهذا هو الذي ذهب إليه سيّدنا الأستاذ الإمام الخوئي ـ طاب ثراه ـ والتزم بعدم نسخ الآية ، وأنّها ندب إلى الإيصاء بشأنهنّ. أو وصيّة من الله ، إرفاقا ورعاية لحالتهنّ وقد فقدن عيشتهنّ عن كثب.

أمّا إجماع الفقهاء على ترك الأخذ بظاهر الآية ، فلعلّه لاشتهار القول بنسخها. فلا حجيّة فيه ـ والحال هذه ـ لأنّه يصبح مدركيّا أو محتمل المدركيّة ـ على الأقلّ ـ الأمر الذي يذهب برواء الإجماع.

على أنّ مثل هذا الإجماع إنّما ينفع في نفي الإلزام لا نفي الرجحان. إذ لا موجب له بعد صراحة الآية ، وعدم وجود ما ينافيها ، لا كتابا ولا سنّة ، فماذا يكون الموجب لترك الآية رأسا؟!

ملحوظة

الظاهر ، أنّ الحكم الوارد في الآية خاصّة بمن لا ولد لها من زوجها المتوفّى ، إذ لو كان لها ولد منه ، كان لها التمتّع بالسكنى فيما يعود إلى ولدها من عقار. ولم يكن لسائر الورثة إخراجها حينذاك.

ولم تكن حاجة إلى التوصية بشأنها وهي متمتّعة بحقّ ولدها من الإرث التليد.

__________________

(١) التبيان ٢ : ١٠٧.

(٢) هو موسى بن مسعود النهدي البصري. توفّي سنة ٢٢٠. يروى عنه البخاري وغيره.

(٣) التبيان ٢ : ٢٧٨.

٥١١

نعم إذا لم يكن لها ولد وارث ، فبما أنّها لا ترث من أعيان العقار ، بل تقوّم عليها وتأخذ القيمة ، فلا حقّ لها ذاتيّا في السكنى ، إلّا إذا رضي الورثة لها بالبقاء وأحسنوا إليها بالإنفاق.

***

ونظيرة هذه الآية في القول بنسخها آية الوصيّة للوالدين والأقربين.

قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)(١).

قال أبو عبد الله القرطبي : اختلف العلماء في هذه الآية ، هل هي منسوخة أو محكمة ؛

[٢ / ٢٩٥٤] فقيل : هي محكمة ، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص : في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين. وفي القرابة غير الورثة. قاله الضحّاك وطاووس والحسن ، واختاره الطبري.

[٢ / ٢٩٥٥] وقال ابن عبّاس والحسن أيضا وقتادة : الآية عامّة ، وتقرّر الحكم بها برهة من الدهر ، ونسخ منها كلّ من كان يرث ، بآية الفرائض.

وقد قيل : إنّ آية الفرائض لم تستقلّ بنسخها ، بل بضميمة الحديث الوارد :

[٢ / ٢٩٥٦] عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا وصيّة لوارث»! رواه أبو أمامة. أخرجه الترمذي وقال :

حديث حسن صحيح (٢). فنسخ الآية إنّما كان بالسنّة الثابتة لا بآية المواريث ، على الصحيح من أقوال العلماء.

قال القرطبي : ولو لا هذا الحديث لأمكن الجمع بين هذه الآية وآية المواريث ، باستحقاق المال إمّا بالوصيّة أو بالميراث إذا لم يوص ، أو ما بقى بعد الوصيّة لكن المانع من هذا الجمع والتوافق ، هو هذا الحديث إلى جنب الإجماع.

قال : وهذا الخبر وإن بلغنا آحادا ، لكن قد انضمّ إليه إجماع المسلمين : أنّه لا تجوز وصيّة لوارث. فقد ظهر أنّ جواز الوصيّة للأقربين منسوخ بالسنّة وأنّها مستند المجمعين. (٣)

[٢ / ٢٩٥٧] أخرج البخاري عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عبّاس قال : كان المال للولد ،

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٠.

(٢) الترمذي ٤ : ٤٣٣ ـ ٤٣٤ / ٢١٢٠ و ٢١٢١ ، باب ٥ (من الوصايا).

