التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

قال تعالى :

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧))

هذا ردّ على شبهة ألقتها اليهود ، حينما واجهوا تغييرات في أحكام وشرائع ، كانت في شرائع سابقة ، فنسختها شريعة الإسلام ومن جملة ما شمله النسخ ، شريعة الاتّجاه إلى بيت المقدس في عبادة الصلاة ، فتحوّلت إلى الكعبة المشرّفة. الأمر الذي أثار عجاجهم وسلبهم موضع الاعتبار بقبلتهم بالذات. زعموا أنّ الشرع السابق إن كان حقّا ، فيجب الثبات عليه أبدا ولو كان الشرع اللاحق حقّا ، فكيف العكوف على غيره سابقا؟!

والجواب : أنّ كلا الأمرين حقّ ، غير أنّ السابق كان حقّا في ظرفه ، واللاحق أيضا حقّ في ظرفه. وهذا نظير تبدّل وصفات الطبيب مع تغيير حالات المريض ، فالوصفة السابقة لا تفيده في حالة أخرى لاحقة ، وإن كانت حقّا في ظرفها الخاصّ فلا تنافي أن يكون كلاهما حقّا ، كلّ في ظرفه وفي ظلّ شرائطه الخاصّة.

وسواء أكانت المناسبة هي مناسبة تحويل القبلة ـ كما يدلّ عليه السياق ـ أم كانت مناسبة أخرى من تعديل بعض التشريعات والتكاليف ، التي كانت تتابع نموّ الجماعة المسلمة ، وأحوالها المتطوّرة أم كانت خاصّة بتعديل بعض الأحكام التي وردت في شريعة التوراة سواء أكانت المناسبة إحدى هذه أو جميعها ، فإنّ اليهود اتّخذتها ذريعة للتشكيك في صلب العقيدة وقد ردّ عليها القرآن في بيان حاسم بشأن النسخ والتعديل ، والقضاء على تلك الشبهات التي أثارتها اليهود ...

فالتعديل الجزئي وفق مقتضيات الأحوال ـ في فترة الرسالة ـ هو لصالح البشريّة ، ولتحقيق خير أكبر تقتضيه أطوار حياتها والله خالقهم وهو أعرف بصالحهم.

فإذا نسخ آية ـ شريعة. إذ كلّ شرعة آية ـ أو أنساها ـ ذهبت عن الأذهان لتقادم عهدها ـ فإنّه تعالى ـ لمقام حكمته ولطفه بعباده ـ يأتي بأفضل منها إذا ما لو حظا معا بالنسبة إلى شرائط حاضرة ،

٤٨١

فإنّ القديم لا يصلح علاجا لمشاكل حاضرة ، وإنّما ينفعها شرع جديد. وهو خير لها.

أو هي مثلها ، إذا ما لوحظ كلّ في ظرفه. فالقديم للقديم والجديد للجديد .. فهذا الجديد مثل القديم ، في كونه علاجا لمشاكل حاضرتها.

وهذا كلّه يدلّ على حكمة بالغة لاحظها الشارع الحكيم لأنّه القادر على كلّ شيء والمالك لكلّ شيء من أرض وسماء وما بينهما أجمع وأن ليس هناك لكافّة الخلائق ، وليّ يتولّى شؤونهم في الحياة ، ولا نصير ينصرهم عند الموبقات.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

والخطاب هنا للمؤمنين يحمل رائحة التحذير ، ورائحة التذكير بأنّ الله هو وليّهم وناصرهم ، وليس من دونه وليّ ولا نصير فلا يتولّوا غيره ولا يأملوا النصر إلّا من عنده. فإنّ في ذلك الفوز والنجاح والسعادة في الحياة.

***

والفرق بين النسخ والإنساء : أنّ النسخ فيما لو كان المنسوخ معهودا بعد ، وأمّا الإنساء فنسخ لشرع تقادم عهده وذهب عن الأذهان ، فخلفه شرع جديد ، وفق شرائط حاضرة ، كان أصلح وأتمّ.

ولكن جاء في أحاديث السلف ما ظاهره المنافاة.

[٢ / ٢٩٢١] أخرج ابن أبي حاتم عن طريق محمّد بن الزبير الحرّاني عن الحجّاج الجزري عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : كان ممّا ينزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار ، فأنزل الله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها). (١)

ورواه ابن عساكر في ترجمة محمّد بن الزبير (٢). وهكذا ابن عدّي فيما ترجم له في الضعفاء ، وقال : منكر الحديث. (٣)

قلت : لا شكّ أنّه حديث منكر لا يرويه إلّا منكر الحديث.

[٢ / ٢٩٢٢] وأنكر منه ما أخرجه الطبراني عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر قال : قرأ رجلان من

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ٢٠٠ / ١٠٥٨ ؛ الدرّ ١ : ٢٥٤.

(٢) ابن عساكر ٥٣ : ٣٩ ؛ ابن كثير ١ : ١٥٥.

(٣) الكامل في الضعفاء ٦ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩ / ٩٤ ـ ١٧١٥.

٤٨٢

الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانا يقرآن بهما. فقاما يقرآن ذات ليلة يصلّيان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرا ذلك له ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّهما ممّا نسخ أو أنسي ، فالهوا عنه!» (١)

وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد باب القراءات وعقّبه بقوله : وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك (٢) وكذا أخرجه ابن كثير وقال : سليمان بن أرقم ضعيف. (٣)

[٢ / ٢٩٢٣] وأخرج أبو داوود في ناسخه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف وأبو ذرّ الهروي في فضائله عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف : أنّ رجلا كانت معه سورة ، فقام من اللّيل ، فقام بها فلم يقدر عليها ، وقام آخر بها يقرأ بها فلم يقدر عليها ، وقام آخر فلم يقدر عليها ، فأصبحوا فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاجتمعوا عنده فأخبروه ، فقال : إنّها نسخت البارحة. (٤)

[٢ / ٢٩٢٤] وأخرج أبو داوود في ناسخه والبيهقي في الدلائل من وجه آخر عن أبي أمامة : أنّ رهطا من الأنصار من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبروه أنّ رجلا قام من جوف الليل يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها ، فلم يقدر منها على شيء إلّا بسم الله الرحمان الرحيم ، ووقع ذلك لناس من أصحابه ، فأصبحوا فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن السورة ، فسكت ساعة لم يرجع إليهم شيئا. ثمّ قال : نسخت البارحة ، فنسخت من صدورهم ، ومن كلّ شيء كانت فيه. (٥)

[٢ / ٢٩٢٥] وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله : (أَوْ نُنْسِها) قال : إنّ نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقرىء قرآنا ثمّ أنسيه ، فلم يكن شيئا ، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرأونه! (٦)

__________________

(١) الكبير ١٢ : ٢٢٣ / ١٣١٤١ (ترجمة سالم) ؛ الأوسط ٥ : ٤٨ / ٤٦٣٧.

(٢) مجمع الزوائد ٧ : ١٥٤.

(٣) ابن كثير ١ : ١٥٤.