(٣) القرطبي ٢ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

٥١٢

وكانت الوصيّة للوالدين. فنسخ الله من ذلك ما أحبّ ، فجعل للذكر مثل حظّ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكلّ واحد منهما السّدس والثّلث ، وجعل للمرأة الثّمن والرّبع ، وللزوج الشّطر والرّبع. (١)

***

هذا وقد تكلّم جمع من أفاضل العلماء في تواتر حديث «لا وصيّة لوارث» بل في صحّة إسناده فضلا عن إمكان نسخ القرآن به.

قال الإمام البيضاوي : وكان هذا الحكم في بدء الإسلام ، فنسخ بآية المواريث وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا وصيّة لوارث. قال : وفيه نظر ، لأنّ آية المواريث لا تعارضه بل تؤكّده ، من حيث أنّها تدلّ على تقديم الوصيّة مطلقا. والحديث من الآحاد ، وتلقّي الأمّة له بالقبول ، لا يلحقه بالمتواتر (٢).

ومن ثمّ نقل الزمخشري عن بعضهم : أنّها لم تنسخ ، والوارث يجمع له بين الوصيّة والميراث بحكم الآيتين. (٣)

قال الإمام محمّد عبده : إنّه لا دليل على أنّ آية المواريث نزلت بعد آية الوصيّة هنا ، وبأنّ السياق ينافي النسخ ، حيث اشتماله على التوثيق والتأكيد البالغ بأمر الوصيّة وأنّها حقّ على المتّقين ، وعقّبه بالوعيد لمن بدّله وغير ذلك من شواهد في نفس الآية تدلّ على أنّها شريعة تأسيس لا شريعة في عرضة الزوال.

قال : وبإمكان الجمع بين الآيتين ـ حسبما ذكره بعضهم ـ كما جوّز بعض السلف ، الوصيّة للوارث نفسه إذا أحوج من سائر الورثة. فيا ترى كيف يحتّم الحكيم الخبير اللطيف بعباده ، التساوي بين الفقير والغني من الورثة ، بحيث لا يدع مجالا للإيصاء بالتوفّر للمعوز منهم. ومن ثمّ قدّم الوصية على الميراث ، وأن يجعل الوالدين والأقربين المعوزين أولى بالوصيّة لهم في آية أخرى ـ كما هنا ـ لعلمه سبحانه بما يكون من تفاوت بينهم في الحاجة أحيانا ، إذن فلا تعارض آية المواريث آية الوصيّة ، حتّى تكون ناسخة لها.

وأمّا الحديث ، فقد حاولوا إلحاقه بالمتواتر ، بحجّة أنّ الأمّة تلقّته بالقبول.

ولعلّه مبالغة بشأن حديث لم يصل إلى درجة ثقة الشيخين به ، فلم يروه أحد منهما مسندا.

__________________

(١) البخاري ٦ : ٥٥. تفسير سورة النساء.

(٢) تفسير البيضاوي ١ : ٢١٥.

(٣) الكشّاف ١ : ٢٢٤.

٥١٣

ورواية أصحاب السنن محصورة في عمرو بن خارجة وأبي أمامة ، وفي إسناد الثاني إسماعيل بن عيّاش ، تكلّموا فيه. قال : وإنّما حسّنه الترمذي ، لأنّ إسماعيل يرويه عن الشاميّين وقد قوّى بعضهم روايته عنهم وحديث ابن عبّاس معلول ، إذ هو من رواية عطاء الخراساني كما قيل. وما روي غير ذلك فلا نزاع في ضعفه.

قال : فعلم أنّه ليس لنا رواية للحديث صحّحت إلّا رواية عمرو بن خارجة والذي صحّحها هو الترمذي ، وهو من المتساهلين في التصحيح وقد علمت أنّ البخاري ومسلم لم يرضياها ، فهل يقال : إنّ حديثا كهذا ، تلقّته الأمّة بالقبول؟! (١)

قلت : وعمرو بن خارجة هذا كان حليف أبي سفيان ورسوله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يؤثر عنه حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوى هذا الحديث ـ وهو فذّ في نوعه ـ وقد تكلّموا في إسناده كثيرا. (٢)

وحديث هذا شأنه كيف ينسخ به قرآن ، أو كيف يصلح مستندا للمجمعين؟!