(٤) الدرّ ١ : ٢٥٦ ؛ مسند الشاميين ٤ : ١٦١ / ٣٠٠١ ، بتفصيل ؛ نواسخ القرآن ، ابن الجوزي : ٣٤ ؛ القرطبي ١ : ٦٣ ؛ البغوي ١ : ١٥٣ / ٧٣. بمعناه ؛ أبو الفتوح ٢ : ١٠٣ ؛ الثعلبي ١ : ٢٥٤ : قال : رواه أبو أمامة بن سهل بن حنيف في مجلس سعيد بن المسيّب.

(٥) الدرّ ١ : ٢٥٦ ؛ الدلائل ٧ : ١٥٧ ، باب ما جاء في تأليف القرآن ؛ نواسخ القرآن ، ابن الجوزي : ٣٣ ؛ الوسيط ١ : ١٨٩.

(٦) الدرّ ١ : ٢٥٦ ؛ الطبري ١ : ٦٦٥ / ١٤٤٨ ؛ التبيان ١ : ٣٩٦ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٤٠ ، إلى قوله : «فلم يكن شيئا ...».

٤٨٣

[٢ / ٢٩٢٦] وأخرج أبو داوود وابن جرير عن أبي العالية قال : يقولون : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) كان الله أنزل أمورا من القرآن ثمّ رفعها. (١)

[٢ / ٢٩٢٧] وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الضحّاك قال : في قراءة ابن مسعود : «ما ننسك من آية أو ننسخها» (٢). وهكذا في قراءة أبيّ بن كعب.

[٢ / ٢٩٢٨] وأخرج عبد الرزّاق عن معمر عن قتادة في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) قال : كان الله ـ عزوجل ـ ينسي نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء. (٣)

[٢ / ٢٩٢٩] وأخرج عبد بن حميد وأبو داوود في ناسخه وابن جرير عن قتادة قال : كانت الآية تنسخ الآية ، وكان نبيّ الله يقرأ الآية والسورة وما شاء الله من السورة ، ثمّ ترفع فينسيها الله نبيّه ، فقال الله يقصّ على نبيّه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) يقول : فيها تخفيف ، فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهي. (٤)

قلت : لا شكّ أنّها تلفيقات معزوّة إلى السلف على غير أساس.

***

[٢ / ٢٩٣٠] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عبّاس في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) يقول : ما نبدّل من آية أو نتركها لا نبدّلها (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) يقول : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. (٥)

[٢ / ٢٩٣١] وأخرج آدم بن أبي أياس وأبو داوود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٥٦ ؛ الطبري ١ : ٦٦٧ / ١٤٥٦ ، عن الربيع بلفظ : (ننسها) : نرفعها ، وكان الله ـ تبارك وتعالى ـ أنزل أمورا من القرآن ثمّ رفعها».

(٢) الدرّ ١ : ٢٥٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٩٩ / ١٠٥٤ ؛ ابن كثير ١ : ١٥٤ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٤١ ؛ الطبري ١ : ٦٦٦ ، بعد رقم ١٤٥١.

(٣) ابن كثير ١ : ١٥٥ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٨٥ / ١٠٤ ، وفيه بعض التشويش في العبارة.

(٤) الدرّ ١ : ٢٥٥ ؛ الطبري ١ : ٦٦٦ و ٦٧١ / ١٤٥٢ و ١٤٦٨ ، بلفظ : «كان ينسخ الآية بالآية بعدها ويقرأ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآية أو أكثر من ذلك ثمّ تنسى وترفع» ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٠٢ / ١٠٧٠ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٨٥ / ١٠٤ و ١٠٥ ؛ ابن كثير ١ : ١٥٥.

(٥) الدرّ ١ : ٢٥٥ ؛ الطبري ١ : ٦٦٥ و ٦٦٧ ـ ٦٦٨ و ٦٧١ / ١٤٥٠ و ١٤٥٧ و ١٤٦٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٠١ / ١٠٦٥ و ١٠٦٧ ؛ الأسماء والصفات : ٣٥٨ ، باب قول الله ، لله الأمر من قبل ومن بعد ؛ الثعلبي ١ : ٢٥٥ ، في تفسير قوله نُنْسِها قال : «أي نتركها ولا نبدّلها» ؛ ابن كثير ١ : ١٥٥.

٤٨٤

في الأسماء والصفات عن مجاهد عن أصحاب ابن مسعود في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) قال : نثبّت خطّها ونبدّل حكمها ، (أَوْ نُنْسِها) قال : نؤخّرها عندنا. (١)

قلت : هذا من نسخ الحكم دون التلاوة. وهو مرفوض عندنا. حسبما شرحناه في التمهيد.

[٢ / ٢٩٣٢] وقال أبو العالية : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) فلا يعمل بها ، (أَوْ نُنْسِها) أي نرجئها عندنا ، نأت بها أو بنظيرتها. (٢)

[٢ / ٢٩٣٣] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : خطبنا عمر فقال : يقول الله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) أي نؤخّرها. (٣) وهكذا قال عطاء. (٤)

[٢ / ٢٩٣٤] وذكر الطوسي عن أبي عبيدة قال : معنى «ننسأها» أي نمضيها فلا ننسخها. (٥)

[٢ / ٢٩٣٥] وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (نُنْسِها) قال : أي نمحو من آية. (٦)

[٢ / ٢٩٣٦] وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : «ننسها» قال : نمحها. (٧)

[٢ / ٢٩٣٧] وأخرج البخاري والنسائي وابن الأنباري في المصاحف والحاكم والبيهقي في الدلائل عن ابن عبّاس قال : قال عمر : أقرأنا أبيّ ، وأقضانا عليّ ، وإنّا لندع شيئا من قراءة أبيّ ، وذلك أنّ أبيّا يقول : لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قال الله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها). (٨)

يعني : أنّا لنترك شيئا من قراءة أبيّ ، تركا عن إنساء ، أي كانت تقرأ على حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٥٥ ؛ الطبري ١ : ٦٦٦ بعد رقم ١٤٥١ ، بلفظ : «قالوا : ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ نثبت خطّها ونبدّل حكمها» ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٩٩ ـ ٢٠٠ / ١٠٥٥ و ١٠٦٢. إلى قوله : أَوْ نُنْسِها ؛ الأسماء والصفات : ٣٥٨ ؛ ابن كثير ١ : ١٥٤ و ١٥٥ ، وعن أبي العالية أيضا.

(٢) ابن كثير ١ : ١٥٥.

(٣) الدرّ ١ : ٢٥٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٠١ / ١٠٦٣ ، وكذا عن أبي العالية.

(٤) الطبري ١ : ٦٦٨ / ١٤٦١ ؛ الثعلبي ١ : ٢٥٦. وفيه : قرأ عمر بن الخطّاب وعبيد بن عمير وعطاء وابن كثير وأبو عمرو والنخعي : أَوْ نُنْسِها ، فلا نؤخّرها ولا نبدّلها ولا ننسخها ، وكذا عن مجاهد. الطبري ١ : ٦٦٨ ؛ ابن كثير ١ : ١٥٥.

(٥) التبيان ١ : ٣٩٧ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٣٨ ؛ الثعلبي ١ : ٢٥٦ ، بلفظ : «ننسئها مجازه : نمضيها لذكر ما فيه».

(٦) ابن أبي حاتم ١ : ١٩٩ / ١٠٥٣.

(٧) الطبري ١ : ٦٦٨ / ١٤٦٠.

(٨) الدرّ ١ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ؛ البخاري ٥ : ١٤٩ ، كتاب التفسير ، سورة البقرة ؛ النسائي ٦ : ٢٨٩ / ١٠٩٩٥ ، كتاب التفسير ؛ الدلائل ٧ : ١٥٥ ، باب ما جاء في تأليف القرآن و... ؛ ابن عساكر ٧ : ٣٢٥ ، ترجمة أبيّ بن كعب ، رقم ٥٥٨ ؛ كنز العمّال ٢ : ٥٩٢ / ٤٨٠٧.

٤٨٥

فاليوم نسيناها ، وقد أنسانا الله لها.

[٢ / ٢٩٣٨] وروي عن الإمام أبي جعفر الجواد عليه‌السلام قال : «قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) أي نرفع حكمها (أَوْ نُنْسِها) بأن نرفع رسمها ونزيل عن القلوب حفظها ، وعن قلبك يا محمّد ، كما قال تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللهُ)(١) أن ينسيك فرفع ذكره عن قلبك.

(نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) يعنى بخير لكم. فهذه الثانية أعظم لثوابكم وأجلّ لصلاحكم من الآية الأولى المنسوخة. (أَوْ مِثْلِها) في الصلاح لكم أي إنّا لا ننسخ ولا نبدّل إلّا وغرضنا في ذلك مصالحكم.

ثمّ قال : يا محمّد (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فإنّه قدير يقدر على النسخ وغيره ، (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهو العالم بتدبيرها ومصالحها وهو يدبّركم بعلمه (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يلي صلاحكم إذ كان العالم بالمصالح هو الله ـ عزوجل ـ دون غيره (وَلا نَصِيرٍ ،) وما لكم من ناصر ينصركم من مكروه إن أراد الله إنزاله بكم أو عقاب إن أراد إحلاله بكم.

وقال الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : وربما قدّر عليه النسخ والتنزيل لمصالحكم ومنافعكم لتؤمنوا بها ويتوفّر عليكم الثواب بالتصديق بها ، فهو يفعل من ذلك ما فيه صلاحكم والخيرة لكم.

ثمّ قال : (أَلَمْ تَعْلَمْ) يا محمّد (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فهو يملكهما بقدرته ويصلحهما بحسب مشيئته ، لا مقدّم لما أخّر ولا مؤخّر لما قدّم.

ثمّ قال تعالى : (وَما لَكُمْ) يا معشر اليهود والمكذّبين بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والجاحدين لنسخ الشرائع (مِنْ دُونِ اللهِ) سوى الله تعالى (مِنْ وَلِيٍ) يلي مصالحكم إن لم يل لكم ربّكم المصالح (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم من دون الله فيدفع عنكم عذابه». (٢)

كلام عن النسخ في القرآن

للنسخ مصطلحان قديم وحادث ، فقد تعارف السلف على التعبير بالنسخ عن أيّ تغيير في حكم سابق ، تخصيص أو تقييد أو الرفع رأسا.

__________________

(١) الأعلى ٨٧ : ٦ ـ ٧.

(٢) البرهان ١ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ / ١ ؛ تفسير الإمام : ٤٩١ ـ ٤٩٢ / ٣١١ ؛ البحار ٤ : ١٠٤ / ١٨ ، وفيه : إن لم يدلّكم ربّكم للمصالح.

٤٨٦

[٢ / ٢٩٣٩] ومنه قول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وقد مرّ على قاض بالكوفة ، فسأله : هل تعرف الناسخ عن المنسوخ؟ فقال : لا. فقال له الإمام : «إذن هلكت وأهلكت. وأضاف : تأويل كلّ حرف من القرآن على وجوه». (١)

ولعلّ هذا القاضي هو أبو يحيى المعرّف ، كما جاء في حديث سعيد بن أبي الحسن : أنّ أبا يحيى قال له : أنا هو وذكر القصّة. (٢)

حيث مراده عليه‌السلام أنّ في القرآن عامّا وخاصّا وإطلاقا وتقييدا وإجمالا وتفصيلا ونحو ذلك ، ممّا يتغيّر به المعنى عند المقارنة. يدلّ على ذلك ذيل كلامه عليه‌السلام : «تأويل كلّ حرف من القرآن على وجوه» أي ينصرف تفسير كلّ آية إلى وجوه من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد وأيّ تغيير ، عند ملاحظة النسب القائمة بين مختلف الآيات الأمر الذي يجب التفطّن له عند الاستنباط.

ومن الطبيعيّ وقوع مثل هذا النسخ في القرآن وفي الحديث لا محالة ومن ثمّ لا يجوز الأخذ بأيّ عموم أو إطلاق في القرآن أو في الحديث ، إلّا بعد الفحص عن المخصّص أو المقيّد ، واليأس عنه. هذا أمر معروف لا غبار عليه.

إنّما الكلام في النسخ المصطلح عند المتأخّرين ، أي رفع الحكم السابق رأسا وبحذافيره. ليخلفه حكم جديد تماما.

مثل هذا النسخ ، إن لوحظ بالنسبة إلى شرائع سابقة ولا حقة ، أو في شريعة بالذات ، ليرتفع حكم ويخلفه حكم آخر تماما .. فلعلّ وقوع مثل هذا النسخ أيضا طبيعيّ. إذ من طبيعة الحركة الإصلاحيّة الآخذة في طريق التقدّم والاكتمال ، أن يتوارد على تشريعاتها تغييرات ونسخ متتابع ، حسب تدرّجها التصاعدي نحو قمّه الكمال.

وهل شملت ظاهرة النسخ ـ بهذا المعنى ـ القرآن الكريم ، بأن تنسخ آية أخرى نزلت بعدها فرفعت حكمها تماما؟! الأمر الذي لا نكاد نصدّقه ولا كان له شاهد في كتاب الله. إنّ كتاب الله دستور خالد عامّ ولا معنى لأن توجد فيه آية منسوخة المفاد ، لا فائدة في ثبتها سوى القراءة والترتيل.

وما ذكروه شاهدا لذلك ، فأكثره الغالب من النسخ بمصطلحه القديم. أمّا النسخ بمصطلحه

__________________

(١) العيّاشي ١ : ١٢ / ٩.

(٢) رسالة الناسخ والمنسوخ لابن حزم ، بهامش تفسير الجلالين ٢ : ١٥٠.

٤٨٧

الحديث فلم يذكروا له شاهدا صالحا للاعتماد وهي بضع آيات زعموا نسخها ممّا وقع موضع البحث والنقاش. ولنذكرها ونذكر دلائلهم على النسخ ، لنضع اليد على مواضع الضعف منها.

***

ذكروا للنسخ في القرآن أنحاء ثلاثة :

١ ـ نسخ الحكم والتلاوة معا

بأن تسقط من القرآن آية كانت ذات حكم تشريعيّ ، وكان المسلمون يتداولونها ويقرأونها ويتعاطون حكمها ثمّ نسخت وبطل حكمها ومحيت عن صفحة الوجود.