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : وفي الآية دلالة على أنّ الوصيّة جائزة للوارث. ومن خصّها بغير الوارث ـ لكفر أو قتل ـ فقد قال قولا بلا دليل ، (بعد صراحة الآية وتأكيدها البالغ). ومن ادّعى نسخها ، فهو مدّع لذلك (من غير أن يملك شاهدا يشهد له) فلا يسلم له نسخها ، فإن ادّعوا الإجماع على نسخها ، كان ذلك دعوى باطلة ، ونحن نخالف ذلك (بصراحة وصرامة). هذا وقد خالف في نسخها أناس ، كطاووس وأبي مسلم ، كما أنكر نسخها أبو جعفر الطبري بمثل ما قلنا ، فمع هذا الخلاف كيف يدّعى الإجماع على نسخها.

ومن ادّعى نسخها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا وصيّة لوارث» فقد أبعد ، لأنّه خبر واحد ، وادّعاء أنّ الأمّة أجمعت على قبوله ، دعوى عارية من برهان ، وعلى فرض ثبوته فيحمل على إرادة الوصية بما زاد على الثلث.

وأمّا القول بأنّ ناسخها هي آية المواريث فقول بعيد عن الصواب ، لأنّ الشيء إنّما ينسخ غيره ، إذا لم يمكن الجمع بينهما ، وكان بينهما تناف ، في حين لا تنافي ولا تضادّ بين فرض الميراث ، والندب إلى الوصيّة لهم بالخصوص إذا علم منهم الاعوزاز. فلا موجب لحمل الآية على النسخ.

__________________

(١) المنار ٢ : ١٣٥ ـ ١٣٨.

(٢) راجع : الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر ٢ : ٥٣٤ / ٥٨٢٢.

٥١٤

نعم ، لو كان هناك إجماع على ترك الأخذ بظاهر الآية ، فإنّما هو بالنظر إلى فرض الوصيّة ، حيث لم يقل أحد بأنّها واجبة أمّا الندب إليها والترغيب إلى الإيصاء بشأن ذوي الحاجة من الأقربين ـ الوارثين منهم وغير الوارثين ـ فهذا لا ينفيه الإجماع والآية لا تدلّ على أكثر من ذلك ، فهي ثابتة الحكم ومحكمة المفاد أبدا (١).

قال العلّامة الطبرسيّ : والصحيح عند المحقّقين من أصحابنا أنّها غير منسوخة أصلا ، إذ لا منافاة بين آية الوصيّة وآية المواريث. وحديث «لا وصيّة لوارث» لم يصحّ عندنا. والإجماع ـ على الخلاف ـ لم يتحقّق. (٢)

***

وممّا قيل بنسخه أيضا قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً)(٣).

قالوا : كانت المرأة إذا فجرت وقامت عليها الشهود حبست في بيت وهوجرت إلّا من يأتيها بطعام وشراب ، حتّى يتوفّاها الموت.

وكان الرجل إذا فجر أوذي بالتعيير والتعنيف حتّى يئوب ويتوب. قالوا : فنسختا بشريعة الحدود : الجلد والرجم.

وقد تظافر بذلك الأحاديث ، وأجمع عليه المفسّرون وحسبوا من الفحشاء هنا أنّه الزنا. وشذّ أبو مسلم وزعم أنّها في الآية الأولى هي المساحقة ، وفي الثانية هي اللواطة. (٤)

قال الطبرسي : وقول أبي مسلم مخالف للإجماع ولما عليه المفسّرون ، فإنّهم أجمعوا على أنّ المراد بالفاحشة هنا هو الزنا. (٥)

وقال الجصّاص : إنّ الأمّة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين. (٦)

__________________

(١) راجع : التبيان ٢ : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) مجمع البيان ١ : ٢٦٧.

(٣) النساء ٤ : ١٥ ـ ١٦.

(٤) ورجّحه الإمام عبده وارتآه. قال : فالحقّ أنّ ما ذهب إليه أبو مسلم هو الراجح في الآيتين. (المنار ٤ : ٤٣٩)

(٥) مجمع البيان ٣ : ٢٠.