هذا النوع من النسخ مرفوض عندنا البتّة ، ويتحاشاه الكتاب العزيز الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). (١)

وقد حاول بعض القدامى من أهل الحديث (٢) ، وهكذا لفيف من المحدثين غير المحقّقين (٣) إثبات هذا النوع من النسخ في القرآن ، بحجّة مجيئه في حديث صحيح الإسناد إلى عائشة ، أنّها قالت :

[٢ / ٢٩٤٠] كان فيما أنزل من القرآن : «عشر رضعات معلومات يحرّمن». ثمّ نسخن بخمس معلومات قالت : وتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهنّ فيما يقرأ من القرآن! (٤)

قلت : هذا شيء عجيب ، كيف يلتزم به من لا يرى التحريف في كتاب الله!؟ إذ يرجع إثبات مثل هذا النوع من النسخ ، إلى القول بسقوط آيات من الذكر الحكيم ، بعد وفاة سيّد المرسلين ، وكانت تقرأ حتّى ما بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنسئت لا عن سبب معروف.

والغريب أنّ الشيخ الزرقاني حاول إثبات مثله بحجّة إجماع القائلين بالنسخ من المسلمين ، وبدليل وقوعه سماعا (٥)!

غير أنّ المحقّقين من العلماء أبطلوا مثل هذا النوع من النسخ رأسا ، بدليل استلزامه التحريف

__________________

(١) فصّلت ٤١ : ٤٢.

(٢) راجع : الإتقان ٣ : ٦٣.

(٣) راجع : مناهل العرفان ٢ : ٢١٤.

(٤) راجع : مسلم ٤ : ١٦٧ والترمذي ٣ : ٤٥٦.

(٥) مناهل العرفان ٢ : ٢١٤.

٤٨٨

والتغيير في كتاب الله بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحاولوا تأويل الحديث الوارد بذلك.

بينما الآخرون ضربوا به عرض الجدار ، لأنّه خبر واحد يؤدّي إلى التلاعب بالقرآن الكريم.

قال الإمام الزركشي : وقد تكلّموا في قولها : «وهنّ ممّا يقرأن» ، فإنّ ظاهره بقاء التلاوة حتّى ما بعد وفاة الرسول ، وليس كذلك! فمنهم من أجاب بأنّ المراد : قارب الوفاة قال : والأظهر أنّ التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كلّ الناس إلّا بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتوفّي وبعض الناس يقرأها!

قال : وحكى القاضي أبو بكر في «الانتصار» عن قوم إنكار هذا القسم ، لأنّ الأخبار فيه آحاد ، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجّة فيها. (١)

وهكذا زعمت أنّ لفظة «متتابعات» كانت مثبتة في المصحف وأسقطت فيما أسقطت منه.

[٢ / ٢٩٤١] أخرج البيهقي والدار قطني وصحّحه بالإسناد إلى ابن شهاب عن عروة عن عائشة ، قالت : نزلت الآية (٢) فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر متتابعات. فسقطت «متتابعات» (٣).

وحمله ابن حزم والبيهقي على إرادة النسخ ، أي نسخ الحكم والتلاوة معا ؛ وهو حمل غير وجيه. وظاهر كلامها ـ إن صحّ الحديث ـ إرادة الإسقاط على عهد الصحابة ولا سيّما عهد عثمان فيما أسقط من المصحف ، كما زعموا ، وقد زيّفناه آنفا.

[٢ / ٢٩٤٢] وجعل الواحدي من هذا النوع ـ أيضا ـ ما روي عن أبي بكر ، قال : كنّا نقرأ : «لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر». (٤)

قال الإمام السرخسي : لا يجوز هذا النوع من النسخ في القرآن عند المسلمين. وقال بعض الملحدين ممّن يتستّر بإظهار الإسلام ـ وهو قاصد إلى إفساده ـ : هذا جائز بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، واستدلّ بما روي عن أبي بكر ، كان يقرأ : «لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم». وأنس كان يقول : قرأنا في القرآن : «بلّغوا عنّا قومنا إنّا لقينا ربّنا فرضي عنّا وأرضانا». وقال عمر : قرأنا آية الرجم في

__________________

(١) البرهان ٢ : ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٤.

(٣) أخرجه عبد الرزّاق في المصنّف ٤ : ٢٤١ ـ ٢٤٢. والدار قطني من طريقه في السنن ٢ : ١٩٢. قال : هذا إسناد صحيح. والبيهقي في الكبرى ٤ : ٢٥٨. وابن حزم في المحلّى ٦ : ٢٦١ م : ٧٦٨.

(٤) البرهان ٢ : ٣٩.

٤٨٩

كتاب الله ورعيناها. وقال أبيّ بن كعب : إنّ سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة أو أطول منها!!

قال : والشافعي ، لا يظنّ به موافقة هؤلاء في هذا القول ، ولكنّه استدلّ بما هو قريب من هذا في عدد الرضعات (١) ؛ فإنّه صحّح ما يروى عن عائشة وأنّ ممّا أنزل في القرآن «عشر رضعات معلومات يحرّمن» فنسخن بخمس رضعات معلومات ، وكان ذلك ممّا يتلى في القرآن بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : والدليل على بطلان هذا القول قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). ومعلوم أنّه ليس المراد الحفظ لديه تعالى ، فإنّه يتعالى من أن يوصف بالغفلة أو النسيان ، فعرفنا أنّ المراد الحفظ لدينا ... وقد ثبت أنّه لا ناسخ لهذه الشريعة بوحي ينزل بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولو جوّزنا هذا في بعض ما أوحي إليه لوجب القول بتجويز ذلك في جميعه ، فيؤدّي ذلك إلى القول بأن لا يبقى شيء ممّا ثبت بالوحي بين الناس ، في حال بقاء التكليف! وأيّ شيء أقبح من هذا؟! ومن فتح هذا الباب لم يأمن أن يكون بعض ما بأيدينا اليوم أو كلّه مخالف لشريعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن نسخ الله ذلك بعده ، وألّف بين قلوب الناس ، على أن ألهمهم ما هو خلاف شريعته! فلصيانة الدين إلى آخر الدهر ، أخبر الله تعالى أنّه هو الحافظ لما أنزله على رسوله. وبه يتبيّن أنّه لا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته. وما ينقل من أخبار الآحاد شاذّ لا يكاد يصحّ شيء منها.

قال : وحديث عائشة لا يكاد يصحّ ، لأنّه (أي الراوي) قال في ذلك الحديث : وكانت الصحيفة تحت السرير ، فاشتغلنا بدفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخل داجن البيت فأكله! ومعلوم أنّ بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب ، ولا يتعذّر عليهم إثباته في صحيفة أخرى! فعرفنا أنّه لا أصل لهذا الحديث. (٢)

قلت : في كلام هذا المحقّق كفاية في إبطال هذا الزعم ، وأن لا حجّية في خبر واحد في هذا الشأن ، ولا سيّما جانب مساسه بكرامة القرآن ، واستلزام التلاعب بآية الكريمة ، بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. الأمر الذي تبطله آية الحفظ وضمانه تعالى في حفظ كتابه من التحريف والزيادة والنقص ، لأنّه كلامه المجيد ، يجب أن يبقى معجزه خالدة ترافق الإسلام عبر الأبد.

قال الجزيرى ـ ردّا على الزعم المذكور ـ : إنّ المسلمين قد أجمعوا على أنّ القرآن هو ما تواتر

__________________

(١) وهكذا استدلّ أبو محمّد بن حزم بذلك في المحلّى ١٠ : ١٥.

(٢) أصول السرخسي ٢ : ٧٨ ـ ٨٠.

٤٩٠

نقله. فكيف يمكن الحكم بكون هذا قرآنا!؟ فمن المشكل الواضح ، ما يذكره المحدّثون من روايات الآحاد المشتملة على أنّ آية كذا كانت قرآنا ونسخت! على أنّ مثل هذه الروايات قد مهّدت لأعداء الإسلام إدخال ما يوجب الشكّ في كتاب الله ، من الروايات الفاسدة. فهذه وأمثالها ـ إشارة إلى حديث عائشة ـ من الروايات التي فيها الحكم على القرآن المتواتر بأخبار الآحاد ، فضلا عن كونه ضارّا بالدين ، فيه تناقض ظاهر. (١)

وقال الأستاذ السايس : ما رواه مالك وغيره عن عائشة أنّها قالت : كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات حديث لا يصحّ الاستدلال به ، لاتّفاق الجميع على أنّه لا يجوز نسخ تلاوة شيء من القرآن بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا هو الخطأ الصراح. (٢)

وقال تلميذة الأستاذ العريض : وهذا هو الصواب الذي نعتقده ، وندين الله عليه ، حتّى نقفّل الباب على الطاعنين في كتاب الله تعالى ، من الملاحدة والكافرين ، الّذين وجدوا من هذا الباب نقرة يلجون منها إلى الطعن في القرآن الكريم ، وحتّى ننزّه كتاب الله تعالى عن شبهة الحذف والزيادة بأخبار الآحاد ، فما لم يتواتر في شأن القرآن إثباتا وحذفا لا اعتداد به ، ومن هذا الباب نسخ القرآن بالسنة الآحاديّة ، بل حتّى المتواترة عند بعضهم ، ونرفض كلّ ما ورد من الروايات في هذا الباب ، وما أكثرها ، كما ورد في بعض الأقوال عن سورة الأحزاب وبراءة وغيرها. (٣)

٢ ـ نسخ التلاوة دون الحكم

بأن تسقط آية من القرآن الكريم ، كانت تقرأ ، وكانت ذات حكم تشريعى ، ثمّ نسيت ومحيت عن صفحة الوجود ، لكن بقي حكمها مستمرّا غير منسوخ!

وهذا النوع من النسخ أيضا عندنا مرفوض على غرار النوع الأوّل بلافرق ، لأنّ القائل بذلك إنّما يتمسّك بأخبار آحاد زعمها صحيحة الإسناد ، متغفلا عن أنّ نسخ آية محكمة شيء ، لا يمكن إثباته بأخبار آحاد لا تفيد سوى الظنّ ، وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.

هذا فضلا عن منافاته لمصلحة نزول نفس الآية أو الآيات ، إذ لو كانت المصلحة التي كانت

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ٣ : ٢٥٧.

(٢) فتح المنّان : ٢١٦ ـ ٢١٧.

(٣) المصدر : ٢١٩.

٤٩١

تقتضي نزولها هي اشتمالها على حكم تشريعيّ ثابت ، فلماذا ترفع الآية وحدها! في حين اقتضاء المصلحة بقاءها لتكون سندا للحكم الشرعي الثابت!

ومن ثمّ فإنّ القول بذلك استدعى تشنيع أعداء الإسلام وتعييرهم على المسلمين في كتابهم المجيد.

وأخيرا فإنّ الالتزام بذلك ـ حسب منطوق تلك الروايات ـ التزام صريح بتحريف القرآن الكريم ، وحاشاه من كتاب إلهي خالد ، مضمون بالحفظ مع الخلود.

ولذلك فإنّ هذا القول باطل عندنا ـ معاشر الإماميّة ـ رأسا ، لا مبرّر له إطلاقا ، فضلا عن مساسه بقداسة القرآن المجيد.

قال سيّدنا الأستاذ ـ طاب ثراه ـ : أجمع المسلمون على أنّ النسخ لا يثبت بخبر الواحد ، كما أنّ القرآن لا يثبت به. وذلك لأنّ الأمور المهمّة التي جرت العادة بشيوعها بين الناس وانتشار الخبر عنها ، لا تثبت بخبر الواحد ، فإنّ اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل على كذب الراوي أو خطائه. وعلى هذا فكيف يثبت بخبر الواحد أنّ آية الرجم من القرآن وأنّها نسخت؟! نعم جاء عمر بآية الرجم وادّعى أنّها من القرآن ، لكن المسلمين لم يقبلوا منه. لأنّ نقلها كان منحصرا به ، فلم يثبتوها في المصاحف ، لكنّ المتأخرين التزموا بأنّها كانت آية منسوخة التلاوة باقية الحكم. (١)

***

هذا ولكن جلّ علماء أهل السنّة بما فيهم من فقهاء كبار وأئمّة محقّقين ، التزموا بهذا القول المستند إلى لفيف من أخبار آحاد حسبوها صحيحة الإسناد ، وهذا إيثار لكرامة القرآن على حساب روايات لا حجيّة فيها في هذا المجال ، وإن فرضت صحيحة الإسناد في مصطلحهم ، إذ صحّة السند إنّما تجدي في فروع مسائل فقهيّة ، لا إذا كانت تمسّ كرامة القرآن وتمهّد السبيل لإدخال الشكوك على كتاب المسلمين.

هذا الإمام السرخسي ـ المحقّق الأصولي الفقيه ـ بينما شدّد النكير على القائل بالنسخ من النوع الأوّل ، إذا هو يلتزم به في هذا النوع ، في حين عدم فرق بينهما فيما ذكره من استدلال لبطلان الأوّل!

__________________

(١) البيان : ٣٠٤.

٤٩٢

قال : وأمّا نسخ التلاوة مع بقاء الحكم ، فبيانه فيما قال علماؤنا : أنّ صوم كفّارة اليمين ثلاثة أيّام متتابعة ، بقراءة ابن مسعود : «فصيام ثلاثة أيّام متتابعات». وقد كانت هذه قراءة مشهورة إلى زمن أبي حنيفة ، ولكن لم يوجد فيها النقل المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن ، وابن مسعود لا يشكّ في عدالته وإتقانه ، فلا وجه لذلك إلّا أن نقول : كان ذلك ممّا يتلى في القرآن ـ كما حفظه ابن مسعود ـ ثمّ انتسخت تلاوته في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصرف القلوب عن حفظها إلّا قلب ابن مسعود ، ليكون الحكم باقيا بنقله ، فإنّ خبر الواحد موجب للعمل به ، وقراءته لا تكون دون روايته ، فكان بقاء هذا الحكم بعد نسخ التلاوة بهذا الطريق. (١)

قلت : غير خفيّ وهن هذا الاستدلال وضعف هذا التأويل!

***

وفيما يلي عرض لها أسهبه ابن حزم الأندلسي بهذا الشأن وهو الإمام المحقّق صاحب مذهب واختيار ، ومن ثمّ فإنّ ذلك منه غريب جدّا.