(٦) أحكام القرآن ٢ : ١٠٧.

٥١٥

غير أنّ لنا كلاما في تفسير الفاحشة بالزنا خاصّة ، بعد أن تكرّر ذكرها في القرآن ، مرادا بها الكبائر الفاحشة العارمة ، والتي هي خرق لحريم الجماعة وهتك لحرمتها في نظامها القائم على أساس السلامة وحسن الاعتماد.

قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)(١).

الفاحشة هنا هو هتك حريم الجماعة والخروج على سننهم المعروفة.

وأمّا ظلم النفس فهي الآثام التي تحطّ من كرامة الذات وتغضّ من شرفه التليد. والإنسان الواعي يلزمه التدارك لما فرط منه في كلا الجانبين ، فور تذكّره وقبل فوات الأوان.

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢).

السوء : الإثم الذي يعود وباله على مرتكبه بالذات. والفحشاء : هو الإثم العارم الهاتك لحريم النظام.

***

وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٣). وقال : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). (٤)

يا ترى! ماذا تنهى عنها الصلاة؟ هل هو خصوص الزنا ، أم هو كلّ إثم يعود وباله على سلامة النظام؟

وقال : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً)(٥).

نعم ، إنّه كان خرقا لحرمة أزواج الآباء ، وهنّ بمنزلة الأمّهات الأمر الذي كان مقتا (ممقوتا للغاية) وساء سبيلا. بئست الطريقة الجاهليّة العشواء.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٢) البقرة ٢ : ١٦٨ ـ ١٦٩.

(٣) النحل ١٦ : ٩٠.

(٤) العنكبوت ٢٩ : ٤٥.

(٥) النساء ٤ : ٢٣.

٥١٦

وقال تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (١) أي كبائر الإثم العارمة والتي تهزّ أركان النظام بصرامة.

وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ...)(٢). أي تشيع المنكرات.

وقال تعالى ـ مخاطبا لأزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ)(٣) أي بمنكر من قول أو فعل ، بحيث لا يتناسب وحرمة شأن أمّهات المؤمنين!

وقال : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ...). (٤) و (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ....)(٥) و (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ)(٦).

إلى غيرهنّ من آيات ، أريد بالفواحش ، الكبائر الموبقة والتي تختلّ بشيوعها أواصر النظام وتنفصم عرى وحدتها وسلامتها دون تفشّي الفساد.

نعم ، لا نتحاشا إطلاق الفاحشة على الزنا واللواطة أيضا ، باعتبارهما خروجا على سنن الطبيعة وهتكا لحريم النظام ، المبتني قواعده على النكاح دون السفاح.

قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً)(٧).

نعم كان الزنا ـ أي العمل الجنسي خارج إطاره المشروع ـ فاحشة ونقضا لأسس وقار النظام إلى حيث الفوضى والانهيار.

ومن ثمّ فهو من أسوء السّبل لاتّخاذ كسر نائرة الشهوات.

وهكذا شنّع لوط قومه بخروجهم على سنن الطبيعة وجريهم على خلاف المجرى المتعارف العامّ : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ)(٨). (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ)(٩).

__________________

(١) الأعراف ٧ : ٢٨.

(٢) النور ٢٤ : ١٩.

(٣) الأحزاب ٣٣ : ٣٠.

(٤) الأنعام ٦ : ١٥١.

(٥) الأعراف ٧ : ٣٣.

(٦) الشورى ٤٢ : ٣٧.

(٧) الإسراء ١٧ : ٣٢.

(٨) الأعراف ٧ : ٨٠.

(٩) العنكبوت ٢٩ : ٢٨.

٥١٧

إذن فإطلاق الفاحشة على الزنا ، كان من باب إطلاق المفهوم العامّ على أحد مصاديقه ، لا أنّه هو مفهومه بالذات.

فهنا ـ في آية جزاء الفحشاء من سورة النساء ـ لم يتعيّن إرادة الزنا ـ أو اللواطة ـ بالخصوص ، بعد احتمال اللفظ لأيّ عمل سوء كان فاحشا عارم السّوء ، ومنكرا يستقبحه العرف العامّ.

وبعد ، فإذ كان اللفظ يحتمل المعنى الأعم للفحشاء ، فمن المحتمل القريب ، بل لعلّه الأظهر حسب سياق الآية مساقها في معرض غفران العثرات ممّن : (يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ)(١). فلعلّ الآية هادفة إلى الحفاظ على كرامة الأسرة المتعفّفة ، فلا تتبرّج نساؤهم ولا تستهتر بنفسها عرضة رخيصة في متناول الأجانب ، فإن شهد جماعة من أعضاء الأسرة ، ذلك من إحدى نساءهم فليحولوا دون خروجها ، وإمساكها في البيوت ، لعلّها تفيء إلى رشدها ، أو ييسّر الله لها إمكان الزواج بما يطفى أوارها ذلك المتوهّج.

وهكذا إذا وجدوا من فتيين (٢) ، يربطهما أواصر مريبة ، فليراقبوهما ويذكّروهما ويؤنّبوهما على مشيتهما هذه المريبة ، ليتوبا إلى رشدهما ، وسوف يتوب الله عليهم ويصلح بالهم. (٣)

ويشهد لصحّة هذا الاستنتاج ، سوق الآية مساقها مع آيات التوبة وشمول المغفرة لمن تاب وأناب بعيدا عن قضيّة فرض الحدّ والأخذ بالشدّة على مرتكبي الآثام.

أنظر إلى نعومة التعبير هنا : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً). (٤)

أمّا إذا كان مجال فرض الحدّ والعقوبة على الجرائم فإنّ اللحن يختلف ويأخذ شدّته وصرامته من غير لين.

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ

__________________

(١) الآية رقم ١٧ من سورة النساء ، تعقّبا على آية الفحشاء.

(٢) شابّين أو شابّتين أو شابّا وشابّة.

(٣) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) سورة محمّد ٤٧ : ٢.

(٤) النساء ٤ : ١٥ ، ١٦ ، ١٧.

٥١٨

تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). (١)

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (٢)

وأخيرا فلا نتحاشا القول بأنّ الآيتين من سورة النساء ـ نزلتا ـ أوّلا ـ بشأن مطلق الفحشاء الشامل بعمومه للزنا وغيره من كبائر الإثم الفاحشة .. لكن نزل بخصوص أمر الزنا آية أخرى ، لغرض فرض الحدّ لمرتكبه ، حيث جاء في سورة النور متأخّرا.

غير أنّ هذا لا يعني نسخ عموم الحكم السابق ، وإنّما هو تخصيص لبعض جوانبه ، ومن ثمّ فإنّ عموم العامّ السابق ، باق على إحكامه من غير أن يعترضه نسخ.

على أنّ هذا العموم أيضا لم ينثلم وبقي ثابتا في شموله ، حتّى مع إجراء الحدّ على الزاني والزانية ، فللملامة والتوبيخ اللاذع ، بعد مجال ، وكذا الحؤول دون استهتار المرأة ـ حتّى بعد إجراء الحدّ عليها ـ فرض مؤكّد. إذن فلا موضع للنسخ في الآيتين.

***

وهكذا سائر الآيات ممّا قيل بنسخها ، وتعرّضنا لها بتفصيل وتفنيد مواضع النسخ فيها ، فيما عرضناه من قائمة المنسوخات ، في كتابنا التمهيد. (٣)

وبعد فإذ قد عرفت أن لا نسخ في القرآن بتاتا ، نسخا وفق مصطلح الخلف ، فما ورد عليك من أحاديث السلف بعروض النسخ لجملة من الآيات ، فاعرضها على منصّة التمحيص ؛ إنّها إمّا مؤوّلة حسب مصطلحة القديم وإمّا هو حديث مفترى يجب ردّه على قائله والعهدة عليه!!

وهنا ملحوظة يجب التنبّه لها ، وهي : أنّ أكثر تلكم الأحاديث ، فيها إلمامة إلى حسبان التحريف في القرآن ، إمّا سورة أو آية أو آيات (٤) ، الأمر الذي نتحاشاه ويتحاشاه كلام الحكيم ومن ثمّ فهي لا تعدو مزاعم حسبها أصحاب الأوهام لا يمكننا المصادقة عليها بتاتا.