قال : فأمّا قول من لا يرى الرجم أصلا فقول مرغوب عنه ، لأنّه خلاف الثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كان نزل به قرآن ، ولكنّه نسخ لفظه وبقي حكمه. ثمّ يروي عن سفيان عن عاصم عن زرّ :

[٢ / ٢٩٤٣] قال : قال لي أبيّ بن كعب : كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلت : إمّا ثلاثا وسبعين آية أو أربعا وسبعين آية! قال : إن كانت لتقارن سورة البقرة ، أو لهي أطول منها ، وإن كان فيها لآية الرجم! قلت : أبا المنذر ، وما آية الرجم؟ قال : «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة نكالا من الله والله عزيز حكيم».

قال : هذا إسناد صحيح كالشمس لا مغمز فيه.

ثمّ روى بطريق آخر عن منصور عن عاصم عن زرّ ، وقال : فهذا سفيان الثوري ومنصور شهدا على عاصم ، وما كذبا ، فهما الثّقتان الإمامان البدران ، وما كذب عاصم على زرّ ، ولا كذب زرّ على أبيّ.

قال : ولكنّها نسخ لفظها وبقي حكمها ، ولو لم ينسخ لفظها لأقرأها أبيّ بن كعب زرّا بلا شكّ ،

__________________

(١) أصول السرخسي ٢ : ٨١.

٤٩٣

ولكنّه أخبره بأنّها كانت تعدل سورة البقرة ولم يقل له : إنّها تعدل الآن ، فصحّ نسخ لفظها!

ثمّ يروي آية الرجم عن زيد وعمر بن الخطّاب ويقول : إسناد جيّد.

[٢ / ٢٩٤٤] ويروى عن عائشة ، قالت : لقد نزلت آية الرجم والرضاعة ، فكانتا في صحيفة تحت سريري ، فلمّا مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها!

قال : وهذا حديث صحيح. وليس هو على ما ظنّوا ، لأنّ آية الرجم إذ نزلت حفظت وعرفت وعمل بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّه لم يكتبها نسّاخ القرآن في المصاحف ، ولا أثبتوا لفظها في القرآن ، وقد سأله (أي زيدا) عمر بن الخطّاب ذلك فلم يجبه! فصحّ نسخ لفظها ، وبقيت الصحيفة التي كتبت فيها كما قالت عائشة ، فأكلها الداجن ولا حاجة بأحد إليها. (١)

قلت : وإنّي لأستغرب هذا التمحّل الفاضح في كلام مثل هذا الرجل المعروف بالتحقيق ودقّة النظر والاختيار!

كيف يقول : لا حاجة إليها وهي سند حكم تشريعيّ ثابت! ثمّ كيف لا يعلم بالآية أحد من كتبة الوحي ولم يكتبوها سوى أنّها كتبت في صحيفة وأودعت عند عائشة فحسب ، وكيف أنّها تركتها تحت سريرها ليأكلها داجن البيت؟! كلّ ذلك لغريب يستبعده العقل السليم.

والذي غرّ هؤلاء : أنّها أحاديث جاءت في الصحاح الستّة وغيرها (٢) ، ولا بدّ لهم ـ وهم متعبّدون بما جاء فيها ـ أن يتقبّلوها على علّاتها مهما خالفت نهج النقد والتحقيق.

هذا وقد أكثر جلال الدين السيوطي (٣) من نقل هكذا روايات ساقطة ، ومن قبله شيخه بدر الدين الزركشي ولكن مع شيء من الترديد (٤) وقد أخذها بعض الكاتبين المحدثين أدلّة قاطعة من غير تحقيق. قال ـ متشدّقا ـ : وإذا ثبت وقوع هذين النوعين كما ترى ، ثبت جوازهما ، لأنّ الوقوع أعظم دليل على الجواز كما هو مقرّر. وإذن بطل ما ذهب إليه المانعون له من ناحية الشرع ، كأبي

__________________

(١) المحلّى ١١ : ٢٣٤ ـ ٢٣٦.

(٢) راجع : البخاري ٨ : ٢٠٩ ـ ٢١٠ ومسلم ٥ : ١١٦ و ٤ : ١٦٧ والحاكم ٤ : ٣٥٩. ومسند أحمد ١ : ٢٣ و ٢ : ٤٣ والترمذي ٤ : ٣٩ و ٣ : ٤٥٦.

(٣) راجع : الإتقان ٣ : ٧٢ ـ ٧٥. والدرّ ٤ : ٣٦٦ ، ذيل الآية ٥٢ من سورة الحجّ.

(٤) راجع : البرهان ٢ : ٣٥ ـ ٣٧.

٤٩٤

مسلم ومن لفّ لفّه ، ويبطل كذلك ما ذهب إليه المانعون له من ناحية العقل ، وهم فريق من المعتزلة شذّ عن الجماعة ، فزعم أنّ هذين النوعين الأخيرين مستحيلان عقلا. (١)

قلت : ما أشرف حكم العقل ، لو لا أنّ أمثال الزرقاني حصروه في أصحاب الاعتزال ، وجعلوا من أنفسهم بمعزل عن نور العقل الحكيم!

وأمّا الأستاذ العريض فقد ذهب هنا مذهبا تحقيقيّا وأسهب في الردّ على هذا القول الفاسد ، دفاعا عن كرامة القرآن. ونقل عن جماعة من معاصريه مواكبته على هذا الرأي السديد. (٢)

***

وبعد فإليك ما كتبناه بهذا الصدد ، بشأن صيانة القرآن من التحريف ، بحثا وراء تفنيد مزعومتين : مزعومة نسخ التلاوة ومزعومة الإنساء : زعموا أنّ من آي القرآن ما نسخت تلاوتها ـ وإن كان بقي حكمها ـ كما أسلفنا ، كما أنّ هناك من آي القرآن ما تنوسي ، أنساها الله عن القلوب ، كما هي محيت من صحائف القرآن؟!

وإليك ما كتبناه نصّا (وفيه بعض التكرار لما سبق) :

مزعومة نسخ التلاوة

هناك مزعومة لهج بها كثير من أصحاب الحديث وجماعة من أصوليّ العامّة ، حاولوا معالجة ما صحّ لديهم من روايات تنمّ عن ضياع كثير من آي القرآن ، فحاولوا توجيهها بأسلوب مختلق ، قالوا : إنّها من منسوخ التلاوة ، ولو فرض الحكم باقيا مع الأبد. كما في آية «الرضعات العشر» وآية «رجم الشيخ والشيخة» وآية «لا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب» وغيرهنّ كثير ، حسبوها آيات قرآنيّة ، كانت تتلى على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّها رفعت فيما بعد ونسيت عن الصدور ، وإن بقي حكمها واجب العمل أبدا. وبهذا الاسلوب الغريب حاولوا توجيه ما عساه كان ثابتا لديهم من صحاح الأحاديث (٣). وأمّا علماؤنا المحقّقون فقد شطبوا على هكذا روايات تخالف صريح القرآن ، ولم

__________________

(١) راجع : مناهل العرفان ٢ : ٢١٥ ـ ٢١٦.

(٢) راجع : فتح المنّان : ٢٢٤ ـ ٢٣٠.

(٣) وللقاضي أبي بكر الباقلاني (توفّي سنة ٤٠٣) محاولة عريضة هنا بصدد الدفاع عن مواضع بعض السلف حيث نسب إليهم من القول بنقص الكتاب عمّا كان عليه في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبيل آية الرجم وغيرها. فحاول إثبات أنّها من منسوخ التلاوة إن صحّت النسبة ، وإلّا فهو محال باطل. راجع «نكت الانتصار» له : ٩٥ ـ ١٠٨.

٤٩٥

يصحّ لديهم شيء من أسانيدها بتاتا ، ولأنّ كتاب الله العزيز الحميد أعزّ شأنا وأعظم جانبا من أن يحتمل التحريف!

هذا مضافا إلى أنّ توجيه الغلط غلط آخر بل أفحش ، الأمر الذي ارتكبه القوم مع الأسف!

هذا الإمام المحقّق الاصولي محمّد بن أحمد السرخسي ، بينما ينكر أشدّ الإنكار مسألة وقوع النسخ بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما عرفت ـ تراه يعترف بمسألة نسخ التلاوة دون الحكم ، ويؤوّلها إلى إمكان سبق النسخ على الوفاة مع خفائه على الصحابة الأوّلين!

قال : وأمّا نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فبيانه ـ فيما قال علماؤنا ـ : إنّ صوم كفّارة اليمين ثلاثة أيّام متتابعة ، بقراءة ابن مسعود : «فصيام ثلاثة أيّام متتابعات». وقد كانت هذه قراءة مشهورة إلى زمن أبي حنيفة. ولكن لم يوجد فيه النقل المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن. وابن مسعود لا يشكّ في عدالته وإتقانه. فلا وجه لذلك إلّا أن نقول : كان ذلك ممّا يتلى في القرآن كما حفظه ابن مسعود ، ثمّ انتسخت تلاوته في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصرف الله القلوب عن حفظها إلّا قلب ابن مسعود ليكون الحكم باقيا بنقله ، فإنّ خبر الواحد موجب للعمل به ، وقراءته لا تكون دون روايته ، فكان بقاء هذا الحكم بعد نسخ التلاوة بهذا الطريق. (١)

انظر إلى هذا التمحّل الباهت والتأويل الغريب :

أوّلا : كلّ ما ذكره بهذا الصدد لا يعدو تخرّصا بالغيب من دون استناد إلى شاهد أو دليل قاطع ، ومن ثمّ فهي محاولة فاشلة تجاه أمر واقع ـ فيما حسبوا صحّته ـ الأمر الذي يشبه علاج القضيّة بعد وقوعها علاجا من غير جدوى.

ثانيا : إذا كانت القراءة مشهورة إلى عهد متأخّر ، فهي كسائر القراءات المشهورة عن أصحابها تصبح حجّة ـ في مصطلحهم ـ ولا يجب ثبوتها بالتواتر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أسلفنا : أنّ القراءات المعروفة ليست متواترة لا عن عهد الرسالة ولا عن أربابها أيضا. هذا مع كون القرآن بذاته متواترا وفق قراءة المشهور.

__________________

(١) اصول السرخسي ٢ : ٨٠.

٤٩٦

ومن ثمّ فكلام الإمام السرخسي بهذا الصدد يبدو متناقضا.

ثالثا : أسلفنا أنّ الزيادات في كلام السلف ولا سيّما مثل ابن مسعود ، إنّما كانت زيادات تفسيريّة لا عن قصد أنّها من نصّ الوحي ، وربّما اعتمدها بعض الفقهاء اعتبارا بفهم صحابيّ كبير ، لا بنقله ، كما وهمه هذا الإمام!

رابعا : يقول تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)(١) ولا نسخ فيما لا يكون هناك ناسخ. وهكذا لا نسخ في غير الأحكام حسبما مرّت عليك من شرائط النسخ (٢). إذن فلنتساءل : ماذا يكون الناسخ هنا؟ وكيف ينسخ لفظ الآية ويبقى حكمها مع الأبد؟ وأيّ فائدة في نسخ اللفظ حينذاك وهو سند الحكم الذي يجب بقاؤه ما دام الحكم باقيا؟ وهذا عمدة الإشكال على هذه المزعومة وسيأتي مزيد توضيح لهذا الاعتراض.

***

وقال ابن حزم الأندلسي ـ بعد تسلّمه لصحّة ما زعمه آية الرجم وأنّها سقطت فيما سقطت من سورة الأحزاب التي كانت تعدل سورة البقرة أو أطول منها ـ : ولكنّها نسخ لفظها وبقي حكمها! قال : وقد توهّم قوم أنّ سقوط آية الرجم إنّما كان لغير هذا ، وظنّوا أنّها تلفت بغير نسخ. لما روي عن عائشة قالت : لقد نزلت آية الرجم والرضاعة فكانتا في صحيفة تحت سريري ، فلمّا مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها!

قال : وهذا حديث صحيح وليس على ما ظنّوا ، لأنّ آية الرجم إذ نزلت حفظت وعرفت وعمل بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه لم يكتبها نسّاخ القرآن في المصاحف ولا أثبتوا لفظها في القرآن ، وقد سأله (أي زيدا) عمر بن الخطّاب ذلك فلم يجبه. فصحّ نسخ لفظها وبقيت الصحيفة التي كتبت فيها كما قالت عائشة فأكلها الداجن ولا حاجة بأحد اليها.

قال : فصحّ أنّ الآيات التي ذهبت ، لو أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغها لبلّغها ، ولو بلّغها لحفظت وما ضرّها موته ، كما لم يضرّ موته كلّ ما بلّغ من القرآن. وإن كان لم يبلّغ أو بلّغه فانسيه هو والناس أو لم

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٠٦.

(٢) في الجزء الثاني من التمهيد : ٢٦٣ فما بعد.

٤٩٧

ينسوه لكن لم يأمر أن يكتب في القرآن ، فهو منسوخ بيقين ، من عند الله تعالى ، لا يحلّ أن يضاف إلى القرآن. (١)

هذه جلّ محاولات القوم في توجيه منسوخ التلاوة دون الحكم.

غير أنّ أثر الوهن باد عليها بوضوح :

أوّلا : لا شكّ أنّ رجم المحصن حكم ثابت في الشريعة وأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يزل عليه إجماع الفقهاء في القديم والحديث.

أمّا أنّ شريعة الرجم نزلت آية من القرآن ، فهذا وهم وهمه ابن الخطّاب ، ولم يوافقه على هذا الرأي أحد من الصحابة رغم إصراره عليه!

[٢ / ٢٩٤٥] يحدّثنا زيد بن ثابت ، يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إذا زنى الشيخ والشيخه فارجموهما البتة».

والمراد من الشيخ والشيخة هما الثيّب والثيّبة ، كناية عن المتزوّج والمتزوّجة أي المحصن. فهذا حديث سمعه زيد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يقل : إنّه قرآن!