والآن فإليك الأهمّ من تلك الأحاديث :

[٢ / ٢٩٥٨] أخرج ابن سعد وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داوود في ناسخه وابن الضريس وابن

__________________

(١) النور ٢٤ : ٢.

(٢) المائدة ٥ : ٣٨.

(٣) الجزء الثانى. وربما تتفاوتت نظرتنا في مختلف الطبعات. وكانت نظرتنا الحاسمة تتمثّل في الطبعات الأخيرة.

(٤) فنّدناها بتفصيل وتبيين في كتابنا «صيانة القرآن من التحريف» (الجزء الثامن من التمهيد).

٥١٩

جرير وابن المنذر وابن حبّان والبيهقي في الدلائل عن أنس قال : أنزل الله في الّذين قتلوا ببئر معونة قرآنا قرأناه حتّى نسخ بعد : «أن بلّغوا قومنا أنّا قد لقينا ربّنا فرضي عنا وأرضانا». (١)

[٢ / ٢٩٥٩] وأخرج مسلم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل عن أبي موسى الأشعري قال : كنّا نقرأ سورة نشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها ، غير أنّي حفظت منها : «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوفه إلّا التراب». وكنّا نقرأ سورة نشبّهها بإحدى المسبّحات ، أوّلها : «سبّح لله ما في السماوات ...» فأنسيناها ، غير أنّي حفظت منها : «يا أيّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. فتكتب شهادة في أعناقكم ، فتسألون عنها يوم القيامة». (٢)

[٢ / ٢٩٦٠] وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس عن أبي موسى الأشعري قال : نزلت سورة شديدة نحو براءة في الشدّة ثمّ رفعت ، وحفظت منها : «إنّ الله سيؤيّد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم». (٣)

[٢ / ٢٩٦١] وأخرج (٤) ابن الضريس : ليؤيّدنّ الله هذا الدين برجال ما لهم في الآخرة من خلاق ، ولو أنّ لابن آدم واديين من مال لتمنّى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ، إلّا من تاب ، فيتوب الله عليه والله غفور رحيم. (٥)

[٢ / ٢٩٦٢] وأخرج أبو عبيد وأحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي واقد الليثي قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أوحي إليه أتيناه فعلّمنا ما أوحي إليه ، قال : فجئته ذات يوم فقال : إنّ الله يقول : «إنّا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ولو أنّ لابن آدم واديا لأحبّ أن يكون إليه الثاني ، ولو كان له الثاني لأحبّ أن يكون إليهما ثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ، ويتوب

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٥٦ ؛ الطبقات ٢ : ٥٤ ، (سريّة المنذر بن عمر) ؛ مسند أحمد ٣ : ٢١٥ ؛ البخاري ٣ : ٢٠٨ ، كتاب الجهاد والسير ؛ مسلم ٢ : ١٣٦ ، كتاب الصلاة ؛ الطبري ١ : ٦٧٠ / ١٤٦٦ ؛ ابن حبّان ١٠ : ٥٠٨ / ٤٦٥١ ، كتاب السير ، باب ٦ (فضل الشهادة) ؛ الدلائل ٣ : ٣٤٨ ، باب ما وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على من قتل ببئر معونة.

(٢) الدرّ ١ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧ ؛ مسلم ٣ : ١٠٠ ، كتاب الزكاة ؛ الحلية ١ : ٢٥٧ ، باب ٤٠ ؛ الدلائل ٧ : ١٥٦ ، باب ما جاء في تأليف القرآن ؛ الطبري ١ : ٦٧٠ ، بعد رقم ١٤٦٦ ، باختصار ، القرطبي ١٨ : ٧٨ ـ ٧٩ ، سورة الصفّ ؛ ابن كثير ٤ : ٣٨٣.

(٣) الدرّ ١ : ٢٥٧ ؛ فضائل القرآن : ١٩٢ / ٩ ـ ٥١ ، باب ذكر ما رفع من القرآن بعد نزوله ولم يثبت في المصاحف.

(٤) في النسخة (ط : دار هجر): «ولفظ ابن الضريس ...».

(٥) الدرّ ١ : ٢٥٧.

٥٢٠