لكن ابن الخطّاب زعمه وحيا قرآنيا ، يقول : لمّا نزلت أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : اكتبنيها! فلم يجبه رسول الله. قال راوي الحديث : كأنّه كره ذلك. (٢)

قلت : لعلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استغرب اقتراح عمر آنذاك الناشىء عن عدم تدبّره اللائق بشأن الكتاب ، أو عدم إلمامه بمواضع الكتاب من السنّة ، ومن ثمّ سكت تأنيبا له!

وأسوء منه ما فهمه ابن حزم من هذا الحادث ، فحمل كراهته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عدم رغبته في الثبت في المصحف. وإذا كان حكما قرآنيا ثابتا في الشريعة فلماذا لا يثبت سنده في الكتاب؟ الأمر الذي تغافله ابن حزم ، وحبّ الشيء يعمي ويصمّ!

ثانيا : لا نسخ في غير الأحكام ـ كما سلف ـ فضلا عن عدم فائدة متوخّاة من وراء هذا النسخ غير المعقول ، إذ ما هي الحكمة في نسخ آية فيبقى حكمها ثابتا بلا مستند مع الأبد! لو لا أنّه اختلاق ألجأهم إليه ضيق الخناق.

__________________

(١) المحلّى ١١ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

(٢) المصدر : ٢٣٥.

٤٩٨

لأنّ أصحاب تلك المزعومة استدلّوا لإمكان المسألة بجانب الوقوع (١) زاعمين صحّة تلكم الروايات ومن ثمّ حاولوا علاجها بهذا الأسلوب الغريب. وقد كانت قواعد الفنّ تقضي برفض أمثال تلكم الروايات التي تمسّ كرامة القرآن أوّلا ، وتنافي جانب ضرورة ثبوت القرآن في جميع آية بالتواتر دون أخبار الآحاد ثانيا ، وقد قيل في المثل : ثبّت العرش ثمّ انقش!

***

وقد تنبّه لضحالة هذه المزعومة الغريبة بعض كتّاب العصر ، هو الأستاذ العريض ـ حسبما تقدّم ـ ناقما وناقدا لها نقدا حكيما. قال : وذهبت طائفة من العلماء إلى إنكار هذا النوع من النسخ وعدم وقوعه في كتاب الله ـ عزوجل ـ لأنّه عيب لا يليق بالشارع الحكيم ، لأنّه من التصرّفات التي لا تعقل لها فائدة ، ولا حاجة إليها ، وتنافي حكمة الحكيم.

قال : والحقّ يقال إنّ هذا النوع من النسخ وإن كان جائزا عقلا ولكنّه لم يقع في كتاب الله ـ عزوجل ـ لأنّ هذه الروايات روايات آحاد ، والقرآن الكريم لا يثبت بروايات الآحاد مهما كانت مكانة قائلها ، ولا بدّ فيه من التواتر ، كما أجمع عليه العلماء قديما وحديثا. ولو أنّه صحّ ما قالوه لاشتهر بين الصحابة جميعا ، ولحفظه كثير منهم أو كتبوه في مصاحفهم. ولكن لم يرد شيء عن غير هؤلاء الرواة. فلا يمكن القطع بأنّ هذه الآيات التي ذكروها كانت مسطورة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي صحف كتّاب الوحي ثمّ نسخت بعد ذلك ورفعت من المصحف ـ كما رواه بعض الصحابة ـ وبقي حكمها للعمل به. وأيضا فإنّ الحكم لا يثبت إلّا من طريق النصّ ، فزوال النصّ مقتض لزوال الحكم ، ولم يظهر لزوال النصّ وحده حكمة من عمل الحكيم لأنّ الحكم ما زال قائما لم ينسخ ، فأيّ فائدة في نسخ تلاوته؟

قال : ولعلّ ما قاله عمر بن الخطّاب : «إنّا كنّا نقرأ في كتاب الله ...» الكتب التي كان يحفظها هو وغيره ، من باب المبالغة في تشبيه الأحكام التي قالها الرسول بالآيات القرآنية ، لأنّ كلّا من السنّة الصحيحة والقرآن الكريم واجب الطاعة. وقد كان من الصحابة من يكتب الحديث ليحفظه حتّى نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كتابة ما ليس بقرآن ، إلّا ما كان في صحيفة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهنا نستطيع أن نقول : بأنّ هذه الآية التي قالها عمر كانت أحكاما حفظها عن الرسول بألفاظ

__________________

(١) راجع : مناهل العرفان ٢ : ٢١٥ ـ ٢١٦.

٤٩٩

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتعبير بأنّها آية من كتاب الله مجاز ، ولو كان ما قاله عمر من باب الحقيقة لا المجاز ... (١).

وعبارته الأخيرة لا تخلو من طرافة بل وظرافة في التعبير أيضا ، لأنّه إيحاء إلى التباس التبس على عمر في هذا الحادث الجلل ، حيث اشتبه عليه طلاوة كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحلاوة كلامه تعالى فظنّ من أحدهما الآخر ، فبدلا من أن يشبّه كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلام الله تعالى ويأخذه مجازا على سبيل الاستعارة ، أبدى اشتباهه في الأمر وظنّه حقيقة ، وهو وهم فاحش لا سيّما وإصراره عليه حتّى آخر أيّام حياته!

***

وأخيرا فقد تنبّه ابن حزم أيضا لخطئه في الدفاع الآنف ، فحاول تلبيس الأمر بشكل آخر ، قال : ولعلّ المراد بكلمة «آية» في قول عمر ، هو الحكم الشرعي ، باعتبار أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(٢). وليس مراده آية من نصّ الوحي القرآني. قال في كتابه «الأحكام» ما نصّه : قد قال قوم في آية الرجم ، إنّها لم تكن قرآنا ، وفي آية الرضعات كذلك ، ونحن لا نأبى هذا ، ولا نقطع أنّها كانت قرآنا متلوّا في الصلوات. ولكنّا نقول : إنّها كانت وحيا أوحاه الله إلى نبيّه كما أوحى إليه من قرآن ، فقرىء المتلوّ مكتوبا في المصاحف والصلوات ، وقرىء سائر الوحي منقولا محفوظا معمولا به كسائر كلامه الذي هو وحي فقط. (٣)

وقال في باب الرضاع من المحلّى : قالوا : قال الراوي : فمات عليه الصلاة والسّلام وهنّ ممّا يقرأ من القرآن ، قول منكر وجرم في القرآن ، ولا يحلّ أن يجوّز أحد سقوط شيء من القرآن بعد موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! فقلنا : ليس كما ظننتم ، إنّما معنى ذلك : أنّه ممّا يقرأ مع القرآن وممّا يقرأ من القرآن الذي بطل أن يكتب في المصاحف (٤). أي كان وحيا نظير القرآن غير أنّه لم يكن ممّا يكتب في المصحف.

إذن فقد رجع عن مسألة جواز نسخ التلاوة دون الحكم في القرآن ، ولا بدّ من الرجوع!

وإليك تصريحات أهل التحقيق من العلماء في إنكار هذا النوع من النسخ :

__________________

(١) فتح المنّان : ٢٢٤ ـ ٢٢٦.

(٢) النجم ٥٣ : ٤.

(٣) بنقل الأستاذ العريض في فتح المنّان : ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

(٤) المحلّى ١٠ : ١٦ نقلا بالمعنى. وتقدّم تفصيله.

٥٠٠